أولا : حديث جابر بن عبد الله:-
رواه أبو داود من طريق محمد بن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي سلمة، عن جابر نحو حديث فاطمة.
وقد قال عنه ابن حجر: (أخرجه أبو داود بسند حسن)[212] ، وقد ثبت بما لا شك فيه أنه لا أصل له عن جابر، وإنما هو من تخاليط الوليد وأوهامه، إن لم يكن من أوهام محمد بن فضيل، وقد نص ابن عدي على أنه لم يتابع عليه، وعدّه في مناكير ، وكذا عده العقيلي في مناكيره، فلا يمكن اعتباره بأي حال من الأحوال شاهداً لحديث فاطمة وقد قال ابن الصلاح: (ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه… كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذاً).[213]
والمنكر أشد ضعفاً من الشاذ ولا يمكن أن تكون أوهام الرواة وتخاليطهم عواضد وشواهد، وإلا فقد اضطرب الوليد في رواية هذا الحديث على أوجه فإذا الحديث قد صار أربعة أحاديث؟!!
ومما يدل على أنه لا أصل له عن جابر ما رواه البخاري[214] ومسلم[215]من طريق محمد بن المنكدر قال: (رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صائد الدجال. فقلت: أتحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي e فلم ينكره).
فهذا نص صريح في أن جابراً لم يسمع بقصة تميم الداري هذه وإلا لم يكن ليحلف على أن ابن صياد اليهودي في المدينة هو الدجال الذي في الجزيرة ولا شك أن ابن المنكدر إنما سمع هذا الحديث منه بعد وفاة النبيe.
فثبت يقيناً بطلان ما رواه الوليد عن أبي سلمة عن جابر وثبت خطأ قول ابن حجر أن إسناده حسن.
ثانيا : حديث عائشة:
ثالثا: حديث أبي هريرة :
وقد رواهما مجالد عن الشعبي في حديثه المشهور فقال بعد أن ذكر حديثه عن فاطمة: قال الشعبي فلقيت محرر بن أبي هريرة فحدثته فقال أشهد على أبي هريرة أنه حدثني بهذا وزاد: (إنه نحو المشرق).
قال الشعبي: ثم لقيت القاسم بن محمد فذكرت له حديث فاطمة فقال: أشهد على عائشة أنها حدثتني كما حدثتك غير أنها قالت: (الحرمان عليه حرام: مكة والمدينة).
كذا رواه عن مجالد: يحيى القطان وسفيان بن عيينة وعلي بن مسهر، وليس هو في رواية إسماعيل بن أبي خالد عنه عند ابن ماجه والآجري من طرق، وإن كان الطبراني قد جمع الأسانيد عن القطان وابن عيينة وإسماعيل وزيد بن أبي أنيسة ثم ساق متناً واحداً.
وقد قال ابن مهدي: (حديث مجالد عند الأحداث: يحيى بن سعيد القطان وأبي أسامة ليس بشيء)[216] فمع ضعف مجالد إلا أنه ازداد ضعفاً في آخر حياته بعد تغيره فرواية القطان وحماد بن أسامة وعلي بن مسهر منه أشد ضعفاً من رواية القدماء عنه ومنهم إسماعيل بن أبي خالد إذ هو من أقرانه، ومجالد ضعيف بل قال عنه ابن معين: (واهي الحديث) ـ كما سبق ذكره ـ فلا يمكن قبول تفرده عن الشعبي بثلاثة أحاديث: حديث فاطمة، وحديث عائشة، وحديث أبي هريرة، دون مئات الحفاظ الأثبات من أصحاب أبي هريرة وعائشة، ولو تفرد ثقة بمثل هذا لعد حديثه منكراً فكيف بمثل مجالد؟!
وقد جاءت مثل هذه الزيادة من طريق الشيباني عند الطبراني وابن مندة وثبت أن الحديث لا يصح أصلاً عن الشيباني عن الشعبي، وإنما هو حديث مجالد، ولم يصرح من راوه عن الشيباني بالسماع منه، ولا الشيباني بالسماع من الشعبي.
ثم على فرض صحة هذه الرواية عن الشعبي عن المحرر عن أبي هريرة فإن المحرر نفسه (مقبول) كما قال ابن حجر[217] أي حيث يتابع وإلا فلين فلا يمكن قبول تفرده بهذا الحديث دون كل أصحاب أبي هريرة.
وقد قال ابن حجر: (أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أبي هريرة)[218] إلا أن هذه الرواية أشد ضعفاً من رواية المحرر ، فقد أوردها ابن كثير في الملاحم[219] (قال الحافظ أبو يعلى ثنا محمد بن أبي بكر ثنا أبو عاصم سعد بن زياد ثنى نافع مولاي عن أبي هريرة…)، ثم قال ابن كثير: (حديث غريب جداً وقد قال أبو حاتم ليس بالمتين).
وقد قال أبو حاتم عن سعد بن زياد: (يكتب حديثه وليس بالمتين)[220] كما ذكر شيخه نافعاً فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً[221]، وقد ذكره ابن حبان في الثقات[222] ، وأورد له خبراً منكر عن أم قيس بنت محصن قالت: لو رأيتني ورسول الله e آخذ بيدي! في سكة من سكك المدينة حتى أتينا البقيع! فقال يا أم قيس يبعث من هذه القبور سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب… إلخ.
وقد رواه ابن شبه[223] ثم روى بعده ما يدل على أن هذا من كلام كعب الأحبار؟!
كما روى الطبراني في الأوسط[224] من طريق سعد عن نافع، عن قيس بن سلع الأنصاري حديثاً ثم قال: (لا يروى عن قيس إلا بهذا الإسناد تفرد به سعد)؟!
فهذا كل ما لنافع هذا من الحديث ـ فيما وقفت عليه ـ حديثه عن أم قيس، وعن قيس بن سلع، وعن أبي هريرة، وهي غرائب ومناكير لا يتابع على شيء منها، ولهذا تنكب الأئمة عن تخريج حديثه فليس له في الكتب الستة ولا المسند مع سعته شيء.
وقد ذكر ابن حبان في ثقاته كثيراً من المجاهيل حتى ممن نص هو على عدم معرفته بهم كما قال ابن حجر[225] ونقل عنه قوله: (من كان منكر الحديث على قلته لا يجوز تعديله إلا بعد السبر… هذا حكم المشاهير من الرواة أما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء فهم متروكون على كل الأحوال)، وهذا يصدق على نافع فإنه لم يرو عنه إلا سعد بن زياد وسعد ضعيف، وليس لنافع من الحديث إلا النزر اليسير من الغرائب والمناكير فهو ـ على وفق قاعدة ابن حبان نفسه ـ متروك على كل حال فروايته عن أبي هريرة منكرة للعلل الثلاث:
1- ضعف في سعد بن زياد كما قال أبو حاتم عنه (ليس بالمتين).
2- جهالة في نافع إذ لا يكاد يعرف إلا من رواية سعد عنه.
3- غرابة في حديثه عن أبي هريرة كما قال ابن كثير.
ثم إن سعداً إنما يروي عنه أهل العراق، والبصريون[226] على وجه الخصوص فعاد الحديث من حيث خرج؟!
وأما طريق عائشة فلم يجد له الحافظ ابن حجر متابعاً فلم يزد على قوله: (أما حديث عائشة فهو في الرواية المذكورة عن الشعبي)[227] ولم يروه إلا مجالد بن سعيد على الصحيح، ولهذا تنكب أصحاب السنن الأربعة ومسلم عن تخريج هذه الزيادة مع نفاستها، ومع تخريج مسلم للحديث من أربعة طرق غريبة عن الشعبي إلا أنه لم يخرج هذه الزيادة لأنها لا تروى إلا عن مجالد، ولو صحت عن غيره ـ خاصة الشيباني ـ لخرجها مسلم في صحيحه أو ابن حبان أو لاستدركها الحاكم إذ فيها شاهدان عن صحابيين لحديث فاطمة فثبت يقيناً أنها لا تعرف إلا من حديث مجالد.
ثم على فرض صحة هذه الزيادة الإسنادية، فإنه لم يسق أحد لفظ حديث عائشة أو لفظ حديث أبي هريرة لمعرفة ما الذي تابعوا عليه فاطمة أهو حديثها في قصة تميم الداري أم ما روته من قول النبي e بعد ذلك: (إن طيبة المدينة ما لها طريق ضيق ولا واسع في سهل ولا جبل إلا عليه ملك شاهر سيفه إلى يوم القيامة ما يستطيع الدجال أن يدخلها)[228]؟
فالظاهر أن الشعبي إنما حدث المحرر بما حدثته فاطمة عن النبي e أن الدجال لا يدخل المدينة فقال المحرر أنه سمع من أبيه مثل ذلك وزاد: (نحو المشرق) ثم حدث الشعبي محمد بن القاسم فحدثه عن عائشة مثل ذلك وزاد :(الحرمان عليه حرام مكة والمدينة).
ومما يؤكد ذلك:
1ـ ما رواه ابن الأعرابي[229] من طريق موسى بن إسماعيل الحافظ عن الحسن بن أبي جعفر عن مجالد عن الشعبي عن المحرر عن أبيه قال: قال e: [لا يأتي الدجال المدينة إلا وجد عند كل نقب من نقابها ملكاً مصلتاً بالسيف] والحسن بن أبي جعفر قال عنه ابن حجر: (ضعيف الحديث مع عبادته وفضله).[230]
فكشفت هذه الرواية وميزت حديث أبي هريرة عن حديث فاطمة وأن المتابعة إنما هي في هذا القدر فقط.
2ـ ما رواه الحاكم[231] وتمام الرازي[232] من طريق عمرو بن أبي قيس، عن مطرف، عن الشعبي، عن ابن أبي هريرة، عن أبيه قال: قال النبي e: ((يخرج الدجال من ها هنا أو من ها هنا بل يخرج ها هنا يعني المشرق)) قال الحاكم: (صحيح الإسناد).
3ـ ما رواه أحمد[233]، والنسائي[234]، من طريق محمد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، عن عائشة قالت: قال النبي e: ((لا يدخل الدجال مكة ولا المدينة)).
وهذا إسناد رجاله ثقات، وفيه كشف داود بن أبي هند عن لفظ حديث عائشة، إلا أنه سقط من الإسناد الواسطة بين الشعبي، وعائشة ويبدو أن الذي أسقطه هو الشعبي نفسه فإنه كان يرسل عن عائشة.[235]
وقد قال المزي عن هذه الرواية: (كذا وقع في هذه الرواية والمحفوظ رواية الشعبي عن فاطمة).
وهذا دليل على أن المزي لا يرى رواية من رواه عن الشعبي من حديث عائشة محفوظة، والصحيح أن غير المحفوظ ما رواه مجالد عن الشعبي عن عائشة نحو حديث فاطمة عن تميم الداري وقصته، أما من رواه عن الشعبي عن عائشة نحو حديث فاطمة عن النبي e في أن الدجال لا يدخل المدينة فلا يبعد أن يكون محفوظاً عن الشعبي إذ هو ثابت عن عائشة من طرق أخرى كما سيأتي.
وقد سئل الدارقطني عن حديث مسروق عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة) فقال (اختلف فيه على الشعبي :فرواه محبوب بن الحسن عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة.ورواه مسلمة بن علقمة عن داود عن الشعبي عن عائشة لم يذكر بينهما أحدا.ورواه الشيباني عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عائشة. وقال مجالد : عن الشعبي عن القاسم عن عائشة. وقال السري بن إسماعيل:عن الشعبي عن مسروق مثل قول محبوب بن الحسن عن داود وهو مختصر من حديث ... الجساسة الذي يرويه الشعبي عن فاطمة بنت قيس).[236]
4ـ أن هذا القدر هو المحفوظ عن أبي هريرة وعن عائشة.
فقد روى البخاري[237] ومسلم[238]من حديث أبي هريرة: ((على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الدجال)) وفي رواية لمسلم: ((يأتي المسيح (أي الدجال) من قبل المشرق همته المدينة حتى ينـزل دبر أحد ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهنالك يهلك)) فقوله: [من قبل المشرق] هو مقصود المحرر: [إنه نحو المشرق] أي يأتي من تلك الجهة.
كما روى أحمد[239] وابن حبان[240] من حديث عائشة: ((فيسير [أي الدجال] حتى ينـزل بناحية المدينة وهي يومئذ لها سبعة أبواب على كل باب ملكان.. )).
وبهذه الأدلة يتضح صواب قول من قال بأن حديث فاطمة حديث فرد غريب وبان خطأ استدراك ابن حجر عندما قال: (توهم بعضهم أنه غريب فرد وليس كذلك فقد رواه مع فاطمة بنت قيس: أبو هريرة وعائشة وجابر).
فقد ثبت أن حديث جابر لا أصل له، وأنه من أوهام ومناكير الوليد بن جميع وتخاليطه كما نص عليه العقيلي وابن عدي، وأن حديث أبي هريرة وعائشة لم تذكر الروايات ـ التي أحالت على حديث فاطمة ـ لفظه وقد جاءت روايات عن مجالد نفسه ومن طريق آخر عن الشعبي فكشفت لفظ كل من أبي هريرة وعائشة وأنهما تابعا فاطمة على حديثها عن النبي e في أن الدجال لا يدخل المدينة فقط لا على كل حديثها في شأن الدجال وقصة تميم والجساسة.
فإذا ثبت ذلك وأن ما ظنه ابن حجر شواهد هي لا أصل لها، وإذا ثبت أن حديث فاطمة بنت قيس لا يثبت عن أبي سلمة عنها، ولا عن يحيى بن يعمر عنها، وأنه لا يثبت إلا من طريق مجالد ـ وحده ـ عن الشعبي عنها، فإن له عللاً أخرى على فرض ثبوته عنها منها:-
5ـ أن فاطمة صحابية مشهورة وليس لها سوى حديثين اثنين فقط:
الأول: حديث طلاقها وقول النبي e لها ((لا نفقة لك ولا سكنى)) لأنه لا رجعة لزوجها عليها، وخطبة النبي e إياها لأسامة بن زيد وهو حديث مشهور عنها، فقد رواه علماء الحجاز والعراق وعلى رأسهم فقهاء المدينة سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان.
ورواه أيضاً الأسود بن يزيد النخعي، والشعبي، وعبد الله بن البهي، وعبد الرحمن بن عاصم بن ثابت، وتميم أبو سلمة.[241]
وقد اشتهر عنها هذا الحديث منذ عهد عمر رضي الله عنها، وشغلت الناس به حتى قال ابن المسيب (تلك امرأة فتنت الناس)[242] وظلت تحدث به الناس إلى زمن عبد الله بن الزبير وكتبه عنها أبو سلمة بن عبد الرحمن في تلك الفترة[243]، أي أنها حدثت الناس بهذا الحديث منذ سنة 13هـ إلى سنة 73هـ تقريباً أي مدة ستين سنة ومع هذا كله لم يرو عنها أهل المدينة إلا هذا الحديث في شأن طلاقها، ولم يشتهر عنها سواه، وقد روى هذا الحديث من أصحاب الشعبي كبار أصحابه الحفاظ منهم إسماعيل بن أبي خالد، والشيباني، ومطرف، وسلمة بن كهيل، وأبو حصين، وابن أبي زائدة، والأعمش، وحماد بن أبي سليمان، ويونس بن إسحاق، وداود بن أبي هند، ومغيرة، وحصين، ومجالد، وأشعث، وغيرهم.
الثاني: حديث الشعبي عنها في قصة تميم والجساسة ولم يشتهر عنها إلا من طريق الشعبي، ولا عن الشعبي إلا من طريق مجالد!
وقد قال ابن حجر[244] عن حديثها الأول: (وهي قصة مشهورة) بينما قال عن حديثها الثاني: (وهي التي روت قصة الجساسة بطولها فانفردت بها مطولة رواها عنها الشعبي لما قدمت الكوفة على أخيها وهو أميرها) وذكر أن فاطمة من المهاجرات الأول وأنها كانت أكبر من أخيها الضحاك أمير الكوفة بعشر سنين.
لكن يشكل على هذا ما جاء في بعض روايات هذا الحديث كرواية مسلم[245]: (دخلنا على فاطمة بنت قيس فأتحفتنا برطب يقال له رطب بن طاب) وهو رطب المدينة المشهور، وفي رواية عند الطبراني[246] من طريق حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي قال (خالفنا أهل المدينة في سكنى المطلقة ونفقتها فقالوا لي: بيننا وبينك حديث فاطمة بنت قيس فأتيتها…) وهذا يؤيد أنه سمع منها في المدينة. وفي رواية عند الطبراني[247]: (لقيت فاطمة بنت قيس بالحرة…) وهي رواية ضعيفة إلا أنها يستأنس بها وعند الطبراني أيضاً[248]: (دخلت المدينة فجلست عند المنبر…) وهي ضعيفة إلا أنها ترجح أن سماع الشعبي منها كان في المدينة ولم أجد ما يؤيد قول الحافظ ابن حجر أنه سمع منها عندما قدمت على أخيها الضحاك الكوفة وهو أمير عليها إلا ما رواه البسوي في المعرفة والتاريخ[249] من طريق مجالد عن الشعبي قال قدمت فاطمة ابنة قيس على أخيها الضحاك بن قيس وكان عاملاً عليها فأتيتها فسألناها، فإن ثبت ما قاله الحافظ فيكون سماعه منها ما بين سنة 53هـ ـ 57هـ وهي المدة التي كان فيها الضحاك أميراً على الكوفة كما ذكره خليفة بن خياط في تاريخه.[250]
ويكون سنها آنذاك قد تجاوز السبعين سنة إذا افترضنا أن لها عندما هاجرت عشرين سنة على الأقل وقد كانت من أوائل المهاجرات في سبيل الله.
وإن لم يثبت قول الحافظ فيحتمل أن سماع الشعبي منها كان بعد ذلك في المدينة في زمن ابن الزبير إذ أن الشعبي ولد في حدود سنة 20هـ ـ كما في تهذيب التهذيب[251] ـ فيحتمل أنه سألها بعد أن أصبح فقيهاً يجادل فقهاء المدينة في مسألة فقهية كهذه المسألة فيحتجون عليه بحديث فاطمة ويحتكمون إليها ـ كما تدل عليه رواية مجالد عنه ـ وهذا يقتضي أن يكون قد بلغ من السن والعلم الدرجة التي تؤهله بلوغ هذه المنـزلة الرفيعة في نظر أهل المدينة.
وعلى كل حال فسماع الشعبي منها إنما كان بعد أن بلغ سنها السبعين سنة ـ على أقل تقدير ـ إن لم تكن بلغت الثمانين سنة أو أكثر.
وقد تكلم الصحابة رضي الله عنهم في حديث فاطمة الأول وردوا عليها روايتها وأنكروها وهو قولها أن النبي e لم يجعل للمطلقة ثلاثاً نفقة ولا سكنى حتى قال عمر: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت)[252] كما أنكرت عليها ذلك عائشة رضي الله عنها[253]، وقد أخذ أكثر العلماء بقول عمر وعائشة في قدحهما في صحة روايتها قال الطحاوي: (فهذا أبو سلمة يخبر أيضاً أن الناس قد أنكروا ذلك على فاطمة وفيهم أصحاب رسول الله e ومن لحق بهم من التابعين فقد أنكره عمر وعائشة وأسامة وسعيد بن المسيب مع من سمينا معهم ولم يعملوا به، وذلك من عمر بن الخطاب بحضرة أصحاب رسول الله e فلم ينكره عليه منهم منكر).[254]
وقال ابن عبد البر: (عمر وعائشة وابن عمر ينكرون على فاطمة أمر السكنى ويخالفونها في ذلك ومال إلى قولهم فقهاء التابعين بالمدينة)[255] وقال أيضاً: (أما الشافعي ومالك فإنه لم يثبت عندهما عن النبي e أنه قال لفاطمة لا سكنى لك ولا نفقة مع ما رأوا من معارضة العلماء الجلة لها في ذلك).[256]
وما كان للصحابة أن يقدحوا في روايتها ويردوها وهي تخبر عن رسول الله e أنه قضى في شأنها قضاءً، لولا أنه ثبت عندهم ما يقدح في حفظها وضبطها قال ابن حجر[257]: (لقد كان الحق ينطق على لسان عمر فإن قوله (حفظت أو نسيت) قد ظهر مصداقية في أنها أطلقت في موضع التقييد أو عمت في موضع التخصيص…) وقد قال إسماعيل القاضي: (وإذا كان هذا الإنكار كله وقع في حديث فاطمة فكيف يجعل أصلاً).[258]
6ـ أن في حديث فاطمة أن النبي e نادى في الناس: ((الصلاة جامعة)) وأنها كانت في الصفوف الخلفية مع النساء عندما قام النبي e خطيباً … إلخ ويستحيل عادة وقوع هذا الأمر الجامع للناس ثم لا يرويه ولا يخبر به إلا امرأة واحدة في الصفوف الخلفية؟!
بل جرت العادة أن تتوافر الهمم على رواية مثل هذا الحدث عند وقوعه وقد ذكر أبو يعلى ما يرد به خبر الواحد فقال: (أن ينفرد بما جرت العادة في نقله بالتواتر مثل أن ينفرد بنقل أن الخطيب سقط يوم الجمعة من المنبر فالعادة جرت بأن الواحد لا ينفرد بنقله فإذا انفرد به علمناه بخلاف العادة فرددناه).[259]
7 ـ ثم إن صاحب القصة نفسها وهو تميم الداري عاش في المدينة إلى سنة 35هـ ثم تحول إلى الشام وهي بلده وتوفي سنة 40هـ وكان أول واعظ وقاص في الإسلام، وعظ وقص في عهد عمر رضي الله عنه وقد روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين[260] ، فلم يرو أحد منهم عنه هذه القصة مع ما فيها من غرابة ومنقبة له، إذ حدث عنه النبي e بهذه القصة فكيف تتفرد فاطمة برواية هذه القصة عن النبي e من دون الصحابة ثم تتفرد بها عن تميم أيضاً؟!
ولا يرويها عنه أحد من الصحابة، ولا أحد من أصحابه وتلاميذه ـ الذين رووا عنه حديثه ـ من أهل المدينة أو أهل الشام، وقد قال ابن القيم[261] في ما يستدل به على بطلان الخبر: (ومنها أن يدّعى على النبي e أنه فعل أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه… وكذلك رواية (أن الشمس ردت لعلي بعد العصر) والناس يشاهدونها ولا يشتهر هذا أعظم اشتهار ولا يعرفه إلا أسماء بنت عميس).
وهذا شبيه بخبر فاطمة بنت قيس.
8ـ ومما يزيد الشك في خبرها أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في شأن الدجال اختلافاً شديداً حتى كان جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصياد هو الدجال ويخبر أن عمر كان يحلف على ذلك عند النبي e فلا ينكر عليه.
وحديثه عند البخاري[262] ومسلم[263] وإنما كان جابر يحلف على ذلك بعد وفاة النبي e كما هو ظاهر الرواية إذ فيها أن محمد بن المنكدر ـ وهو تابعي ـ رآه يحلف على ذلك. كما روى مسلم أيضاً في صحيحه[264] من حديث أبي سعيد الخدري قال: (صحبت ابن صائد إلى مكة فقال لي: أما قد لقيت من الناس يزعمون أني الدجال…).
وفي رواية له: (مالي ولكم يا أصحاب محمد! ألم يقل نبي الله e ((إنه (أي الدجال) يهودي)) وقد أسلمت، قال: (ولا يولد له) وقد ولد لي، وقال: ((إن الله حرم عليه مكة)) وقد حججت. قال أبو سعيد: فما زال حتى كاد أن يأخذ فيّ قوله…).
وفي رواية لمسلم أيضاً أن ابن صائد قال: (يا أبا سعيد! لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس، يا أبا سعيد! من خفي عليه حديث رسول الله e ما خفي عليكم معشر الأنصار! ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله e؟ أليس قد قال رسول الله e: ((هو كافر)) وأنا مسلم، أو ليس قد قال رسول: ((هو عقيم لا يولد له)) وقد تركت ولدي بالمدينة، أو ليس قال رسول الله e: ((لا يدخل المدنية ولا مكة)) وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة؟…).
وفي رواية لمسلم أن أبا سعيد كان يجيبه بقوله (بلى).
كما روى مسلم في صحيحه[265] من حديث ابن عمر أنه كان يظن ابن صياد هو الدجال حتى أن حفصة كانت تحذره من إغضابه لأن النبي eكان يخبر عن الدجال أنه يخرج من غضبة يغضبها.
وروى أبو داود[266] بسند صحيح ـ كما قال ابن حجر[267] ـ أن ابن عمر كان يحلف أنه الدجال وروى أحمد[268] أن أبا ذر رضي الله عنه كان يقول: (لأن أحلف عشر مرار أن ابن صائد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة أنه ليس به…) قال في الفتح: (سنده صحيح).[269]
وروى أبو يعلى والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لأن أحلف بالله تسعاً أن ابن صياد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف واحدة…). قال الهيثمي: (رجال أبي يعلى رجال الصحيح). [270]
فإذا كان عمر وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وابن عمر وحفصة وأبو ذر وابن مسعود، بل والناس عامة، والأنصار خاصة، يتحدثون أن ابن صياد اليهودي هو الدجال وكان بعضهم يحلف على ذلك ـ وهذا كله بعد وفاة النبي e ـ فكيف يمكن التوفيق بين هذا وقول فاطمة أن النبيe جمع الناس وقص عليهم خبر تميم الداري الذي فيه خبر الدجال وأنه مسجون في جزيرة في عرض البحر؟!
ولهذا استشكل الطحاوي ذلك فقال( فإن قال قائل فكيف بقي ابن مسعود وأبو ذر وجابر على ما كانوا عليه فيه مما قد رويته عنهم في هذا الباب مما قالوه فيه بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه: أنه قد يحتمل أن ذلك كان منهم لأنهم لم يعلموا بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث به الناس عن تميم الداري ولا من سروره به فقالوا في ذلك ما قالوا).[271]
وذكر ابن حجر قول البيهقي: (كأن الذين يجزمون بابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم وإلا فالجمع بينهما بعيدٌ جداً إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم ويجتمع به النبي e ويسأله، أن يكون هو في آخرها شيخاً كبيراً مسجوناً في جزيرة من جزائر البحر موثوقاً بالحديد يستفهم عن خبر النبي e هل خرج أولاً؟ فالأولى أن يحمل على عدم الإطلاع…).[272]
بل هذا الذي يجب، إذ لا يتصور أن يكون هؤلاء الصحابة قد اطلعوا أو سمعوا بخبر تميم الداري ثم يحلفون بعد ذلك أن ابن صياد ـ اليهودي الذي كان يعيش في المدينة في حياة النبي e ثم أسلم بعد ذلك ـ هو نفسه الدجال الذي كان موثوقاً في جزيرة من الجزر. قال المزي[273]: (عمارة بن عبد الله بن صياد الأنصاري ـ ولاءً ـ وأبوه الذي قيل عنه أنه الدجال… وكان مالك بن أنس لا يقدم عليه ـ أي على عمارة ـ في الفضل أحداً) وقال أيضاً عن أبي عمارة: (وهو الذي قيل إنه الدجال لأمور كان يفعلها وقد أسلم عبد الله بن صياد وحج وغزا مع المسلمين وأقام بالمدينة) وقد كان ولده عمارة من سادات التابعين وثقاتهم. ومع ذلك كان أهل المدينة يظنون أن أباه هو الدجال لموافقة صفته صفة الدجال التي كان النبي e قد أخبرهم بها[274] إلى أن توفي في المدينة بعد ذلك فثبت أنه ليس هو.
فإذا ثبت ذلك فمن هم الناس الذين خطب بهم النبي e ونادى فيهم (أن الصلاة جامعة) وقص عليهم خبر تميم الداري ـ وكان ذلك سنة 9هـ ـ عندما جاء تميم مهاجراً مسلماً؟!
فهؤلاء الصحابة :عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وأبو ذر وأبو سعيد الخدري وحفصة بنت عمر هم حفاظ السنة وعلماء الصحابة وأعلم الناس بالأخبار والآثار النبوية فإذا كانوا لم يحضروا قصة تميم عن الدجال بل ولا سمعوا عنها ـ وإلا لما ظنوه ابن صياد ولا حلفوا على ذلك ـ فمن الذي حضر هذه الخطبة؟! وكيف يتحدث الناس والأنصار عامة ـ كما في صحيح مسلم ـ أن ابن صياد هو الدجال دون أن يتذكروا أو يذكرهم أحد بخطبة النبي e التي جمعهم فيها وقص عليهم خبر تميم الداري؟!
بل إنه مع كل هذا الخلاف في شأن ابن صياد بين الصحابة إلا أنه لم يثبت قط عن أحد منهم القول بأن الدجال موجود موثوق في جزيرة في عرض البحر!!
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحلف على أن ابن صياد هو الدجال عند النبي e ـ كما روى ذلك جابر عنه ـ فإنه أيضاً لم يثبت عنه خلاف هذا القول بعد ذلك ولا دليل على أنه سمع بخبر تميم الداري فرجع عن اعتقاده في ابن صياد.
نعم كان بالإمكان قبول خبر فاطمة لو أنها روته عن النبي e دون أن تقول إن النبي e نادى في الناس ((الصلاة جامعة)) وأنها حضرت الخطبة وكانت في صفوف النساء خلف الرجال … إلخ إذ يمكن القول حينئذ أنها سمعت من النبي e حديثاً لم يسمعه الصحابة الآخرون، أما والحال ما ذكرت في حديثها، فإن ذلك يوجب التوقف في قبول مثل هذا الخبر خاصة وأنه ثبت عن علماء الصحابة وحفاظهم الملازمين لرسول الله e سفراً وحضراً أنهم لم يسمعوا بمثل هذا الخبر بل ولا سمع به الأنصار، بل ولا أهل المدينة مهاجروهم وأنصارهم، بل ولم يسمع به أحد من غيرهم حتى خرج مجالد يروي عن الشعبي ويحدث الناس بهذا الحديث في الكوفة عن امرأة من أهل المدينة أنها شهدت خطبة لم يسمع بها عمر ولا عبد الله بن عمر ولا حفصة ولا ابن مسعود ولا جابر بن عبد الله ولا أبو ذر الغفاري ولا أبو سعيد الخدري ولا أهل المدينة ولا الأنصار الذين ظلوا يعتقون أن ابن صياد هو الدجال؟!
ولو لم يرو عن هؤلاء الصحابة مثل هذا الرأي في ابن صياد لكان بالإمكان القول بأنه لا دليل ينافي دعواها أن الناس حضروا هذه الخطبة الجامعة وليس بالضرورة أن تتوافر الهمم على رواية هذه الخطبة بل يكفي أن يحدث بها راو واحد إلا أن ثبوت هذه الروايات الصحيحة عن هؤلاء الصحابة التي تثبت خلاف حديث فاطمة يقدح في صحة هذه الدعوى من أصلها ويثبت ضدها.
9ـ وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم لم يقبلوا حديثها الأول المشهور عنها الخاص بها وهي شابة خشية النسيان والغلط والوهم، فكيف بحديثها الغريب الذي لم يسمع منها إلا بعد أن جاوزت سبعين سنة، ولم يروه عنها إلا رجل واحد من أهل الكوفة في قضية طال حولها الجدل بين أهل المدينة أنفسهم في شأن ابن صياد ووجود الدجال، ثم لا يجدون عند فاطمة التي عاشت بين ظهرانيهم سبعين سنة ما يشفي غليلهم ويحسم الخلاف بينهم؟!
وإذا لم يكن لها إلا حديثان وكان المشهور منهما المتواتر عنها مشكوكاً في صحته حتى رده عمر وعائشة خشية غلطها، فالغريب أحق بالشك والرد من باب أولى.
فيحتمل على فرض صحة الحديث أن فاطمة رضي الله عنها خلطت بين خطبة النبي e المشهورة عن الدجال وبين ما كان يقصه تميم الداري على الناس، فقد روى حادثة الخطبة في شأن الدجال :
أـ ابن عمر: فقد روى البخاري[275] ومسلم[276] من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (قام رسول الله e في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال: ((إني لأنذركموه، ما من نبي إلا وقد أنذر قومه، لقد أنذره نوح قومه…)).
ب ـ وأبو سعيد الخدري: فقد روى البخاري[277] ومسلم[278] كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري قال: (حدثنا رسول الله e حديثاً طويلاً عن الدجال فكان فيما حدثنا قال: ((يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة…)).
ج ـ وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((خطبنا رسول الله e فقال: ألا إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد حذر الدجال أمته…)).[279]
د ـ سمرة بن جندب : قال إن الشمس كسفت على عهد النبي e فصلى بالناس صلاة الكسوف ثم قام بالناس خطيباً فذكر خطبة طويلة وفيها حذر من الدجال ووصفه وذكر فتنته. كما عند أحمد[280]وابن خزيمة.[281]
هـ ـ وأبو أمامة الباهلي: قال: ((خطبنا رسول الله e فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه…)). عند ابن ماجه.[282]
و ـ جنادة بن أبي أمية : قال ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب النبي e فقلنا حدثنا ما سمعت من رسول الله e يذكر الدجال قال: ((خطبنا رسول الله e فقال أنذركم الدجال – ثلاثاً – فإنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد أنذر أمته وإنه فيكم أيتها الأمة…)) وإسناده مسلسل بالأئمة. كما عند أحمد[283] قال الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح).[284]
ورواه الطحاوي[285] وفي أوله: (قلنا له حدثنا في الدجال حديثاً سمعته من رسول الله e فإنه قد اختلف علينا فيه…).
زـ وروى عبد الرزاق[286] عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر في خطبة النبي e في شأن الدجال ثم قال الزهري: (وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب النبي e أن رسول الله e قال يومئذ للناس وهو يحذرهم الدجال…).
وهذا نص على شهرة تلك الخطبة عند الصحابة وأنها خطبة واحدة معلومة.
والمقصود أن هذه الخطبة تكاد تكون متواترة عن النبي e ومع ذلك لم يذكر أحد من الصحابة الذين رووا هذه الخطبة شيئاً مما ذكرته فاطمة بنت قيس وألفاظ أحاديثهم تتفق على التحذير من الدجال ووصفه وفتنته وأنه ما من نبي إلا وحذر منه أمته، ثم يزيد بعضهم في حديثه على بعض، إلا أنه لا تعارض بين ألفاظ أحاديثهم الصحيحة عنهم. ومما يؤكد أن فاطمة سمعت هذه الخطبة التي سمعها هؤلاء الصحابة ما جاء في رواية الطبراني[287] وابـن حبـان في صحيـحه[288] من طريق عيسى بن يونس عن عمران بن سليمان عن الشعبي عن فاطمة قالت: (صعد رسول الله e المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أنذركم الدجال فإنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد أنذره أمته وهو كائن فيكم أيتها الأمة إنه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم…)).
وهذا مطابق تمام المطابقة لما ثبت عن رسول الله e في خطبته عن الدجال التي رواها كثير من الصحابة مما يدل على أن فاطمة قد سمعت هذه الخطبة بعينها ومع ذلك لم يذكر أحد ما ذكرته فاطمة عن تميم وقصته؟!
كما روى النسائي[289] من طريق جرير بن عبد الحميد عن مغيرة بن مقسم عن الشعبي عن فاطمة مرفوعاً: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا حذر أمته الدجال وإنه فيكم أيتها الأمة وإنه يطأ الأرض كلها غير طيبة وهذه طيبة) هكذا مختصراً ولم يذكر قصة تميم الداري.
وهذا هو الحديث الذي صححه البخاري لها، قال الترمذي (سألت محمدا عن هذا الحديث يعني حديث الجساسة ؟ فقال يرويه الزهري عن أبي سلمة عن فاطمة ابنة قيس. قال محمد وحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس في الدجال هو حديث صحيح).[290]
فقد صحح حديثها في شأن الدجال وتوقف في حديث الزهري عن أبي سلمة حديث الجساسة، والعبارة مختصرة وموهمة!
وعلى كل فهذا يكشف أن في حديث فاطمة خللاً وأن في ضبطها ضعفاً،إن ثبت الحديث هذا عنها، ويؤكد صحة رأي عمر الفاروق وعائشة الصديقة فيها وأنهما ما أنكرا عليها حديثها إلا لما علما من ضعف حفظها، ولا أدل على ذلك من كونها لم تحفظ عن النبي e إلا حديثين اثنين فقط مع أنها من أوائل المهاجرات وعمرت طويلاً وحدثت الناس بما عندها، وفتنت الناس فيهما في حديث الطلاق وفي حديث الدجال؟!
فلعلها أخطأت وخلطت بين ما سمعته من النبي e في هذه الخطبة عن الدجال وتحذيره منه وإخباره أنه لا يدخل المدينة وأن عليها ملائكة يحمونها منه وما سمعته بعد ذلك من تميم الداري الذي كان نصرانياً من أهل الشام ثم أسلم في آخر حياة النبي e واستأذن عمر في أن يعظ الناس ويقص عليهم فأذن له واستمر كذلك حتى خرج من المدينة بعد قتل عثمان رضي الله عنه وسكن الشام حتى توفي فيها سنة 40هـ[291] ، ومما يعضد ذلك أن نعيم بن حماد قد روى في كتاب الفتن من طريق يزيد بن حمير ويزيد بن شريح وجبير بن نفير وشريح بن عبيد والمقدام بن معد كرب وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة قالوا جميعا: (الدجال ليس هو إنسان وإنما هو شيطان في بعض جزائر البحر موثوق بسبعين حلقة …).[292]
قال ابن حجر: (لعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب).[293]
وهؤلاء من علماء الشام وروايتهم هذه تشبه ما جاء في حديث فاطمة فيما سمعته من تميم الداري فإما أنهم أخذوا هذا من جهة تميم الذي سكن الشام وتوفي بها أو يكون مما هو شائع بين أهل الشام عن أهل الكتاب ويكون تميم قد حدث به في مواعظه وقصصه في المدينة وسمعته فاطمة منه فاختلط عليها بما كانت قد سمعته في خطبة النبي e المشهورة عن الدجال.
ومما يثبت معرفة أهل الكتاب بالدجال ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن عمر سأل رجلاً من اليهود عن شيء فحدثه، فصدقه عمر، فقال له عمر: قد بلوت صدقك فأخبرني عن الدجال، قال: وإله يهود ليقتلنه ابن مريم بفناء لدّ. [294]
ولعله لهذا السبب لم يخرج البخاري حديث فاطمة هذا في صحيحه قال ابن حجر: (سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم وقد توهم بعضهم انه غريب فرد وليس كذلك فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر).[295]
فاستظهر ابن حجر أن البخاري ترك تخريج حديث فاطمة ترجيحاً منه لحديث جابر أن ابن صياد هو الدجال على حديثها الذي فيه ما يناقض ذلك، وهذا الصنيع دليل على دقة نظره وثقوب بصره رحمه الله إذ أن التعارض بين الحديثين ظاهر ولا يمكن معه الجمع بينهما إلا على وجه من التكلف الذي لا يسوغ.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (ولا يبلغ تصحيح مسلم تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه… ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه…).[296]
وقال أيضاً: (والبخاري أحذق وأخبر بهذا الفن من مسلم ولهذا لا يتفقان على حديث إلا ويكون صحيحاً لا ريب فيه قد اتفق أهل العلم على صحته ثم ينفرد مسلم فيه بألفاظ يعرض عنها البخاري…)[297] وقد ذكر قبل ذلك أحاديث خرجها مسلم وهي غير صحيحه حيث ذكر حديث مسلم[298]: (إن الله خلق التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة) ثم قال: (فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخاري وغيرهما وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار… وهذا هو الصواب لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام…)[299] وكذا قال نحو هذا في مجموع الفتاوى[300] عن حذق البخاري وقصور مسلم عن درجته.
والمقصود أن ما استظهره الحافظ ابن حجر ـ من أن تنكب البخاري عن إخراج حديث فاطمة بنت قيس مع شهرته إنما هو ترجيح منه للأحاديث الأخرى ـ هو استظهار صحيح لأن صحة الإسناد لا تكفي لإخراجه ما دام معارضاً بأحاديث أصح ولا يمكن الجمع بينها.