إن البحث العلمي في التاريخ ليملي علينا أن نميز بين الأخبار الأكيدة الواضحة وبين الأخبار المختلف في شأن صحتها ، فنبدأ بالأخبار الأكيدة ، ثم نتبعها بالغير الأكيدة لنصححها على ضوء الأخبار الأكيدة ، فما لاءمها كان تبعا طبيعيا لها ، وما خالفها تركناه جانبا حتى يظهر أمرها
والخبر الذي أراه لا يختلف عنه إثنان ويشيد الجميع بصحته ، هو نسب الرسول
(ص) حتى نزار من معد بن عدنان ،
وطبيعي أن يكون هذا النسب صحيحا ، لأنه أولا نسب الرسول ، والناس يبحثون في أخبار رسولهم المتبع أكثر مما يبحثون في أخبار أخرى .
ولأنه ثانيا نسب رئيس ومؤسس دويلة أو مشيخة قريش ، وهو قصي بن كلاب ، أب الرسول الخامس ، والناس يحفظون أنساب رؤسائهم وملوكهم أكثر مما يحفظون أنساب عامتهم ، وبين الرسول (ص) وأبيه الخامس قصي حوالي 150 سنة فقط .
وطبيعي أن يكون هذا النسب نسبا صحيحا ، ويكون بمثابة سلسلة ذهبية نفيسة لنا لا مثيل لها في تاريخ العرب ، وطبيعي أن نجعل منها منارة أو معلمة ينطلق منها بحثنا ويرجع إليها كلما خشي على نفسه التيه بين تواريخ الأحداث .
هذه السلسلة الذهبية تحمل عشرين أبا ، من محمد حتى نزار من معد بن عدنان . بمعنى ، هناك عشرون من الأجيال يتبع كل جيل الجيل الآخر من نزار حتى محمد .
وإذا افترضنا للجيل ثلاثين سنة ، وهو افتراض يقربنا إلى الحقيقة ولا يعبر عنها كاملة ، فإننا نستنتج بأن عمر هذه السلسلة ستكون حوالي ستة قرون تزيد عنها شيئا أو تنقص عنها قليلا .
وتحديدنا للجيل بثلاثين سنة ليس تحديدا دقيقا ، فما يتعلق بالإنسان لا يمكن أن نقيسه بمقياس ثابت مثلما نقيس الجماد ، وهنا تكمن صعوبة الدراسات الإجتماعية على الدراسات الطبيعية . فالإنسان شيء يتحرك ويتغير عكس الجماد الذي هو ثابت على حاله . فهناك أب يكبر ابنه بستين سنة ، وهناك أب يكبر ابنه بسبعة عشر سنة ، وهناك رجل أكبر من عمه ، وهناك أخ أسن من أخيه بأربعين سنة ، فهل نضع الأخ الأكبر في جيل الآباء والأخ الأصغر في جيل الأبناء ؟ أو نضع الإبن الأكبر في جيل الأبناء والإبن الأصغر في جيل الأحفاد ؟ أو نضع الرجل الذي يكبر عمه في جيل الآباء وعمه الأصغر منه في جيل الأبناء ؟ . وهذه بعض الأمثلة كما ترى تبين مدى عشوائية هذا المقياس واضطرابه ، لكننا لا نملك بديلا عنه .
ولا نملك إلا أن نمسك بهذا المقياس من الوسط ، ونعتبر تلك التواريخ التي نأخذها من هذا المقياس تواريخا افتراضية تقربنا فقط من الصحة وتعطينا شيئا من النظام في التواريخ ، ولابد من أن نبحث لها عن حجج من هنا وهناك تؤكد لنا هذه الفرضية أو تنفيها . وفي غياب تلك الحجج لا يسعنا إلا التمسك بهذا المقياس المائع لنحدد على الأقل إطارا زمنيا مفترضا لما نتحدث عنه ، وهذا أفضل بكثير من أن نتيه بين التواريخ والعصور .
ومن قبل حدد ابن خلدون المؤرخ المحقق ، الجيل بخمسة وعشرين سنة ، لكن سواء أكان المقياس 25 أو 30 سنة ، فإنه يبقى مقياسا افتراضيا ليس إلا ، لأنه مقياس مطاط يطول ويقصر ، ونحن إن حددنا الجيل بثلاثين سنة ، فذلك للتقريب فقط .
إذن إذا قسنا سلسة نسب الرسول بهذا المقياس فإنه يجعلنا نعطي لنزار تاريخا قريبا من ميلاد عيسى بن مريم ، وهو السنة الأولى من الميلاد ، ويمكننا أن نفترض بأن نزارا كان يعيش في نفس العصر الذي عاش فيه المسيح ، ويمكننا أن نستنتج بأن النسب المعروف للرسول ولقريش وللعرب لا يتعدى زمن المسيح .
وهذه هي السلسلة : محمــــد بــــن عبــــد اللــــه بـــن عبــــد المطــــلب بــــن هاشـــــم بــــن عبــــد منــــاف بــــن قصــــي بــــن كــــلاب بــــن مـــــرة بــــن كعــــب بــــن لــــؤي بــــن غـــــالب بـــــن فهـــــر بـــــن مــــــالك بـــــن النـــــضر بــــن كنانـــــة بـــــن خزيمــــــة بـــــن مدركــــــــة بـــــن إليــــــاس بــــن مضــــــر بــــــن نـــــــــزار .
عصــــــــــــــر محمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد : 560م
عصـــــــــــــر عبــــــد اللــــــــــــــــــــــــــه 530م
عصــــــــــــر عبــــــد المطـــــــــــــــــــلب 500م
عصــــــــــــر هــــــــــــاشــــــــــــــــــــــــم 470م
عصــــــــــــر عبـــــــــد منـــــــــــــــــــا ف 440م
عصــــــــــــر قصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي 410م
عصــــــــــر كــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاب 380م
عصـــــــــــــر مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرة 350م
عصـــــــــــــر كــــــــــــــــــــــــــــــــــــعب 320م
عصـــــــــــــر لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــؤي 290م
عصــــــــــــــر غـــــــــــــــــــــــــــــــــــالب 260م
عصـــــــــــــر فهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر 230م
عصـــــــــــــر مـــــــــــــــــــــــــــــــــــالك 200م
عصــــــــــــر النضــــــــــــــــــــــــــــــــر 170م
عصــــــــــــر كنــــــــــــــــــانــــــــــــــــة 140م
عصــــــــــر خزيمـــــــــــــــــــــــــــــــة 110م
عصـــــــــــر مدركــــــــــــــــــــــــــــــــة 80م
عصـــــــــــــر إليــــــــــــــــــــــــــــــــــاس 50م
عصــــــــــــــر مضــــــــــــــــــــــــــــــــــر 20م
عصـــــــــــــر نــــــــــــــــــــــــــــــــــــزار 1م
فمن نزار بدأ العرب الجاهليون يتذكرون تواريخهم وأنسابهم ، ومن نزار نملك شيئا من المادة التاريخية التي تروي لنا بعضا من حلقات قصة العرب الجاهليين ، أما ما قبل نزار فلا نجد كما سنرى في موضوع مستقل إلا نتفا من الأخبار المهزوزة لا تغني شيئا ولا توضح شيئا ، إذ هناك صمت مخيف في تاريخ العرب من نزار إلى ابراهيم عليه السلام . إذن فالتاريخ الجاهلي الذي نطمع في تسجيل بعض أحداثه القليلة هو تاريخ عمره يقرب أو يزيد عن ستة قرون ، يبدأ من نزار وينتهي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو عصر النصرانية التي ابتدأت بعيسى عليه السلام إلى أخيه محمد (ص) .
هذه الأسماء العشرين تمثل عشرين جيلا ، وسنبدأ بكل إسم على حدة سيكون عنوانا لموضوع ، أو سيكون عنوانا لعصر ، فنقول مثلا عصر معد ، ونقول عصر نزار ، ونقول عصر مضر أو عصر قصي ، إلخ . وسنجمع إخوة الجد الذي هو محل الدراسة ونحقق في إمكانية وجودهم من عدم إمكانيته ، ثم نجمع أصهاره وأولاده ومحاربيه ومحالفيه وكل من كانت له علاقة به ، وبهذه الطريقة نتعدى إلى العائلات الأخرى ونحدد تواريخها ثم نسرد أحداثها بشيء من اليقين والترتيب ، ولا نترك خبرا وصلنا إلا درسناه بدقة ووضعناه في مكانه المناسب من التاريخ الذي نحن بصدد إعادة كتابته .