السبت، 9 سبتمبر 2017

دراسات جينية حديثة تقترح أن الخروج الأفريقي الأعظم لجنسنا حدث قبل حوالي 80 الى 50ألف سنة


تطوّر الإنسان الحديث في إفريقيا قبل نحو 200 ألف عام. لكن كيف عمّر جنسنا سائر أنحاء الكرة الأرضية؟

هذا السؤال هو موضوع واحدة من أكبر دراسات التطوّر البشري التي أسرت العلماء لعقود. في سلسلة من التحليلات الجينية المذهلة التي نُشرت الأربعاء 21 سبتمبر/أيلول 2016، يؤمن الباحثون بأنهم وجدوا إجابة، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.

في مجلة Nature، فحصت 3 فرق من علماء الجينات أحماضاً نووية مجمّعة من ثقافات مختلفة في أنحاء الكرة الأرضية، كثيرٌ منها يتم فحصه للمرة الأولى، واستنتجوا أن كل غير الأفارقة ينحدرون من شعبٍ واحد خرج من إفريقيا بين 50 و80 ألف عامٍ مضت.

جوشوا ام. أكي، من جامعة واشنطن، الذي كتب تعليقاً مصاحباً للعمل الجديد يقول: "أعتقد أن الدراسات الثلاث كلها تقول نفس الشيء. إننا نعلم أن هناك هجرات عديدة من إفريقيا لكن يمكننا تتبّع أصلنا إلى واحدة فقط".

الفرق الثلاثة فحصت تسلسل الجينوم لأكثر من 787 شخصاً، ليحصلوا على فحوصات عالية التفصيل لكل منها. استخرجت الأحماض النووية من أشخاص من مئات الشعوب الأصلية، شعوب الباسكيين، وقبائل البيجمي الأفارقة، وشعوب المايا، والبدو، وشعب الشيربا، وهنود الكري، وغيرهم.

الحمض النووي للسكان الأصليين عنصر أساسي في فهم التاريخ البشري، كما يعتقد العديد من علماء الوراثة. لكن حتى الآن لم يفحص العلماء تسلسل الجينوم الكامل إلا لأشخاص قليلين جداً خارج المراكز السكنية مثل أوروبا والصين.

البيانات الجديدة تغيّر بالفعل الفهم العلمي لما يبدو عليه الحمض النووي البشري، كما يقول الخبراء، مضيفة تنويعات ثرية إلى خريطتنا للجينوم.

كل فريق من الباحثين استعرض أسئلة مختلفة عن أصولنا، مثل كيفية انتشار البشر في أنحاء إفريقيا وكيف عمّروا أستراليا. لكن الأسئلة كلها هدفت إلى حسم الجدل حول التوسع البشري من إفريقيا.

50 ألف سنة

في الثمانينات، بدأت مجموعة من علماء الباليوأنثروبولوجيا (الذين يدرسون قدماء البشر عن طريق الحفريات) وعلماء الوراثة في الدفع بفرضية أن الإنسان الحديث خرج مرة واحدة فقط من إفريقيا، قبل 50 ألف سنة تقريباً. الهياكل العظمية والأدوات التي تم اكتشافها في المواقع الأثرية أشارت بوضوح إلى أن البشر عاشوا بعدها في أوروبا، آسيا وأستراليا.

الدراسات المبكّرة لأجزاء من الحمض النووي دعمت هذه الفكرة أيضاً. كل غير الإفريقيين مرتبطين ببعضهم البعض، كما وجد علماء الوراثة، وهم يتفرعون من شجرة عائلة واحدة جذورها في إفريقيا.

لكن هناك أدلة أيضاً على أنّ بعض البشر، الحديثين على الأقل، ربما غادروا إفريقيا قبل هذا بوقتٍ طويل، ربما جزءاً من موجة سابقة من الهجرة.

في إسرائيل، على سبيل المثال، وجد الباحثون بضعة جمجمات بشرية حديثة بشكلٍ مميز تتراوح أعمارها بين 120 ألفاً و90 ألف سنة. أما في السعودية والهند فتصل أعمار بعض الأدوات المعقّدة إلى 100 ألف سنة.

في أكتوبر/تشرين الأول 2016، أفاد العلماء الصينيون بأنهم عثروا على أسنان تنتمي إلى الإنسان العاقل (هومو سابيينز) عمرها على الأقل 80 ألف سنة وربّما 120 ألفاً.

جمجمة موقع Qafzeh الشهيرة بأسرائيل المؤرخة بحوالي 120 ألى 90ألف سنة


أستراليا تحير العلماء

في 2011، د. إسك يلارسلاف، عالم الوراثة شهير بجامعة كوبنهاغن، عثر وزملاؤه على بعض الأدلة المحيرة للتوسّع من إفريقيا عن طريق فحص تسلسل الجينوم لأسترالي بدائي للمرة الأولى.

أعاد يلارسلاف وزملاؤه تشكيل الجينوم من خصلة شعر يتجاوز عمرها القرن، محفوظة في أحد المتاحف. حمل الحمض النووي عدداً من الاختلافات الغريبة غير الموجودة في الأوروبيين أو الآسيويين، وهو ما أثار أسئلة شائكة حول أصول هؤلاء البشر الذي أتوا للمرة الأولى إلى أستراليا ومتى وصلوا إلى هناك.

قرّر يلارسلاف أن يتواصل مع البدائيين الأحياء ليرى استعدادهم للمشاركة في دراسة جينية جديدة. وانضمّ إلى ديفيد لامبرت، وهو عالم وراثي بجامعة جريفث بأستراليا، والذي كان يلتقي بالفعل بالمجتمعات البدائية حول نفس الموضوع.

وبالتعاون مع العلماء بجامعة أوكسفورد، حصل الباحثون أيضاً على الأحماض النووية لأشخاص في بابو بغينيا الجديدة. بكل هذا، أصبح الفريق قادراً على فحص تسلسل 83 جينوم للبدائيين الأستراليين، و25 شخصاً من بابو بغينيا الجديدة، بدقة أكبر بكثير من دراسة يلارسلاف في 2011.

عالم الوراثة، إسك يلارسلاف Eske Willerslev  (قياما واليسار) وزملاؤه مع وجهاء السكان الأصليين في منطقة كالغورلي غرب استراليا. حيث قامو الباحثون بدراسة الحمض النووي ل 83 شخصا من الاستراليين الأصليين و25 شخصا من مرتفعات بابوا غينيا الجديدة للتعرف على التاريخ الوراثي للمنطقة.



في الوقت نفسه، كان مات متسبالو من المركز الحيوي الإستوني يقود فريقاً من 98 عالماً في مشروع تجميع للجينوم. انتقى الفريق 148 شعباً ليفحصهم، أغلبهم في أوروبا وآسيا، والقليل من الجينوم من إفريقيا وأستراليا. وفحصوا أيضاً تسلسل 483 جينوم بدقة عالية.

ديفيد رايخ، عالم الجينات بكلية الطب بهارفارد، وزملاؤه جمعوا قاعدة بيانات ثالثة من كل القارات الست المأهولة. مشروع سايمونز للتنوع الجيني، برعاية مؤسسة سايمونز والمؤسسة العلمية الوطنية، يحتوي على 300 جينوم عالي الجودة من 142 شعباً.

بفحص هذه البيانات بشكل منفصل، كل المجموعات الثلاث خرجت بالاستنتاج ذاته: الناس في كل مكان ينحدرون من هجرة واحدة للبشر الأوائل من إفريقيا. التقديرات المستمدّة من الدراسات تشير إلى خروجٍ جماعي وقع بين 80 ألفاً و50 ألف عامٍ مضت.

ورغم الأبحاث السابقة فإن الفرق التي قادها يلارسلاف ورايخ لم تجد أدلة جينية على هجرة سبقت ذلك، نتج عنها التواجد البشري في أستراليا وبابو بغينيا الجديدة.

يقول يلارسلاف: "الأغلبية الشائعة من أسلافهم - إن لم يكن جميعهم - يأتون من موجة الخروج من إفريقيا نفسها التي جاء منها الأوروبيون والآسيويون".

سلالة مختلفة

لكن بخصوص هذا السؤال، توصّل متسبالو وزملاؤه إلى نتيجة مختلفة نوعاً ما، إذ وجدوا، في بابو بغينيا الجديدة (قرب أستراليا) أن 98% من الحمض النووي الخاص بكل شخص يمكن تتبعه إلى الهجرة الكبرى من إفريقيا. لكن النسبة المتبقية - 2% - بدا وكأنها أقدم بكثير.

استنتج متسبالو أن كل الأشخاص في بابو غينيا الجديدة يحملون أثراً من حمضٍ نووي تابع لموجة سابقة من الأفارقة الذين غادروا القارة قبل 140 ألف عام، ثم اختفوا.

إن كانوا موجودين بالفعل، فإن هؤلاء الرواد الأوائل من البشر تمكنوا من البقاء عشرات الآلاف من الأعوام، كما يقول د. لوكا باجاني، أحد مؤلفي دراسة د. مستبالو بجامعة كامبريدج والمركز الحيوي الإستوني.

لكن عندما أتت الموجة اللاحقة من إفريقيا، فإن سلالة الموجة الاولى اختفت. يقول د. باجاني: "ربما لم يكونوا متقدمين تكنولوجياً بما فيه الكفاية، ويعيشون في مجموعات صغيرة. وربما كان الأمر سهلاً بالنسبة لموجة كبرى لاحقة أكثر نجاحاً أن تقضي عليهم".

يشير البحث الجديد أيضاً إلى أن تفرع الشجرة البشرية بدأ مبكراً عن الوقت الذي توقّعه الخبراء.

200 ألف عام

وقد بحث رايخ وزملاؤه في بياناتهم عن الدليل الأقدم على الانفصال الجيني للجماعات البشرية عن بعضها البعض. فوجدوا أن أسلاف "الخويسان"، وهي جماعة من الصيادين وجامعي الثمار تعيش اليوم في جنوب إفريقيا، بدأت في الانفصال عن البشر الأحياء الآخرين قبل حوالي 200 ألف سنة، ودخلت في عزلة كاملة قبل 100 ألف سنة. هذا الاكتشاف يلمح إلى أن أسلافنا كانوا قد طوروا سلوكيات تميّز البشر الأحياء، مثل اللغة، قبل 200 ألف عام.

لماذا غادروا إفريقيا أصلاً؟

وجد العلماء أدلة لتحلّ هذا اللغز أيضاً، ففي ورقة بحثية رابعة بمجلة Nature، وصف الباحثون نموذجاً حاسوبياً للتاريخ البيئي والمناخي الحديث لكوكب الأرض. يظهر النموذج أن أنماط هطول المطر بشكل دوري، فتحت ممرات من إفريقيا إلى أوراسيا، ربّما سار فيها البشر بحثاً عن الطعام.