الخميس، 7 يونيو 2012

حقيقة احاديث الاحاد - بقلم خاطر عبد الجليل

الاحاديث المتواتره لا تتعدي ثلاثون حديثا
واحاديث الاحاد لا تفيد العلم في العقيده بل تفيد الظن ولا يصح الاحتجاج بها
وهذه هي اقوال اهل الحديث التي تثبت ذلك

 
السلام عليكم ورحمه الله

هذه هي شهادة جمهور علماء الحديث لدي اهل السنة والجماعة بظنية حديث الاحاد وعدم القطع به ووجوب العمل به في بعض المسائل

1ـ المحدث الخطيب (توفي في بغداد 463 هـ)
" خبر الواحد لا يُقبل فى شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها... "، إلى أن قال: " وإنما يُقبل به فيما لا يُقطع به، مما يجوز ورود التعبد به كالأحكام التى تقدم ذكرها (مثل الكفارات، والهلال، وتفاصيل الحدود..) "، وانظر: الكفاية للخطيب (41، 472).
2 ـ المحدث البخارى (توفي256 هـ):
" كتاب أخبار الآحاد "، ثم قال بعدها: " باب ما جاء فى إجازة خبر الواحد الصدوق فى الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام "، وانظر: صحيح البخارى: (كتاب 95 ـ أخبار الآحاد ـ باب: 1)، ولم يقل: " والعقائد " أو: " والغيبيات " لاحتياجها للقطع.
3 ـ المحدث الكرمانى (توفي 786 هـ):
قال الكرمانى شارحاً لمقولة البخارى السابقة: " ليعلم أنما هو (أى خبر الآحاد) فى العمليات لا فى الاعتقادات "، وانظر: الكوكب الدرى شرح الكرمانى للبخارى (25 / 13 ـ ك: أخبار الآحاد).
4 ـ المحدث بدر الدين العينى (توفي855 هـ):
الذى قال: " قوله: فى الأذان... الخ، إنما ذكر هذه الأشياء ليُعلم أن إنفاذ الخبر إنما هو فى العمليات لا فى الاعتقاديات "، وانظر : عمدة القارى للعينى: (25 / 11 ـ ك أخبار الآحاد).
5 ـ المحدث ابن حجر (توفي 852 هـ):
فقال فى شرحه لصحيح البخارى: " قال الكرمانى: ليُعلم أنما هو فى العمليات لا فى الاعتقاديات "، وانظر : فتح البارى لابن حجر: (13 / 287 ـ ك أخبار الآحاد). وقال أيضاً فى شرح النخبة: ".. وقد يقع فى أخبار الآحاد العلم النظرى (ولكن) بالقرائن "، وانظر : نزهة النظر لابن حجر: (48).
6 ـ المحدث الجرجانى :
" وحكم خبر الآحاد أنه يوجب العمل دون العلم ؛ ولهذا لا يكون حجة فى المسائل الاعتقادية "، وانظر : كتاب التعريفات للجرجانى: (97 ـ باب: الخاء).
7 ـ المحدث المناوى:
يقول المناوى: " ذهب الإمامان والغزالى والآمدى وابن الحاجب والبيضاوى إلى أن خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة خلافاً لمن أبى ذلك وهم الجمهور ؛ فقالوا: لا يفيد (العلم) مطلقًا.
وقال التاج السبكى فى شرح المختصر: وهو الحق"، وانظر : اليواقيت للمناوى شرح شرح النخبة: (1 / 176 ـ 179).
8 ـ الأصولى محمد الأمين الجكنى الشنقيطى:
ولا يفيد العلم بالإطلاق عند الجماهير من الحذاق

ويقول الشنقيطى: " ولا يفيد خبر الواحد العلم ولو عدلاً بالإطلاق، احتفت به قرينة أم لا عند الجماهير من الحذاق، وبعضهم قال يفيده "، وانظر : مراقى السعود ـ شرح محمد الأمين: (272 ـ كتاب السنة).
9 ـ الأصولى الشاطبى (توفي 780 هـ):
" فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر "، وانظر : الموافقات للشاطبى: (1 / 24: المقدمة الثانية، 3/11، 106).
ويقول أيضًا: " أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون ".
10 ـ الأصولى الكراماستى:
ويقول الإمام الكراماستى: " وخبر الواحد لا يوجب علم اليقين ولا الطمأنينة بل يوجب الظن "، وانظر : الوجيز فى أصول الفقه للكراماستى: (52 ـ المرصد السادس فى: السنة).
11 ـ الأصولى الفخر الرازى (توفي 606 هـ):
يقول الإمام الرازى: " إن خبر الواحد إما أن يكون مشتملاً على مسائل الأصول وهذا باطل، لأن تلك المطالب يجب أن تكون يقينية وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن "، وانظر : المعالم فى أصول الفقه للرازى: (47 ـ الباب الثامن فى الأخبار: المسألة الرابعة) وكذلك المحصول له.
12 ـ الأصولى الباقلانى (توفي 403 هـ):
يقول القاضى الباقلانى: " اتفق الفقهاء والمتكلمون على تسمية كل خبر قصر عن إيجاب العلم بأنه خبر واحد، وسواء رواه الواحد، أو الجماعة، وهذا الخبر لا يوجب العلم "، وانظر : تمهيد الأوائل للباقلانى: (441، باب آخر فى خبر الواحد).
13 ـ الأصولى وهبة الزحيلى:
يقول الزحيلى: " وحكم سنة الآحاد أنها تفيد الظن لا اليقين ولا الطمأنينة، ويجب العمل بها لا الاعتقاد للشك فى ثبوتها، وهذا هو مذهب أكثر العلماء وجملة الفقهاء "، وانظر : أصول الفقه الإسلامى لوهبة الزحيلى: (1/455).
14 ـ الأصولى شرف الإسلام ابن برهان البغدادى:
ويقول ابن برهان: " خبر الواحد إذا اتصلت به القرينة أفاد العلم عند النظام، وهو مذهب الإمام، وذهب أكثر العلماء إلى أن ذلك ممتنع "، وانظر : الوصول لابن برهان البغدادى: (2/150 ـ المسألة السادسة، 162).
15 ـ الحافظ المحدث الذهبى:
يقول الذهبى: " وفى ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكى يرتقى عن درجة الظن إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم "، وانظر : تذكرة الحفاظ للذهبى: (1 / 6 ـ ت: 2 عمر بن الخطاب).
16 ـ الإمام المحدث النووى (توفي 676 هـ):
يقول النووى: " وإذا قيل صحيح فهذا معناه، لا أنه مقطوع به ". ثم يقول بعدها: " وذكر الشيخ (أى ابن الصلاح) أن ما روياه (البخارى ومسلم) أو أحدهما فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعى حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن مالم يتواتر "، وانظر : التقريب للنووى: (11،18)، وإرشاد طلاب الحقائق له: (58،65)، ومقدمة صحيح مسلم. وقد قال بذلك القول ابن الصلاح فى صيانة صحيح مسلم (85 ـ الفصل الرابع) ومقدمة ابن الصلاح مع التقييد (43).
وقال فى مقدمة شرحه لصحيح مسلم بعد أن ذكر كلام ابن الصلاح: " وهذا الذى ذكره الشيخ فى هذه المواضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التى ليست بمتواترة إنما تفيد الظن، فإنها آحاد. والآحاد التى فى غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها، ولا تفيد إلا الظن. فكذا الصحيحان، وإنما يفترق الصحيحان عن غيرهما من الكتب فى كون ما فيهما صحيحاً لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا ً، وما كان فى غيرهما لا يعمل به حتى ينظر وتوجد فيه شروط الصحيح. ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبى (ص) ، وقد اشتد إنكار ابن برهان الإمام على من قال بما قاله الشيخ، وبالغ فى تغليطه "، وانظر : مقدمة شرح النووى لصحيح مسلم (1/41)
17 ـ المحدث ابن قطلوبغا:
يقول ابن قطلوبغا: " وهذه النتيجة (أى أن ما أخرجه الشيخان فى الصحيح يفيد العلم) غير مسلمة لصحة تلقيهم بالقبول ما غلب على ظنهم صحته، وقوله إن التلقى بالقبول موجب للعمل به، ووجوبه يكفى فيه الظن، لأن ظنهم لا يخطئ لعصمتهم لا يفيده فى مطلوبه ؛ لأن متعلق ظنهم الحكم الشرعى، ولأنه هو محل وجوب العمل، لا أن متعلق ظنهم أن المصطفى قاله هكذا، وهذا الثانى هو مطلوبه. وما ذكره (أى ابن الصلاح) لا يفيده فى مطلوبه إلا أن يدعى إجماع الأمة على الصحة نفسها، وأنى له ذلك به، ولذا نظر فى المقنع إلى ذلك قال: فيه نظر، لأن الإجماع إن وصل إلينا بأخبار آحاد كان ظنياً "، وانظر : شرح شرح النخبة ـ اليواقيت للمناوى: (1 / 185).
18ـ الأصولى العز بن عبد السلام:
يقول المناوى: " وقد عاب ابن عبد السلام ومن قال بمقالته على ابن الصلاح ومن قال بمقالته فقال: إن المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى القطع بمضمونه وهو مذهب رديء، وأيضاً إن أراد كل الأمة فلا يخفى فساده، إلا الأمة الذين وجدوا بعد وضع الكتابين فهم بعضها لا كلها! وإن أراد كل حديث منها تلقى بالقبول فى كافة الناس فغير مسلم. ثم إنا نقول التلقى بالقبول ليس بحجة، فإن الناس اختلفوا أن الأمة إذا عملت بحديث وأجمعوا على العمل به، هل يفيد القطع أو الظن ؟ ومذهب أهل السنة أنه يفيد الظن ما لم يتواتر "، وانظر : اليواقيت والدرر للحافظ المناوى: (1 / 187 ـ 188).
19 ـ المحدث رضى الدين الحلبى:
يقول الإمام رضى الدين (بعد أن ساق قول ابن حجر بإفادة أحاديث الصحيحين للعلم وغيرها): " حتى إن خبر كل واحد فهو مفيد للظن، وإن تفاوتت طبقات الظنون قوة وضعفاً "، وانظر : قفو الأثر فى صفو علوم الأثر للإمام رضى الدين الحلبى الحنفى: (46).
20 ـ الأصولى ابن قدامة:
يقول الإمام ابن قدامة : " إن جميع ما رووه وذكروه هو أخبار آحاد، ولا يجوز قبول ذلك فيما طريقه العلم ؛ لأن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط، وإنما يعمل بأخبار الآحاد فى فروع الدين، وما يصح أن يتبع العمل به غالب الظن، فأما ما عداه فإن قبوله فيه لا يصح، وذلك يبطل تعلقهم بهذه الأخبار حتى ولو كانت صحيحة السند وسليمة من الطعن فى الرواة ".
ويقول فى الروضة: " اختلفت الرواية عن إمامنا رحمه الله (أحمد بن حنبل) فى حصول العلم بخبر الواحد، فروى أنه لا يحصل به (أى العلم) وهو قول الأكثرين والمتأخرين من أصحابنا، لأنا نعلم ضرورة أنا لا نصدق كل خبر نسمعه. ولو كان (أى خبر الواحد) مفيداً للعلم لما صح ورود خبرين متعارضين لاستحالة اجتماع الضدين ".. الخ، وانظر : روضة الناظر للإمام ابن قدامة المقدسى: (91)، والروضة: (1/260).
21 ـ الأصولى عبد القادر الدومى:
يقول الشيخ: " والذى أراه آنه لايفهم من كلام الإمام (أحمد بن حنبل) إلا التخصيص بأخبار الرؤية، فكأنه يقول: إن أخبارها وإن لم تبلغ حد التواتر لكنها احتفت بقرائن جعلتها بحيث يحصل العلم بها، وتلك القرائن هي ظواهر الآيات القرآنية المثبتة لها، فإسناد القول الثانى إلى الإمام من غير تقييد فيه نظر. وكذلك مانسبه إليه ابن الحاجب والواسطى وغيرهما من أنه قال (أى الإمام أحمد): يحصل العلم فى كل وقت بخبر كل عدل وإن لم يكن ثم قرينه فإنه غير صحيح أصلاً، وكيف يليق بمثل إمام السنة أن يدعى هذه الدعوى، وفى أى كتاب رويت عنه رواية صحيحة، ورواياته رضى الله عنه كلها مدونه، معروفة عند الجهابذة من أصحابه، والمصنف رحمه الله (أى ابن قدامة) من أولئك القوم، ومع هذا أشار إلى أنها رواية مخرجة (أى زائدة) على كلامه ثم إنه تصرف بها كما ذكره هنا. فحقق ذلك وتمهل أيها المنصف "، وانظر : نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر للشيخ عبد القادر الدومى (1/261).
قلت (أنا إيهاب): ومسند أحمد بن حنبل نفسه يغص بالروايات التى يندى لها جبين العقلاء، ومن ذلك ما رواه من: أن عرش الرب سبحانه يحمله ثمانية تيوس!! وأن آخر وطأة وطئها الله كانت بالطائف (وجّ)!! وأن النبى (ص) أمر الأمة رجالاً ونساءً أن يقولوا للمعتز بالجاهلية: عضّ ذكر أبيك، وانظر : مسند أحمد (1/206 ـ ح1773)، (4/172،6/409)، (5/136 ـ ح 20727 ـ 20731).
إلى غير ذلك من الهراء والسفالات!! فأنى لعاقل أن يقول إن مثل هذا القىء هو مما قاله النبى (ص) وعلى صفة القطع ؟!!

22ـ المحدث أحمد بن حنبل (توفي 241 هـ):
ويقول فيما نقله عنه أبو بكر الأثرم: " إذا جاء الحديث عن النبى (ص) بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض عملت بالحكم والفرض ودِنْت الله تعالى به، ولا أشهد أن النبى (ص) قال ذلك ". ومانُقل عنه بخلاف ذلك فأقوال واهية. قاله أبو يعلى فى العدة فى أصول الفقه: (3/898) نقلاً عن كتاب معانى الحديث لأبى بكر الأثرم.

23ـ المحدث بدر الدين الشبلى:
يقول الشبلى: " ومع هذا فهو خبر واحد لايفيد غير الظن "، وانظر : آكام المرجان فى أحكام الجان للقاضى الشبلى: (181)

24ـ الأصولى عبد القاهر البغدادى (توفي 429 هـ):
يقول عبد القاهر: " وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة فى العقل كانت موجبة للعمل بها دون العلم "، وانظر : أصول الدين للإمام عبد القاهر البغدادى: (12).

25ـ المحدث ابن الأثير الجزرى:
يقول ابن الأثير فى جامع الأصول: " وخبر الواحد لايفيد العلم ولكننا متعبدون به. وماحُكى عن المحدثين من أن ذلك يورث العلم، فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، أو سموا الظن علماً ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن "، وانظر : جامع الأصول للحافظ ابن الأثير الجزرى ـ المقدمة.

26ـ الأصولى الشوكانى (توفي 1255 هـ):
يقول الإمام الشوكانى فى الإرشاد: " الآحاد: وهو خبر لايفيد بنفسه العلم سواء أكان لايفيده أصلاً، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد وهذا قول الجمهور "، وانظر : إرشاد الفحول فى علم الأصول للإمام الشوكانى: (1 / 207).

27ـ الأصولى البزدوى (توفي 483 هـ):
يقول الإمام البزدوى: " وأما دعوى علم اليقين فى أحاديث الآحاد فباطلة بلا شبهة لأن العيان يرده، وهذا لأن خبر الواحد محتمل لامحالة، ولايقين مع الاحتمال، ومن أنكر هذا فقد سفه نفسه وأضل عقله. ولما كان خبر الواحد لايفيد اليقين، لايكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد لأنه مبنى على اليقين، وإنما كان حجة فيما قصد فيه العمل ".

علي زيدان-خروج الكافرين من الجحيم

ولحسم هذا الموضوع أنقل أدلة كثيرة أوردها الخليفة الثاني للمسيح الموعود عليه السلام في التفسير الكبير:
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ( * ) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ.
شرح الكلمات:
سُعِدوا: سُعِدَ على المجهول وسعَد ويسعِد سعادةً: ضدُّ شَقِيَ، فهو مسعود على الأول، وسعيد على الثاني، واللفظُ يأتي مرةً بصيغة الفاعل ومرةً بلفظ المفعول والمعنى واحد، نحو عبد مكاتِب ومكاتَب، وبيتٌ عامرٌ ومعمور، ونظائره كثيرة. والسعد: اليُمن وأسعدَ عليه: أعانه (الأقرب).
مجذوذ: جذَّ الشيءَ: كسرَه؛ قطعَه مستأصِلاً. وجذّ: أسرعَ. وجذَّ النخلَ: صرَمَه. عطاءٌ غير مجذوذ: أي غير مقطوع. (الأقرب)
التفسير: هذه الآية تلقي الضوء على قضية هامة يختلف فيها الإسلام مع الأديان الأخرى اختلافًا كبيرًا، ألا وهي قضية النجاة.
فالهندوس يرون أن الجنة والجحيم (أي الثواب والعقاب) كلتيهما محدودة الزمن. ينال الإنسان جزاء أعماله ثوابًا أو عقابًا في العالم الآخر، ثم يرجع إلى الدنيا مرة أخرى (ستيارث بركاش ص569). وإنّ كل الفِرق الهندوسية -رغم اختلافها في الأمور الأخرى- متفقة على هذه العقيدة.
وبعد الشعب الآري الذي جاء منه الهندوس يُعتبر الشعب السامي من أكبر الشعوب القديمة، الذي ينتمي إليه اليهود نسلاً والنصارى دينًا. ويرى اليهود أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا إذ لا مكان فيها لغير اليهود، وأن الجحيم شبهُ محرمةٍ على اليهود، وإذا كان لا بد من دخول يهودي فيها فإنه لن يبقى فيها إلا لمدة أحد عشر شهرًا على الأكثر (ترجمة سيل للقرآن، ص10). أما غيرهم فكلهم في الجحيم التي لا نهاية لها، وسوف يبقون فيها للأبد.
وأما النصارى فيرون أن كلاً من الجنة والنار أبَديّة لا نهاية لها ولا انقطاع. غير أن هناك فِرقًا منهم تعتقد أن الجنة سوف تنتهي في آخر الأمر (رسالة بولس الثانية كورنثوس 5، والمكاشفة 14: 9-11).
ولكن الإسلام يعارض هذه النظريات كلها معارضةً شديدةً. والنظرية الإسلامية في هذا الشأن كما ذكرها الأسلاف (تفسير الرازي)، وكما أكد عليها في هذا العصر سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام بأسلوب خاص هي أن الجنة أبدية ولزمن غير محدود، ولكن الجحيم ليست كذلك، بل إنها سوف تنتهي بعد مرور زمن (الخزائن الروحانية ج 3، إزالة أوهام ص280، وأيضًا الخزائن ج 22 حقيقة الوحي ص189).
وأما قوله تعالى عن الجحيم (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) فقد اختلف المفسرون فيه كثيرًا، فقال بعضهم: إن (مَا) جاءت بمعنى (مَن) التي هي لذوي العقول، والتقدير: إلا من شاء ربك، بمعنى أن الجحيم أبدية ولكن الله تعالى سوف يُخرج منها بعد فترة من يشاء من عباده الموحّدين. (القرطبي)
ولكن المفسرين الآخرين يردّون على ذلك قائلين: لا شك أن (مَا) تأتي أحيانًا بمعنى (مَن) شريطة أن يكون بعض غير ذوي العقول ضمن ذوي العقول هؤلاء، ولكن هذا الشرط غير متوفّر هنا، فلا يصح اعتبار (مَا) بمعنى (مَن). وهناك شروط أخرى لمثل هذا الاستخدام وهي أيضًا غير متوفرة في هذه العبارة.
ولقد ساق الفريق الأول من المفسرين شواهد أخرى من الآيات القرآنية على ورود (مَا) بمعنى (مَن)، ومنها قوله تعالى (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) (النساء: 4)، ولكن الفريق الآخر يقول بأنها لم تُستخدم في هذه الآية ومثيلاتها بالمعنى الذي يريدونه. وأنا أيضًا متفق مع الذين لا يرون (مَا) بمعنى (مَن).
ثم يجب أن يتذكروا أن القرآن الكريم قد وصف عقاب العاصي الذي سيدخل النار -سواء كان مؤمنًا بالله موحدًا أو كافرًا به مشركًا- بكلمة واحدة، فبأيّ كلمة يفرّق أصحاب الرأي الأول بين عقوبة المؤمن الفاسق وعقوبة الكافر المشرك ممن يدخلون النار. يقول القرآن الكريم موجهًا الكلام إلى المسلمين الموحدين: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (النساء: 15)، ويقول لهم أيضًا (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 94).وقال في موضع آخر (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجن: 24) والخطاب قبل هذه الآية موجّه إلى الكفار ولا شك، ولكن القاعدة المذكورة هنا لا تخص الكفار وحدهم، بل هي عامة تشمل كل العصاة سواء من أهل الإيمان والتوحيد أو أهل الكفر والشرك. إذن فلا يجوز تحديد عموم الآية بأي حال.
ويرى الآخرون أن (مَا) هنا ظرفية والمراد منها هو الفترة التي تكون قبل دخولهم النار في عالم البرزخ وغيره (الرازي)، ولكن هذا أيضًا غير صحيح، لأنه تعالى قال من قبل (خَالِدِينَ فِيهَا)، فالاستثناء جاء عن الخلود، ولا يتحقق هذا الاستثناء إلا بعد دخولهم في النار.
ثم إن الخلود يعني الزمن المُقبل لا الماضي كما يتضح هذا من قوله تعالى (أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) (الأنبياء: 35).
وقد اختلفوا أيضًا في الاستثناء الوارد عن أهل الجنة في قوله تعالى (فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلا مَا شَاء رَبُّكَ)، فيرى البعض: أن هؤلاء الذين استثناهم هنا هم أصحاب الأعراف أو مَن يخرجهم الله من النار بعد فترة ويدخلهم الجنة.
الواقع أنهم وقعوا في هذه المشكلة واضطروا لهذه التأويلات لأنهم من جهة وجدوا الآية صريحة في إعلانها أن عذاب جهنم عذاب مؤقت وسينتهي بعد فترة، ولكنهم من ناحية أخرى كانوا يعتقدون خطأً أن الجحيم أبدية وعذابها غير منقطع مثل الجنة التي نعيمها أبديٌّ وغير محدود. مع أن الحق أنه ليس القرآن الكريم وحده الذي يعلن عن خراب جهنم بعد فترة من الزمن، بل إن الأحاديث الشريفة أيضًا تؤكد ذلك، فقد ورد في الحديث: "ليأتينّ على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا" (مسند أحمد). وكأن الخلود يعني هنا العيش فيها لقرونٍ.
لقد انتقد بعض المحدّثين هذه الرواية بقولهم بأن أحدًا من رواتها كذّاب، ولكن الحق أن لا قيمة لانتقادهم هذا، لأن الرواية تذكر نفس ما ذكره القرآن الكريم واصفًا أهل النار بقوله (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) (النبأ: 24).
وقد ذكر صاحب "فتح البيان" أن نفس هذا المعنى مروي أيضًا عن ابن مسعود وأبي هريرة. وقد نقل العلاّمة البغوي الرواية نفسها عن أبي هريرة، مما يؤكد صحتها (فتح البيان).
والإمام ابن تيمية أيضًا قال بفناء جهنم وأخبر أن هذه هي عقيدة عمر وابن عباس وأنس وكثير من المفسرين. وأما الإمام الحافظ بن القيم وهو تلميذ لابن تيمية ومن كبار الصوفية فقد كتب بحثًا مستفيضًا عن فناء جهنم في كتابه "حادي الأرواح في بلاد الأفراح" (فتح البيان).
وقد فسّر البعض كلمة (خَالِدِينَ فِيهَا) بأنها تعني مكوثهم في النار دومًا، ولكنهم قالوا أيضا بأن الله تعالى حينما يقضي على جهنم بسبب رحمته الواسعة فلا تبقى هناك أي جهنم، وهكذا ينتهي أيضًا خلودهم فيها.
لقد نقل ابن جرير عن الشعبي "أن جهنم أسرع الدارَيْن عمرانًا وأسرعهما خرابًا" (تفسير ابن جرير، تحت الآية).
وقال ابن مسعود: "ليأتينّ عليها زمان تخفق بها أبوابها". ونفس القول مروي عن جابر وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم(فتح البيان).
ثم إن هناك رواية في البخاري ومسلم تؤكد فناء جهنم، خلاصتها: أن الله تعالى سوف يمنح للملائكة والنبيّين والمؤمنين حق الشفاعة، فيذهب المؤمنون ويشفعون لإخوانهم، ويُخرجون من النَار من يعرفونهم. فيعودون إلى الله "فيقول لهم: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينارٍ من خيرٍ فأَخرِجوه. فيُخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نَذر فيها أحدًا ممن أمرتنا به. ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأَخرِجوه، فيُخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خيرٍ فأخرِجوه. فيُخرجون خلقًا كثيرًا. ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا.. فيقول الله تعالى: شفعت الملائكةُ وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضةً من النار، فيُخرج منها قومًا لم يعملوا الخير قط (مسلم كتاب الإيمان، والبخاري، الردّ على الجهمية).
يتضح من هذا أن الله تعالى سوف يُخرج من الجحيم حتى أولئك الذين لم يعملوا أية حسنة قط. وهذا يشكّل دليلاً على فناء جهنم، إذ لا يمكن أن يكون من أهلها أحدٌ أحطَّ درجة من هذا الصنف من الناس، فما دام هؤلاء أيضًا سيُخرجون منها فمعنى ذلك أنها ستفنى وستنتهي.
كما يجب أن نعلم أن "قبضة الله" لا تعني قبضة مادية، وإنما هي تعبير عن إحاطة الشيء إحاطةً كاملةً، وهذا أيضًا دليل أنه لن يُبقي في جهنم أحدًا إذ لا يمكن أن يبقى شيء خارجًا عن الإحاطة الإلهية. كما نستنتج من هذه الرواية أن من سيستحق عذاب النار سوف ينال نصيبه منها أولاً، ثم يُخرج منها لينال جزاءه على ما فَعَل من خيرٍ، لأنه تعالى يقول (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزال: 8)، وهذا يؤكد أن النجاة هي نصيب الجميع في آخر المطاف، وأن الجحيم فانيةٌ في آخر الأمر.
وكل هذه الروايات توضح تمامًا أن معظم الصحابة وكبار التابعين يتمسكون بالرأي الذي نتمسك به نحن المسلمين الأحمديين في هذه المسألة، بل إن القرآن الكريم نفسه مؤيد لموقفنا كما يتبين من آياته التالية:
أولاً: نفس هاتين الآيتين اللتين نحن بصدد تفسيرهما: فمما لا شك فيه أن الله تعالى قد قال فيهما عن الفريقين (إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ)، ولكنه فرّق بين وصفهما، إذ وصف الجنة بكونها (عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير منقطع، بينما قال في وصف جهنم: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)، وفيه تأكيد شديد على أمر ما، وليس هذا التأكيد إلا على إخراج أهل النار منها لا محالة. فالجملة مؤكدة أولاً بكونها جملة اسمية، ثم بحرف (إِنَّ) المؤكّدة، ثم باسمين للمبالغة (ربّ) و(فَعَّالٌ). فإذا كان الله تعالى لا يريد إخراجهم من النار أبدًا، فما الداعي لهذا التأكيد المتكرر يا تُرى؟!
ثم إذا كانت الجحيم غير منقطعة مثل الجنة فلماذا لم يقل في وصفها مثلاً: (عقابًا غير مجذوذ) كما قال عن الجنة (عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ).. أي أن أهل الجنة سيعيشون بحسب مشيئتنا ولا شك، ولكن مشيئتنا فيهم هي أن يخلدوا فيها دون أن تنقطع أو تفنى.
وهذا الدليل من القوة والجلاء بحيث إن الإمام ابن حجر الذي كان معارضًا لرأي الإمام ابن تيمية القائل بفناء الجحيم.. اضطرّ للقول بأن الله تعالى قد صرّح بمشيئته عن أهل الجنة، ولكنه لزم الصمت عن أهل النار.
ولكن الواقع أن الله تعالى لم يسكت عن إظهار مشيئته فيما يتعلق بأهل النار، بل صرّح عنها هنا بقوله (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ).. أي أنه عزّ وجلّ سوف يحقق فيهم لا محالة مشيئته المشار إليها في قوله (إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ).
ثانيًا: قال الله تعالى (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) (هود: 119- 120). والمراد من قوله (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) أنه خلقهم لكي يرحمهم. وقد روى ابن كثير عن ابن عباس قوله: "للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب" (ابن كثير).
وروى ابن وهب عن طاؤوس: "أن رجلين اختصما إليه فأكثرا". فقال طاؤوس: اختلفتما وأكثرتما. فقال أحد الرجلين: لذلك خُلقنا. فقال طاؤوس: كذبتَ. فقال: أليس الله يقول: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)؟ قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة. وكذا قال مجاهد والضحّاك وقتادة (ابن كثير).
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن المراد من قوله تعالى (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) هو: للرحمة خلقهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) أي للرحمة والعبادة (الدر المنثور).
والبديهي أنه لو بقي البعض في الجحيم إلى أبد الآباد فلن يُعتبر خلقهم للرحمة، بل يكون منافيًا لمدلول هذه الآية.
ثالثًا: قد ورد في القرآن في عدة أماكن وصف نعيم الجنة بأنه أبدي غير منقطع كقوله تعالى (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين: 7)، وقوله تعالى (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (الانشقاق: 26). ولكن لم يرد هذا الوصف عن النار مما يؤكد أن هناك فرقًا بين جزاء الجنة وعقاب الجحيم فيما يتعلق ببقائهما وانقطاعهما.
رابعًا: قال الله تعالى (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 157). فهذه الآية تؤكد أن رحمة الله تسع كلَّ شيء، ولكن عذابه أمر عارض عابر، وأن من سيعاقَب بالعذاب سوف تسَعه أيضًا رحمة الله في آخر المطاف. فإنه قد جعل العذاب هنا لأفراد معينين، وجعل الرحمة شاملةً للناس كافة بل للأشياء جميعًا ليؤكد أن عذاب جهنم سوف ينتهي في يوم من الأيام حتمًا، وإلا لم تكن رحمته واسعة لكلّ شيء.
وهناك آية أخرى بهذا المعنى (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا) (غافر: 8). لقد ذكر هنا سعة علم الله ورحمته معًا. فالزعم بحرمان البعض من الرحمة الإلهية ببقائهم في العذاب دون نهاية يستلزم أن نعتقد أن هناك أشياء تخرج عن دائرة العلم الإلهي. وكما أن هذا الظن باطل بالبداهة، كذلك باطل حرمان البعض من الرحمة الإلهية ببقائهم في النار الأبدية.
وقد يقول هنا قائل: هذا المنطق يلزمنا أن نعتقد بأن البعض لن يعاقَبوا حتى عقابًا مؤقتًا، وإلا سنضطر للقول بأن البعض يخرجون من علم الله خروجًا مؤقتًا؟
والجواب أننا إذا سلّمنا بانتهاء العذاب في آخر الأمر فلا بد لنا من التسليم أيضًا بأن العقاب في الآخرة وسيلة للإصلاح في واقع الأمر، وإذا كان العقاب يهدف للإصلاح فلا شك في كونه مظهرًا من مظاهر الرحمة الإلهية، ومثاله مثال العقاب الذي ينزله المعلم بتلميذه. وهكذا فإنه لا يخرج عبد من عباد الله من رحمته الواسعة ولو للحظة، بل يبقى دائمًا تحت ظلها. ولكن لن يكون الأمر كذلك إذا اعتبرنا العذاب أبديًا دون نهاية.
خامسًا: يقول الله تعالى (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( * ) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر: 30-31)، أي الذي يصير عبدًا حقيقيًا لله تعالى يُدخله في الجنة. ويقول عزَّ مِنْ قائل في موضع آخر (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 57) أي أن كل إنسان سوف يصبح في آخر الأمر عبدًا حقيقيًا لله عز وجل، لأن هذه هي غاية خلقه التي لا يمكن أن يبقى محرومًا للأبد من إحرازها. وحيث إن الناس جميعًا سوف يصيرون عبادًا لله تعالى -عاجلاً أو آجلاً- فلا بد من أن يدخلوا جميعًا في الجنة أيضا في آخر الأمر.
سادسًا: يعلن ربنا جلّ شأنه (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزال: 8). ولكن تخفيف العذاب عنه لا يعني أنه رأى نتيجة الخير الذي فعله. لذلك من الضروري أن يعاقَب المرء على سوء أعماله لفترة، ثم ينتهي عقابه ليرى جزاء أعماله الحسنة.
سابعًا: يخبرنا الله تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ( * ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) (القارعة: 9-10) أي الذي لا تكون أعماله ذات ثقل وقيمة فإن جهنم ستكون بمثابة أمٍ له. والظاهر أن الجنين لا يبقى في بطن أمه للأبد، بل يمكث فيه إلى حين اكتمال نموه واكتساب قوته. كذلك العُصاة إنما يمكثون في الهاوية أي الجحيم إلى أن تنمو وتنضج فيهم الملكات التي تمكّنهم من الرؤية الإلهية.
وباختصار، إن كل هذه الآيات تصرّح بأن جهنم ليست أبدية غير منقطعة، وأن الخلود لا يعني البقاء بدون نهاية، وإنما يعني فقط زمنًا طويلاً قد عبّر عنه القرآن بقوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا).
وأما قول الله تعالى عن أهل الجنة والنار: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) فإنما المراد منه أنهم سيمكثون هناك إلى زمن بقاء سماء وأرض الجنة والجحيم. فما دامت الجحيم ستؤول إلى الفناء هكذا -مع العلم أنه ليست هناك أية آية في القرآن تنفي انتهاء الجحيم- فلا شكّ أن مكوث أهلها فيها أيضًا سيصل إلى النهاية. ولكن الجنة، كما بيّنتُ، عطاءٌ غير مجذوذ أي غير منقطع بخلاف الجحيم كما صرّح القرآن.

الأربعاء، 6 يونيو 2012

يوسف القرضاوي-الفن و الغناء من الطيبات


الفن و الغناء من الطيبات
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
سؤال يتردد علي ألسنة كثيرين في مجالات مختلفة وأحيانًا شتي.
سؤال اختلف جمهور المسلمين اليوم في الإجابة عليه، واختلف سلوكهم تبعًا لاختلاف أجوبتهم، فمنهم من يفتح أذنيه لكل نوع من أنواع الغناء، ولكل لون من ألوان الموسيقي مدعيًا أن ذلك حلال طيب من طيبات الحياة التي أباح الله لعباده.

ومنهم من يغلق الراديو أو يغلق أذنيه عند سماع أية أغنية قائلا: إن الغناء مزمار الشيطان، ولهو الحديث ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبخاصة إذا كان المغني امرأة، فالمرأة -عندهم- صوتها عورة بغير الغناء، فكيف بالغناء؟ ويستدلون لذلك بآيات وأحاديث وأقوال.
ومن هؤلاء من يرفض أي نوع من أنواع الموسيقي، حتي المصاحبة لمقدمات نشرات الأخبار.

ووقف فريق ثالث مترددًا بين الفريقين؛ ينحاز إلي هؤلاء تارة، وإلي أولئك طورًا، ينتظر القول الفصل والجواب الشافي من علماء الإسلام في هذا الموضوع الخطير، الذي يتعلق بعواطف الناس وحياتهم اليومية، وخصوصًا بعد أن دخلت الإذاعة –المسموعة والمرئية- علي الناس بيوتهم، بجدها وهزلها، وجذبت إليها أسماعهم بأغانيها وموسيقاها طوعًا وكرهًا.

والغناء بآلة -أي مع الموسيقي- وبغير آلة: مسألة ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولي، فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخري.

اتفقوا علي تحريم كل غناء يشتمل علي فحش أو فسق أو تحريض علي معصية، إذ الغناء ليس إلا كلامًا، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكل قول يشتمل علي حرام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنغم والتأثير ؟
واتفقوا علي إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات والإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيام الأعياد، ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها.
وقد وردت في ذلك نصوص صريحة – سنذكرها فيما بعد.

واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بينا: فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغير آلة، بل اعتبره مستحبًا، ومنهم من منعه بآلة وأجازه بغير آلة، ومنهم من منعه منعًا باتًا بآلة وبغير آلة وعده حرامًا، بل ربما ارتقي به إلي درجة الكبيرة.

ولأهمية الموضوع نري لزامًا علينا أن نفصل فيه بعض التفصيل، ونلقي عليه أضواء كاشفة لجوانبه المختلفة، حتي يتبين المسلم الحلال فيه من الحرام، متبعًا للدليل الناصع، لا مقلدًا قول قائل، وبذلك يكون علي بينة من أمره، وبصيرة من دينه.

الأصل في الأشياء الإباحة: ـ
قرر علماء الإسلام أن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالي: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29)، ولا تحريم إلا بنص صحيح صريح من كتاب الله تعالي، أو سنة رسوله –صلي الله عليه وسلم- أو إجماع ثابت متيقن، فإذا لم يرد نص ولا إجماع. أو ورد نص صريح غير صحيح، أو صحيح غير صريح، بتحريم شيء من الأشياء، لم يؤثر ذلك في حله، وبقي في دائرة العفو الواسعة، قال تعالي: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه). (الأنعام: 119).

وقال رسول الله –صلي الله عليه وسلم-: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسي شيئا"، وتلا: (وما كان ربك نسيا) (مريم: 64). رواه الحاكم عن أبي الدرداء وصححه، وأخرجه البزار.
وقال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" أخرجه الداراقطني عن أبي ثعلبة الخشني. وحسنه الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه، والنووي في الأربعين.
وإذا كانت هذه هي القاعدة فما هي النصوص والأدلة التي استند إليها القائلون بتحريم الغناء، وما موقف المجيزين منها.

أدلة المحرمين للغناء ومناقشتها
استدل المحرمون بما روي عن ابن مسعود وابن عباس وبعض التابعين: أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالي: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين). (لقمان: 6) وفسروا لهو الحديث بالغناء.
قال ابن حزم: ولا حجة في هذا لوجوه:
أحدها: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله -صلي الله عليه وسلم-.
والثاني: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين.
والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها؛ لأن الآية فيها: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا) وهذه صفة من فعلها كان كافرًا بلا خلاف، إذ اتخذ سبيل الله هزوًا.

ولو أن امرأ اشتري مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوا لكان كافرًا ! فهذا هو الذي ذم الله تعالي، وما ذم قط عز وجل من اشتري لهو الحديث ليتلهي به ويروح نفسه لا ليضل عن سبيل الله تعالي. فبطل تعلقهم بقول كل من ذكرنا وكذلك من اشتغل عامدًا عن الصلاة بقراءة القرآن أو بقراءة السنن، أو بحديث يتحدث به، أو بنظر في ماله أو بغناء أو بغير ذلك، فهو فاسق عاص لله تعالي، ومن لم يضيع شيئًا من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن. (المحلي لابن حزم (9/60) ط المنيرية). أ هـ.

واستدلوا بقوله تعالي في مدح المؤمنين: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) (القصص: 55). والغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه.
ويجاب بأن الظاهر من الآية أن اللغو: سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك، وبقية الآية تنطق بذلك. قال تعالي: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) (القصص: 55)، فهي شبيهة بقوله تعالي في وصف عباد الرحمن: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا). (الفرقان: 63).
ولو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه وتمدحه، وليس فيها ما يوجب ذلك.
وكلمة اللغو ككلمة الباطل تعني ما لا فائدة فيه، وسماع ما لا فائدة فيه ليس محرمًا ما لم يضيع حقًا أو يشغل عن واجب.

روي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتي به يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات؛ لأنه شبيه باللغو، قال تعالي: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم). (البقرة: 225، والمائدة: 89).
قال الإمام الغزالي: (إذا كان ذكر اسم الله تعالي علي الشيء علي طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم، والمخالفة فيه، مع أنه لا فائدة فيه، لا يؤاخذ به، فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص ؟!). (إحياء علوم الدين. كتاب السماع ص 1147 ط دار الشعب بمصر).
علي أننا نقول: ليس كل غناء لغوا؛ إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه، فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة، والمزح طاعة، والنية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرياء: "إن الله لا ينظر إلي صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم". (رواه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم).

وننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في "المحلي" ردًا علي الذين يمنعون الغناء قال: (احتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق ؟ ولا سبيل إلي قسم ثالث، وقد قال الله تعالي: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) (يونس: 32). فجوابنا وبالله التوفيق: أن رسول الله –صلي الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي" (متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب، وهو أول حديث في صحيح البخاري). فمن نوي باستماع الغناء عونًا علي معصية الله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوي به ترويح نفسه ليقوي بذلك علي طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك علي البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلي بستانه، وقعوده علي باب داره متفرجًا، وصبغه ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غير ذلك ومد ساقه وقبضها، وسائر أفعاله). (المحلي. 9/60).

جـ- واستدلوا بحديث: "كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه" رواه أصحاب السنن الأربعة، وفيه اضطراب، والغناء خارج عن هذه الثلاثة.
وأجاب المجوزون بضعف الحديث، ولو صح لما كان فيه حجة، فإن قوله: "فهو باطل" لا يدل علي التحريم بل يدل علي عدم الفائدة. فقد ورد عن أبي الدرداء قوله: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أقوي لها علي الحق. علي أن الحصر في الثلاثة غير مراد، فإن التلهي بالنظر إلي الحبشة وهم يرقصون في المسجد النبوي خارج عن تلك الأمور الثلاثة، وقد ثبت في الصحيح. ولا شك أن التفرج في البساتين وسماع أصوات الطيور، وأنواع المداعبات مما يلهو به الرجل، ولا يحرم عليه شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل.

واستدلوا بالحديث الذي رواه البخاري -معلقا- عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعري -شك من الراوي- عن النبي -عليه السلام- قال: "ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر (الحر: أي الفرج والمعني يستحلون الزني). والحرير والخمر والمعازف". والمعازف: الملاهي، أو آلات العزف.
والحديث وإن كان في صحيح البخاري، إلا أنه من "المعلقات" لا من "المسندات المتصلة" ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده، ومع التعليق فقد قالوا: إن سنده ومتنه لم يسلما من الاضطراب، فسنده يدور علي (هشام بن عمار) (انظر: الميزان وتهذيب التهذيب). وقد ضعفه الكثيرون.
ورغم ما في ثبوته من الكلام، ففي دلالته كلام آخر؛ إذ هو غير صريح في إفادة حرمة "المعازف" فكلمة "يستحلون" –كما ذكر ابن العربي- لها معنيان: أحدهما: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور، إذ لو كان المقصود بالاستحلال: المعني الحقيقي، لكان كفرًا.

ولو سلمنا بدلالتها علي الحرمة لكان المعقول أن يستفاد منها تحريم المجموع، لا كل فرد منها، فإن الحديث في الواقع ينعي علي أخلاق طائفة من الناس انغمسوا في الترف والليالي الحمراء وشرب الخمور. فهم بين خمر ونساء، ولهو وغناء، وخز وحرير. ولذا روي ابن ماجة هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري بلفظ: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف علي رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير"، وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه.

هـ- واستدلوا بحديث: "إن الله تعالي حرم القينة (أي الجارية) وبيعها وثمنها وتعليمها".
والجواب عن ذلك:
أولا: أن الحديث ضعيف.
ثانيا: قال الغزالي: المراد بالقينة الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب، وغناء الأجنبية للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة حرام، وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محظور. فأما غناء الجارية لمالكها، فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث. بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة، بدليل ما روي في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله تعالي عنها. (الإحياء ص 1148) وسيأتي.

ثالثا: كان هؤلاء القيان المغنيات يكون عنصرًا هامًا من نظام الرقيق، الذي جاء الإسلام بتصفيته تدريجيًا، فلم يكن يتفق وهذه الحكمة إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع الإسلامي، فإذا جاء حديث بالنعي علي امتلاك "القينة" وبيعها، والمنع منه، فذلك لهدم ركن من بناء "نظام الرق" العتيد.
واستدلوا بما روي نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع، أتسمع ؟ فأقول: نعم، فيمضي، حتي قلت: لا. فرفع يده وعدل راحلته إلي الطريق وقال: "رأيت رسول الله يسمع زمارة راع فصنع مثل هذا" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
والحديث قال عنه أبو داود: حديث منكر.

ولو صح لكان حجة علي المحرمين لا لهم. فلو كان سماع المزمار حرامًا ما أباح النبي -صلي الله عليه وسلم- لابن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر حرامًا ما أباح لنافع سماعه، ولأمر عليه السلام بمنع وتغيير هذا المنكر، فإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم- لابن عمر دليل علي أنه حلال.
وإنما تجنب عليه السلام سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا كتجنبه الأكل متكئًا وأن يبيت عنده دينار أو درهم .... إلخ.

واستدلوا أيضًا لما روي: "إن الغناء ينبت النفاق في القلب" ولم يثبت هذا حديثًا عن النبي -صلي الله عليه وسلم-، وإنما ثبت قولاً لبعض الصحابة، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره، فمن الناس من قال -وبخاصة الصوفية- إن الغناء يرقق القلب، ويبعث الحزن والندم علي المعصية، ويهيج الشوق إلي الله تعالي، ولهذا اتخذوه وسيلة لتجديد نفوسهم، وتنشيط عزائمهم، وإثارة أشواقهم، قالوا: وهذا أمر لا يعرف إلا بالذوق والتجربة والممارسة، ومن ذاق عرف، وليس الخبر كالعيان.

علي أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغني لا للسامع، إذ كان غرض المغني أن يعرض نفسه علي غيره ويروج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودد إلي الناس ليرغبوا في غنائه. ومع هذا قال الغزالي: وذلك لا يوجب تحريمًا، فإن لبس الثياب الجميلة، وركوب الخيل المهلجة، وسائر أنواع الزينة، والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك، ينبت النفاق في القلب، ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله، فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرًا (الإحياء ص 1151) .

واستدلوا علي تحريم غناء المرأة خاصة، بما شاع عند بعض الناس من أن صوت المرأة عورة. وليس هناك دليل ولا شبه دليل من دين الله علي أن صوت المرأة عورة، وقد كان النساء يسألن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في ملأ من أصحابه وكان الصحابة يذهبون إلي أمهات المؤمنين ويستفتونهن ويفتينهم ويحدثنهم، ولم يقل أحد: إن هذا من عائشة أو غيرها كشف لعورة يجب أن تستر.
فإن قالوا: هذا في الحديث العادي لا في الغناء، قلنا: روي الصحيحان أن النبي سمع غناء الجاريتين ولم ينكر عليهما، وقال لأبي بكر: دعهما. وقد سمع ابن جعفر وغيره من الصحابة والتابعين الجواري يغنين.

والخلاصة: أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح. ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلي رسول الله يصلح دليلاً للتحريم، وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": لم يصح في التحريم شيء.
وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة.
وقال: ابن طاهر: لم يصح منها حرف واحد.
وقال ابن حزم: كل ما رُوي فيها باطل وموضوع.

أدلة المجيزين للغناء:
تلك هي أدلة المحرمين، وقد سقطت واحدًا بعد الآخر، ولم يقف دليل منها علي قدميه، وإذا انتفت أدلة التحريم بقي حكم الغناء علي أصل الإباحة بلا شك، ولو لم يكن معنا نص أو دليل واحد علي ذلك غير سقوط أدلة التحريم. فكيف ومعنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة، وروحه السمحة، وقواعده العامة، ومبادئه الكلية ؟
وهاك بيانها:

أولا: من حيث النصوص:
استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة، منها: حديث غناء الجاريتين في بيت النبي -صلي الله عليه وسلم- عند عائشة، وانتهار أبي بكر لهما، وقوله: مزمور الشيطان في بيت النبي -صلي الله عليه وسلم-، وهذا يدل علي أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم، فلو صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلي هذا الحد.

والمعول عليه هنا هو رد النبي -صلي الله عليه وسلم- علي أبي بكر -رضي الله عنه- وتعليله: أنه يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وأنه بعث بحنيفية سمحة. وهو يدل علي وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدي الآخرين، وإظهار جانب اليسر والسماحة فيه.
وقد روي البخاري وأحمد عن عائشة أنها زفت امرأة إلي رجل من الأنصار فقال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "يا عائشة، ما كان معهم من لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو".
وروي ابن ماجة عن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله فقال: "أهديتم الفتاة ؟" قالوا: نعم قال: "أرسلتم معها من يغني ؟" قالت: لا. فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيانا وحياكم ؟!

وروي النسائي والحاكم وصححه عن عامر بن سعد قال: دخلت علي قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوار يغنين. فقلت: أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم ؟! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس.
وروي ابن حزم بسنده عن ابن سيرين: أن رجلاً قدم المدينة بجوار فأتي عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فغنت، وابن عمر يسمع، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة، ثم جاء الرجل إلي ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، غبنت بسبعمائة درهم ! فأتي ابن عمر إلي عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بل نعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعي في بيع المغنية، وهذا إسناد صحيح لا تلك الأسانيد الملفقة الموضوعة.

واستدلوا بقوله تعالي: (وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائمًا قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين). (الجمعة: 11).
فقرن اللهو بالتجارة، ولم يذمهما إلا من حيث شغل الصحابة بهما -بمناسبة قدوم القافلة وضرب الدفوف فرحًا بها- عن خطبة النبي -صلي الله عليه وسلم-، وتركه قائمًا.
واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه. وهم القوم يقتدي بهم فيهتدي.
واستدلوا لما نقله غير واحد من الإجماع علي إباحة السماع، كما سنذكره بعد.

وثانيا: من حيث روح الإسلام وقواعده:
لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها الفطر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم ... إلخ، فهل الطيبات أي المستلذات حرام في الإسلام أم حلال ؟
من المعروف أن الله تعالي كان قد حرم علي بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم علي سوء ما صنعوا، كما قال تعالي: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا. وأخذهم الربا وقد نهو عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) (النساء: 160، 161). فلما بعث الله محمدًا –صلي الله عليه وسلم- جعل عنوان رسالته في كتب الأولين (الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). (الأعراف: 157).

فلم يبق في الإسلام شيء طيب أي تستطيبه الأنفس والعقول السليمة إلا أحله الله، رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال تعالي: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات). (المائدة: 4).
ولم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم علي نفسه أو علي غيره شيئًا من الطيبات مما رزق الله مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإن التحليل والتحريم من حق الله وحده، وليس من شأن عباده، قال تعالي: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل آلله أذن لكم أم علي الله تفترون) (يونس: 59). وجعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات كإحلال ما حرم من المنكرات، كلاهما يجلب سخط الله وعذابه، ويردي صاحبه في هاوية الخسران المبين، والضلال البعيد، قال جل شأنه ينعي علي من فعل ذلك من أهل الجاهلية: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء علي الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين). (الأنعام: 140).

ولو تأملنا لوجدنا حب الغناء والطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية وفطرة بشرية، حتي إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلي الإصغاء إليه ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل نقول: إن الطيور والبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة حتي قال الغزالي في الإحياء: (من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته علي الجمال والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرًا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر -لقوة نشاطه في سماعه- المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فتري الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها، حتي تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها) .