الجمعة، 31 مايو 2013

حاكم المطيري-دراسة لحديث الجساسة(دراسة طرق حديث الشعبي بحسب شهرتها)8\2


أولا : رواية مجالد بن سعيد عن الشعبي: -
وهي أشهر روايات هذا الحديث على الإطلاق، فقد رواها عن مجالد ستة من الحفاظ والثقات الأثبات وهم:-
‌أ- إسماعيل بن أبي خالد: كما عند أبي داود والطبراني والآجري من طرق عن المعتمر بن سليمان، وعند ابن ماجة من طريق عبد الله بن نمير، وعند الآجري من طريق أبي شهاب، كلهم المعتمر وابن نمير وأبو شهاب عن إسماعيل عن مجالد عن الشعبي به.
‌ب- يحيى بن سعيد القطان: كما عند أحمد، وعند الطبراني من طريق مسدد بن مسرهد ،كلاهما أحمد ومسدد عن يحيى عن مجالد به.
‌ج- سفيان بن عيينة: كما في مسند الحميدي عنه عن مجالد به، والرمادي عن سفيان كما في الطبراني.
‌د- حماد بن أسامة: كما في مصنف ابن أبي شيبة عنه عن مجالد به.
‌ه- زيد بن أبي أنيسة: كما عند الطبراني من طريق الرهاوي عنه عن مجالد به.
‌و- علي بن مسهر: كما عند ابن أبي شيبة عنه عن مجالد به.
فالحديث محفوظ مشهور عن مجالد عن الشعبي، رواه عنه ستة من الثقات، أربعة منهم من الأئمة الحفاظ، منهم اثنان من حفاظ الكوفة هما حماد بن أسامة، وإسماعيل بن أبي خالد الذي هو بإجماع أهل الحديث أحفظ أصحاب الشعبي[28]، وأعلمهم بحديثه وأرواهم له، والمقدم عليهم جميعاً عند الاختلاف في حديث الشعبي، ومع ذلك لا يروى هذا الحديث إلا عن مجالد عن الشعبي!
وكذا رواه عن مجالد يحيى بن سعيد القطان إمام أهل البصرة وحافظها، والمتشدد في الرواية، وكان لا يحبذ الرواية عن مجالد لشدة ضعف مجالد عنده ، ومع هذا اضطر لرواية هذا الحديث عنه؟!
وفيهم أيضا سفيان بن عيينة إمام أهل الحجاز وحافظهم؟!
فاجتمع على رواية هذا الحديث عن مجالد أئمة أهل الحديث من الحجاز والبصرة والكوفة قبل أن يعرف عن غيره؟!
بل إن ابن أبي شيبة حافظ أهل الكوفة لم يرو هذا الحديث في مصنفه ـ الذي جمع فيه فأوعى حتى بلغت مروياته نحو أربعين ألف رواية ـ إلا من طريق مجالد مع أنه أورد مرويات كثيرة جداً في شأن الدجال؟!
وهذا أحمد حافظ العراق على الإطلاق، وإمام أهل الحديث في زمانه – الذي انتقى مسنده من سبعمائة ألف رواية فاختار أجودها – وكان يرى أحاديث مجالد شبه الحلم، ومع ذلك يروي هذا الحديث من طريقه[29]؟!
ومجالد قال عنه في التهذيب (قال البخاري كان يحيى بن سعيد يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئا، وقال ابن المديني قلت ليحيى بن سعيد مجالد قال في نفسي منه شيء، وقال أحمد بن سنان القطان سمعت ابن مهدي يقول حديث مجالد عند الاحداث أبي أسامة وغيره ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم وهؤلاء يعني إنه تغير حفظه في آخر عمره، وقال عمرو بن علي سمعت يحيى بن سعيد يقول لبعض أصحابه أين تذهب قال إلى وهب بن جرير اكتب السيرة عن أبيه عن مجالد، قال تكتب كذبا كثيرا لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله فعل! وقال أبو طالب عن أحمد ليس بشيء يرفع حديثا كثيرا لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس، وقال الدوري عن ابن معين لا يحتج بحديثه، وقال ابن أبى خيثمة عن ابن معين ضعيف واهي الحديث، كان يحيى ابن سعيد يقول لو أردت أن يرفع لي مجالد حديثه كله رفعه، قلت ولم يرفعه؟ قال للضعف. وقال ابن أبي حاتم سئل أبي يحتج بمجالد قال لا.. وليس مجالد بقوي في الحديث، وقال النسائي ليس بالقوي ووثقه مرة، وقال ابن عدي له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة وعن غير جابر وعامة ما يرويه غير محفوظة، وقال عمرو بن علي وغيره مات سنة أربع وأربعين ومائة في ذي الحجة حديثه عند مسلم مقرون.وقال يعقوب بن سفيان تكلم الناس فيه وهو صدوق، وقال الدارقطني مجالد لا يعتبر به، وقال الساجي قال محمد بن المثنى يحتمل حديثه لصدقه، وقال ابن سعد كان ضعيفا في الحديث، وقال العجلي جائز الحديث وكان يحيى بن سعيد يقول كان مجالد يلقن في الحديث إذ لقن، وقال البخاري صدوق، وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به).[30]
ثانيا : رواية داود بن أبي هند عن الشعبي:-
والرواية المشهورة عنه رواية حماد بن سلمة كما عند أحمد والنسائي في الكبرى وابن حبان والطبراني من طرق عن حماد عن داود به هذا هو الطريق المشهور.
وقد ضعف الأئمة حديث حماد عن داود بن أبي هند[31].
ولم يخرج البخاري عن حماد ولا عن داود بن أبي هند شيئاً أصلاً.
كما لم يخرج مسلم من حديث حماد إلا ما تابعه عليه الثقات، ولم يخرج عنه من روايته عن داود شيئاً تفرد به[32]، ولهذا لم يخرج هذا الإسناد في قصة تميم الداري.
إلا أنه تابعه خالد الطحان عن داود به كما عند الطبراني والروياني.[33]
وليس في كلا الروايتين تصريح من داود بالسماع من الشعبي وإنما رواه عنه معنعناً، وقد ذكر ابن حبان أن داود روى عن أنس خمسة أحاديث لم يسمعها منه، وأنه كان يهم إذا حدث من حفظه[34]، وذكر ابن حجر أنه رأى أنس بن مالك، ونقل عن الأثرم عن أحمد أن داود كثير الاضطراب والاختلاف.[35]
فإذا كان قد رأى أنساً وحدث عنه أحاديث لم يسمعها منه فهذا هو التدليس، وقد ذكره الدميني في المرتبة الثانية من المدلسين[36]، ولعل مسلماً لم يخرج هذه الرواية لتفرد حماد به عن داود، أو لعدم ثبوت تصريح داود بالسماع من الشعبي.
ثالثا : رواية عبد الله بن بريدة عن الشعبي:-
وهي الأصل الذي قدمه مسلم في الباب وأصح شيء عنده فيه!
ولم يروه عن ابن بريدة إلا حسين المعلم ولا عن حسين إلا عبد الوارث بن سعيد ولا عن عبد الوارث إلا ابنه عبد الصمد ؟!
ومن طريق عبد الصمد رواه مسلم وأبو داود والطبراني.
وفي هذه الرواية علل :
1 ـ فهي رواية غريبة لم تشتهر إلا عن عبد الصمد عن أبيه.
وقد رواه الطبراني عن حفص بن عمر الصباح عن عبد الله بن عمرو عن عبد الوارث به.[37]
إلا أن الصباح هذا متكلم فيه، فقد قال عنه أبو أحمد الحاكم: حدث بغير حديث لم يتابع عليه.[38]
وقال عنه الذهبي ليس بالمتقن.[39]
ولم أجد من تابعه على روايته هذه إلا إبراهيم بن فهد عند ابن مندة[40]، غير أن ابن فهد متهم بالكذب وأحاديثه مناكير وأمره مظلم.[41]
فلا ينتفع بمتابعته، والصحيح أن هذه الطريق لا تكاد تثبت إلا عن عبد الصمد وعنه رواه الناس، والحديث حديثه عن أبيه، وقد تكلم الأئمة في عبد الصمد فقال عنه أبو داود: (يحتمل التلقين).[42]
وقال أبو حاتم: (صدوق صالح الحديث).[43]
وقال عنه ابن قانع: (ثقة يخطىء).[44]
وقال ابن معين: (يقول في كتبه حدثنا حدثنا، ولم يكن في كتابه حدثنا، رأيت كتابه فلم أر فيه: حدثنا).[45]
أي أن في أصوله (فلان عن فلان) بالعنعنة إلا أنه عند الأداء يحملها كلها على التحديث فيقول: (فلان ثنا فلان) لأنه ليس من أئمة هذا الفن ولا من الحفاظ المتقنين ولهذا قال عنه ابن حجر: (صدوق).[46]
وقد كان ابن معين لا يعتد بمثل هذه الصيغة إلا إذا كانت من حافظ ثبت وأثبتها كذلك في كتابه عند التحمل ولهذا قال: (ليس الحافظ عندنا إلا من كان في كتابه (حدثنا) فإن لم يكن في كتابه (حدثنا) وقال (حدثنا) فليس بشيء)[47] وما ذلك إلا لكثرة الوهم وسبق اللسان إلى صيغة (حدثنا).
فلذا لا يمكن الاحتجاج بقول عبد الصمد (حدثنا أبي قال سمعت حسيناً المعلم حدثنا عبد الله بن بريدة حدثنا الشعبي) على إثبات السماع بين حسين المعلم وابن بريدة أو بين ابن بريدة والشعبي؛ لأنه لا وجود لهذه الصيغة في أصل كتابه – على فرض وجود هذا الحديث فيه – وإنما أحاديثه معنعنة كما قال ابن معين.
فإذا كان عبد الصمد صدوقاً، ويحتمل التلقين، ويخطىء في حديثه، وجب التحري في قبول ما انفرد به، وقد توبع من عبد الله بن عمرو لولا أنه من رواية ابن الصباح عنه وليس بالمتين، وعلى كل حال فالمتابعة ترجح ثبوته عن عبد الوارث بن سعيد.
2 ـ كما أن حسيناً المعلم مع كونه ثقة إلا أنه متكلم فيه أيضا، فقد ذكره العقيلي في الضعفاء وقال عنه: (مضطرب الحديث)[48]، وروى عن يحيى بن سعيد القطان ـ وهو تلميذه ـ قوله عنه: (فيه اضطراب)[49]، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء وقال(قال يحيى فيه اضطراب وقال العقيلي ضعيف وقد أخرج البخاري ومسلم عنه).[50]
3 ـ وكذا عبد الله بن بريدة متكلم فيه، فقد ذكره العقيلي في الضعفاء، وروى عن أحمد ما يدل على ضعفه عنده.[51]وقد ذكر ابن حجر عن أحمد قوله: (أما سليمان بن بريدة فليس في نفسي منه شيء وأما عبد الله! ثم سكت)[52]. وقال أيضاً: (ضعيف فيما يروي عن أبيه)[53]ونقل عن إبراهيم الحربي قوله:(لم يسمعا من أبيهما وفيما روى عبد الله عن أبيه أحاديث منكرة).[54]
وقال الجوزجاني: (قلت لأبي عبد الله: سمع عبد الله من أبيه؟ قال: ما أدري عامة ما يروى عن بريدة عنه. وضعّف حديثه)[55].
فإذا ثبت ما قاله إبراهيم الحربي أنه لم يسمع من أبيه شيئاً فإن روايته عنه حينئذ تكون تدليساً، إذ أنه لا خلاف في أنه أدرك أباه وعاصره مدة طويلة، إذ توفي بريدة سنة 63هـ[56]، وولد عبد الله سنة 15هـ، وتوفي سنة 115هـ[57]، أي كان له عند وفاة أبيه نحو خمسين سنة تقريباً ففي شك أحمد وتردده في سماعه من أبيه وصم له بالتدليس إذ لم يحمل عنعنته عن أبيه على السماع.
ومن كان هذا حاله لا يحتج بما رواه إلا إذا صرح بالسماع ممن روى عنه، ولعله لهذا السبب تحاشى البخاري روايته عن أبيه فلم يخرج منها مع كثرتها إلا حديثاً واحداً في المغازي.[58]
4 ـ وعلى فرض ثبوته عن ابن بريدة فقد اضطرب في روايته لهذا الحديث اضطرابا شديدا، وقد سئل الدارقطني عن حديثه هذا فقال :( يرويه عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن فاطمة. وخالفه بشير بن المهاجر فرواه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه حسين المعلم فرواه عن ابن بريدة عن الشعبي عن فاطمة).[59]
وقد رواها ابن حبان[60] عن هارون بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن عون بن كهمس، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر عن فاطمة به.
فاجتمع في طريق ابن بريدة ضعف في بعض رواته، وغرابة في إسناده، واختلاف على راويه في روايته.
رابعا : رواية قتادة عن الشعبي:
وفي هذه الطريق علل هي :
1 ـ غرابة في إسناده إذ لم يروها عن قتادة إلا هشام ولا عن هشام إلا ابنه معاذ ومن طريقه رواه الترمذي وقال: (غريب من حديث قتادة) وهو كما قال.
2 ـ ومعاذ متكلم فيه فقد قال عنه ابن معين: (ليس بذاك القوي)[61]، وقال أيضاً: (لم يكن بالثقة إنما رغب فيه أصحاب الحديث للإسناد وليس عند الثقات الذين حدثوا عن هشام هذه الأحاديث)[62]، أي التي ينفرد بروايتها معاذ عن أبيه عن قتادة دون باقي أصحاب هشام الحفاظ لحديثه.
وقد سئل عنه أبو داود: أحجة هو؟ فقال: (أكره أن أقول شيئاً كان يحيى لا يرضاه .. وأظنه يحيى القطان).[63]
وهذا من الأحاديث التي تفرد بها عن أبيه عن قتادة، وليس مثله من يقبل منه مثل هذا التفرد عن إمامين كبيرين اعتنى الحفاظ بجمع حديثهما، بل لو تفرد هشام عن قتادة لعدّ حديثه منكراً[64]، حتى يتابع على روايته لعناية أصحاب قتادة بحديثه وحفظهم له كشعبه بن الحجاج وسعيد بن أبي عروبة وهمام.[65]
وقد قال ابن حجر عن معاذ: (صدوق ربما وهم).[66]
3 ـ ثم إنه على فرض ثبوت الحديث عن قتادة فإن فيه علة تمنع من الحكم له بالاتصال والصحة، وهي عنعنة قتادة وهو مشهور بالتدليس وممن لا تقبل عنعنته.[67]
وقد قال الدار قطني في حديث رواه قتادة عن الشعبي معنعناً: (لم يرفعه عن الشعبي غير قتادة وقتادة مدلس لعله بلغه عنه)[68]، بل قال يحيى بن معين: (لم يسمع من الشعبي)[69] وكذا قال البسوي: (لم يسمع قتادة من الشعبي إنما أرسل عنه).[70]
ومعلوم أن مرسل قتادة من شر أنواع المرسل وأشده ضعفاً لأنه حافظ لا يكاد ينسى من حدثه فلا يسقط الواسطة إلا إذا كان لا يستجيز التصريح باسمه لضعفه، ولهذا كان يحيى القطان يرى مراسيل قتادة شبه الريح وأنها لا شيء.[71]
فلو سلمت هذه الرواية من غلط معاذ ووهمه، لم تسلم من إرسال قتادة وتدليسه، إذ ربما بلغه الحديث عن مجالد لشهرته عنه فرواه عن الشعبي وأسقط اسم مجالد، فكيف وقد نص الأئمة على عدم سماعه أصلا من الشعبي شيئا !!
خامسا: رواية غيلان بن جرير عن الشعبي:-
وفيها علل هي :
1 ـ غرابة في الإسناد، إذ لم يروها عن غيلان إلا جرير بن حازم، وعنه ابنه وهب بن جرير، وقد رواه مسلم من طريقين عن وهب عن أبيه عن غيلان.
2 ـ ضعف في الإسناد، فوهب متكلم فيه وقد ذكره ابن عدي في الضعفاء وذكر كلام عفان وابن مهدي فيه وساق له حديثين أنكرهما[72]، وكذا ذكره العقيلي في الضعفاء[73]. إلا أنه توبع على روايته كما سيأتي.
وأبوه جرير متكلم فيه أيضاً فقد قال عنه أحمد: (كثير الغلط)[74] وقال ابن حبان: (كان يخطىء لأن أكثر ما كان يحدث من حفظه)[75] وذكره العقيلي في الضعفاء.[76]
3 ـ عنعنة وتدليس ، فقد روى العقيلي عن حماد بن زيد إنكاره عليه تصريحه بالسماع.[77]
وقال أحمد: (كان سجية في جرير بن حازم يقول: حدثنا الحسن قال حدثنا عمرو بن تغلب، وأبو الأشهب يقول: عن الحسن قال: بلغني أن النبيe قال لعمرو بن تغلب)؟!![78]
فلا ينتفع والحال هذه بتصريحه بالسماع بين غيلان والشعبي.
وهو أيضاً مدلس[79] وقد قال في روايته هذه (سمعت غيلان يحدث عن الشعبي) وليست هذه العبارة صريحة في سماع غيلان من الشعبي وليست في قوة (غيلان عن الشعبي) أو (غيلان حدثنا الشعبي) بل تحتمل أن غيلان كان يحدث عن الشعبي بواسطة أو بما بلغه عن الشعبي كأن يقول: (قال الشعبي) أو: (بلغنا عن الشعبي) فكل ذلك يصدق عليه أنه كان يحدث عن الشعبي، ومما يؤكد ذلك أن الطبراني[80] وابن مندة[81]أخرجاه من طريق موسى بن إسماعيل عن جرير وفيه (سمعت غيلان يحدث عن الشعبي) مما يثير الشك في عدوله عن الصيغة التي يستخدمها دائماً وهي (حدثنا فلان حدثنا فلان) إلى مثل هذه العبارة الموهمة التي تشعر بعدم اتصال السند فقد يكون نسي الواسطة التي ذكرها غيلان كما يحدث منه ذلك كثيراً[82] لكونه يحدث من حفظه ويخطىء، أو يكون قد دلسه وأسقط الواسطة قصداً لضعف هذه الواسطة، فقد روى أحمد عن وكيع وابن مهدي وعفان ثلاثتهم عن جرير قال سمعت أبا فروة قال حدثنا جار لنا عن شريح القاضي …إلخ.
قال عفان: ثم ذكرت للأغضف حديث جرير عن أبي فروة. فقال أي الأغضف حدثني أي جرير عن الحسن بن عمارة عن أبي فروة ؟!!! [83]
وهذا وهم فاحش، أو تدليس شنيع عن رجل كمثل الحسن بن عمارة المتروك لضعفه[84]، ولعله لهذا السبب تجنب أحمد رواية جرير هذه مع أنها عند شيخه موسى بن إسماعيل.
وعليه فلا يمكن الاحتجاج بمثل هذه الصيغة ما دام قد ثبت أن جريراً يتساهل في استخدام عبارات التحديث ويصرح بالسماع فيما هو في الأصل مروي بالعنعنة، كما أنه مدلس أيضاً ويدلس عن مثل الحسن بن عمارة.
وقد يعتذر لمسلم بأنه إنما أخرج هذه الرواية في المتابعات التي لا تخلو من ضعف[85]، وإنما اعتمد على رواية ابن بريدة.
ثم إن جريراً من تلاميذ مجالد ويروي عنه السيرة[86] مما يدل على كثرة حديثه عنه فلا يبعد أن يكون سمع هذا الحديث منه فوهم على غيلان أو دلسه عنه، فإن له أوهاماً عجيبة عن كثير من شيوخه.[87]
سادسا: رواية أبي الزناد عن الشعبي:-
وفيها علل:
1 ـ غرابة في الإسناد، فلم يروها عنه إلا المغيرة الحزامي، ولا عن المغيرة إلا يحيى بن بكير المصري، ومن طريقه رواه مسلم والطبراني، ولم يستطع الطبراني مع جمعه للغرائب أن يجد متابعاً ليحيى بن بكير أو للحزامي عن أبي الزناد؟!
2 ـ ضعف في ابن بكير مع جلالته، وقد قال النسائي عنه: (ضعيف) و (ليس بثقة)[88]، وقال أبو حاتم: (لا يحتج به)[89]، وقال يحيى بن معين فيه: (ليس بشيء).[90]
وشيخه الحزامي مع كونه ثقة فقد ذكره ابن عدي في الضعفاء، وروى عن ابن معين قوله فيه: (الحزامي صاحب أبي الزناد ليس بشيء)[91]، وقال أيضاً: (ضعيف الحديث)[92]، وقال النسائي: (ليس بالقوي)[93]، وقد ذكر ابن عدي أنه روى عن أبي الزنـاد ما لا يوافقه عليه الثقات.
ولا ريب أن هذا الحديث منها إذ أنه تفرد بروايته عن أبي الزناد وهو من كبار علماء المدينة وحفاظهم الذين اعتنى العلماء بجمع حديثهم وله كثير من التلاميذ[94]، ففي تفرد المغيرة بهذا الحديث عنه ما يوهنه ويقضي عليه بالحكم بالنكارة والرد.
3 ـ ومما يزيد الشك في حديثه هذا أن إسحاق بن أبي فروة المدني يروي عن أبي الزناد عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس قصة طلاقها وهو جزء من حديث الشعبي هـذا عنها.
ولا يروي هذا الحديث عن إسحاق إلا الليث كما عند ابن ماجه[95] والطبراني.[96]
والحزامي وابن أبي فروة كلاهما مدني ومن طبقة واحدة؟! ويحيى بن بكير والليث بن سعد كلاهما مصري؟! ويحيى من تلاميذ الليث بن سعد وأكثر الناس رواية عنه؟! وإسحاق بن أبي فروة متروك ليس بثقة[97]. وهو كثير الحديث روى عنه الليث نسخة طويلة وعامة أحاديثه مناكير لا يتابعه عليها أحد في أسانيدها ولا متونها.[98]
فالظاهر أن الحزامي تلقف هذا الحديث من إسحاق ودلسه عنه فرواه عن أبي الزناد معنعناً، فلم يصرح بالسماع من أبي الزناد لا عند مسلم ولا عند الطبراني!
وعلى كل حال فحديث أبي الزناد عن الشعبي عن فاطمة في قصة طلاقها محفوظ من رواية الليث بن سعد عن إسحاق بن أبي فروة عن أبي الزناد، فإما أن يحيى بن بكير وهم فيه على الحزامي أو أن الحزامي دلسه وأسقط ابن أبي فروة من الإسناد.
وعليه فالإسناد فيه ضعف من جهة الرواة، وعنعنة بين الحزامي وأبي الزناد، وغرابة من هذا الوجه إذ لا متابع ليحيى، ولا للحزامي، ولا يعرف هذا الحديث عن أبي الزناد من وجه تقوم به الحجة.
ويعتذر عن مسلم بأنه أورده في المتابعات لا في الأصول.
سابعا: رواية سيار العنـزي عن الشعبي:
ولم يروها عنه إلا قرة بن خالد وقد اختلف عليه:-
ففي رواية مسلم: (ثنا سيّار ثنا الشعبي).
وعند الطبراني من طريق حماد بن مسعدة[99] وسعيد بن الربيع[100]، وعند البغوي من طريق سهل بن حماد[101] ثلاثتهم عن قرة بن خالد قال: (عن سيّار)، وقال حماد وسهل (عن الشعبي) معنعناً ليس فيه التصريح بالسماع.
وكذا رواه عنه أبو داود الطيالسي (ثنا قرة ثنا سيار عن الشعبي).[102]
وقد كان أحمد ينكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد ويقول هو خطأ أي ذكر السماع[103]،وكان لا يسلم من الوقوع في مثل هذا الوهم حتى كبار الحفاظ[104]،لدقته وخفائه، ولهذا كان يحيى بن معين لا يقبل منه إلا ما كان محفوظاً كتابة.
وقرة بن خالد وإن كان ثقة إلا أنه قد رأى أنساً وروى عنه، مع أنه لم يسمع منه شيئاً[105]، وهذا هو التدليس فقد عرفه ابن حجر فقال: (من ذُكر بالتدليس أو الإرسال إذا روي بالصيغة الموهمة عمن لقيه فهو تدليس أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي أو عمن لم يدركه فهو مطلق الإرسال)[106]، وقال ابن رجب: (من يحدث عمن رآه بما لم يسمعه منه فإنه لا يقبل منه حديثه حتى يصرح بالسماع ممن روى عنه… ولم يعتبر الشافعي أن يتكرر التدليس ولا أن يغلب على حديثه بل اعتبر تدليسه ولو بمرة واحدة).[107]
وعبارة الشافعي: (من دلس مرة فقد أبان لنا عن عورته… فقلنا لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه (حدثني) و (سمعت))[108].
بل إن الأئمة ربما توقفوا في قبول عنعنة الثقة وإن لم يكن مدلساً إذا كان متن الحديث منكراً ويرون أن العنعنة كافية للقدح في صحة مثل هذا الخبر قال المعلمي: (إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة قادحة فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً أعلوه بعلة غير قادحة مطلقاً ولكنهم يرونها كافية للقدح بذلك المنكر، فمن ذلك إعلاله بأن راويه لم يصرح بالسماع هذا مع أن الراوي ليس مدلساً…)[109] ثم ذكر على ذلك أمثلة من صنيع الأئمة.
ومن ذلك قول أبي حاتم في حديث رواه أبو صالح عن الليث بن سعد فأنكره فقال: (ولم يذكر أيضاً الليث في هذا الحديث خبر (أي تصريح بالسماع) ويحتمل أن يكون سمعه من غير ثقة ودلسه ولم يروه غير أبي صالح)[110]؟!.
مع أن الليث إمام كبير ولم يوصف بتدليس، وكذا أبو صالح لم يوصف بتدليس بل قال عنه أبو حاتم (حسن الحديث… صدوق أمين).[111]
وقرة بن خالد مع كونه ثقة إلا أن ابن مهدي غض من درجته عن درجة جرير بن حازم ـ وكلاهما من شيوخه ـ فقد قال: (جرير أوثق عندي من قرة بن خالد)[112]، وفي رواية (فوق قرة)[113]، فإذا كان جرير الذي قال عنه أحمد: (يحدثهم بالتوهم أشياء عن قتادة يسندها بواطيل… كأن حديثه عن قتادة غير حديث الناس)، وقال عنه أيضاً: (يروى عن أيوب عجائب) وقال عنه يحيى بن معين أنه ضعيف في قتادة يحدث عنه عن أنس بأحاديث مناكير.[114]
وقال عنه مسلم في حديث رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري وأخطأ فيه: (جرير لم يعن بالرواية عن يحيى إنما روى من حديثه نزراً ولا يكاد يأتي بها على التقويم والاستقامة…)[115] ،فإذا كان هذا حال جرير فلم يجعله ابن مهدي أوثق من خالد وفوقه إلا وقد رأى من خالد بن قرة ما يغض من مكانته ودرجته، وقد نقل البسوي عن علي بن المديني هذا الحوار مع أحد شيوخه: (قال علي: كان يحدثني عن الشيخ فيقول: قال حدثني قال أخبرني.
فأفرح به. فيقول: تفرح بهذا؟! لم يكن ممن يعتمد عليه في هذا قرة.
سمعت الحسن قال سمعت صعصعة!!
يقول: هكذا هو).[116]
وهذا النص مشكل إلا أنه يمكن فهمه على ضوء ما رواه العقيلي[117] عن علي بن المديني وحواره مع ابن المهدي في شأن تفضيله جرير على قرة وقد قال علي له بعد ما سمع منه هذا التفضيل: (أحفظ هذا عنك؟ قال: نعم) خاصة وأن البسوي نقل عبارة علي السابقة في معرض كلام البسوي عن طبقات أصحاب الحسن البصري وترتيب درجاتهم في الحفظ والإتقان وقد جعل قرة وجريراً في أواسطهم.
فيظهر أن الشيخ الذي كان يحاوره علي بن المديني ـ كما في نص البسوي ـ هو ابن مهدي، وكان حديثهما عن أحد الشيوخ الذين يصرحون بالسماع في الأسانيد المروية أصلاً بالعنعنة فكان علي بن المديني إذا سمع مثل هذا التصريح فرح به إلا أن شيخه ابن مهدي نبهه إلى عدم الاعتداد بمثل هذا التصريح إذا كان ممن لا يعتد به ولا يعتمد عليه، لأن هذا الشيخ يقول: (سمعت فلاناً يقول حدثنا فلان) على السجية والطبع ولا يتحرى الدقة في أداء صيغ التحديث فهو الذي يقول: سمعت الحسن قال سمعت صعصعة؟! بينما أصحاب الحسن يروونه عن الحسن بالعنعنة عن صعصعة.
وفي صحيح ابن حبان(..حدثنا قرة بن خالد عن الحسن قال: حدثني صعصعة بن معاوية قال: لقيت أبا ذر بالربذة وقد أورد رواحل له، فسقاها).[118]
وقال أحمد (ثنا يحيى بن سعيد عن قرة ثنا الحسن حدثني صعصعة بن معاوية قال : انتهيت إلى الربذة).[119]
بينما أخرجه ابن حبان(..حدثنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن، قال: قال صعصعة بن معاوية عم الأحنف: أتيت أبا ذر بالربذة). [120]
وصيغة (قال قال صعصعة) أقرب إلى الانقطاع منها بالاتصال.
وقد رواه أصحاب الحسن يونس وحبيب وحميد وأشعث وأبو حرة والمفضل وعنبسة وعامر كلهم بالعنعنة بين الحسن وصعصعة (عن الحسن عن صعصعة).[121]
وكذا جاء عن هشام بن حسان في أكثر الروايات عن الحسن عن صعصعة. [122]
فعامة أصحاب الحسن الحفاظ الأثبات يروونه عنه عن صعصعة بالعنعنة،وقد رواه قرة بن خالد بإثبات السماع بين الحسن وصعصعة، وكذا جاء في بعض الروايات عن جرير وهشام بن حسان.
وقد عاب ابن مهدي من روى عن (الحسن سمعت صعصعة) ثم قال(لم يكن ممن يعتمد عليه في هذا قرة)؟ فعاب على قرة روايته الحديث مصرحاً فيه بالسماع.
والمقصود أن تفضيل ابن مهدي لجرير بن حازم ـ مع ما اشتهر عنه من الوهم في صيغ الأداء ـ على قرة بن خالد يشعر بأن قرة يقع منه شيء من هذا القبيل، وإن لم يكن يخطىء كجرير في رفع الموقوف ووصل المرسل ونحو ذلك من الأوهام، إذ لم يذكر عن قرة شيء من ذلك، فلا بد من حمل عبارة ابن مهدي في قرة على أهون المحامل وهو عدم ضبط صيغ الأداء.
ثم إن إسماعيل بن أبي خالد – وهو أحفظ أصحاب الشعبي – من تلاميذ سيار أيضاً، وكذا زيد بن أبي أنيسة من تلاميذ سيار[123]، وبعيد أن يكون الحديث عند سيار عن الشعبي، ويرويه إسماعيل وزيد عن مجالد، فيحتمل أن سياراً إنما يرويه عن مجالد هو أيضاً ويحتمل أن قرة دلسه.
ومما يؤكد ذلك أن حافظ البصرة ابن أبي عاصم (ت287هـ)[124] قد ذكر حديث الشعبي عن فاطمة في قصة طلاقها فقال: (وممن رواه عن الشعبي: ابن بريدة وقتادة وسلمة بن كهيل وأبو إسحاق والمغيرة وإسماعيل بن أبي خالد وسيار وداود بن أبي هند ومجالد وأبو الزناد والأشعث وزكريا)[125].
ثم ذكر من روى حديثها في الدجال فقال: (ابن بريدة وقتادة وغيلان وداود بن أبي هند ومجالد)[126] فلم يذكر سياراً هنا وذكره هناك مما يدل على أنه غير معروف من حديث سيار، وإلا لذكره إذ هو أولى بالذكر من مجالد.
ويعتذر عن مسلم بأنه إنما أورده متابعة لحديث ابن بريدة.
(8) رواية عمران بن سليمان عن الشعبي:-
ولم يروها عنه إلا عيسى بن يونس، كما عند ابن حبان إلا أنها عنده من طريق عبد الملك بن سليمان القرقساني عن عيسى بن يونس عن عمران.
وهذا إسناد ضعيف معلول فقد ذكره العقيلي في الضعفاء وقال: (عبد الملك بن سليمان عن عيسى بن يونس حديثه غير محفوظ)[127].
ولم يخرج له ابن حبان في صحيحه إلا هذا الحديث، وعيسى بن يونس إمام حافظ روى عنه عشرات من الأئمة الحفاظ منهم علي بن المديني ويحيى بن معين ومسدد وأبو مسهر وابن أبي شيبة وغيرهم من الحفاظ الأثبات[128] الذين كتبوا حديثه فلا يقبل أن يتفرد عنه كمثل عبد الملك بن سليمان الذي ليس معدوداً في تلاميذه ولا معروفاً بالرواية عنه.
إلا أن الطبراني[129] رواه عن عبد الله بن الحسن الحراني ثنا عبد الله بن جعفر الرقي عن عيسى بن يونس به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات إلا أنه له علة، لأن عبد الله بن جعفر قد اختلط سنة 218هـ وظل يحدث حتى توفي سنة 220هـ وقال عنه النسائي: (ليس به بأس قبل أن يتغير)[130]، وقد ولد عبد الله بن الحسن سنة 206هـ[131] أي كان له اثنا عشرة سنة عندما اختلط ابن جعفر، وقد ذكر الخطيب البغدادي ما يدل على أنه قد سمع الحديث سنة 218هـ من النفيلي[132]، ولعله أول شيوخه، فيكون سماعه من ابن جعفر في حال اختلاطه قطعا، وعلى فرض ثبوت هذا الحديث عن عيسى بن يونس، فإن عمران بن سليمان غير معروف فقد ذكره البخاري[133] وابن أبي حاتم[134] فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان كعادته في ثقاته[135] وذكر أنه كوفي وقال عنه الأزدي: (يعرف وينكر)[136]، ولم يذكره العجلي في ثقاته مع أنه كوفي وهو أدرى وأعلم بأهل بلده من ابن حبان الذي اشتهر بتوثيق المجاهيل.
ثم إنه لم يصرح بالسماع من الشعبي في هذا الحديث بل رواه عنه معنعناً عند ابن حبان وعند الطبراني؟!
(9) رواية محمد بن أبي أيوب عن الشعبي:-
ولم يروها عنه إلا أبو نعيم الفضل بن دكين الحافظ واختلف عليه: فرواه الطبراني[137] عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم عن محمد به مطولاً وفي آخره ألفاظاً غريبة لم يتابع عليها ومنها أن الدجال كان مسنداً ظهره إلى الجبل وأنه زفر فسار في الجبل ثم وقع ثم سار ثم وقع… إلخ؟!
ورواه الداني[138] بإسناد صحيح من طريق الحافظ أحمد بن أبي خيثمة عن أبي نعيم عن محمد به مختصراً ولفظه: (خرج رسول الله e يوماً فجلس على المنبر فقال: هذه طيبة – يعني المدينة – لا يدخلها الدجال، ليس منها نقب إلا عليه ملك شاهر السيف).
ولا شك أن رواية ابن أبي خيثمة الحافظ[139] أولى من رواية عبد العزيز البغوي، فقد كان النسائي لا يروي عنه ولا يرضاه مع كونه ثقة[140] وذكر ابن حجر ما يدل على تساهله عند القراءة عليه.[141]
وقد جاء في روايته ألفاظ غريبة لا يتابع عليها. ومحمد بن أبي أيوب لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة شيئاً إلا مسلماً أخرج له حديثاً واحداً[142]، وقد قال عنه ابن حجر: (صدوق).[143]
(10) رواية أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي:-
وقد ذكره الدارقطني في غرائبه فقال (غريب من حديث سليمان الشيباني عن الشعبي ما كتبناه إلا عن ابن عقدة).[144]
وقد رواها الطبراني[145] من طريق عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن الشيباني به.
وعثمان بن أبي شيبة مع جلالته له أوهام ومناكير[146]، ومحمد متكلم فيه فقد قال ابن سعد: (بعضهم لا يحتج به)[147]وقال عنه ابن حاتم: (شيخ)[148] أي في (المنـزلة الثالثة يكتب حديثه وينظر فيه)[149] وهذه العبارة تفيد تليين حال الراوي لا تمتينه وهي إلى التضعيف أقرب منها للتوثيق.[150]
وقد ذكر مسلم حديثاً رواه محمد بن فضيل فقال: (فأما رواية ابن فضيل فوهم كله برمته الإسناد والمتن)[151] وقد قال عنه ابن حجر: (صدوق)[152] ،وقد تابعه على هذه الرواية أسباط بن محمد كما عند ابن منده[153] بإسناد لا بأس به من طريق أسباط عن الشيباني به، وأسباط أيضاً متكلم فيه قال عنه يحيى بن معين: (ثقة والكوفيون يضعفونه)[154]،وقال عبد الله بن المبارك في شأن محمد بن فضيل وإسباط بن محمد: (لا أرى أصحابنا يرضونهما)[155] وقد ذكره العقيلي في الضعفاء وقال: (ربما يهم في الشيء)[156]ومع ما فيهما من ضعف فإنه لم يصرح أحد منهما بالسماع من الشيباني ولا ذكرا سماعاً بين الشيباني والشعبي، وهما كوفيان وقد قال يزيد بن هارون: (قدمت الكوفة فما رأيت بها أحداً إلا وهو يدلس إلا مسعر بن كدام وشريكاً)[157] وقال الحاكم: (أكثر المحدثين تدليساً أهل الكوفة).[158]
ومما يدل أن هذا الحديث مدلس على الشيباني أن في آخره زيادة في الإسناد عن الشعبي عن ابن أبي هريرة عن أبيه وعن محمد بن القاسم عن عائشة بنحو حديث فاطمة، وهذه لا تعرف إلا من رواية مجالد كما سيأتي بيانه، وهذه المطابقة والمشابهة كافية في إثبات تدليسه عن مجالد.[159]
فهذه الطرق العشرة هي أمثل طرق حديث الشعبي، وقد ذكر الطبراني طرقاً أخرى كوفية لا تخلو من متروك أو منكر ، وليس في هذه الطرق العشرة طريق واحد يداني طريق مجالد في شهرته إذ رواه ستة من الثقات عنه، بينما لم يروه عن كل واحد من التسعة الباقين إلا راو واحد؟!! وأكثرها لا يكاد يثبت عمن روي عنه، بل إن أصح هذه الروايات وهي رواية ابن بريدة التي احتج بها مسلم وقدمها على سائر الروايات لم يروها عن ابن بريدة إلا حسين المعلم ولم يروها عن المعلم إلا عبد الوارث ولم يروها عن عبد الوارث إلا ابنه عبد الصمد على الصحيح؟!
وهذا يكشف مدى شهرة رواية مجالد وأن الحديث محفوظ عنه مشهور به، وأن الحديث حديثه، تواطأ على روايته عنه الأئمة الحفاظ، ورواه عنهم أصحاب المسانيد والمصنفات، بل إنه مشهور عن إسماعيل بن أبي خالد (ت 146هـ) ومجالد (144 هـ) ربما قبل أن يولد عبد الصمد (ت207هـ)؟‍‍!
وبعيد كل جدا أن يشتهر حديث كل هذه الشهرة عن ضعيف كمجالد وهو يوجد عند غيره من الثقات، ومن عرف حال أهل الحديث كسفيان بن عيينة ويحيى القطان وعنايتهم بجمع الحديث وتتبعه علم يقينا أنه لا يقع مثل ذلك عنده أبدا، وإنما لما اشتهر من حديث مجالد عن الشعبي، صار بعض الرواة يحدثون به ويدلسونه.
ثم إنه ليس في هؤلاء العشرة من هو معدود من أصحاب الشعبي إلا أربعة، وسيأتي بيان طبقات أصحاب الشعبي ومراتبهم.

حاكم المطيري-دراسة لحديث الجساسة(تخريج روايات حديث الشعبي عن فاطمة)8\1


سياق الإمام مسلم لحديث فاطمة في صحيحه: قال (حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، وحجاج بن الشاعر كلاهما عن عبد الصمد (واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد)، حدثنا أبي عن جدي، عن الحسين بن ذكوان، حدثنا ابن بريدة، حدثني عامر بن شراحيل الشعبي، شعب همدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس، وكانت من المهاجرات الأول، فقال: حدثيني حديثاً سمعتيه من رسول الله e لا تسنديه إلى أحد غيره. فقالت: لئن شئت لأفعلن، فقال لها: أجل حدثيني. فقالت: نكحت ابن المغيرة، وهو من خيار شباب قريش يومئذ فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله e فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحاب رسول الله e، وخطبني رسول الله e على مولاه أسامة بن زيد، وكنت قد حدثت أن رسول الله e قال: ((من أحبني فليحب أسامة)) فلما كلمني رسول الله e قلت: أمري بيدك. فأنكحني من شئت. فقال: ((انتقلي إلى أم شريك)) وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله، ينزل عليها الضيفان، فقلت: سأفعل. فقال: ((لا تفعلي. إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمر بن مكتوم)) (وهو رجل من بني فهر، فهر قريش وهو من البطن الذي هي منه) فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي، منادي رسول الله e ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله e فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله e صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك فقال: ((ليلزم كل إنسان مصلاه))، ثم قال: ((أتدرون لم جمعتكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفؤا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ؟ قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم ؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة. فقال: أخبروني عن نخل بيسان. قلنا: عن أي شأنها تستخبر ؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر ؟ قلنا له: نعم. قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر. قال: أخبرني عن بحيرة الطبرية. قلنا: عن أي شأنها تستخبر ؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء. قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زغر. قالوا: عن أي شأنها تستخبر. قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا له: نعم. هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل ؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب ؟ قال: نعم. قال: كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك ؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وأني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة. فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحداً منها استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت: قال رسول الله e وطعن بمخصرته في المنبر ((هذه طيبة. هذه طيبة. هذه طيبة )) يعني المدينة ((ألا هل كنت حدثتكم ذلك )) فقال الناس: نعم. ((فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو. من قبل المشرق ما هو. من قبل المشرق ما هو )) وأومأ بيده إلى المشرق. قالت فحفظت هذا من رسول الله e.
ـ حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد بن الحارث الهجيمي، أبو عثمان حدثنا قرة، حدثنا سيار أبو الحكم، حدثنا الشعبي قال: دخلنا على فاطمة بنت قيس فأتحفتنا برطب يقال له رطب ابن طاب، وأسقتنا سويق سلت، فسألتها عن المطلقة ثلاثاً أين تعتد ؟ قالت: طلقني بعلي ثلاثاً، فأذن لي النبي e أن اعتد في أهلي. قالت فنودي في الناس: إن الصلاة جامعة، قالت: فانطلقت فيمن انطلق من الناس، قالت: فكنت في الصف المقدم من النساء وهو يلي المؤخر من الرجال، قالت: فسمعت النبي e وهو على المنبر يخطب فقال: ((إن بني عم لتميم الداري ركبوا في البحر)) وساق الحديث وزاد فيه: قالت: كأنما انظر إلى النبي e، وأهوى بمخصرته إلى الأرض، وقال: ((هذه طيبة)) يعن المدينة.
ـ وحدثنا الحسن بن علي الحلواني وأحمد بن عثمان النوفلي. قالا: حدثنا وهب بن جرير. حدثنا أبي. قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: قدم على رسول الله e تميم الداري فأخبر رسول الله e أنه ركب البحر، فتاهت به سفينته فسقط إلى جزيرة، فخرج إليها يلتمس الماء، فالتقى إنساناً يجره شعره، واقتص الحديث. وقال فيه، ثم قال: أما إنه لو قد أذن لي في الخروج قد وطئت البلاد كلها غير طيبة، فأخرجه رسول الله e إلى الناس فحدثهم قال: ((هذه طيبة وذاك الدجال)).
ـ حدثني أبو بكر ابن إسحاق، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا المغيرة (يعني الحزامي ) عن أبي الزناد، عن الشعبي عن فاطمة بن قيس، أن رسول الله e قعد على المنبر فقال: ((يا أيها الناس حدثني تميم الداري أن أناساً من قومه كانوا في البحر في سفينة لهم فانكسرت بهم، فركب بعضهم على لوح من ألواح السفينة فخرجوا إلى جزيرة في البحر)) وساق الحديث.[3]
تخريج طرق الحديث عن الشعبي : وقد رواه عن الشعبي كل من :
أولا : مجالد بن سعيد عن الشعبي: وقد رواه عنه كل من :
1 ـ سفيان بن عيينة : رواه عنه الحميدي[4] ، والطبراني.[5]
2 ـ يحيى بن سعيد القطان : رواه عنه أحمد[6]، والطبراني.[7]
3 ـ حماد بن أسامة : رواه عنه إسحاق وابن أبي شيبة.[8]
4 ـ علي بن مسهر : رواه عنه ابن أبي شيبة.[9]
5 ـ إسماعيل بن أبي خالد : رواه أبو داود[10] ، وابن ماجه[11]، والآجري من طرق عنه.[12]
6 ـ زيد بن أبي أنيسة : رواه الطبراني.[13]
ثانيا : داود بن أبي هند عن الشعبي :
رواه أحمد[14]، والنسائي[15] ، وابن حبان[16]، والطبراني[17] كلهم من طرق عن حماد بن سلمة عنه.
ثالثا : عبد الله بن بريدة عن الشعبي:
رواه مسلم[18] وأبو داود[19]، كلاهما من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريده.
رابعا : قتادة عن الشعبي :
رواه إسحاق بن راهويه والترمذي[20]، كلاهما من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة به.
خامسا : عمران بن سليمان عن الشعبي:
رواه ابن حبان[21]، من طريق عبد الملك بن سليمان القرقساني عن عيسى بن يونس عن عمران به.
سادسا : أبو الزناد عبد الله بن ذكوان :
رواه مسلم[22]، والطبراني[23]، من طريق يحيى بن بكير عن المغيرة الحزامي عن أبي الزناد به.
سابعا : غيلان بن جرير عن الشعبي :
رواه مسلم[24]، والطبراني[25]، كلاهما من طريق وهب بن جرير عن أبيه جرير بن حازم عن غيلان به.
ثامنا : سيار العنزي عن الشعبي :
رواه مسلم[26]، والطبراني[27]، من طريق خالد بن قرة عن سيار به.
ومن خلال تخريج الحديث يظهر مدى شهرته عن مجالد بن سعيد حيث رواه عنه ستة من الحفاظ الأثبات الثقات، بينما الروايات عن غيره لم تشتهر عمن رووها بل عامتها غرائب كما سيأتي بيانه!

الأحد، 26 مايو 2013

طلب عدم ذكر إسمه-حول موضوع شهادة المرأة في الإسلام



بسم الله الرحمن الرحيم

باديء ذي بدء أنا كمسلم أعتبر القرأن هو مصدري الرئيسي للتشريع الإسلامي. وبالتالي من الضروري الرجوع إلي القرأن لحسم أي موضوع. في ما يختص بموضوع شهادة المرأة في الإسلام لاحظت أن معظم القائلين بالرأي السائد أن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل لا يذكر أية شهادة المرأة كاملة من أولها. قيل أن أية الشهادة هي:
وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى
إقتطاع الأيات القرأنية من سياقها أمر في منتهي الخطورة. حين يقرأ القاريء العادي الأية أعلاه يظن أولا أن كلمة الشهادة هنا المقصود بها الشهادة علي عمومها ، بما في ذلك الشهادة الجنائية مثلا حين يشهد بعض الناس جريمة من الجرائم وهكذا.‫ كما قد يظن أن المعني عام وغير مرتبط بأي ظروف أو شروط. ولكن قد يتضح خلاف ذلك إذا ذكرنا الأية بالكامل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 
إقرأوها معي واحدة واحدة:

الأية بالكامل خاصة بصكوك الدين محددة المدة. من الواضح أن هذه هي الحالة الوحيدة التي يوضح فيها الله أن الشهادة لرجلين أو لرجل وإمرأتين. إذا هي حالة خاصة تماما ولايجوز تعميم ذلك علي أي نوع أخر من أنواع الشهادة. فمقولة أن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل هكذا علي عمومها مقولة لا أساس لها من القرأن. ولكن ماذا نفعل في قوم إتخذوا هذا القرأن مهجورا لايقرأوه ولا يفقهوه.

طيب السؤال الأن يصبح : حتي في حالة صك الدين ، لماذا شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل؟

يقول الله ما معناه إنه في حالة إستدانة شخص من أخر مبلغا من المال مستحقا في زمن لاحق يجب عليهم أن يدونوه علي ورق حتي لا ينسي أو يتناسي أحدهم مستقبلا. ثم يأمر أن يكتب الصك شخصا ثالثا وليس أحد الشخصين ويجب أن يكون هذا الشخص الثالث شخصا عادلا يثق فيه الدائن والمدين. السؤال الأول هنا لماذا يجب أن يكون الكاتب شخص ثالث؟ ولماذا يجب أن يكون عادلا؟ ألا يكفي ان يكتب أحد الإثنين الصك ويراجعه الأخر قبل أن يوقع عليه؟ ويتضح الكلام أكثر في قوله أن من عليه الحق يقوم بالإملاء علي الشخص الثالث. الإجابة هنا تتضح إذا تذكرنا أن هذه الأيات نزلت علي شعبا لا يقرأ ولا يكتب. فالغالب في جزيرة العرب في هذه الفترة هو الجهل بالكتابة ولذلك يأمر الله أن يكون كاتب الدين شخصا ثالثا ويملي عليه الكلام.

إذا ننطلق من هنا أن النص يوضح أسوأ حالة ممكنة وهي جهل الدائن والمدين. فماذا نفعل إذا كان الدائن والمدين رجلين يعرفان القراءة والكتابة؟ هل يجب عليهم أن يأتوا بشخص ثالث ليكتب صك الدين أم يقوم أحدهم بذلك ويراجع عليه الأخر؟ الإجابة أن الحكم يسقط بإنتفاء العلة. فإذا كانت العلة لحكم إستحضار الشخص الثالث هي جهل الدائن والمدين فإن هذا الحكم يسقط في حالة إنتفاء الجهل عنهم.
الشق التالي من الأية يقول ما معناه: فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لايستطيع أن يمل فيقوم بالإملاء وليه ، بمعني من ينوب عنه ، وإستشهدوا ...السؤال الأن يتعلق بحرف الواو في كلمة وإستشهدوا. هل هذه الواو تعود علي ماسبقها؟ بمعني هل يطلب الشهود فقط في حالة أن يكون الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لايستطيع أن يمل وذلك بالإضافة إلي الولي؟ وإن لم يكن الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لايستطيع أن يمل فلا ضرورة للولي ولا ضرورة للشهود. أم أن هذه الواو تعود علي ما سبق ذلك؟ في ظني أنها الأولي وان إستدعاء الشهود مرتبط بسفه أو ضعف الذي عليه الحق حفاظا للحق.

أري ذلك نظرا لتسلسل الكلام:إذا تداينتم ... فإكتبوه ...وليكتب .... ولا يأب ... وليملل ...كلهم مرتبطين بكتابة الدين ، وهو الشق الأول.

ولكن

فإن كان ... فليملل ... وإستشهدوا ...مرتبطين ببعضهم البعض وهي حالة سفه أو ضعف الذي عليه الحق.
ثم يأمر الله أن يكون الشهود رجلين أو رجل وإمرأتان . لماذا؟ نرجع إلي علة كتابة الدين الأساسية وهي جهل الدائن والمدين. إذا كان الرجال من الجهل بحيث لايستطيعون حتي كتابة صكا فما هو حال النساء؟ كيف كان حال النساء في عهد التنزيل؟ الإجابة : هو أسوأ حال ممكن تصوره من جهل وتخلف. إذا العلة في حكم الرجل والمرأتين هي جهل المرأة ، إذا إنتفت العلة إنتفي الحكمفإذا تحققت نفس الظروف اليوم ولكن برجال ونساء متعلمين يجيدون القراءة والكتابة إنتفت العلة ولم يكن هناك داعي حتي للشهود طبقا لعلة الشق الأول من الأية.

أضف إلي ذلك تطور الحضارات. اليوم حينما يستدين شخصا من الأخر بإمكانهم تسجيل هذا الدين قانونيا وبالتالي فإن ما عرضناه من نص الأية بالكامل سقط حكمه بإنتفاء علته.
سقوط الحكم لإنتفاء العلة هي قاعدة فقهية منطقية ، أتصور أن أول من طبقها هو الصحابي الجليل عمر بن الخطاب وقد طبقها في موضعيين: الأول إلغائه لسهم المؤلفة قلوبهم ، والثاني هو تعطيله حد السرقة في عام المجاعة.
والله أعلم
ملحق‫ 1:


بعد نشر المقال أعلاه تفضل أحد قرائنا وأضاف النقاط التالية‫:

هنا استكمال الطرح

صديقك تحدث عن اية واحدة لكن الشهود في الاسلام هم 4 شهود عدل في الجرائم
وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا
واضح تحديد الشهود بأربعة ولا يوجد اي ذكر لان كانوا رجال ام نساء
ارجو ايضا مراجعة سورة النور، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
هذه جريمة القذف وبالمثل في جرائم السرقة ، القتل الي اخره فهل اذا شهد جريمة القتل سيدات فقط فلن يتم الاعتراف بالجريمة !!!!! هل سوف يتم انتظار السادة الرجال لحضور جريمة شنعاء
هناك حالة اخري تعلو فيها شهادة السيدة علي شهادة الرجل : اليك الايات التالية من سورة النور
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ

الزوج هنا اقر انه شاهد زوجته تخونه ولكن شهادتها تجب شهادته
حالات اخري
مرة اخري نأتي الي شهادة الاثنين
يا ايها الذين امنوا شهادة بينكم اذا حضر احدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم او اخران من غيركم ان انتم ضربتم في الارض فاصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله ان ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله انا اذا لمن الاثمين
هنا مطلوب شهادة اثنين سمعوا وصية من احد الاشخاص قبل ان يموت ، فهل اذا كان من حضر موت احد الاشخاص هو والدته واخته او زوجته وانته لا تقبل شهادتهم اذا كان موثوقا في صدقهم !!!!! من يكون عادة حاضر موت احد الاشخاص اليس الاقرب اليه، هل لو كانوا كلهم من النساء لن تقبل شهاتهم، اعتقد انه هذا ما لا يتفق مع القرآن كتاب الله 

ملحق 2‫:

أيضاً تفضل أحد القراء بالأتي‫:

هذه الآية تتحدث عن دين خاص، في وقت خاص، يحتاج إلى كاتب خاص، وإملاء خاص، وإشهاد خاص..وهذه الآية –في نصها- استثناء [.. إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها]..ثم إنها تستثنى من هذه الحالة الخاصة الإشهاد على البيوع، فلا نقيدها بما قيدت به حالة هذا الدين الخاص..ثم إنها تتحدث، مخاطبة، لصاحب الدين، الذي يريد أن يستوثق لدينه الخاص هذا بأعلى درجات الاستيثاق.. ولا تخاطب الحاكم –القاضي- الذي له أن يحكم بالبينة واليمين، بصرف النظر عن جنس الشاهد وعدد الشهود الذين تقوم بهم البينة.. فللحاكم –القاضي- أن يحكم بشهادة رجلين.. أو امرأتين –أو رجل وامرأة.. أو رجل واحد.. أو امرأة واحدة.. طالما قامت البينة بهذه الشهادة..ومن يرد الاستزادة من الفقه الإسلامي في هذه القضية –التي يجهلها الكثيرون- فعليه أن يرجع إلى آراء شيخ الإسلام ابن تيمية [661-728هـ 1263-1328م] وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية [691-751هـ 1262-1350م] في كتابه [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية] ص 103، 104 طبعة القاهرة سنة 1977م.ز ففيه –وفق نص ابن تيمية- وأن ما جاء عن شهادة المرأة في آية سورة البقرة، ليس حصرًا لطرق الشهادة "وطرق الحكم التي يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر لنوعين من البينات في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه.. فالآية نصيحة لهم وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم، وما تحفظ به الحقوق شيء وما يحكم به الحاكم شيء، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين..".
ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل [164-241هـ 780-855م] إن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين فيما هو أكثر خبرة فيه، وأن شهادة المرأة تعدل شهادة رجلين فيما هي أكثر خبرة فيه من الرجل.. )

سانب-الحاج متولي وزوجاته الأربعة (حول تعدد الزوجات في الإسلام)



في أثناء حوار دار بيني وبين أحد الأصدقاء منذ أيام حول تعدد الزوجات في الإسلام تذكرت بشيء من الأسي المسلسل التليڤزيوني الشهير ‫"‫الحاج متولي‫"‫ الذي صَوَّرَ للمشاهد ‫، ولأول مرة في تاريخ الفن المصري ‫، تعدد الزوجات بشكل إيجابي‫.‫ قام المسلسل علي فكرة بسيطة جداً‫: إذا كان تعدد الزوجات قائم علي مبدأ العدل بينهن فهاهو الحاج متولي يتزوج بأربع نسوة ويعدل!‏ وتبدو الحياة بسيطة وسهلة ‫، بل وجميلة‫ ومطلوبة‫.‫ وفي أثناء ذلك كله لم يرو المسلسل ‫، أو أي ممن عَلَّقُوا عليه من النقاد ‫، أن تعدد الزوجات له شرط أخر ‫، بل شرط مقدم علي شرط العدل بين الزوجات‫!‏
من جهة أخري ‫، ظهرت قريباً بعض الحوارات حول تعدد الزوجات في الجرائد المصرية ‫أثارت حفيظة بعض المعلقين الذين إتهموا المحاورين بالخروج عن صحيح الدين‫ ‫، ذاكرين أن التعدد ثابت في الإسلام بالأية الكريمة‫:
‫(‫‫انكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)‫

وهي أية مشهورة جداً يحفظها الكثيرون‫ ‫كما ذكرناها (‫خاصةً الرجال ‫، ولا عجب‫‫)‫.‫ ولاتجد من يتحدث عن التعدد في الإسلام إلا مستدلاً بهذه الأية‫.‫ والعجب العجاب أن هذه الأية الكريمة ‫، مرويةً هكذا ‫، هي في الواقع مقطوعة من سياقها!‏ بل أكثر من ذلك هي ليست أية كاملة بل جزء من أية‫!‏ يقول سبحانه في سورة النساء

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا * وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)‫

قرأت هذه الأيات كاملة لأول مرة ‫قراءة المدقق‫ منذ بضعة سنوات وإنتابتني الدهشة الشديدة!‏ ما علاقة الزواج بأكثر من واحدة باليتامي وأموالهم‫؟ بطبيعة الحال ذهبت إلي التفاسير المعتمدة لأجد إبن كثير مثلاً يقول

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم ‫‫[‫.‫‫.‫‫.‫‫]  وقوله: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ)‫ ، أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رجلاً كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ)‫ أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. ثم قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ)‫ ، قالت: يابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.

وهو رأي الجماعة‫.‫ ويروي الإمام الرازي أوجه أخري أقل شهرة في فهم هذه الأية فيقول

الوجه الثاني: في تأويل الآية: انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب ‫(‫الإثم‫)‫ الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى، فتحرجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء، فقالوا عدد المنكوحات، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج.
الوجه الثالث: في التأويل: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات.
الوجه الرابع: في التأويل: ما روي عن عكرمة أنه قال: كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام، فاذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ)‫ عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف، فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع، والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما، فكأنه تعالى قال: فان خفتم من الأربع فثلاث، فان خفتم فاثنتان، فان خفتم فواحدة، وهذا القول أقرب، فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير.

‫‫[ملحوظة هامة‫: الفقرة السابقة منقولة حرفياً من كتاب الإمام الرازي والأية ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ) مذكورة هكذا في كتابه ‫، هذا بالطبع ليس قرأناً ولكنه قراءة تفسيرية كما إعتاد بعض الأقدمون‫]
ويقول السيوطي في كتابه ‫"‫إعراب القرأن‫"‫‫ بالوجه الرابع أيضاً ثم يضيف عليه‫:
الوجه الخامس‫: وإلى هذا الوجه أشار أبو علي بعدما حكى عن أبي العباس في كتابه في القرآن تعجب الكسائي من كون ‫"‫فانكحوا ما طاب لكم‫"‫ جواباً لقوله‏: ‫"‫وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي‫"‫‏‏.‏ قال‏:‏ وقاله أبو عبيد وليس هذا الجواب فإنما الجواب في قوله‏:‏ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم كأنه قال‏:‏ فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏.‏ فقال أبو علي‏:‏ جواب إن خفتم الفاء في فواحدة كأنه في التقدير‏:‏ إن خفتم ألا تقسطوا إن كثرت عليكم مؤن الزوجات وأحوجتهم إلى مال اليتامى‏.‏ أي‏:‏ فانكحوا واحدة‏.‏ وقوله‏: فإنكحوا ما طاب‏ اعتراض بين الشرط والجزاء مثل قولك‏:‏ إن زيداً - فافهم ما أقول - رجل صدق‏.‏ قال‏:‏ ولما كان الكلام باعتراض الجملة المسددة للشرط كرر الشرط ثانياً فقيل‏:‏ فإن خفتم ألا تعدلوا وهو قوله‏:‏ وإن خفتم ألا تقسطوا‏.‏

طبقاً لهذا فإن علاقة اليتامي بالزواج هي أحد ما يلي‫:

الوجه الأول‫: إذا كان عندك يتيمة تربيها فأردت زواجها بدون أن تعطها مهراً فقف عندك ولا تفعل‫ وتزوج من عداها من يحلو لك من النساء حتي أربع‫ ‫(‫وقيل تسعة وقيل أيضاً ثماني عشر‫)‫.‫
الوجه الثاني‫: إذا خفتم عدم العدل في اليتامي فبنفس المنطق خافوا عدم العدل بين الزوجات‫.‫
الوجه الثالث‫: إن خفتم عدم العدل في اليتامي فبنفس المنطق خافوا الزنا‫.‫
الوجه الرابع‫: في حالة تعدد الزوجات لا يكون الإنفاق عليهن بمال اليتامي اللائي تحت مسئوليتكم‫.‫
الوجه الخامس‫: أن معني الأية هو ‫"‫‫ فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏"‫ وتكون ‫"‫فإنكحوا ما طاب‫‫"‫ جملة إعتراضية بين الشرط وجوابه‫.‫‫

والحقيقة أن هذه الأوجه لتثير عندنا بعض التساؤلات‫.‫

الوجه الأول مثلاً ‫، وهو رأي الجماعة ‫، يفسر الأية علي أنها جملة شرطية‫:

إن خفتم ‫(‫شرط‫)‫ ‫.‫‫.‫‫.‫ ‫فإنكحوا‫ ‫(‫جواب الشرط‫)‫

وهو ما سنتفق فيه معهم ‫، ولكن سنختلف في معني ذلك‫.‫ فالمعني المقصود هنا ‫، في نظرهم ‫، هو أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأكثر من واحدة إلا في حالة ما أن تكون له يتيمة يربيها وأراد زواجها بلا قسط ‫(‫عدل‫)‫ في مهرها ‫، فهنا عليه أن يتركها ويتزوج بأخريات‫.‫ نلاحظ أن الجملة علي هذا الوجه شرطية ‫، أي أنها تنهي عن التعدد إذا لم يتحقق الشرط‫!‏ ونحن نتفق في عامة هذا ولكننا سنختلف في معناه ‫، كما سيرد‫.‫ ويثير عجبنا أيضاً علي أنه علي الرغم من وضوح هذا المعني عند من يقولون به فإنهم يتناسون وجود هذا الشرط ويبيحون تعدد الزوجات مطلقاً بلا قيود ‫، عدا شرط العدل الذي هو شرطاً نسبياً من الصعب تقنينه‫.‫ أي أننا لم نسمع أحداً يقول‫: يا أيها المسلمون حرام عليكم الزواج بأكثر من واحدة إلا إذا كان لديكم ربيبة يتيمة تربونها وكنتم في ما سبق راغبين في الزواج منها بقصد عدم العدل في مالها‫.‫ ومن يعدد بلا وجود ربيبة فهو زان‫‫.‫ أليس هذا هو معني الشرط بالأية‫؟ لم لا يقولون بهذا إذاً‫؟ هناك أيضاً من التساؤلات الكثير في هذا الفهم‫.‫ مثلاً ‫، إذا كان اليتامي المقصودون هنا من الإناث فلماذا لم يقل ‫"‫إن خفتم الا تقسطوا في اليتيمات‫"‫‫‫؟ وإذا كن هؤلاء اليتيمات هن المقصودات بالزواج فلم رجع وقال ‫(‫‫وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ) ‫، ألم يكن هؤلاء اليتامي بالغات للنكاح من الأصل ولذلك فقد حرم نكاحهن بلا قسط في مهورهن‫؟

فلنستمر

الوجهان الثاني والثالث نري فيهم الشيء العجاب‫.‫ فهي تفسيرات غير قائمة علي المعني اللغوي للأيات‫.‫‫ لأن الله سبحانه لم يقل ‫(‫إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فخافوا ألا تعدلوا بين الزوجات أو فخافوا الزنا‫)‫ بل قال ‫(‫إن خفتم ألا تقسطوا ‫.‫‫.‫‫.‫ فإنكحوا‫)‫ أي أن النكاح ‫(‫الزواج‫)‫ هو جواب الشرط هنا‫.‫ ولا يصح أن نقول ‫(‫كما قال بعض الجاهلون بأصول اللغة‫)‫ أن جواب شرط ‫"‫إن‫"‫ محذوف‫.‫ فإن ذلك لا يليق‫.‫ جواب الشرط يكون محذوفاً عند وضوح المعني‫.‫ فمثلاً يصح أن نقول ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‫"‫ فجواب الشرط هنا هو ‫"‫إنكحوا‫"‫ أي أن المعني هو ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فإنكحوا واحدة‫"‫ ‫، وحذف جواب الشرط لوضوح المعني‫.‫ أما أن نقول أن جواب الشرط محذوفاً ولا نعرف ما هو فنسمح لأنفسنا بوضع أي كلام مكانه فهذا ما لايليق بمحاولة فهم كلام الله‫.‫ فلا يصح مثلاً أن نقول ‫أن أية ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‫"‫ جواب شرطها المحذوف هو ‫"‫إقتلوا‫"‫ ‫(‫مثلاً‫)‫ فهو إقحام علي المعني ما ليس فيه‫.‫ وهكذا فإن الإدعاء أن جواب الشرط في أية التعدد هو ‫"‫خافوا‫"‫ مثلاً أو شيئاً من هذا القبيل هو إقحام علي كلام الله ما ليس به‫.‫

أما الوجه الرابع فغريب أيضاً لأن معناه أن التعدد هنا حدث أولاً ثم تلاه واقعة الخوف من القسط في اليتامي ولكن الله سبحانه أوضح في الأيات أن الخوف من القسط في اليتامي هو أمر سابق لنكاح التعدد وليس لاحق‫‫.‫

أما الوجه الخامس الذي ذكره السيوطي فلا تعليق عليه فهو ‫، في ما نري ‫، لّي لعنق المعني لا جدال فيه‫.‫ وأغلب المفسرون إختلفوا مع السيوطي في ذلك علي كل حال‫.‫

والتفاسير الحديثة عاد‫ةً ما تأخذ بالوجه الأول في تفسير الأية ‫، فيقول الشعراوي مثلاً

‫(‫‫أى فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء. ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل: اترك واحدة وخذ واحدة، لكنه أوضح: اترك اليتيمة وأمامك النساء الكثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجىء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولى عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة ؛ لأن النساء غيرها كثيرات)

وقال ما شابه ذلك الألوسي في روح المعاني وسيد قطب في الظلال وكذلك طنطاوي في الوسيط‫.‫ ولم يذكر أحداً منهم أن وجود الشرط في الأية يَجُب ما عداه ‫، أي أنه يَحْرُم أن يعدد الرجل ما لم يتحقق لديه شرط الخوف من القسط في اليتامي!‏ ونحن نجد ذلك غريباً لوضوح الشرط في الأية‫.‫‫

ولكننا إذاً نتفق مع غالبية المفسرين أن أية التعدد أية شرطية واضحة‫:

إن خفتم ‫(‫شرط‫)‫ ‫.‫‫.‫‫.‫ ‫فإنكحوا‫ ‫(‫جواب الشرط‫)‫

وقال بهذا الغير قليل من علماء اللغة أيضاً ‫، أنظر مثلاً النحاس في كتابه ‫"‫إعراب القرأن‫‫"‫

‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ..‫)‫ [3‫]
 شرط أي إِن خفتم ألاّ تِعدِلُوا في مُهُورِهِنّ في النفقة عليهن ‫(‫فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ‫)‫ فدلّ بهذا على أنه لا يقال: نساء إِلا لمن بلغ الحلم. واحدُ النساء نسوة ولا واحد لنسوة من لَفظه ولكن يقال: إمرأة. ويقال: كيف جَاءت "ما" للآدميين ففي هذا جوابان: قال: الفراء: "ما" ههنا مصدر وهذا بعيد جدّاً/ 45 أ/ لا يصحّ فانكِحوا الطيبة وقال البصريون: "ما" تقع للنعوت كما تقع "ما" لما لا يعقل يقال: "ما عِندكَ؟" فيقال" ظريف وكريم فالمعنى فانكِحُوا الطيب من النساء أي الحلال وما حَرّمهُ الله فليس بطيب. ‫(‫مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ‫)‫ في موضع نصب على البدل من "ما" ولا ينصرف عند أكثر البصريين في معرفة ولا نكرة لأن فيه عِلّتين إِحداهما أنه معدول.

ونتساءل نحن‫: الشرط عادةً ينفي ماعداه ‫، فإذا قلنا مثلاً ‫"‫‫إن خاف عادل من المرض فلا يأكل من الباعة الجائلين"‫‫.‫ الشرط هو ‫"‫الخوف من المرض‫"‫ وجوابه هو ‫"‫عدم الأكل‫"‫ ولذا يكون المعني أن عدم الأكل لا يقع إلا في حالة الخوف‫.‫ أي أن إذا كان التعدد مشروطاً فلا يصح ‫، بل لا يحل ‫، التعدد إن لم يتحقق شرط ‫"‫الخوف من القسط في اليتامي‫"‫‫.‫ ومن هنا نقول أن من يتزوج بأكثر من واحدة من غير أن يحقق الشرط هو زاني‫!‏!‏

ولكن هذا مما يثير مشكلة جديدة‫.‫ من الواضح أن قصة الربيبة في حجر وليها هذه حالة خاصة جداً ‫، وإن سلمنا أنها كانت حالة منتشرة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فهي ليست كذلك الأن‫.‫ فنحن لا نري ‫"‫اليتامي في حجر أوليائهم‫"‫ مما يتكرر كثيراً في مجتمعاتنا الحديثة‫.‫ وفي هذا قولان‫‫:

القول الأول‫:

أن ينتفي الحكم مع إنتفاء العلة ‫، كما القاعدة الفقهية المشهورة ‫، أي أنه في حالة عدم وجود ‫"‫ربيبات في حجر أوليائهم‫"‫ فإن ذلك مما ينفي رخصة التعدد ويصبح التعدد حراماً وزنا ‫، وتنتهي المشكلة عند هذا الحد‫.‫‏

القول الثاني‫:

أن نجد للأية معني أخر ملائماً للعصر ‫، أي أن نُسَّلِمْ ‫، كما يري كاتب هذه السطور ‫، أن النص ثابت والفهم متغير ‫، بمعني أن أيات القرأن لها من المعاني الكثير ‫(‫القرأن حمال أوجه كما قال الإمام علي كرم الله وجهه‫)‫ يفهمها الناس بحسب مجتمعاتهم وعصورهم‫.‫ وأن كلها معانٍ صحيحة ‫، لأن الصواب والخطأ نسبيان ومتغيران‫.‫ فنجد مثلاً الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يغير متعمداً في أحكام الزكاة بلا نص قرأني أو من أقوال الرسول لأنه فهم كما فهمنا‫. ومن هنا تسقط حجة القائلون بأن فهم الصحابة للقرأن هو الفهم الوحيد الصحيح الواجب إتباعه حتي يرث الله الأرض ومن عليها‫.‫ ولاشك عندنا أن هذا هو مقصد الله سبحانه وتعالي وأصل القول أن القرأن لكل زمان ومكان‫.‫

ماهو إذاً هذا المعني الأخر‫؟ هو ما قاله عدد من المفكرين ‫، مثال ذلك مؤخراً الدكتور أحمد السايح أستاذ الدراسات الإسلامية والعالم الأزهري الكبير‫.‫ فالأيات

‫(‫‫يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا * وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًاْ)

‫تدور حول اليتامي كموضوع أساسي وتضع فيه قواعد إجتماعية عميقة الأثر وبالغة المعني‫.‫ فالله سبحانه وتعالي يبدأ كلامه العزيز بأمر الناس بإتقاءه ثم يسترسل بوضع حجر الأساس في الموضوع كله ‫، ألا وهو إيتاء اليتامي ‫(‫ذكوراً وإناثاً‫ ‫، وإلا كان قال ‫"‫يتيمات‫"‫)‫ حقوقهم وأموالهم‫.‫ ثم يقول أنه إذا كان هناك خوف من العدل في اليتامي فحل ذلك هو الزواج بأكثر من واحدة‫.‫ فما علاقة هذه بتلك‫؟ اليتيم لغةً هو من فقد والده وليس أمه ‫، ويسمي يتيماً في طفولته حتي يبلغ النكاح‫.‫ فنري أن المقصود هنا هو وضعاً إجتماعياً راجحاً في كل مكان وزمان ‫، ألا وهو وجود نسوة فقدن أزواجهن تاركين لهن يتامي ‫، ويأمرنا الله بالعدل والقسط في هؤلاء اليتامي ‫، فإن خفنا عدم العدل فحل ذلك هو الزواج من أمهاتهم لرعاية هؤلاء اليتامي مع إضافة شرط أخر وهو العدل بين هؤلاء الزوجات‫.‫ فإن خاف الرجل عدم العدل بينهن فعدم التعدد أولي‫.‫ ويضيف ‫"‫أو ما ملكت أيمانكم‫"‫ أي الإماء اللائي يحل وطئهن سواء كان ذلك بوجود شرط اليتامي أو لا ‫، ودلالة ذلك قوله ‫"‫أو ما ملكت‫"‫ وليس ‫"‫وماملكت‫"‫‫.‫ ثم يستسرسل ‫"‫ذلك أدني ألا تعولوا‫"‫ ‫و العول هو الجور والظلم‫.‫

شرط التعدد الأساسي إذاً ‫، في رأينا ‫، هو إعالة أيتام الزوجة الثانية والثالثة والرابعة‫.‫ فالتعدد بفتاة بكر لا أطفال لها في ظل هذه الأيات محرم‫.‫ بل نستمر فنقول أن التعدد من نساء لديهن أطفال أيتام ولكن هؤلاء الأطفال ليسوا بحاجة إلي رعاية محرم أيضاً‫.‫ فالشرط ليس وجود اليتامي ‫، بل هو الخوف من القسط في اليتامي ‫، فإذا إنتفي الشرط سقط جوابه ‫ورُفِعَ الحكم بإنتفاء العلة‫.‫ في عصرنا هذا مثلاً نجد الكثير من البلاد بها جهات رسمية ترعي الأيتام وتراقب حقوقهم المادية والمعنوية ‫، ولا حاجة لهذه الأمم لمثل رخصة التعدد هذه ‫، فمن هذا الوجه أيضاً يصبح التعدد حراماً‫.‫ أما قوله ‫"‫ما طاب لكم‫"‫ فهو ما يعطي للرجل الحق في إنتقاء الزوجة الثانية‫‫\الثالثة‫\الرابعة من أمهات الأيتام بحسب ما يري ‫، فهي ستكون زوجةً له بكل ما في الكلمة من معاني المودة والرحمة‫‫.‫

في جميع الأحوال ‫، سواء أخذنا بالقول الأول الموجود في التفاسير أو القول الثاني فالتعدد مشروط ولا يحل علي إطلاقه‫.‫ أي أن زواج الحاج متولي من فتاة بكر يعد زواجاً باطلاً تحت أياً من القولين!‏ ونحن إذ نرجح القول الثاني نظراً لوضوح سياق الأيات وعموم العلة علي القول الأول الخاص بعلة خاصة جداً ولا تتكرر كثيراً ‫، فإننا لا مانع عندنا من قبول القول الأول‫.‫ في الحالتين التعدد يصبح حالة خاصة ولا يصح إطلاقه‫ بلا رابط بحجة مقدرة الرجل علي العدل‫ ‫، الذي هو الشرط الثاني ‫، مهملين الشرط الأول والأساسي ‫، بل ما هو أساس هذه الفقرة من سورة النساء بأكملها.‫

نختتم هذا المقال بذكر رأي الشيخ محمد رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده في تفسيره حيث قال‫ ‫[مابين قوسين من عندي‫]:
‫"‫وقد يصح أن يقال أنه يجوز أن يراد بالأية ‫[إن خفتم ‫.‫‫.‫‫.‫‫] مجموع تلك المعاني ‫[يقصد الأوجه المختلفة التي أوردناها ‫، عدا رأينا‫] من قبيل رأي الشافعية الذين يجوزون إستعمال اللفظ المشترك في كل ما يحتمله الكلام من معانيه وإستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معاً‫.‫ والذي يقرره كاتب هذا الكلام ‫[رشيد رضا‫] في دروس التفسير دائماً هو أن كل ما يتناوله اللفظ من المعاني المتفقة يجوز أن يكون مراداً منه لا فرق في ذلك بين المفردات والجمل ‫، وعلي هذا تكون الأية مرشدة إلي إبطال كل تلك الضلالات والمظالم التي كانت عليها الجاهلية في أمر اليتامي وأمر النساء‫"‫

ويسترسل الأستاذ رشيد رضا ذاكراً رأي أستاذه الإمام الذي كان ميالاً إلي رأي الجماعة في هذا الموضوع‫:

‫"‫وقد قال تعالي في أية أخري من هذه السورة (‫ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‫)‫ ‫[‫.‫‫.‫‫.‫‫] فمن تأمل الأيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها ‫[فقط‫] بشرط الثقة التامة بإقامة العدل والأمن من الجور‫ ‫، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب علي التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات‫"‫

ويستمر الأستاذ رشيد في كتابه الرائع في شرح مذهب الأستاذ الإمام حول هذا الموضوع ‫، قائماً علي ما عهدناه منهما من عقلانية في فهم النص الإلهي‫.‫

أياً كان فمن الواضح أن تعدد الزوجات رخصة ضيقة التطبيق سواء كانت علتها ما ذهب إليه المفسرون أو ما ذهبنا إليه من إجتهاد‫.‫ وهذه الرخصة لا يؤثم تاركها ‫، فهي ليست فرضاً بأي حال من الأحوال ‫، فإذا رأي ولي الأمر ‫، أي القانون الوضعي ‫، أن يقيد أو يمنع التعدد تماماً فلا جناح عليه في ذلك إن تحقق أن الدولة بقوانينها الوضعية تستطيع أن تطبق شرط اليتامي ‫، أياً كان معناه ‫، وتحفظ لكل يتيمٍ أو يتيمةٍ حقهما‫.‫

والله أعلم

*******************************
ملحق‫:
إطلعت بعد إنتهائي من كتابة الموضوع علي رأي المفكر السوري عدنان الرفاعي في موضوع تعدد الزوجات ‫‫(‫‫http://www.thekr.net/thekr/books/t3ddalzawgat.doc)‫ وملخصه إعادة تفسير كلمة ‫"‫يتامي‫"‫ في الأية ‫"‫‫ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى ‫.‫‫.‫‫.‫"‫ بمعني اليُتم الأصلي وهو التفرد ‫، ويفسرها الرفاعي بأنها الزوجات المتفردات اللائي لا يجدن نكاحاً ‫(‫العوانس‫)‫ ‫، وهنا يُصرح لرجال المسلمين بالتعدد لتغطية أعداد العوانس الزائدة‫.‫ وعلي الرغم من تحليل الرفاعي المنطقي فإني أجد في هذا الرأي بعض الثغرات ‫، من أهمها إستخدام نفس الكلمة في الأيات السابقة واللاحقة وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ‫.‫‫.‫‫.‫"‫ ‫ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ .‫‫.‫‫.‫"‫ بمعناها المعتاد بصورة واضحة ‫، ومن هنا لا يكون من المنطقي ‫، علي الأقل ترجيحاً ‫، أن تُذكر كلمة اليتامي ثلاث مرات متتابعة في سياقٍ واحد بمعنيين مختلفين‫.‫