الخميس، 19 فبراير 2015

ليلى حسن - الغرب لم يغزوا الاندلس

وجوه شديدة البياض عيون زرقاء صحاري الحجاز
سنة 2010 قمت بزيارة قصر الحمراء في غرناطة . الذي بناه بنو نصر( النصريون، بنو الأحمر) . النصريون ينسبون انفسهم الى صحاري الجزيرة و يقولون ان جذورهم تعود لقبيلة الخزرج القحطانية ومن سلالة سعد بن عبادة الخزرجي اهم ما اثار انتباهي هو تواجد عبارة "ولا غالب إلا الله " في كل غرف و باحات القصر. و شيئ محير للغاية هو جداريات القصر التي تصور الملوك النصيريين الذين تعاقبوا على حكم مملكة غرناطة.الجداريات تصور لنا ملوك ذو بشرة شديدة البياض و شعر احمر اشقر و عيون زرقاء . طبعا هذه الجداريات تؤكد ان هؤلاء القوم لا علاقة لهم بصحراء الحجاز. المرجح انهم ونداليين جرمان اعتنقوا الاسلام و اخترعوا لانفسهم نسبا عربيا كحال عبد الرحمان الداخل الذي اخترع له نسب اموي بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك واعتبره من ذرية النبي. بينما نحن نعلم أنه نموذج جرماني أشقر اللون فاقعه، وحافظت ذريته على هذه الخصائص، خلال قرنين من الزمن: بشرة فاتحة اللون وعيون زرقاء وشعر شديد..




جيش غرناطة
صور مأخوذة من مجلد Cantigas de Santa Maria المحفوظ في El Escorial) شمال مدريد . اهمية الصور تكمن ان المجلد دون سنة 1284 م اي في فترة معاصرة للملكة غرناطة. من خلال الصور يتبين لنا ان المحاربين في جيش غرناطة حالهم كحال ملوكهم . انهم ذو بشرة شديدة البياض و شعرهم اشقر احمر بنسبة كبيرة......في احدى الصور نرى النجمة السداسية على دروع المقاتلين في جيش غرناطة.




من خلال هذه الصورة يتبين ان الرسامين كانوا ياخدون في الحسبان لون البشرة و الشعر


العرب لم يغزو الأندلس
اخبار الأندلس: بعد مئة سنة من دخولها
.. إن أولاغيIgnacio Olagüe يعتقد أن أخبار فتح الأندلس بدئ بكتابتها بعد قرن من تاريخ حدوثها. وقد كتبت اعتماداً على بعض الروايات المصرية التي سمعها طلاب جاؤوا من الأندلس إلى القاهرة.. فسمعوا ما سمعوا عن الفتح المزعوم. وإذن، وبعد مئة سنة من دخول العرب إلى الأندلس، راح المسلمون يبالغون في وقائع الفتح إلى حد الأساطير. ولكن المسيحيين، في المقابل وجدوا أن خرافة الفتح تناسبهم لتفسير هذا التحول في إسبانيا.. نحو الإسلام. ولكن أي إسبانيا هذه التي تحولت؟ إنها إسبانيا "الآريوسية" الموحدة.
لقد كان بين الطلاب الأندلسيين العائدين من القاهرة "ابن حبيب"" الذي وضع كتاباً في التاريخ ضمَّنه المعلومات التي سمعها في شأن الغزو. وكان هذا الكتاب مفتاح كل ما بني بعد ذلك في مسألة اجتياح العرب إسبانيا. ولكي نأخذ فكرة عن أهمية هذا الكتاب، يذكّرنا إغناسيو أولاغي، بما قاله المؤرخ الألماني "راينهارت دوزي" في كتابه "بحث في إسبانيا. تاريخها وأدبها في القرون الوسطى": "ألم يتكون لديك أيها القارئ انطباع بأنَّ ما تقرأ لدى ابن حبيب هو أقرب إلى نصوص ألف ليلة وليلة"..
يقول أولاغي: لو تم غزو إيبريا عربياًسنة 711م لكان كثير من المؤرخين الذين عاصروا تلك الفترة شهدوا على هذا الحدث الكبير. ولو فرضنا أن الحرب الأهلية أتلفت جميع الشهادات، لكان ينبغي أن تشير أخبار القرن التالي -يعني الثامن الميلادي- إلى هذا الحدث الكبير، ولو في نص واحد على الأقل. "وعندما يتعلق الأمر بغزو ما، فلا يمكن أن يكون دور الغزاة غامضاً، فالغزاة والمغزوون هنا متمايزون بشكل واضح. الغزاة من شعب غريب يحملون عادات ومفاهيم ثقافية تنتمي إلى حضارة أخرى يجهلها أبناء البلد المغزو. لكن.. لم يظهر شيء من هذا القبيل في مانعرفه من تلك الحقبة. أما الأخبار التي نقلها ابن حبيب وزملاؤه في القرن التالي عن رواة القاهرة، فلم تنتشر وتترسخ في الرأي العام إلا ثمرة جهود استمرت قروناً طويلة. وحتى.. بعد مئة سنة من نشر كتاب ابن حبيب، لم يقبل الرواة البربر الذين نقَلوا معظم روايات الكتاب، النظرية، وقالوا إن غزو إسبانيا تم فعلاً.. ولكن من قبل المراكشيين(!) وكان يجب الانتظار حتى القرن الثاني عشر -الميلادي- لتتخذ الخرافة -خرافة الغزو- بنية متآلفة وغير متناقضة. أما.. في الجانب الآخر فقد آثار ظهور الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا عقدة لدى المسيحيين الغربيين. ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية قبلت هذه الخرافة في النهاية على مضض." ويمحص المؤرخ الإسباني مسألة عبور طارق بن زياد المضيق، بناء على رواية ابن حبيب بالطبع مشيراً في البداية إلى الصعوبات الجغرافية بقوله:
"للوصول إلى إيبيريا كان على العرب أن يجتازوا المضيق البحري الذي يفصل إفريقيا عن أوروبا. الجمل "سفينة الصحراء" الذي يسبب "دوار البحر" لمن يمتطيه دون خبرة. إنه سفينة صحراوية وليست بحرية. كذلك البربر، لم تكن لديهم سفن بحرية. حتى لو تزود العرب بالزوارق، فقد كان عليهم أن يجدوا الربابنة المهرة، خاصة أن مضيق جبل طارق الذي يصل ما بين البحر المتوسط الخالي من المدّ والجزر وبين الأطلسي، يشكل ممراً لتيارات قوية تسير في الاتجاهين، وتهزه على نحو دائم رياح عنيفة. إنه ممر خطير للغاية، ويعرف أنه مقبرة البواخر.".
حكاية الزوارق الأربعة .. والغزو
ثم ينتقل أولاغي إلى التدقيق في جانب آخر من الموضوع حسب ما ورد في "أخبار مجموعة" المنسوب إلى ابن حبيب(*) قائلاً:
"أعار المدعو أولبان- يوليان- العرب أربعة زوارق، لا يزيد الحد الأقصى لحمولة الزرق الواحد عن خمسين رجلاً إضافة إلى البحارة، ويحتاج طارق في هذه الحالة، لنقل جيشه إلى خمس وثلاثين رحلة، أي: سبعين يوماً.. تقريباً. ذاك أن هذا النوع من الزوارق يحتاج، على الأقل إلى يوم واحد ليقطع المسافة، وإذا حسبنا الأسابيع ذات الطقس الرديء، التي تتوقف فيها الرحلات، بلغت هذه المدة ثلاثة أشهر، ولا يمكن أن يتم إبحار كهذا، إلا إذا استطاع النازلون على شواطئ إسبانيا النجاة من مجزرة"
يستطرد المؤرخ الإسباني في الاتجاه نفسه فيقول:
"ينبغي القيام بمئة رحلة على الأقل، لنقل رجال طارق السبعة آلاف في ظروف عادية وشعب بحريٌّ وحده، من مثل أبناء مدينة قادش Cadés، على نحوٍ أساسي يستطيع أن ينجز مثل هذه العملية. خاصة أن شعب هذه المدينة وهي ساحلية تقع جنوب إسبانيا- كان يقوم برحلات إلى انكلترا منذ الألف الثالث قبل الميلاد بحثاً عن القصدير. فضلاً عن أن بحارة قادش تمكنوا من الإبحار بمحاذاة شاطئ إفريقيا الغربي. وربما توصلوا إلى الدوران حول إفريقيا."
يضيف أولاغي "أن هؤلاء البحارة هم الذين ساعدوا "الفاندال Les Vandales" الجرمان على الانتقال في الاتجاه المعاكس. وبعد مرحلة من الانحطاط البحري كان بحارة قادش مازالوا قادرين، في أوائل القرن الثامن، على امتلاك زوارق تستطيع نقل الجيوش. والسؤال هو: لماذا أدّى هؤلاء الأندلسيون هذه الخدمة إلى الذين جاؤوا لإخضاعهم. فلو سلّمنا أن "طارق" خدع الإيبيريين ونجح في إخفاء نواياه، فلماذا ساعد هؤلاء البحارة موسى بن نصير في نقل الدعم لطارق بعد بضعة أشهر؟!".
وفي المقابل يقول الدكتور شاكر مصطفى إن المؤرخين يتحدثون عن إحراق السفن التي جاء طارق عليها ليقطع أملهم في العودة، أو ليجعل العرب الذين لا يثقون به، يؤمنون أنه جعل نفسه والبربر الذين معه أمام مصير واحد.
رواية تشبه الخيال المسرحي
إنه رأى أن الشكوك تحوم حول هذه الرواية كلها التي تشبه الخيال المسرحي، فقصة إحراق المراكب إنما رواها أول من رواها الإدريسي في "نزهة المشتاق" وابن الكردبوس، وهما من القرن الهجري السادس، ثم رواها "الحميري" صاحب: أرض المعطار" بعدهم.. فلماذا لم يذكرها المؤرخون السابقون على مدى خمسة قرون سابقة؟ والعملية نفسها، تروى عن عدد من القواد الذين سبقوا طارقاً، ومنهم كما يذكر الدكتور مصطفى: "أرياط الحبشي" الذي عبر البحر إلى اليمن، والقائد الفارسي الذي رافق سيف بن ذي يزن إلى اليمن و"أسد بن الفرات" فاتح صقلية إلخ. "ولماذا يحرق طارق السفن ولا يأمرها بالعودة إلى ساحل المغرب؟" "وكيف يحرق أسطولاً لا يملكه؟!"
.. أما قصة خطبة طارق بن زياد فهي قصة أخرى. وهي التي تنسب إليه وفيها يقول: "أيها الناس، أين المفر؟! البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة، أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم العدو بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا قوت إلا ما تستخلصونه من عدوكم...".
.. يقول د. شاكر مصطفى: إنها بليغة جميلة شائعة، ولكن الشكوك تحف بها بدورها. فمن أين لابن زياد هذه البلاغة؟ وكيف يخاطب جنداً كانوا في جمهرتهم من البربر الذين لا يفقهون العربية؟!
ماردة وموسى والخضاب... المرعب
............. ولكن هذه الحيلة لم تنفع المسلمين واستشهد بعضهم كما يقول المقري. وعندئذ فكر موسى بن نصير على نحو آخر.. لقد أراد أن يتفاوض مع أهل ماردة، وأن يوقع الرعب في قلوبهم على نحو فريد.. هو التلاعب بلون شعره، بواسطة صبغة أو تخضيبه "واحتال في توهيمهم في نفسه، فدخلوا عليه أول يوم فإذا هو أبيض الرأس واللحية لمّا نصل خضابه -أي: زال أثر الصبغة وظهر الشيب- فلم يتفق لهم معه أمر. وعاودوه قبل الفطر بيوم فإذا هو قد قنأ لحيته -أي صبغها- فجاءت كضرام عرفج -أي: حمراء كشجر عرفج سريع الالتهاب- فعجبوا من ذلك. وعاودوه يوم الفطر، فإذا هو قد سوّد لحيته فازداد تعجبهم منه، وكانوا لا يعرفون الخضاب ولا استعماله، فقالوا لقومهم: إنا نقاتل أنبياء يتخلقون كيف شاؤوا، ويتصورون في كل صورة أحبوا: كان ملكهم شيخاً فقد صار شاباً، والرأي أن نقاربه ونعطيه ما يسأله، فمالنا به طاقة. فأذعنوا عند ذلك، وأكملوا صلحهم مع موسى."
لابأس أن نتوقف عند تعليق المؤرخ الإسباني "أولاغي" على هذه الروايات حول تساقط المدن والبلدان الإسبانية، في أيدي "الغزاة العرب". فهو ينقل عن ابن حبيب، أو تلميذه، في كتاب "أخبار مجموعة" أنه "بعد انتصار طارق في معركة وادي لكه Guadalete اجتاز ممر الجزيرة Algeciras ثم توجه نحو مدينة أسيغا ECIGA .
يقول أولاغي: في الواقع يشكل هذا الممر فخاً حقيقياً يساوي الدخول فيه تسليم الرأس إلى العدو. أما مدينة اسيغا فتقع على مسافة 160كم من مخرج هذا الممر، والطريق إليها مزروعة بمدن مثل رندة Randa وأوسيما Osuma وغيرهما: مدن قوية منذ القدم، قبل الفتح الروماني."
.. ويسخر أولاغي من الرواية عن احتلال قرطبة، بواسطة سبعمئة فارس حصلوا على الخيول بعد نزولهم في إيبيريا، قائلاً:
"هكذا، إذن نجحت هذه الكوكبة من الفرسان في عمل باهر يعتبر فريداً في سجلات الحروب، فقد استطاعوا احتلال أهم مدن إيبيريا، تلك المدينة، كان يحميها سور هائل بني في أواخر عهد الأمبراطورية الرومانية، ولا يزال قسم منه منتصباً حتى الآن."
وهناك من ظنهم أكلة لحوم البشر
.. وإذا كان "المقري" قد ذكر أن أهل مارده Merida، ظنوا قوم موسى بن نصير، حين صبغ لحيته "أنبياء يتخلّقون كيف شاؤوا" فإن أولاغي يروي أن بعضهم حسبهم من "أكلة لحوم البشر" ثم يقول متحدثاً عن مارده:
"كانت هذه المدينة من أهم مدن إيبيريا، كان يسكنها أكثر من نصف مليون نسمة (ولابد أن العرب فقدوا عقولهم أمام عظمتها) وقد ظلت حتى القرن الثامن مركزاً حضارياً هاماً، خصوصاً بعماراتها الأنيقة. ولم تكن قرية مأهولة بسكان جهلة. ولم يكن من الممكن خداعهم بحيلة: تغيير لون اللحية..!"
وثمة فكرة أخطر وأهم كثيراً مما تقدم جميعاً، يقدمها أولاغي نقلاً عن "أخبار مجموعة" فهو يقول:
عندما نزل موسى بن نصير في مدينة الجزيرة Algeciras أخبروه عن الطريق التي اجتازها طارق فأعلن عدم رغبته باللحاق به. فقال له المسيحيون الذين يلعبون دور الدليل: "نقودك في طريق أفضل من طريقه، حيث تجد مدناً أكثر أهمية من المدن التي استولى عليها، وحيث -
سيداً دون منازع" ويتابع أولاغي:
"لم يعرف العرب أين يذهبون، فالمسيحيون هم الذين يقترحون لهم الأفكار. أما "الغزاة" فكانوا تحت رحمة السكان المحليين!!"
.. فلو كان هؤلاء المسيحيون الإسبان يشعرون بالعداء إزاء هؤلاء الغزاة الأجانب، فكيف يتطوعون ليدلوهم على طريق أفضل، ويخبروهم عن مدن أهم للاستيلاء عليها؟
.. ويستطرد أولاغي:
"وماذا عن المدن الحصينة مثل طليطلة Tolido أو رندة Randa؟ صمدت هذه الأخيرة، مدة نصف قرن في وجه أمراء قرطبة الأشد قوة من طارق وموسى مجتمعين. أن يأخذ العرب مدناً بالخدعة الحربية، أو بفضل الخيانات المحلية أمر يمكن فهمه، ولكن.. أن يجتاحوا بسهولة بالغة، مئات المدن، كان بعضها من أهم مدن العالم آنذاك.. فأمر آخر.".
.. وفي تنويع آخر على اللحن ذاته: أن العرب لم يغزوا الأندلس، ينطلق أولاغي منطلقاً يصب في الطاحونة ذاتها. فهو يقول: إن القوط في كتابات البربر يحملون أسماء عربية، لذلك يصعب حتى على المختصين التعرف على أصول هذه الأسماء اللاتينية والجرمانية" ويتابع: "ولأن الأخبار اللاتينية لم تتحدث عن الأحداث التي جرت في إيبيريا بعد سنة 711، أي بعد أن خسرت الارثوذكسية إيبيريا، يصبح من المستحيل التعرف على أسماء الإيبيريين الذين لعبوا دوراً متميزاً عن غيرهم. فما هي حقيقة الرجل الذي عرف تحت اسم عبد الرحمن الغافقي"
هل كان الفرسان.. من جبال البيرنة؟
. ومن المعروف أن هذا الغافقي العظيم كان قد اندفع من الأندلس عبر جبال البيرنة سنة 732م نحو فرنسا.. حيث كانت معركة بواتيه Poitiers بينه وبين شارل مارتل، في السنة نفسها في شهر تشرين الأول، وقد هزم عبد الرحمن في هذه المعركة وقتل.
إن أولاغي يمضي بعيداً في هذا الاتجاه، فيتساءل:
"ألا يمكننا الافتراض أن أولئك الفرسان الذين اندفعوا في غزواتهم حتى مدينة بواتيه والذين تدّعي الروايات أنهم عرب، لم يكونوا إلا من سكان جبال البيرنة، ولم يعرفوا إلا تحت أسماء عربية؟"
.. ويصل هذا المؤرخ الإسباني في هذا الاتجاه إلى حدود المبالغة فيقول:
"حوالي سنة 755م توصل محارب شجاع إلى احتلال قرطبة والسيطرة على الأندلس، نقلت الروايات البربرية اسمه، وسكتت عنه الروايات اللاتينية. لقّبه العرب بالمهاجر ثم بالداخل. من أجل تدعيم هيبته ونفوذه، ثم من أجل مداهنة ذريته التي درج الناس على مدحها ومصانعتها، رأى المؤرخون أن ينسبوا له أصلاً أموياً في دمشق. وذهب البعض إلى أبعد من ذلك واعتبره من ذرية النبي (ص).. وكثيراً ما أعطي هذا الوسام المشرف إلى زعماء تلك المرحلة".. ثم ينتهي أولاغي إلى هذا الاستنتاج المدهش:
"يقول المؤرخون التقليديون إن عبد الرحمن كان من ذرية خلفاء دمشق -الأمويين- بينما نحن نعلم أنه نموذج جرماني أشقر اللون فاقعه، وحافظت ذريته على هذه الخصائص، خلال قرنين من الزمن: بشرة فاتحة اللون وعيون زرقاء وشعر شديد الشقرة. إن استمرار هذه الخصائص الفيزيولوجية في ذرية الأمير "العربي" لفتت أنظار المؤرخين الأندلسيين المسلمين، وقد فسّر بعضهم هذا الأمر مستنداً إلى ما يقوله كُتّاب الأخبار البربر حول أن أُمّه كانت بربرية (من قبائل الطوارق الذين يحملون هذه الفيزيولوجية الجرمانية).
المورثات السائدة والمتنحّية
.. ويسخّر أولاغي قوانين الوراثة، من أجل دعم وجهة نظره وتفسير حالة عبد الرحمن الداخل، ولاسيما القانون المعروف باسم "الموّرثات السائدة والمتنّحية"، فيقول:
"من المعروف حسب هذا القانون أن العيون الزرقاء هي التي تتنحى لصالح العيون السوداء. أي أن الفرد ذا العينين الزرقاوين لا يمكن أن يحمل جينة Gene (مورثة) العيون السوداء. ومع أن العرق السامي يتميز بالعيون السوداء، فيمكن أن يحمل السامي جينة العيون الزرقاء وتهيمن الأولى على الثانية. أما العكس فمستحيل. ولتبرير زرقة عيون عبد الرحمن "السامي" علينا أن نفترض أن والده المزعوم ساميّاً يحمل جينة العيون الزرقاء. هكذا اتحدت جينة الوالد الزرقاء مع الجينات التي تحملها الوالدة البربرية، ولابد أن يأتي الأمير بعيون زرقاء. هذه النتيجة رغم ندرتها ليست بعيدة عن الخيال. إلا أن ما هو مستبعد فعلاً، أن يأتي ابن السامي والبربرية، فاتح البشرة وأشقر الشعر. يتطلب الأمر فعلاً معجزة بيولوجية خارقة." وهكذا ينتهي أولاغي إلى أن عبد الرحمن الداخل: "لم يكن أموياً ولا سامياً ولا بربرياً. وهذا ما يؤكده السياق التاريخي، تماماً.. كما يؤكد أن الغزو العربي لم يحدث مطلقاً."
.. ويمضي المؤرخ الإسباني مؤكداً خطواته في هذا المجال فيقول:
"حتى لو افترضنا أن آخر شخص من سلالة الأمويين قد اختار إيبيريا البعيدة لهجرته وتخلى طوعاً عن جميع الخيارات الجغرافية التي كانت في متناول يده، فقد كان عليه أن يبذل جهوداً ليفرض نفسه وسلطانه، تقترب هي الأخرى من حدود الأسطورة: كان عليه في هذه الحالة أن يقاتل الإيبيريين الماقبل- مسلمين الذين ليس لديهم أي سبب لتفتنهم أصوله المزعومة، كان عليه أن يقاتلهم مدة ثلاثين سنة."
أعلام أندلسيون ... من أصل ايبيري
... وهو يرفض فكرة تفوق عبد الرحمن العسكري قائلاً:
"إن المؤرخين التقليديين فسّروا سيطرته على إيبيريا بقدراته العسكرية التي دأبوا على كيل المدائح لها. إلا أن حقيقة عبقريته العسكرية لا تكفي لتفسير نجاحه، فخلال القرون الوسطى حاول الكثيرون من العسكريين الذين يعترف لهم المؤرخون بالإجماع بموهبة عسكرية مشابهة، فرضَ سلطانهم على إيبيريا، ولم ينجحوا بالمقدار نفسه الذي توصل إليه عبد الرحمن.".
ويذهب أولاغي أبعد من هذا فيذكر أنه "كان على كل رجل عظيم أن يعود في أصوله إلى العرب. والإيبيري الذي لم يكن بإمكانه ادعاء الرجوع بأصوله إلى الرسول (ص) كي لا ينافس أمراء قرطبة، اكتفى باتخاذ إبراهيم وهاجر جدَّين له". وهو يجزم أن اثنين من أعلام الأندلس هما من أصل إيبيري. فيكتب:
"أما الإيبيريون التوحيديون الأحاديون، فكانوا قد بدؤوا منذ القرنين التاسع والعاشر يتخذون أسماء عربية، والأمثلة كثيرة، خصوصاً في صفوف كبار كتاب العربية، الذين نعرف بصورة أكيدة أصلهم الإيبيري: ابن حيان وابن حزم اللذين لا خلاف حول أصلهما الإيبيري.".
.. إذن هكذا، فإن إغناسيو أولاغي يرفض رفضاً قاطعاً فكرة غزو العرب شبه الجزيرة الإيبيرية، فالعرب والمسلمون لم يفتحوا إسبانيا عسكرياً, وقد حدث التحول إلى الإسلام في الأندلس عبر حركة الأفكار وتصارعها، ثم هيمنة الفكرة-القوة، على حد تعبير أولاغي، وهي التي شكلت عصب الحضارة العربية-الإسلامية في ثلاثة أرباع العالم.. في تلك الأيام.
الأريوسية ... تصارع الكاثوليكية
إن هذا المفكر الإسباني يفرد صفحات كثيرة للحديث عن الصراع الديني الذي شهدته إيبيريا قبل الحقبة العربية. فقد دخلت الأرثوذكسية إلى إسبانيا القوطية الكاثوليكية، ودخلت أيضاً الآريوسية. وكان ثمة حضور لليهود.. ولكن المسيحية عموماً في شبه الجزيرة الإيبيرية كانت في نهاية القرن السابع في حالة انحلال كامل خصوصاً بعد قرن سيطرت فيه الآريوسية. "وبإجماع نادر اعترف جميع المؤرخين بفشل المسيحية في المملكة القوطية. ولأنهم لم يروا التزامن بين أحداث إيبيريا وبين الهيجان الديني في الشرق، فسّروا هذا الفشل بأسباب محلية وعابرة، فعزوا ذلك إلى الضعف الذي شجع العدو الخارجي على غزو البلاد. لكن خرافة هذا الغزو حجبت عن أنظارهم الانقسام الإيديولوجي في المجتمع الإيبيري.".
ويعود أولاغي إلى التأكيد، مرة أخرى، على هذه المسألة بتعبير آخر، فهو يقول:
"حسب الروايات العربية، تمّ غزو إيبيريا من قبل سكان شبه الجزيرة العربية الذين استطاعوا بقوة السلاح أن يؤسسوا امبراطورية عظيمة. وحسَب أقدم النصوص اللاتينية التي وصلتنا، فإن الأمر لا يعدو كونه ثورة دينية، كانت في بادئ الأمر محلية، ثم انخرطت في حركة سياسية ثقافية حضارية واسعة النطاق، شملت نصف العالم آنذاك.".
10 ملايين لايختفون بضربة ساحر
إن المؤرخ الإسباني يرى أن أسياد إيبيريا الجدد احتاجوا إلى ثلاثة أرباع القرن، كي يرتبوا أمورهم في هذه البلاد أو "يتفقوا على مغانم الفتح" حسب تعبيره، فماذا فعل الإيبيريون في هذه الأثناء؟ هاهو ذا يقول:
"لم يحدثنا التاريخ عنهم بعد سنة 711م. مع هذا فإن عشرة ملايين نسمة -في أقل تقدير- لا يمكن أن يكونوا قد اختفوا هكذا بضربة ساحر: ففي تلك الحقبة السعيدة، لم تكن هناك وسائل إبادة جماعية. وكان يلزم الفاتحين كثير من الوقت والعمل لجزر هذا العدد بالسيف".
ثم يتساءل تساؤلاً يجيء في موضعه:
"فإذا كان اجتياح أرض مسيحية من قبل "الكفار" قد بدا بهذه الضخامة بماذا نستطيع إذاً أن نصف اعتناق شعبها الإسلام وتمثله الحضارة العربية- الإسلامية؟ إما أن يكونوا قد قتلوا جميعاً، وإما أنهم استرقوا عبيداً، أو إنهم لجؤوا إلى الجبال، أو، ببساطة، أن المؤرخين تجاهلوا وجودهم".
.. ثم يندفع أولاغي بثقة وقوة كي يضع النقاط على الحروف، معتبراً أن الإيبيريين قد وضعوا أيديهم على نبض العصر حينذاك، من خلال الإندفاعة الحضارية العربية التي كان الدين الجديد شعارها. إنها لم تكن اندفاعة بدوية ولا غزواً تترياً:
"لماذا، وكيف اعتنقت الجماعات الإنسانية التي كانت متمركزة في المقاطعات البيزنطية في آسيا ومصر وإفريقيا الشمالية وشبه جزيرة إيبيريا، إيماناً جديداً، ومفهوماً جديداً للوجود؟ قد يسهل تحويل خرافة الغزوات العربية -المستحيلة جغرافياً- وتاريخياً إلى حقيقة، ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن حضارة عربية إسلامية قد امتدت في جميع هذه الأصقاع."
الاريوسية وقد تخلّت عن التثليث
.. على أن الآريوسية كانت ذات شأن آخر. وباعتبار أنها تخلت عن عقيدة التثليث، فإن أولاغي يطلق عليها صفة التوفيقية، ويقول:
"تميزت التوفيقية الأريوسية بالإيمان بإله واحد، يحمل بالنسبة لبعض المفكرين صفات الكائن الماورائي، أو يرتدي هالة الأبوية المافوق أرضية. يراقب الناس وأعمالهم، فيكافئ ويعاقب. ولم يكن هذا المعتقد مجرداً ولا حتى خارقاً، ولايتضمن قواعد تتجاوز المبادئ الطبيعية أو البيولوجية التي تشكل مجتمعاً سليماً. واضفت أهمية الموروث الثقافي الإيبيري على التوفيقية الآريوسية حساسية الانفتاح على جميع التيارات الثقافية الآتية أو التي ستأتي، من أراضٍ بعيدة، شرط أن تكون مشهورة بحضارة غنية وذات طاقة خلاقة."
نقاط لقاء ... مع العقيدة الجديدة
وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أنه "حين وصل دعاة الإسلام لم تختلف الخطوط الكبرى في إيمانهم عن تلك التي كانت في معتقد السكان الأصليين. ولعل نقطة الخلاف الوحيدة كانت وجود النبي (ص) وبعض قواعد في السلوك. وعبر السجال الفكري بين فقهاء مدرستين تكادان أن تكوّنا مدرسة واحدة، انزلقت التوفيقية. الآريوسية إلى التوفيقية الإسلامية. وهكذا دون صراع أو تواطؤ تم التبشير بصورة بطيئة وهادئة.".
ولم تلبث المسألة العقيدية الدينية أن اندمجت في صميم الموضوع الثقافي، يقول أولاغي: "لا نعرف الكثير عن سياق التعريب الذي عاشه الشعب، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن المثقفين من أنصار التوحيد الأحادي -يعني الأريوسيين- تركوا في تلك المرحلة اللغة اللاتينية ليتعلموا العربية، بهدف التميّز عن "الثالوثيين" والإطلاع على عقيدة تتفق وعقيدتهم في شأن الطبيعة الإلهية، وعلى الحضارة التي بدأت تزدهر في ظل هذه العقيدة. وشيئاً فشيئاً بدأت السياسة والحضارة تؤثران على الدين في فروعه العامة.".
إذاً: فإن اللاتينية انهارت حضارة ولغة وعقيدة.
والمؤرخ الإسباني يلح كثيراً على هذا الجانب من الموضوع، فهو يرى أن الأحداث "اتخذت لدى المسيحيين طابعاً سياسياً، وأصبحوا في القرن التاسع في حالة ميؤوس منها. وعلى المستوى النظري واللاهوتي وصل المثقفون المسيحيون الذين يعيشون في الأندلس إلى طريق مسدود، ثم تماثلوا في مابعد شيئاً فشيئاً مع الحضارة العربية- الأندلسية المسيطرة التي لا تقهر.".
الحرية الدينية في الأندلس
.. مهما يكن من أمر، فإن المرء يستطيع أن يرى على الجانب الآخر، حالة الذين رفضوا الانسياق والوضع المستجد في إيبيريا، من خلال المثال الذي يقدمه أولاغي من قرطبة. "فخلال النصف الأول من القرن التاسع كانت أقلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عباداتها بحرية كاملة".
ويستشهد أولاغي بما كتبه القديس إيلوج، وكان مسيحياً متعصباً عايش تلك الفترة، فهو يقول:
"نعيش بينهم دون أن نتعرض إلى أي مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا" ويتابع أولاغي:
"وبالفعل فإن كنائسهم حافظت على أبراجها وأجراسها. وتوجد محتويات آخر هذه الكنائس، واثني عشر ديراً في محيط المدينة.".
"كذلك تمتع المسيحيون بامتياز المحافظة على حاكم مستقل، كان كونتاً أو قاضياً يدعى: الرقيب. وكان حرس الأمير من الطائفة المسيحية. ولعب هذا الحرس دوراً هاماً في السياسة الإسلامية. واحتل عدد من الأرثوذكس مناصب هامة في الدولة.".
الحضارة الأندلسية الفريدة
وبعد، فإن هذا المؤرخ الإسباني لا يكتفي بالإنحياز إلى الفكرة القائلة: إن العرب لم يغزوا إسبانيا، بل إنه أضاف إلى الموضوع رؤية حضارية ثاقبة. وفي الوقت الذي لا ينكر فيه فضل الحضارة العربية الإسلامية، على العالم في ذلك العصر، فإنه يتحدث عن حضارة عربية جديدة في الأندلس. حضارة اختمرت في التربة الإسبانية, فكانت علامة كبيرة هامة، في تحول أوروبا وتقدمها في عصورها الحديثة. إنه يشير إلى الإنجازات الحضارية التي حققها العرب في الأندلس بعد قرن ونصف تقريباً من قيام دولتهم هناك، معتبراً أنها كانت شيئاً مختلفاً عما كان يمكن أن يحدث "لو كان صحيحاً أن جيشاً عربياً فتح إيبيريا سنة 711 وأنجز عملية أسلَمة الناس في سنة 714" فقد كان ينبغي أن تظهر مع الحضارة العربية- الإسلامية في الأندلس مباشرة مبادئ هندسية وتقنية، ولفرضت هذه المبادئ نفسها، بتفوقها أو بمساعدة الفاتحين، فلماذا لم تظهر هذه المبادئ إلا بعد قرن ونصف قرن.. أو أكثر؟"
إن الأمر يتعلق إذاً بالشروط الموضوعية لما تمكن تسميته: النضج الحضاري. ولعل هذا أجمل ما انتهى إليه أولاغي، وهو يكتب سطوره الأخيرة:
"لوغزا العرب إسبانيا، لما خمّرت الخميرة الإسلامية العجين الأندلسي، لتخرج تلك الحضارة الأندلسية الفريدة في التاريخ، والتي يعود إليها انتشال الغرب من الظلمة في عصر النهضة. إن تاريخ المجتمعات الإنسانية هو ثمرة لعبة الأفكار، وليس تكتيكات الجنرالات المدججين بوسائل التدمير".

.

نادر قريط - لغز بداية الاسلام !

ناقل الكفر ليس بكافر

لا أريد بهذه المقولة الدفاعية تبرير الهجوم على المقدس، إنما الإشارة إلى حالة التمويه والمداهنة ، التي تكرهنا عليها اللغة أحيانا. فالإيمان والكفر، مقولات قديمة فقدت حضورها في عصر الحداثة العقلية، التي استطاعت نزع سحرية المقدس، والحد من هيمنة ( الإله ونوّابه )، لصالح ( الإنسان ) بإعتباره أداة التاريخ، وغايته، ومركز الثقل فيما نسميه الدراسات الإنسانية...لذا فلن أنتظر من باحث ومؤرخ معاصر يعيش، في كولونيا أو امستردام أن يؤمن بمطلقات قديمة، ولا أن يدوخ بقصة يوسف التوراتية، ولا بقميصيه التاريخيين (الأول لوث بالدماء، لتبرير قصة الذئب الذي التهمه، والثاني مزّق من دبر بفعل شبقية زوجة فوطيفار مصر، التي حاولت الإعتداء عليه جنسيا) فالباحث في عصرنا، يفهم القصة بضوء علم النفس، وكظاهرة عادية ( يعاني منها حاليا مشاهير النجوم، مع أن قمصانهم من ماركات غالية )

أجل. إن عالم الإنسانيات المعاصر لم يعد يعنيه الدين، إلا كظاهرة تاريخية، تخضع للدراسة والتعقل، رغم اهتمامه بأسئلة الوجود ( الميتافيزيقية) والبحث عن طرق الخلاص والشفاء، لكنه بنفس الوقت، بات يدرك الكيفية التي تحرك بها الإنسان في العصور القديمة، لرسم فضائه الأسطوري، وتلوين متخيّله، من هذه الزاوية، أرجو أن يفهم كلامي في السياق الإسلامي، بأنه يشمل أيضا منظومة الإبراهيميات، التي بدأت تترنح، في أعقاب كشف اللغة المسمارية، في بلاد النهرين، وما صاحبها من ثورة حقيقية في دراسات الميثولوجيا..بعد هذه التوطئة، أدخل في عين العاصفة، التي نوّهت عنها سابقا، لاستعرض أهم الآراء المعاصرة، وكيف تبدو صورة الإسلام المبكر، بمنظور بعض الدراسات المهمة، آملا أن تتسع مقالتي لأهم أفكارهم.



فالمؤشرات التي قدمها المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس، حول نشوء الإسلام، تدعو للإصغاء، برغم أن هذا القس، إختار لغة حذرة، كي لاتناله لعنة الكنيسة، فقد سمّى ثلاثة منابع أساسية، أدت إلى التشكل الفكري للإسلام ( بين فارس ومصر ) 

أولها الأفلاطونية الجديدة في الإسكندرية، والتي لم تؤثر كفلسفة وحسب، إنما كحكمة لاهوتية، خصوصا في صيغها المتأخرة عبر بروكولوس وجانبيخوس..تلك الصيغ التي لم تؤسس لجماعة دينية، بقدر ما أثّرت وأثرت الأفكار الغنوصية في العالم القديم 


التنسك ( الزهد ) المسيحي ، والذي لم يكن بدوره دينا، إنما صيغة حياتية عاشها الرهبان الأوائل، أما في الحواف البعيدة، فقد تمكنت البوذية من ترك آثارها وبصماتها. تلك هي العناصر الرئيسية ( حكمة لاهوتية ، غنوصية ، دروشة ) التي أثّرت في الإسلام المبكر، 

أما اليهودية والمسيحية البيزنطية، فكانتا جماعات دينية منافسة، ولم يكن تأثيرها، إلا في عملية إخصاب وتحجيم متبادل، حيث أن الديانات الثلاث مجتمعة، كانت لاتزال آنذاك في مرحلة التشكّل والتأسيس العقائدي( مثال على ذلك تأثير الإسلام الأندلسي فيما بعد، على دلالة الحائرين لإبن ميمون، وهو أحد أهم الأدبيات اللاهوتية والفلسفية اليهودية، وكذلك تأثير الغزالي على توما الإكويني 

لكن باحثا آخرا مثل غونتر لولينغ، له رأي آخر، إذ يعتقد أن صيرورة الإسلام، وتشكله لزمها حوالي 150سنة، مع إعتقاده بأنه خرج من عباءة مسيحية آريانية، إذ لايمكن تصوره بدونها، وهنا يفجر هذا الكاتب قنبلة من عيار ثقيل، هزّت المسلمات في الأوساط الأكاديمية ( كتابه: اكتشاف النبي محمد ثانية 1978) حين اعتبر الكعبة المكيّة، كنيسة مريمية صغيرة!!

وقد بنى تحليله على ما ورد في الموروث الإسلامي( خصوصا تاريخ مكة لإبن الأزرقي، والإشارة إلى صور مريم والمسيح داخل الكعبة) ثم من خلال تتبعه لمراحل البناء المختلفة( مرحلة إعادة البناء في عصر الزبير ، ثم عبدالملك بن مروان ،....وأخيرا في العصر العثماني) واهم ما أثار شكوكه في البناء، وجود الحُجر (حيّز أمام الركن الشامي للكعبة ، وهو عبارة عن نصف قوس بارتفاع متر ونصف، حيث قبر اسماعيل وأمه هاجر) فقد تصّور الكاتب أن الحُجر كان مرتفعا بمستوى البناء، ليقوم بوظيفة المذبح في الكنيسة؟ ولا شك أن المدوّنات العربية، قد ساعدته في بناء تصوراته، لاسيما تلك التي ذكرت الأعمدة الستة ( داخل الكعبة ) والمصفوفة بطريقة تتيح للمصلي أن يتجه للقدس(أو الحُجر أو المذبح المفترض) !! والتي استبدلت فيما بعد بثلاثة أعمدة، أضف إلى إشارته عن اللات والعزة ومناة، باعتبارهن مريمات عربيات، وكذلك هبل ( أو هابيل شقيق قابيل)، إله الرعي، الذي قدسته القبائل العربية، وبهذا خلص إلى أن قريش، كانت قبيلة أقرب إلى مسيحية بيزنطية من الوثنية؟


أما كتابه الآخر ( إعادة بناء النص القرآني ) فقد لاحظ لولينغ في بعض السور القصيرة، المقفاة والموزونة شعريا، أثرا لتراتيل سورية وأثيوبية أنشدها المسيحيون القدماء؟ وكذلك الأمر فقد عكس النص القرآني، ونفيه لفكرة الموت على الصليب، وكذلك تجاهله للأقانيم الثلاثة، معرفته بمسيحية مبكرة، مختلفة عن التي نعرفها في أيامنا.. لكن من المنصف القول أن لولينغ قد حمل بشدة على الكنيسة الرومانية المقدسة وطقوسها السحرية، وأكد بأن محمد مثّل ثورة تجديد وعودة إلى الجذر الأبراهيمي النقي، لكن الكاتب عاد وألقى باللائمة على خلفائه، الذين ضربوا حول أنفسم أسوار العزلة، من خلال تمسكهم بمكاسب حربية، ثم تطويرهم لعلوم كلام تبريرية (ربما تجنبا للجدل والصدام مع فلسفة رواقية مسيحية ، وتراث كتابي متفوّق ) وبذلك أساءوا إلى مقاصد النبي( الإبراهيمية )..وبهذا الصدد فإن العين البصيرة، تلاحظ الآن، الفرق النوعي بين الخطاب القرآني الشعري الرفيع المستوى، وبين ما أنتجه الموروث الإسلامي فيما بعد، من خطاب وضيع، وروايات بائسة وسير، اقتحمت حياة محمد وأطنبت في ذكر، علاقاته الحميمية، وفراشه، وقصص صقيعة عن التبرك ببصاقه وماء وضوئه ثم بتابعيه مهما دنى شأنهم ..إلخ من أمور رقيعة لاتحصى، جعلت الإسلام يبدو في نظر الحداثة، دينا طقوسيا استفزازيا. وعليه فإن لولينغ يسجل ملاحظة فريدة، حين يجد أن التراث المسيحي الروماني، حافظ على ( إبراهيم ) من خلال محافظته على وثيقة العهد القديم، بينما ضاع قصد محمد هباء، فابراهيم الإسلام تحوّل إلى مقولة هوائية، منزوعة من قيمتها ( التاريخية والجغرافية ).

أما (اولاك) تلميذ فيلسوف التاريخ شبنغلر، فقد درس الوجود العربي في الأندلس، وتتمثل رؤيته، في كون الإحتلال العربي للأندلس عام 711م احتلالا مزعوما( فيلم هندي) أخرجه في البداية، مؤرخون مسيحيون، بعد أن بنوا على أساطير عربية ضبابية، صُوّرت على أنها حقيقة، وبهذا مهدوا الأرضية، لفكرة إعادة احتلال الأندلس ( ريكونكويستا )، ويقول: لقد اخترعت قصص مشينة من الخيانة والإنتقام والمكائد لتكون السبب، الذي كلّف نزع التاج عن رذريق( رودريك) آخر الملوك القوطيين، وكذلك كان حال المؤرخين العرب، الذين استندوا في حديثهم عن فتح الأندلس، على أساطير صرفة وأقاويل، تشبه ألف ليلة وليلة، فالخلفاء يعرضون من خلال اسمائهم وسنوات حكمهم ( دائما سنوات كاملة 25 أو 40 أو 50سنة ) وعند ذكر التفاصيل، فلا يسمع المرء إلا قصصا تقشعر لها الأبدان. ثم يقول: إننا نعرف بعض المسيحيين الذين انجزوا نصوصا عربية مزوّرة، مثل خيمينيز رادا 1180م، فكل مصادر وتواريخ الإحتلال العربي غير موجودة، ماعدا الأقاويل والقصص القروسطية، وكذلك هو شأن الوثائق المسيحية، فجميعها تعود إلى ايزيدور، وقد ثبت أن أعماله جميعا منحولة ومختلقة، كما هي أعمال سان إيلفونسو التي كتبت بعد وفاته بثلاثة قرون؟؟

التزوير والأخبار اللامعقولة هي سمة تلك الكتابات، فتخيلوا مثلا الأخبار عن مقتل 124000مسلم في معركة بواتييه( بلاط الشهداء)؟؟ وعن ستين ألف فرّوا عبر الجبال.
ويحضرني أيضا أن أشير إلى أفكار انطونيو غالا، وهو أحد أدباء أسبانيا الكبار، فقد رسم صورة أدبية قيّمة في مخطوطه القرمزي، إذ ينكر تماما ( أسطورة ) الإحتلال العربي للأندلس ، ويعتقد جازما، أن شبه الجزيرة الإيبرية أبدعت ثقافتها الأندلسية الرائعة، عندما تبنت ثقافة وفد بها مسلمون يحملون خلاصة إبداع الشرق القديم( من الهند حتى مصر ) والظريف أن غالا، تركنا نفكر مليا بطارق بن زياد، عندما نفى أن يكون بربريا أو عربيا، سيما وأن اسمه ليس ضمن قائمة الأسماء العربية، لذا يظن أنه أمير قوطي اسمه تاريك (مثل رودريك )، استنجد بالعرب، لحسم خلاف، كان قد استفحل داخل الإسرة القوطية الحاكمة؟ والآن أعود إلى اوفه تووبر، الذي يعتقد أن بداية الإسلام تقع في ضبابية كاملة، فهو ينكر أيضا الفتوحات السريعة والتمدد العسكري الخاطف، ويذكر أن أوروبا لم تسمع بالإسلام، قبل نهاية القرن التاسع، حينها فقط بدأ اللاهوتيون يذكرونه في نصوصهم،
وخير شاهد على ذلك أغنية رونالد التي ألفها الشاعر تورولد، إبان الدعوة للحروب الصليبية 1096م، والتي تقدم لنا إسلاماَ غير الذي نعرفه اليوم، فالأغنية تشير إلى ثلاثة آلهة للإسلام ( محمد ، آبولين، ترفاجنت ) آبولين نعرفه كرمز لآلهة شيطانية، وردت في رؤيا يوحنا. وحتى لو أن الشاعر أراد نعت الإسلام بالوثنية، فهل كان بمستطاعه استخدام أسماء مجهولة، وغير مألوفة على سامعيه؟؟.

.أما أسلمة إيران فقد أصبحت نافذة بجدارة عام 1003م، وهو العام الذي نودي بمحمود الغزنوي، سلطانا على المؤمنين، فحتى ذلك الحين كان السلطان يحتضن الشاعر الوثني الفيروزي في قصره، الذي عرف بالشاهنامة ( كتاب الملوك )، وهي أغنية البطولة العظيمة للوثنية الإيرانية. وجدير بالذكر أن أقدم أثر كتابي عربي في إيران، بالخط الكوفي ، يرجع إلى عام 955م، وقد انتصب بجانب كتابة وثنية فارسية بالحروف الوسطى الساسانية، وكذلك الأمر فإن أولى وأقدم الشواهد الأركيولوجية والمخطوطات المقنعة، في الأندلس تؤشر عصر عبدالرحمن الثالث الذي اعتلى عرش الخلافة القرطبية عام 911م، أما في مركز السيادة العربية، فهنالك دلائل غزيرة على نشوء متأخر للإسلام، وبهذا المقام نذكر القصور الأموية المبنية على طراز الأنتيكا المتأخرة، مع تزيينات ساسانية تقليدية، ولوحات لايمكن أن توصم بالإسلامية..فكل من يزور تلك القصور الأموية في الأردن والعراق والبقايا العملاقة لقصر الماشطا، سيرى نقوشا لنساء عاريات ومصارعين، وآلهة أسطورية وخلفاء يطوق رؤوسهم، ضوء الإله أهورا أمازدا، وفي قصور سامراء توجد حتى صلبان وأغصان كرمة ورموز مسيحية ..

الخلاصة:


حتى عام 930م لم يُعثر بعد على أثر يؤكد وجود منظومة إسلامية دوغمائية، كالتي تصفها لنا كتب التاريخ ومدوّناته.بعد هذه الباقة من الآراء المعاصرة، أرجو أن لا أسأل عن رأيي!! فحسبي في هذا ماذهب إليه الطبيب والفيلسوف العربي أبو بكر الرازي، فمن السذاجة أن نتصور هذه الذات الكليّة ( الله ) منشغلة على الدوام بإثني عشر سبطا بدويا (مُقمِلا ) وتائها في البرية. ومن العبث أن تترك هذه الذات المطلقة(الله) عرشها في الأبدية، وتسلم نفسها للمخابرات ( في سوريا القديمة ) لتُسمّر على الصليب، من أجل إثم جدنا، الذي أغوته زوجته (بعضّة تفاحة)، ومن البلاهة أن تضيّع وقتها بحفر اسم السيد أبي لهب، وقرينته السيدة حمالة الحطب، في اللوح المحفوظ، حفظكم الله من مكروه


*********

في كتابهما ( لا أبواق أمام أريحا: الحقيقة الآركيولوجية للكتاب المقدس )* قدّم إسرائيل فنكلشتاين، من المعهد الآركيولوجي في جامعة تل أبيب، ونايل سيلبرمان، رؤية جديدة لأرض التوراة، فالمسح الآثاري لفلسطين أثبت بشكل قاطع، أن منطقة يهوذا التوراتية، كانت قبل 2600عام من زمننا، أرضا جرداء يجوبها الرعاة ويسكنها بعض الفلاحين (الطفرانين)، وبالتالي فإن قصة الخروج من مصر بقيادة موسى، والإستيلاء على كنعان، ونشوء المملكة الموحدة والعصر الذهبي لدولة (يهوذا وإسرائيل) تحت داوود وسليمان ماهي إلا أسطورة خلقتها الأجيال اللاحقة بقوة المخيّلة، وكما أثبتت الحفريات فإن أورشليم القدس، تحت حكم سليمان، (931، 970 ق.م) لم تكن أكثر من قرية( ستون هكتارا) بدون هيكل أو معبد وبدون قصر أو بطيخ!!فهيكل سليمان الذي وصفته التوراة بشكل دقيق، لم يُبن إلا في إذهان الكهنة، ويخلص الكاتبان إلى أن عقيدة التوحيد، نشأت بعد ذلك الوقت، بزمن طويل !! وقد سبب هذا الكتاب صدّمة، لمن تشبث بتاريخية الكتاب المقدس، ولطمة للأورثودوكسية اليهودية.؟


فما معنى أن تكون قصة الآباء من ابراهيم( بحدود 1800ق.م) حتى سليمان ( 930ق.م ) قصة أسطورية أنتجتها المخيّلة القصصية؟ أظن أن المسيحية سوف تبتلع القصة، وتضحي بهؤلاء الأنبياء، فهم بكل الأحوال عبئا عليها! حتى وإن نُسب المسيح إلى سلالتهم( داوود) !! فهي أساسا ديانة تمحورت حول عقيدة العماد بالروح القدس، والتجسد المسيحي( القربان المقدس ) واعتبار صليب الجلجلة طريقا للخلاص والأبدية. أما مقولة: أنا ما جئت لأنقض الهيكل، بل لأتمم الناموس، فهي مقولة تهافتت، منذ استطاعت الكنيسة الهيلينية أوالعوّلمة البولوسية ( بولس) من إقتلاع المسيحية من جذورها اليهودية( إلغاء الختان، علامة الميثاق بين ابراهيم والله ) ..والأهم برأيي أن المسيحية، تعرضت لزلزال الحداثة، التي أثمرت أخيرا عن قيام لاهوت تنويري، فرضته قطيعة أبستمولوجية نأت به بعيدا على لاهوت توماس الإكويني والتراث اللاتيني القروسطي، وبالتالي، أصبحت تنظر إلى القصة الدينية ( من ولادة آدم وحواء إلى المسيح) كونها قصة دلالية رمزية، تحمل بعدا خلاصيا وقيميا ليس إلا


لكن كيف سيتحمل الإسلام فاجعة فقدان كل هؤلاء الأنبياء، سيما وأن النص القرآني حافل بقصصهم؟؟ قد تكون الإجابة على هذا التساؤل بسيطة فالإسلام هو الآخر أنشأ مقدسه، وراكم رأسماله الرمزي(قرآن، نبّوة، صحابة، آل بيت، كعبة، كربلاء، لغة) فالدين في نهاية المطاف ليس مجرد تساؤلات وجودية ميتافيزيقية، إنما كيان تاريخي، يدور حول رموزه، وطقوسه الخاصة. ويزداد الأمر يسرا إذا عرفنا أن صورة هؤلاء الأنبياء في النص القرآني، تختلف عن مثيلها في الكتاب المقدس، فهم أشبه بقبيلة ميتاتاريخية مقدسة تكاد تقترب من بيئة وزمن محمد؟ والأصح فإن المرء لايعرف أين ومتى عاشوا. وباستثناء رفع ابراهيم لقواعد البيت ( تحديد مكاني ) وأمور قليلة أخرى، فإننا نعجز عن فهم المساحة الزمكانية التي تحركت بها تلك القبيلة المقدسة. 



أما الملاحظة الجديرة بالإنتباه فهي إعلان القرآن المباشر عن أسلمة هؤلاء الأنبياء إسلاما حنيفا قسريّا، وبالتالي فإن المعضلة المكانية ( المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله) أو هيكل سليمان، تصبح مفهومة في سياقها القرآني، فإذا كان سليمان مسلما، فلابد أن يصبح هيكله ( الإفتراضي)، قبلة ومحط أنظار المسلمين. هنا برأيي نعثر على أحد المفاتيح المفهومية والتقاطعات في منظومة ديانات التوحيد، فلو ألقينا نظرة على المدوّنات التاريخية الإسلامية، فإننا نجد فيها خطابا مضطربا!! رغم انخراط هذه المدوّنات في التفصيلات، والإطناب، وإضفاء التقديس على أنبياء الكتاب المقدس فإننا نحس بمحاولات للتقليل من شأنهم، وذلك من خلال رصفهم كطابور مصلّين بإمامة محمد ( قصة الإسراء والمعراج) أو من خلال الشكوى القرآنية المستمرة ولوم وتقريع بني إسرائيل وأهل الكتاب، وهذا يعكس بداية الصدام الدوغمائي والإنشقاق، أو التمرد على الإحتكار اليهودي، وحصر النبوة في الفرع الاسحاقي، لذا فإن القرآن الذي خطب ودّ الأنبياء وأتباعهم، كان يمهد عملياً لخلق مشروعية تاريخية تكسر إحتكار النبوّة، وتهيئ المناخ لقيامة إسماعيلية. هذا ما يمكن استخلاصه للوهلة الأولى. لكن بعيدا عن تشتيت الموضوع، سأقف عند محطتين مهمتين، قد تساعدانا في فهم المركب التاريخي، لنشوء الإسلام المبكر: بيت المقدس( القبلة الأولى ) ومدينة دمشق، فهما برأيي من المفاتيح السحرية ( لكونهما مركز النشوء الدوغمائي لمايسمى بالديانات الإبراهيمية، وظهور الأسينيين ( أتباع ألواح قمران ) وبولس الرسول، والأمويين ثم الإنشقاقات الكبرى، والحروب الصليبية ونشوء حركة فرسان الهيكل..إلخ) 


فالتوقف طويلا عند النص القرآني وتأوليه، ودراسة فضائه اللغوي، يشكل حلقة هيرمينوطيقية( تأولية ) مفرغة لا جدوى منها، لأن التساؤلات الحقيقية عن النص القرآني، تشترط دراسة أركيولوجية وإكتشاف الصيرورة التاريخية للغة العربية وطبقاتها القديمة، وهذا لم يتحقق لحد الأن بصورة مقنعة، بسبب النقص الفادح في الوثائق الكتابية العربية، ولكون العربية استمرت لغةً شفهية لحين ظهور القرآن،وما أعقب ذلك من تلاعب دوغمائي تعرض له النص، وحّوله إلى كتاب تتلاطم به أمواج التفاسير والتاويل. وإشارتي إلى هاتين المحطتين، لقناعة راسخة بأن لغة القرآن، وصورها العقلية التجريدية، ونسقها الشعري، لايمكن أن تكون وليدة لبيئة قاحلة ونائية( بلا زرع ولا ضرع)، بل تكثيف مدهش لحضارات غنيّة، ومن السذاجة أن نظل أسرى أسطورتي الشعر الجاهلي ولسان قريش المتناقضتين. لو نظرنا إلى المدوّنات التاريخية العربية فإننا نحس بايقاعات متناغمة مع الآثار الكتابية اليهودية والمسيحية، وتداخلا وتأثيرا أرجوحيا ( بمعنى المشاركة والتحجيم)، فمن يلقي نظرة على تلك المدوّنات، وكيفية تسجيلها للأحداث والروايات، سيكتشف أنه أمام تاريخ ( لايحتوي تاريخا) بقدر ما هو مشحون بانطباعات وذكريات ضبابية غائبة، هاكم مايقوله رجل بقامة ابن خلدون، عن بيت المقدس:يُورد في البداية أن الصخرة (حيث قبة الصخرة الأن) كانت أيام الصابئة موضع الزهرة، ثم يحكي لنا قصة موسى وتابوت العهد ( حيث حُفظت ألواح الوصايا)، والمذبح وما حمله الإسرائيليون أثناء رحلة التيه..ولما ملكوا الشام ، وضعوا قضّهم وقضيضهم على الصخرة ..وبعد خمسمائة سنة من وفاة موسى، قام سليمان ببناء الهيكل ( ثم يصف الأبواب المذهبة والمنارات والأوعية والمذبح...إلخ) ويستمر ابن خلدون:


ثم خربه بخت نصربعد ثمانمائة سنة من بنائه (أي أن المسافة الزمنية بين سليمان ونبوخذ نصر أصبحت 800سنة )، ثم بناه هيرودوس على بناء سليمان، ثم جاء طيطش( تيتوس ) ملك الروم فخرّب بيت المقدس ومسجدها، وأمر أن تحرث أرضه ويُزرع مكانه ( هذا كلام مخيّب لآمال شارون وأولمت)، ثم يصف قدوم هيلانة أم الإمبراطور المسيحي قسطنطين، للقدس باحثة عن خشبة الصليب، فقيل لها إنها موجودة بمكان تكوّمت فيه القمامة والنفايات، وبعد أن وجدت خشبة الصليب، بنت كنيسة (القمامة)*، فوق قبر المسيح!! بعد أن جمعت الأنقاض والنفايات ورمتها فوق الصخرة ( مكان الهيكل ) عقابا لمن تسبب في صلب المسيح؟ والغريب أن ان خلدون يذكر أن هيلانة بِنت بالقرب من القمامة أو إزائها: بيت لحم، وهو مكان ولادة المسيح؟؟ تصوّرا بيت لحم، مجرد بيت بنته هيلانة في القدس!! 


ثم جاء عمر بن الخطاب وسأل عن مكان الصخرة، فكشف عنها الأزبال والتراب، وبنى مسجدا..ثم ملك الفرنجة بيت المقدس فبنوا كنيسة فوق الصخرة يعظمونها، إلى أن ملك صلاح الدين الكردي نحو 580 هجري ، فهدم الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد الذي هو عليه اليوم؟؟

أما المحطة الثانية التي لعبت دورًا حاسما في نشأة الإسلام فهي دمشق، فقد برهنت لفائف قمران على مركزيتها في حياة الجماعة الأسينية، فالإسم الآرامي المنطوق لهذه المدينة D-messig يعني مكان الرابطة ووحدة المؤمنين، وكان الإعتقاد سائدا آنذاك، بأن قاضي الدينونة سيدخل منها ( يوم قيام الساعة ) عليه لعبت دمشق دورا مهما للجماعات المسيحية والعيسوية ، وتم ذكرها في سياق العهد القديم ( سفر أشعيا ) ثم في العهد الجديد، ومع إزدهار أفكار قرب نهاية العالم ( التي أججتها المسيحية ) يمكننا تفسير ذهاب بولس وإنتظاره في دمشق، تلبية لدعوة المسيح بإنتظار ملكوت السماوات!! وعلى هذا المنول يمكننا فهم الدور (المريب والغامض) الذي مارسته دمشق على (قريش والإنتفاضة الإسماعيلية )، وبنفس المستوى نستطيع تفهّم قدوم الأمويين الملفت إليها، وتحويلها إلى عاصمتهم!!

ختاماً وبعد درس إبن خلدون الذي يلزمه حبة أسبرين، وبعد لكمة إسرائيل فنكلشتاين الآركيولوجية، التي كسرت أنف الدوغما. أرجو أن تتمعّنوا بهذا النص الصقلّي( من جزيرة صقلية )، فقد نقش على ضريح السيدة آنّا باللغات العربية والعبرية واللاتينية :

توفيّت آنــّا أمُ القسيس ِ آكرزانت قسيس ِ الحضرة المالكة الملكية العالية العلية المعظمة السنية القديسية البهية المقتدرة المعتزة بالله المقتدرة بقدرته المنصورة بقوته مالكة انطالية وانكيردة وقلورية وصقلية وافريقية معزّة امام رومية الناصرة للملة النصرانية صمّـد الله مملكتها .. يوم الجمعة العصر العشرين من اوسط سنة ثلاث واربعين وخمسمائة ودفِنت في الجامع الأعظم ثمّ نقلها ولدها بالمستجدِّ الى هذه الكنيسية سانت ميكائيل يوم الجمعة اول ساعة العشاء عشرين مايو سنة اربع ٍ واربعين وخمسمئةٍ وبنا على قبرها هذه الكنيسية وسمّـى الكنيسية سـانت آنــّا عن اسم امّ السيدة مريم والدة المسيح فرحم الله من قرأ أو دعى لها بالرحمة آمين آمين آمين
. للموضوع صلة*

عنوان الكتاب، مأخوذ عن الترجمة الألمانية للأصل الإنكليزيThe Bibel Unerthed*
كنيسة القمامة هو لفظ استخدمه ابن خلدون في مقدمته


انتهى

كتب الاستاذ نادر قريط المقال بجزئين وقد قمت بالفصل بينهما كي يمكننا التمييز, علما أن النص واضح لجهة وجود خاتمة للقسم الأول. من جديد أرغب عبر نقل مواضيع كتلك تشجيع كل قاريء على البحث وفهم أصول النقد الموضوعي لا الشخصاني .. الإرتقاء بالنقد مسألة حيوية لن تحصل دون الاعتماد على مراجع كثيرة متوفرة وإلا سيغدو نقيق ذو أثر عكسيّ بكل أسف!

نادر قريط - متى كانت صقلية عربية !؟



إعداد وتعريب: نادر قريط


يقول صاحب المخطوط القرمزي الإسباني أنطونيو غالا: التاريخ يكتبه المنتصرون، إما لأن المهزومين ماتوا أو لأنهم فقدوا وازع الكتابة.
هذه المقولة تبدو صائبة في كثير من الحقب، لكنها تفقد بعض بريقها في القرون الوسطى المبكرة، خصوصا عندما تغيب الآثار المادية الحسية، والمخطوطات والعمارة والمسكوكات. ففي هذه الحالة يصبح كلا المنتصر والمهزوم جزء من نسيج روائي لأزمنة لاحقة؟ هكذا ببساطة خسرنا شارلمان مؤسس الإمبراطورية الأوروبية المقدسة (توفي عام814م) بعد أن ذهب ضحية لفرضية هربرت إليغ صاحب أطروحة القرون الشبحية في التقويم الميلادي (بين 614م ـ 911م) (1) التي يدافع عنها هاينسون محور إهتمامنا في هذا الموضوع
وكما ذكرت في النص السابق "حول تاريخ اسبانيا (كيف ومتى فتح العرب الأندلس؟) " فإن غونار هاينسونG.Heinsohn هو من أكثر النقاد تحمسا لفرضية إليغ Illig (بالإضافة إلى هانس نيمتس) تلك الفرضية التي تركت جدلا واسعا وعددا كبيرا من الكتب والدراسات. ومازالت التحدي الأهم لمؤرخي مابعد الحداثة.
وتعقيبا على ما سلف نعيد للقارئ الكريم بأن غرض هذه الترجمة ليس الإستسلام وقبول هذه الأفكار، بل فهم المعضلات والشكوك التي تحوم حول تلك الحقبة المهمة، التي تمس تاريخ المتوسط والإسلام المبكر بصورة إستفزازية.
فأمثال هاينسون من النقاد، لايقيمون وزنا للموروث الشفهي، وأليات السرد الأسطوري والطريقة الإخبارية للمدوّنات القروسطية كما شاهدنا في بحثه السابق عن تاريخ إسبانيا. فدأبه إثبات تلك القرون (الشبحية) لعدم توفر أدلة حسية وقرائن حولها (عمارة، مسكوكات إلخ) فالمدوّنات التاريخية ( المسيحية والإسلامية) التي تحدثت عن الإحتلال العربي للأندلس، تعود إلى القرن العاشر وما بعده، وهي برأيه بعيدة ثلاثة قرون عن زمن الأحداث المزعومة؟
أما بصدد صقلية، فإننا نلمس نفس الطريقة والذرائع، رغم تنوع المصادر التي تؤرخ للوجود العربي في هذه الجزيرة ك[ المسالك والممالك لإبن خوردابه، إبن حوقل، إبن جبير، معجم البلدان، تاريخ وفيات الأعيان، ابن الأثير..وغيرها الكثير ، إضافة إلى أعمال أدبية معروفة كرحلة الشاعر الإسكندري ابن قلاقس لصقلية بحدود 562 هجري، ومدحه للملك النورماني ولأعيان صقلية من العرب) فكل تلك الأعمال لا تعني هاينسون كثيرا، لأنها مدونات بعيدة زمنيا عن الأحداث المبكرة لغزو الجزيرة والتي توجب أن يتوّجها أسد بن فرات عام 827م (حسب التاريخ الرسمي) 


في البداية يطرح هاينسون سؤاله المعتاد: أين هي مصادر التاريخ الصقلي بين القرنين السابع والعاشر؟
يجيب قائلا: إن أقدم المصادر الكتابية العربية (والحكايا الأسطورية) التي تتحدث عن صقلية تعود للقرن العاشر، وأغلبها بعد ذلك الزمن، وينقل عن أهم مرجع إعتمده في دراسته B.Rill 2000 (2) بأن قصص الغزوات (اللانهائية) للجزيرة بين القرن7و10 تبدو وكأنها تأليفا لاحقا، وإذا أضاف المرء القصص المسيحية ليوحنا دياكونوس، وبيدا Beda وتاريخ البابوات (الذي لايمكن التثبت من وجوده قبل كتابات باندولفوس 1133م وبوزو 1178م ) فإن كل هذه المراجع تصبح بعيدة عن الزمن الذي نبحث عنه، رغم أن بيدا يُنسب إلى عام (672م ـ735) إلا أن نصوصه تعود إلى القرن 11م. ثم يضيف بأن باحثي الصقليات (من صقلية) متفقون على غياب الوثائق الأصلية بين القرن 7 و بداية القرن 10 كالرسائل الكنسية، والفتاوى والبروتوكولات والعقود والوصايا ووثائق الحكام وشواهد القبور والنقوش والصور، التي لم توجد مطلقا بما فيها آثار الغزوات العربية (المفترض أنها بدات عام 651م) لكن الآثار تصبح ملموسة في القرن10.
وتحت عنوان: إثنتا عشرة حملة عربية مبكرة لغزو صقلية؟ يستغرب الكاتب مسيرة تلك الغزوات التي دامت حوالي ربع ألفية (بين 651م و902م) ( وهي تعادل تقريبا الفترة الشبحية المذكورة) والتي قسمت إلى: غزوات عديدة للنهب، عشر حملات رئيسية، حملات مركزية بين عامي 827م و 902م (للأغالبة) وإحتلال آخر لمدينة باليرمو عام 948م أثناء الحملة الفاطمية النهائية بين عامي 911م و965م. 


وفيما يلي عرض هاينسون للحملات الرئيسية قبل عام 827م
651م غزوة رئيسية بقيادة معاوية بن حجاج
669م غزوة أخرى بقيادة عبداله بن قيس
700م غزوة بقيادة موسى بن نصير أخفقت في بانتيلاريا
703م غزوة بقيادة عطا بن رافع
720م غزوة إنتهت بهدنة في سيراكوس
بين 727م و 739م: إثنتا عشرة غزوة عربية صغيرة
740م غزوة رئيسية بقيادة حبيب ابي عبيدة وصلت لسيراكوس
753م غزوة رئيسية أعقبها خمسون عاما من الهدوء المحيّر
805م غزوة رئيسية بقيادة إبراهيم الأغلب صاحبها وقف للمعارك في سيراكوس
812م غزوة رئيسية بقيادة عبدالله بن ابراهيم انتهت في لامبيدوزا (دفعت شارلمان بإرسال جيشه للدفاع عن الجزيرة)
819م غزوة رئيسية بقيادة عبدالله بن الأغلب أخفقت عام 822م
وهنا يشير الكاتب إلى حيرة مؤرخي القرون الوسطى، الذين لم يفهموا سبب إخفاق جميع هذه الغزوات في إحتلال الجزيرة، ولماذا هذا الإنتظار لغاية 827م حيث بدأت المدن تتساقط الواحدة إثر الأخرى؟


ثم يستمر في عرض جدول لاحق يتلو فيه تاريخ الفتح الأغلبي لصقلية بين 837م و902م


827م في 17 يونيو رست بين 70 و100 سفينة محملة بسعمائة فارس وعشرة آلاف من المشاة عند مازارا دل فالو بقيادة أسد بن فرات
830م الأصبغ يرسل 300 سفينة إضافية وبين عشرين إلى ثلاثين ألفا من الرجال
831م تسقط باليرمو وتصبح للمرة الأولى عاصمة عربية
837م سقوط إينا ، 843م إحتلال ميسينا، 848م سقوط راغوزا ، 878م إستسلام سيراكوس، 902م إحتلال عربي لمدينة تورميناس، وإكتمال السيطرة الأغلبية على صقلية، بعد حرق المدينة وذبح سكانها وهدم أسوارها. لكن الحكايا لم تنتهي، إذ بدأت السلطة عام 911م تنتقل من الأغالبة للفاطميين، الذين حاولو جزافا إحتلال مدينة تورميناس ( المفروض أنها مدينة منكوبة للتو) ويعلق ساخرا (أعادت بناء أسوراها بواسطة معجزة) وهكذا إشتعلت حرب الأخوة (الأغالبة والفاطميين) حول باليمرو حتى سقطت بيد الأخيرين عام 917م؟ 


في جدوله الأخير يقدم الكاتب تطور الفتح الفاطمي للجزيرة بين 911م و948م كما يلي:


911م هجوم فاشل على تاورمينا
916م إستسلام باليرمو (للمرة الثانية)
937م إضرابات تعم الجزيرة حتى عام 941م
948م إعلان باليرمو عاصمة عربية (للمرة الثانية)
961م إحتلال تورميناس (السابقة الذكر)
962م سقوط ربيطا وإبادتها وإستعبادها
965م إكتمال السيطرة الفاطمية على صقلية، وإستمرارها لغاية سقوط الجزيرة بيد النورمان عام 1091م، الذين إستمر حكمهم حتى إستطاع هنري السادس عام 1194م خلعهم.
وهنا يلاحظ هاينسون أن الأغالبة توجب عليهم إحتلال باليرمو عام 831م وهكذا فعل الفاطميون عام 948م ، وكلاهما توجب عليه أن يقضم الجزيرة من المسيحين (أو البيزنطيين) قطعة قطعة وأيضا تم إحتلال مدينة تورمينا الواقعة شرق الجزيرة مرتين (902 الأغالبة) و(962م الفاطميين) وفي الحالتين تم ذبح السكان [ وهذه إشارة ضمنية إلى تكرار الحقب الزمنية حسب نظرية عالم الرياضيات والمؤرخ الروسي فومنكو؟ و يعني ذلك، تكرارا قصصيا للأحداث الحقيقية (الفاطمية في هذه الحالة)]


آثار مفقودة، لم يعثر عليها في صقلية القرن الثامن والتاسع ؟


يبدأ الكاتب في تفحص المصادر واللقى الأثرية للزمن العربي المبكر في صقلية مشيرا إلى تقرير منسوب لتيودوسيوس تم تزمينه في القرن التاسع يتحدث فيه عن باليرمو الإسلامية عام 878م، (نسخة هذا المدوّن تعود للقرن العاشر) ويصف المدينة بأنها مكتظة بالسكان المحليين والأجانب، أما الجغرافي العربي ابن حوقل(972م) فيقول أنه لم يرى في العالم الإسلامي مسجدا يضاهي المسجد الجامع في بالميرو (الذي يتسع لسبعة آلاف مصلي) إضافة إلى وجود ثلاثمائة مسجد آخر. وبهذا يجعل ابن حوقل باليرمو حوالي مائة ألف وتقترب من قرطبة ( التي توجب أن يسكنها بين مائتي وثلاثمائة ألف) وتبزّ معاصراتها من مدن ذلك الزمن (روما 35 ألف، باريس 50ألف، نابولي 25ألف، لندن 12 ألف)
وبغض النظر عن فخر وإعتزاز مؤرخي صقلية بمدينتهم خلال القرن التاسع، فإن آثار تلك الفترة بقيت كحال مثيلها في قرطبة (القرن 8 و 9 م) إذ لم يُعثر على قطعة آجر عربية واحدة ( أو حجر) يمكن نسبها لذلك الزمن، لهذا وجد المرء حلا لأكبر جامع في العالم ( الذي تحدث عنه ابن حوقل) وذلك بزعم أن المسلمين كانوا قد حوّلوا الكنيسة (البازليكا) إلى جامع ثم رده النورمان إلى كنيسة مرة ثانية؟ هذا ما تتذرع به حتى كتيبات السياحة عندما تتحدث عن كاتدرال باليرمو. لكن بيرند ريل B. Rill قام بتفحص هذه الكنيسة (الكاتدرال الحالية) ووجد أن آثارها القديمة تعود إلى عام605م ، ولا وجود لأثر عربي فيها ، وكانت نتائج دراسة مستويات البناء كما يلي:


1 ـ المستوى الأول: وجود أثار لأسس (البازليكا) القديمة تعود لعام 604م
2 ـ المستوى الثاني: مسجد باليرمو المفترض، لا أثر له
3 ـ المستوى الحديث: بناء نورماني للكاتدرائية بدأ في القرن 11م
ويخلص هاينسون إلى نتيجة تدلل على غياب الآثار الحسية لتك الحقبة (فترة الأغالبة)، وتؤكد أن إثباتات الحضارة الإسلامية هي أقل مما وصلنا من الأدب الشعري لإبن حميدس. كما تشير إلى صعوبة البرهنة على الآثار الإسلامية الخالصة، لأن طرز بناء النورمانيين قامت على خصائص عربية وبيزنطية؟ وفي إقتباس آخر نقرأ: المباني الدينية العربية للقرن التاسع م غير موجودة، وكذلك العمارة المدنية فقد إختفت هي الأخرى. وهذا الغياب للآثار العربية بين القرون 7 و 10 رافقه غياب آثار المسيحيين الذين توجب أن يكونوا أغلبية السكان ( تجدر الإشارة إلى مصادر عربية تعتبر العرب أغلبية سكانية حتى في العصر النورماني) أما الغزوات والحملات العربية الغزيرة، وخطوط دفاعات البزينطيين فتبقى من الأحاجي والألغاز.


الآثار الفاطمية بين القرن العاشر والحادي عشر:


إذا كان الماضي الأغلبي لصقلية في القرن 9 وبداية 10م هو إسقاط قصصي من الفترة الفاطمية، فإن إنعدام الأثار لتلك الحقبة (سواء الإسلامية أو المسيحية) لن يصيبنا بالدهشة، أما الآثار الفاطمية فتبدو متواضعة، كبقايا المساجد ( الفاطمية) في أساسات بناء san Giovnni degli القريبة من باليرمو وكذلك في "ميدان البئر" في Favara، وفي كاتدرائية Catania التي تقوم على أسس أحد المساجد الفاطمية، ويشير الكاتب إلى أن دراسة منطقة " خاليشا " (المدينة العربية في باليرمو ) لم يتم تفحصها بصورة جيدة؟ وكذلك الحال، فإن أقدم الوثائق القضائية الأصلية (الفتاوي) تعود إلى العصر الفاطمي، وبشكل مؤكد إلى القرن11م ، كما يكشف إيتمولوجيا (إشتقاق) أسماء المناطق (القرى والقصبات) أن 236 إسما من أسماء 1257 (في شمال وشرق الجزيرة) ترجع لأصول لغوية عربية. هذا يعني أن الفاطميين (الكلبيين) مثلوا طبقة حاكمة، دون إثبات سيطرة ديمغرافية على الجزيرة، ويحاول الكاتب من خلال مثال إبادة الفرنسيين في صقلية (عشرون ألف ضحية) في عيد الفصح عام 1282م على يد الملك كارل أنجو أن يزعم بأن العرب كانوا أقلية صغيرة؟
وهكذا يصل الكاتب إلى أن أجمل المباني الصقلية، المتأثرة بروح العمارة العربية، بُنيت في عهد النورماني وليم الأول والثاني بين 1154م و1189م كقصر النزهة la zisa la cuba ، وقصر وحمامات mardolce، لكن هذه المباني صدمت باحثي القرون الوسطى بأمور مزعجة، إذ لا وجود لأثر أو شظية من العصر الما قبل ـ فاطمي، لذا يقول ريل بدعابة: إن هذه المباني تجعل المرء أقل ألما، فباليرمو لم تترك عمارة من العصر الإسلامي، لكن فناني روجر الثاني (1128 ـ 1154م) تركوا ما يكفي من عمارة المسلمين.
وبإختصار يتعرض الكاتب أيضا لرسومات السفن العربية، أيام غزواتهم الأولى المفترضة عام 651م ويخلص بأنها فاطمية، وكذلك الأمر مع صورة المركب المرسومة على طبق سيراميك (موجود في المتحف القومي di san mattero di pisa) فتعود لنفس الفترة. أما عن علاقة المدن الإيطالية مثل آمالفي التي ربطتها علاقة بحرية مع صقلية فهناك صعوبة في مطابقة آثارها الآركيولوجية، وليس من العجيب أن يكون العصر الفاطمي، زمنا لأول الوثائق التي تثبت إقامة التجار البيزيين (من بيزا) في صقلية.


يهود صقلية في القرون الوسطى المبكرة:


يذهب الكاتب إلى أن الأقلية اليهودية في صقلية نالت نصيبا أوفرا من الدراسات، لأنها أقلية ذات تقاليد كتابية، تم تعزيزها بحوالي ربع مليون وثيقة وكسرة كتابية، كانت محفوطة في القاهرة القديمة، كتبت بين عام 1000م و1250، وعثر عليها عام 1896م، في كنيس ابن عزرا في (الجنيزا) في الفسطاط، والتي ساهمت أيضا في إضاءة العصر الفاطمي، لكن حوالي 15000 من تلك الوثائق التاريخية السابقة للقرن 11م لاتشير إلى هجمات المسلمين المبكرة المزعومة على صقلية، وهذا أمر محيّر، سيما وأن الكنيس يفترض أن بناءه وتدوين وثائقه قد بدأ عام 882م، في مناخ فاطمي صديق. ففي رسالة ليهودي تونسي من الفسطاط، توثق كيف أن الجالية اليهودية هبت لنصرة الفاطمين في الدفاع عن مدينة ميسينا، أثناء الهجوم النورماني عليها عام 1061م، بينما تفضّل قراءة جديدة لمصادر الجنيزا عام 1157م كتاريخ للهجوم النورماني الأول على ميسينا؟ (هكذا وردت مع أن التاريخ الرسمي يعتبر بدء الهجوم حدث عام 1061 وعام 1091م إكتملت السيطرة النورمانية على الجزيرة، وهذا يظهر بعض الشطحات والعشوائية في تأريخ الأحداث سواء ارتكبها السلف الصالح، أو الباحث الأصلح)
ثم يُورد مقاربة في غاية الأهمية عن الوثائق التي تشير إلى وجود يهودي قديم في صقلية، تدلّ عليه رسالة من غريغور الكبير مؤرخة عام 604م وموجهة إلى مطران باليرمو يطالبه فيها بتعويض الطائفة اليهودية لقاء مصادرة كنيسهم لبناء كنيسة مكانه؟؟ ثم تنقطع أخبار الوجود اليهودي، وتستأنف ثانية في القرن11م، هذا الأمر تؤكده أيضا الموسوعة اليهودية، فإعتبارا من عام 1020م يمكن التثبت من وجود وثائق قضائية (يهودية ـ عربية) في صقلية [وفي ذلك إشارة للزمن الشبحي المذكور]
أما وثائق الجنيزا القاهرية، فهي تقدم إضافة نوعية، من حيث أنها كُتبت بلغة منضبطة تختلف عن لغة الرحالة، الذين كانوا يرحلون بين القرون دون إعتماد وثائق أصلية. ففي وثائق الجنيزا هناك مادة أصلية حقيقية تتحدث عن العلاقة التي ربطت العالم الإسلامي بصقلية وجنوب إيطاليا، لكن أقدمها لايتعدى حدود القرن 11م ؟ ثم يطرح هاينسون مدوّن "المسالك والممالك" للرحالة والجغرافي العربي ابن خوردابه، الذي تُسب للقرن التاسع (820م ـ 912م) ويشير إلى أن الرجل يكاد يكون مجهولا، حيث تتضارب الأخبار حول تاريخ مدوّنه. ويقدم نصا يتحدث فيه ابن خوردابه عن السلع والبضائع التي نقلها التجار بين ضفتي المتوسط ( كالخصيان، والعبيد والجواري والغلمان والسيوف والحرير والجلود والفرو) التي كانت تشحن من بلاد الفرنجة وتفرغ حمولتها في مصر أو تستأنف رحلتها بإتجاه جدة ثم إلى الهند والصين، ويخلص هاينسون بناء على وثائق الجنيزة ومشاركة التجار اليهود بأن هذا النوع من التجارة الدولية، حدث في القرن 12م وليس في القرن التاسع لخوردابه. وفي نفس السياق يقتبس الكاتب خلاصة من بربارا كرويتس، الإختصاصية بتاريخ القرون الوسطى لجنوب إيطاليا وصاحبة الدراسة النموذجية والتي تقول:
إن دراسة Goiteinغواتين لوثائق الجنيزا القاهرية، وسّعت معرفتنا بتاريخ القرون الوسطى في حوض المتوسط بما لايقاس، لكنها للأسف لاتحتوي على معلومات تخص تجارة جنوب إيطاليا قبل القرن الحادي عشر


خلاصة وتعقيب:


مما لاشك فيه أن جزيرة صقلية كانت عربية (الثقافة) ولاتزال الشواهد الحسية تملأ العين، إضافة إلى ما تناثر في المتاحف وأشهرها طرا ثوب تتويج مطرز بالكلمات العربية (في متحف فيينا) يعود للإمبرطور فريدريك الثاني (1194م ـ1250م) الذي إنتزع مفاتيح القدس عام 1228م سلميا من الأيوبيين، ومن الأمور الأكيدة أن ملوك صقلية في العصر النورماني وبعده تكلموا اللغة العربية وأظهروا تسامحا وإستقبلوا في بلاطهم الشعراء العرب مثل ابن قلاقس. لكن السؤال كيف تعربت صقلية ومتى؟
إن كاتب السطور الذي تابع بعض هذه الدراسات النقدية (العبثية والمجنونة كما يحلو للبعض) يعرف ويقدر أننا أمام تاريخ رسمي، يجثم بكلكله على عقولنا وتصوراتنا، ويقف سدا منيعا أمام أية أطروحات نقدية، تشكك بالحقب والسلالات الحاكمة ومسار الأحداث، لكن دعونا نستفيد من بعض الإضاءات، لإعادة صياغة بعض الرؤى.. فالفتوحات والحملات الإسلامية الخاطفة التي خرجت من جزيرة العرب، ووصلت أطراف العالم القديم خلال بضعة عقود، تبدو مضطربة، وغير مقنعة (وضحك على الذقون)..لهذا بدأنا نرى ميولا جديدة لفهم التوسع العربي من خلال تسلل وتمدد سلمي بطيئ (بسيوف اللغة والحضارة العربية كوريثة لثقافات المشرق القديم) أكثر من التوسع بسيوف خالد وطارق وابن أبي سرح ..إلخ إضافة إلى تسلل النخب الحاكمة (ذات الشرعية المقدسة) وإعتلائها عروش الأمصار والمدن بواسطة جيوش من العبيد والمرتزقة (هذه الطريقة مثلا إستمرت في حكم مصر منذ نهاية العصر الفرعوني حتى عام1952 م وسقوط أسرة محمد علي)
إن إجتياح الجيوش الأموية أفريقيا عام 688م في نفس الوقت الذي دارت فيه رحى حروب أهلية مثل كريلاء وثورة الزبير والمختار وقبلها صفين وموقعة الحرة ..إلخ وفي وقت لايستطيع فيه مروان ابن الحكم السيطرة على دمشق بسبب نزاعات القبائل القيسية والكلبية (والدولة البيزنطية تتفرج) هذه أمور غير جديرة بالتصديق والثقة..والأغرب من ذلك هو صمت الكتابات المسيحية (النسطورية واليعقوبية والقبطية) واليهودية والبيزنطية وعدم تناولها فتوحات العرب وتمددهم العسكري؟ فهل يعقل أن يندثر التراث الكتابي وتتكسر أقلام كتاب "جند يسابور، وأنطاكية وحران وغيرها " وهم أنفسهم من أدار الترجمة من اليونانية والسريانية والعربية في قصور المأمون؟ إن سؤالا بهذا الحجم يفترض أمرين لاثالث لهما: إما أنهم لم يكونوا موجودين قط!! أو أن فتوحات الإسلام المبكر أبدعها خيال القصصيين في أزمنة لاحقة؟ لذا فإن الإجابة عن متى وكيف وصل العرب إلى صقلية؟ أمر مرهون بترميم النموذج (البراديغم) التاريخي الحالي، وفتح نوافذ العقل لتجديد هواء ثقافتنا الثقيل. 


في الختام أستعيد هذا النص الصقلّي (للمرة الثانية) وهو عبارة عن شاهد قبر كُتب باللغات: العربية والعبرية واللاتينية وأرجو ملاحظة التاريخ المكتوب بالتقويم الهجري، وكيف أن المتوفية دفنت أولا بالجامع الأعظم!!؟ وبعدها تم نقل رفاتها إلى كنيسة:
توفيّت آنــّا أمُ القسيس ِ آكرزانت قسيس ِ الحضرة المالكة الملكية العالية العلية المعظمة السنية القديسية البهية المقتدرة المعتزة بالله المقتدرة بقدرته المنصورة بقوته مالكة انطالية وانكيردة وقلورية وصقلية وافريقية معزّة امام رومية الناصرة للملة النصرانية صمّـد الله مملكتها .. يوم الجمعة العصر العشرين من اوسط سنة ثلاث واربعين وخمسمائة ودفِنت في الجامع الأعظم ثمّ نقلها ولدها بالمستجدِّ الى هذه الكنيسية سانت ميكائيل يوم الجمعة اول ساعة العشاء عشرين مايو سنة اربع ٍ واربعين وخمسمئةٍ وبنا على قبرها هذه الكنيسية وسمّـى الكنيسية سـانت آنــّا عن اسم امّ السيدة مريم والدة المسيح فرحم الله من قرأ أو دعى لها بالرحمة آمين آمين آمين


الهوامش:
المصدر الرئيسي للترجمة:
Sizilien und seine frühmittelalterliche Fundlücke von Gunnar Heinsohn (Zeitensprünge 03/2003
1ـ Illig, H. (1998), Das erfundene Mittelalter, Müchen · Düsseldorf
2ـ أهم المصادر التي إعتمدها هاينسون:
Rill, B. (2000), Sizilien im Mittelalter: Das Reich der Araber, Normannen und Staufer (1995), Stuttgart
Ahmad, A. (1975), A History of Islamic Sicily, Edinburgh