الأحد، 8 فبراير 2015

نادر قريط - تاريخ حول اسبانيا

من منّا لا يتذكر كيف وقف طارق بن زياد القائد البربريّ أمام جنوده (المبلّلين طبعا بمياه البحر) وكيف قصفهم بخطبة عربية يعجز عنها فحول الفصاحة (البحر من ورائكم والعدوّ من أمامكم !!) ومن منّا لا يتذكّر “صقر قريش” عبد الرحمن الداخل (بن معاوية بن هشام)، الذي نجا من مذبحة العبّاسيين عام 755ميلاديّ كآخر عنقود من بستان هشام، وكيف قادته العناية الإلهية، وما في عروقه النبيلة من بطولة ليقطع العالم القديم ويعبر المضيق ويقيم دولته في قرطبة. إنها أحداث راسخة نقشت في عقولنا بإزميل المؤرّخين، ولعلّها أكثر حقيقة من الحقيقة نفسها.

لكنّ فتح الأندلس وغيرها من الأحداث المبكّرة كالفتوحات الإسلامية، وموقعة الجمل وصفين وكربلاء وغيرها لا تملك دليل حدوثها خارج رُقَعِ المدوّنات التاريخية (والشعرية)، والورق وقريحة الشعراء.
لا أثار أركيولوجية مادية تؤكّدها، ولا عملات أو عمارة أو شواهد قبور تشهد عليها، لاشيء إطلاقا، حتّى رسائل النبي محمد إلى هرقل والمقوقس ( أسلم تسلم) التي يتباهى بها عابد الجابري، وينشر صورها ليست أكثر من مفبركات للقرون المتأخّرة، وأستغرب كيف يقع باحث بمقامه في فخّ هذه السذاجات التي لا تزيد كثيرا عن الرسائل المتبادلة بين المسيح وملك دمشق آغاروسAgarus (ترجمها أيسوب Eusub أحد آباء الكنيسة المبكّرة، بعد أن عثر عليها في السجلات الأسينية) لكنّ الغريب المثير للسخرية، أنّ آغاروس هذا كان ملكا عام 500ميلادي والأغرب أنّ المسيح كان في رسائله يستشهد بإنجيل تلميذه يوحنا!

وهذه أمور فبركتها خيالات القرون الوسطى تماما كقبر النبيّ داوود على جبل صهيون، أو برجه الشهير القريب من باب يافا (الذي مابرح يرمز ويجسّد ارتباط اليهود بمدينة القدس)، وهو في الحقيقة ليس أكثر من صومعة بنتها جيوش السلطان سليمان العثماني.
واختصارا أعود إلى ملفّ قديم، كتبت حوله مرارا، عن تيّارٍ نقديٍّ مابعد حداثيٍّ، يحاول إعادة طرح المسلّمات والبديهيات أمام اختبار البحث، مشكّكا بكلّ التاريخ الروائيّ القصصيّ الذي دُوّن بصورة عشوائية معتمدا نزعة شعرية خطابية، أو نسج قصصه من ذكريات باهتة وأصداء أحداث منسية دُوّنت لأسباب سياسلطوية، وبما يناسب الفضاء المعرفيّ العقليّ لتلك العصور، وكما أسلفت فإنّ هؤلاء النقّاد المثيرين يضعون حقبا كاملة بما فيها من سلالات وملوك وحروب موضع الشبهة والريبة. وأحد هؤلاء النقّاد هو الألماني هاينسون Gunnar Heinsohn:
وُلد عام 1943، وهو أستاذ للفلسفة والاقتصاد والاجتماع في برلين، اِنضمّ إلى أنصار فرضية هربرت إليغ (التي تدّعي أنّ الفترة بين 614م و911م هي فترة شبحية خالية من التاريخ ) وقام بدعمها من خلال دراسته لمسكوكاتِ القرون الوسطى، ويرى على سبيل المثال أنّ تاريخ مصر القديمة وبلاد الرافدين قد تمّ تطويله حوالي ألفي سنة، لدعم التاريخ التوراتيّ (سفر الخروج) وتأكيد مصداقيته
.
وبعيدا عن هموم وتعقيدات التاريخ الأوروبيّ وحقبه وأحداثه وملوكه، عثرت على دراستين كان هاينسون قد نشرهما في مجلّة شهيرة تعنى بالنقد التاريخيّ اسمها Zeitsprünge (وتعني: قفزات زمنية ومجازا:خيانة زوجية).
وتعود أهمّية الدراستين لتناولهما الحقبة العربية الإسلامية في أسبانيا وصقلية. وهي أماكن احتكاك حضاريّ مهمّة، كانت السبب لقدح شرارة النهضة الأوروبية. وارتأيت البدء بأسبانيا مختصرا ومقتصرا على زبدة الكلام، ومتجنّبا قدر الإمكان الترجمة الحرفية، فالمهمّ حسب تقديري ليس الاقتناع بنظرية الكاتب والاستسلام لفرضياته، بل رصد طريقته ومنهجه، وتسجيل اعتراضه وظنونه.
فالبحث عن قرائن مادية ( دراسة العمارة والمسكوكات والمخطوطات والنقوش ورفع اللبس عن تزمينها..إلخ) هو الطريقة الوحيدة الممكنة لفحص مدوّنات الماضي المؤسطرة. لأنّ تصديق تاريخ نقله الرواة والحكواتية (على طريقة حدّثنا أبكم عن أطرش عن شاهد ماشافش حاجة) أمر يفضي في النهاية كما يقول ف.كامماير (أحد آباء النقد التاريخيّ) إلى خلق وعيٍ تاريخيٍّ مزيّفٍ، يصبح وقودا لصراعات دائمة.
يبدأ هاينسون دراسته مشيرا إلى أنّ تاريخ شبه الجزيرة الإيبرية لا مثيل له: فهو حافل بالتغيرات الراديكالية العنيفة، لكنّه فقير بالمصادر: خصوصا في القرنين الممتدّين بين غروب الحكم الغوطي لفامبا Wamba (680 ـ 672م) وحروب ألفونسو الثالث (910ـ 866م) حاكم ليون وأستوريا. ثم يوضح لنا بأنّ التاريخ الرسميّ يعتبر مقاطعة أستوريا (شمال أسبانيا)، مهد الأسبنة وموئل السلالات الأسبانية، التي أعلنت كيانها بعد أحد عشر عاما من الاحتلال العربي عام 711م ، وهزيمة الغوطيين، وموت ملكهم الأخير Agila، وقد تمّ ضمان استقلالها شجاعة الملك المؤمن بيلايو ونصره على فرسان المسلمين في “كوبادونغا” سنة 722م، ورغم تعرّض هذه المملكة ( ليون ـ أستوريا) لضغوط الأمراء المسلمين وهزيمتها في “نابارا” إلا أنها لم تخضع لسلطتهم.
الغوطيون:(من يكون هؤلاء)

يقول الكاتب إن معرفتنا عن الغوطيين تعود إلى مدوّن تاريخيّ (De origine actibusque Getarum) زعم أنّ جوردانوس كتبه عام 551م، وندين باكتشافه لكونراد بويتينغر (1465 ـ 1547م) وفيه جمع جوردانوس قصص حروب الغوطيين عن كاسيودور (490ـ580م) وعن كاتب بيزيطيّ مجهول(!) اسمه بروكوب. وهناك أيضا مدوّن يُنسب إلى بيكلارو مطران خيرونا (540ـ 614م) وحسب هؤلاء فإنّ مملكة الغوطيين الغربيين امتدّت على مساحة قدرها 700ألف كيلو متر مربع وضمّت جنوب فرنسا وكلّ شبه الجزيرة الإيبيرية، واستمرّ الحال حتى هزيمة الغوطيين عام 507م في “بواتييه” أمام الملك الفرنجي كلودفيغ. وبعد وفاة الملك الغوطي Alarich الثاني انسحب الغوطيون من جنوب فرنسا ونقلوا عاصمتهم عام 534م من مدينة تولوز (الفرنسية) إلى توليدو (طليطلة بالعربية) واكتفوا بشبه الجزيرة الإيبيرية
مداخلة: لفت نظر الكاتب أنّ المعركة التي سببت طرد الغوطيين من جنوب فرنسا بين الفرنجي كلودفيغ والغوطي alarich الثاني قد حصلت عام 507م في بواتييه وهي تذكّر بمعركة أخرى جرت في عين المكان بين فرنجيّ آخر اسمه شارل مارتل وعبدالرحمن الغافقي عام 732م وفيها أيضا تمّ طرد المسلمين من جنوب فرنسا وتقليص نفوذهم على شبه الجزيرة الإيبيرية؟؟ وفي كلا المعركتين فإننا أمام بطل فرنجيّ يقدم عملا فنيا اسمه “بواتييه”!! لكن هاينسون لم يلاحظ اسم الملك الغوطي alarich (484ـ507م) يمكن نطقه بالعربية “العرش أو العريق” ولا أدري شخصيا كيف دخلت “أل التعريف العربية” على اسم ملك غوطي في وقت يُفترض فيه أنّ اللغة العربية مازالت رابضة فوق رمال جزيرة العرب. ومن خلال متابعتي لسلسلة الملوك الغوطيين اللاحقين لفت نظري اسم الملك Amalarich (511ـ 531م) والذي يبدو لي وكأنه “عم العريق”؟
وبعد هذه الملحوظة المهمة أعود إلى سرد هاينسون لمصادر التاريخ الغوطي، وذكر الشخصية المحورية Isidor إيزودور مطران أشبيلية حيث نُسب إليه مدوّن مفقود “تاريخ القوطيين والوندال” (612ـ621م) . أمّا المصادر المعاصرة له فتُسقط القوطيين في ثقب تاريخيّ. مما دعا الباحث باتريك أرموري(1997م) إلى اعتبار القوطيين من الناحية الإثنية شعبا لم يُوجد قط، فلغتهم انقرضت في القرن السادس م( ما عدا شبه جزيرة القرم )، أما الإنجيل القوطي المُسمّى Wulfila (عُثر عليه في إستانبول) فهو برأيه لغة طقوس للكنيسة الأريانية. ويضيف ساخرا: من المحيّر وما يصعب فهمه، كيف أنهم استطاعوا خسارة المعارك أمام المسلمين؟
معظم الآثار الغوطية تعود للقرن السادس ميلادي، كقبور دوراتون ( 50 كم من سيغوبيا) أو مسكوكات أتناسيوس وتيودوريك (491ـ518م) (511ـ526م) على التوالي أو كنز توليدو الذي يتضمّن تاج أحد الملوك القوطيين، وحسب فرضية إليغ: إذا كانت نهاية القوطيين في القرن السادس فإنّ القرن السابع ومطلع الثامن (قدوم العرب) تصبح ثقبا تاريخيا، وبضمنها 15 مؤتمرا كنسيا مسكونيا ( من الرابع حتى الثامن عشر والواقعة بين 633م و 702م) فجميعها تصبح تضخّما بما فيها المباني والأبرشيات المنسوبة لهذه الحقبة، التي لم تجد دليلا أركيولوجيا يثبت وجودها. وهنا يتوقف هاينسون أمام آثار البناء القوطي ويستشهد ببعض الدراسات واختصارا أقتطف ما يلي:
1ـ اختفت معظم المباني الغوطية، ولا توجد في أيّ مدينة أبنية لطقوس (التقديس)
2ـخارج المدن تمّ العثور على أربع كنائس (طولها بين20ـ 25 متر ) san juan de Banos de cerrto يعتقد أن تزمينها جاء اعتباطيا
3ـ اِعتبار الأثر san pedro de la Naveونسبته إلى الملك فامبا 691م دليل متهافت لأنّ هذا الملك موجود على الورق فقط، فالباحثة سوزان تايلت (1984) شبّهته بالملك شاول في العهد القديم، وما كتبه جوردانوس عام 510م يعكس صورة إحياء إسبانيا في القرن 11 بعد النصر على المسلمين وطردهم من توليدو عام 1087م.
أما بصدد قوس حذوة الحصان الموجود في الأثر المذكور فهذا القوس معروف منذ نهاية عصر الأنتيكا في القرن الخامس م في كنائس شمال أفريقيا وغيرها، والتي تشبه بطرازها مباني القرنين 10 و11م حيث استمر بناء قوس “حذوة الحصان” في المساجد الإسلامية (وفي هذا إشارة إلى ثلاثة قرون مفقودة)
4ـ الأثر الوحيد في توليدو الذي يعود للعصر الإسلاميّ هو مسجد بُني عام 999م، تمّ تحويله عام 1187 إلى مستشفى كنسيّ:Ermita del Christo de la Luz وكذلك حال البوابة: de Bisagra فهي جزء من السور الإسلامي الذي يعود أيضا للقرن 10م وكأنّ الاحتلال العربي لتوليدو وانتزاعها من الغوطيين لم يحدث في القرن الثامن بل في القرن العاشر ميلادي؟ فآخر طرز المباني الغوطية بما فيها الكنائس الأربع في توليدو تعود لبداية القرن السابع م وأثار المساجد تشير إلى انتشار الإسلام في القرن العاشر ( هناك دائما ثلاثة قرون تفصل بينها؟)
ملوك أستوريا وليون:
يخلص الكاتب إلى أنّ سلسلة ملوك أستوريا التي بدأت عام 717م مع فونس مرورا بعدد من الملوك باسم ألفونسو وصولا إلى فرندنادو عام 1037م وبداية الوحدة بين ليون وقشتالة، تضمّ 27 ملكا معظمهم غير موثوق بوجوده لهذا يقول المؤرّخ البريطاني lindehan : كلّ الوثائق التاريخية بين 984م والقرن 12م وتاريخ ألفونسو الثالث مرّت تحت يد المطران بيلايو في أوبيدو، وهو مزوّر عملاق كان يزوّر ويزوّر حتى انقطع نفسه عام 1130م ويضيف ببلاغة قائلا: لقد انتقل حبر أصابعه ليُظلِّم (من الظلام) كلّ العصور، والخلاصة أنّ تاريخا كُتب في القرن التاسع ضاع بكامله فتوجّب إعادة كتابته في القرن العاشر وهكذا لم تبق منه كسرة، لكنه استمرّ عبر نسخ حتى القرن 12م ثم اختفت تلك النسخ ولم تترك أثرا باستثناء نسخة واحدة وصلت المطران بيلايو الذي استبدلها بأخرى مزوّرة، وهذه الأخيرة تلقّفها أحدهم في القرن السادس عشر وقام بنسخها مع ضرورة إتلاف أصلها ..هذا ما نملكه اليوم ولله الحمد؟؟ فمن خيال عصر النهضة نشأ التاريخ المبكّر لإسبانيا ؟؟ فالمطران بيلايو قام بوضع سلاسل ملوك القرنين 8و9 والطريف أنّه منح الملك الأوّل اسمه الشخصي بيلايو.
وفي الجزء الأخير من الدراسة يطرح الكاتب السّؤال الأهمّ: هل يستطيع مسلمو اسبانيا إحياء القرون التي ماتت عند القوطيين والأستوريين؟
يخبرنا التاريخ الرسميّ أن القائد السرساني طارق بن زياد عبر جبل طارق عام 711م وبعد معركة عند نهر وادي لاتا (جنوب اركوس دي لا فرونتيرا) قتل فيها الملك رودريك (رذريق) ممّا سبب هرب شعبه وكذلك خليفته سيندرد إلى روما، وأصبحت شبه الجزيرة الإيبيرية مسلمة ما عدا أقليم (أستوريا ليون) وفوق ذلك عبر المسلمون جبال البيرينيه واحتلّوا منطقة سبتاميا(المدن السبع) في جنوب فرنسا. لكنّ تلك الانتصارات الإسلامية صوحبت بنزاعات وقلاقل داخلية مستمرّة، انتظرت حتى منتصف الفرن الثامن حين قدوم الأمير الاستثنائي عبد الرحمن الداخل ليبدأ العصر السياسيّ اللامع.
ولد عبد الرحمن عام 731م في دمشق ثم هرب عام 755م بأعجوبة كآخر الناجين من مذبحة العباسيين ضدّ بني أمية ووصل الأندلس واستطاع قيادة قوات من السوريين والبربر وانتصر على الحكام العرب المحلّيين المتنازعين وامتدّ نفوذه بين 765م و788م تحت لقب “أمير قرطبة” وشمل شبه الجزيرة الإيبيرية كاملة، وقد تمّ تلوين هذه الحقبة باستمرار، ممّا جعل قيمتها التاريخية غير مرض؟؟ أما الدليل الذي يثبت تلك الأحداث العظيمة للاحتلال العربي، فهو عبارة عن نصّ واحد نسب لأحد المستعربين ( وهم مسيحيون عاشوا بكنف السلطة الإسلامية) واسم ذلك المدوّن التاريخيّ:Cronica Mozarabe de 754 صدر في توليدو عام 754م لكنّ النسخة التي يمكن رؤيتها تعود إلى القرن العاشر، والموثوق فيه أنّ النسخ التي تم تداولها لـ200عام قد اختفت بدون أثر؟ ثم يقدم هاينسون جدولا للحكام الأمويين حسب مدوّنات القرنين 10و11:
عبد الرحمن الداخل(765ـ788م) انتصر على خصومه في قرطبة، خاض معركة نابارا التي أضعفت أستوريا لكنه لم يقض عليها، كان مرهوبا عنيفا وأقوى حكام أوروبا
هشام الأوّل(788ـ796م)
الحكم الأول(796ـ822م)
عبد الرحمن الثاني (822ـ852م) انتصر أيضا على الحكام العرب المتنازعين وأقام دولة موحّدة مركزها قرطبة، وخسر أمام أستوريا في معركة زامورا، وكان من ألمع حكام أوروبا
محمّد الأول( 852ـ886) أعقبه عبد الله (888ـ912م)
عبد الرحمن الثالث (الناصر) الذي حكم بين (912ـ 961م) وانتصر أيضا على الأمراء المسلمين المتخاصمين وعلى مسيحيي الشمال وحوّل قرطبة من إمارة إلى خلافة عام 929م أيضا لم يهزم أستوريا في معركة نابارا، خسر أيضا معركة في زامورا، ملك الأسطول الأقوى في أوروبا .. وهكذا حتى عام 1031م حيث اِنتهى العصر الذهبيذ وسقطت الدولة الأموية الأندلسية في أيدي 23 من أمراء الطوائف.
وبعدها ينتقل الكاتب إلى عرض آراء Olague وهو مؤرخ معروف وتلميذ فيلسوف التاريخ شبنغلر، الذي يشكّك في عملية عبور جبل طارق وقصّة الفتح العربيّ على يد طارق بن زياد، ويشكو أيضا من غياب الدليل الأركيولوجيّ، مما حدا به إلى افتراض أنّ الفتح العربي لم يحدث قط؟ وحسب رأيه فإنّ أوائل المسلمين هم مسيحيو اسبانيا الذين اعتنقوا الإسلام مع نهاية عصر الأنتيكا، وهم أنفسهم قد استقبلوا العرب والبربر؟ وهذا ما دفع البعض كروث (1994م) إلى استنكار القصص العربية التي وصفت رجلا واحدا وهو يحتلّ شمال أفريقيا (المقصود هنا عقبة بن نافع) وكيف أنّ سوريّا واحدا احتل اسبانيا (المقصود عبد الرحمن الداخل) !!
لكنّ السؤال ماذا قالت المصادر العربية المعاصرة للفتح العربيّ؟
لا شيء!! إذ لا يوجد أثر كتابيّ واحد يعود إلى القرنين الثامن والتاسع، فكلّ المدوّنات العربية التي تناولت الحدث تعود للقرنين 10و11ميلادي. وأقدم تلك المدوّنات اسمه “أخبار مجموعة” لكاتب مجهول يحكي قصّة الفتح ابتداء من عام 711م وصولا إلى نهاية تاريخ عبد الرحمن الثالث عام 961م، قام بترجمته إيميليو الكانتارا عن مخطوط وحيد موجود في باريس. ولا أحد يدري كيف عرف ذلك المؤرّخ المجهول الذي عاش في القرن العاشر أحداثا سبقته بثلاثة قرون؟ فالمخطوط الباريسيّ تمّ إنجازه حوالي 1030م، عليه فإنّ النصوص العربية التي تناولت الفترة بين 711و 1000ميلادي اعتمدت الرواية الشفهية وهذا يعني أنّ ثلاثة قرون مفقودة حتى الحرف الأخير؟ والغريب أنّ كلّ المدوّنات المتأخّرة تؤكد وجود ثلاثة أمراء (حكام) باسم عبد الرحمن، وجميعهم توجّب عليه أن يشنّ حروبا على حكّام عرب محلّيين متنافسين ومتخاصمين، وجميعهم انتصر في تلك الحروب، وحقّق وحدة البلاد، لكنّهم جميعا لم يستطيعوا إخضاع استوريا ـ ليون. فعبد الرحمن، الثاني والثالث خسرا معركة “زامورا” وعبد الرحمن الأوّل والثالث انتصرا في “نابارا”؟؟ وعلى ما يبدو فإنّ المادة التاريخية الحقيقية لعبد الرحمن الثالث في القرن العاشر قد استخدمت مرارا لملء القرون الفارغة، عليه يقول هربرت إليغ جملة ذات مغزى: إنّ عبد الرحمن الثالث هو أوّل من شن هجوما على مسيحيّي اسبانيا على الإطلاق!!
وكما هو الحال في توليدا فإنّ المباني الإسلامية للقرنين 8 و 9 م غير موجودة وجميعها يعود للقرنين 10 و11 ؟؟ وعندما تتكوّن قرطبة القرن التاسع من 300 ألف نسمة فلا بدّ أن يكون هذا الرقم قد مرّ بين أصابع المطران بيلايو. (يمكن الآن بناءً على أسوار المدن والقبور..إلخ تحديد الكثافة السكانية في أيّ عصر شئنا، وهذه الملاحظة سقتها لتوضيح مقولة الكاتب الأخيرة).
أخيرا يعرّج الكاتب على المصادر اليهودية التي تصمت أيضا بعد عام 711 م رغم كون اليهود أهل كتابة وتدوين، ورغم تمتّعهم بالحرية تحت الحكم الإسلاميّ، مقارنة بعصور الاضطهاد السابقة، ثم ينقل الكاتب عن المؤرّخ اليهوديّ Dubnow الذي يؤكّد ضبابية وضع اليهود منذ بداية الاحتلال العربيّ لاسبانيا وخلال المائة والخمسين سنة التي أعقبته، وهكذا حتى بلوغ منصف القرن العاشر حينها يسمع المرء فجأة ودون مقدمات عن وجود “حسيداي سفروت” وزيرا يهوديا عند عبد الرحمن الثالث، أمّا في القرن 11م فيبدأ فعلا عصر النهضة اليهوديّ العربيّ.
ملاحظة: لفت نظري أنّ مصادرَ أخرى ذكرت شخصا يُدعى: حسيداي سفروت وقد عمل مستشارا لعبد الرحمن الداخل عام 765م (تشابهت الأسماء والفعل واحد) بعد أن التقى به في المغرب قبل عبوره المضيق وقدّم له تسهيلات مالية، ونصائح وهيّأ له فرصة اقتحام الأندلس؟ لذا أرجو منكم في حال عثوركم على سفروت آخر الاتصال بي مع الشكر.

عنوان الدراسة ومرجعها: Lِschung der frühmittelalterlichen Regenten Spaniens
Die überzنhligen Winths, Alfonsos und Abd-er-Rahmans bei Westgoten, Asturiern und Muslimen
von Gunnar Heinsohn (aus Zeitensprünge 01/2005)