١- التدوين
يقول الكاتب أولاغي
" لو تم غزو إيبريا عربياً سنة 711م لكان كثير من المؤرخين الذين عاصروا تلك الفترة شهدوا على هذا الحدث الكبير ولو فرضنا أن الحرب الأهلية أتلفت جميع الشهادات لكان ينبغي أن تشير أخبار القرن التالي -يعني الثامن الميلادي- إلى هذا الحدث الكبير ولو في نص واحد على الأقل "
و عندما يتعلق الأمر بغزو ما فلا يمكن أن يكون دور الغزاة غامضاً فالغزاة والمغزوون هنا متمايزون بشكل واضح الغزاة من شعب غريب يحملون عادات ومفاهيم ثقافية تنتمي إلى حضارة أخرى يجهلها أبناء البلد المغزو و لكن لم يظهر شيء من هذا القبيل في مانعرفه من تلك الحقبة و أما الأخبار التي نقلها ابن حبيب و زملاؤه في القرن التالي عن رواة القاهرة فلم تنتشر وتترسخ في الرأي العام إلا ثمرة جهود استمرت قروناً طويلة وحتى بعد مئة سنة من نشر كتاب ابن حبيب لم يقبل الرواة البربر الذين نقَلوا معظم روايات الكتاب هذه النظرية و قالوا إن غزو إسبانيا تم فعلاً و لكن من قبل المراكشيين ! و كان يجب الانتظار حتى القرن الثاني عشر -الميلادي- لتتخذ الخرافة -خرافة الغزو- بنية متآلفة وغير متناقضة
أما في الجانب الآخر فقد آثار ظهور الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا عقدة لدى المسيحيين الغربيين و يبدو أن الكنيسة الكاثوليكية قبلت هذه الخرافة في النهاية على مضض "
٢- عبور مضيق طارق
" ينبغي القيام بمئة رحلة على الأقل لنقل رجال طارق السبعة آلاف في ظروف عادية وشعب بحريٌّ وحده من مثل أبناء مدينة قادش Cadés على نحوٍ أساسي يستطيع أن ينجز مثل هذه العملية و خاصة أن شعب هذه المدينة وهي ساحلية تقع جنوب إسبانيا- كان يقوم برحلات إلى انكلترا منذ الألف الثالث قبل الميلاد بحثاً عن القصدير و فضلاً عن أن بحارة قادش تمكنوا من الإبحار بمحاذاة شاطئ إفريقيا الغربي وربما توصلوا إلى الدوران حول إفريقيا "
يضيف أولاغي "أن هؤلاء البحارة هم الذين ساعدوا "الفاندال Les Vandales" الجرمان على الانتقال في الاتجاه المعاكس وبعد مرحلة من الانحطاط البحري كان بحارة قادش مازالوا قادرين في أوائل القرن الثامن على امتلاك زوارق تستطيع نقل الجيوش
و السؤال هو : لماذا أدّى هؤلاء الأندلسيون هذه الخدمة إلى الذين جاؤوا لإخضاعهم فلو سلّمنا أن "طارق" خدع الإيبيريين و نجح في إخفاء نواياه فلماذا ساعد هؤلاء البحارة موسى بن نصير في نقل الدعم لطارق بعد بضعة أشهر؟! "
٣- احراق المراكب
إنه رأى أن الشكوك تحوم حول هذه الرواية كلها التي تشبه الخيال المسرحي فقصة إحراق المراكب إنما رواها أول من رواها الإدريسي في "نزهة المشتاق" وابن الكردبوس و هما من القرن الهجري السادس ثم رواها "الحميري" صاحب "أرض المعطار" بعدهم فلماذا لم يذكرها المؤرخون السابقون على مدى خمسة قرون سابقة؟ والعملية نفسها تروى عن عدد من القواد الذين سبقوا طارقاً ومنهم كما يذكر الدكتور مصطفى "أرياط الحبشي" الذي عبر البحر إلى اليمن والقائد الفارسي الذي رافق سيف بن ذي يزن إلى اليمن و"أسد بن الفرات" فاتح صقلية إلخ"ولماذا يحرق طارق السفن ولا يأمرها بالعودة إلى ساحل المغرب؟" "وكيف يحرق أسطولاً لا يملكه؟!"
٤- ممر الجزيرة Algeciras
يقول أولاغي" في الواقع يشكل هذا الممر فخاً حقيقياً يساوي الدخول فيه تسليم الرأس إلى العدو و أما مدينة اسيغا فتقع على مسافة 160كم من مخرج هذا الممر والطريق إليها مزروعة بمدن مثل رندة Randa وأوسيما Osuma وغيرهم من مدن قوية منذ القدم قبل الفتح الروماني "
ويسخر أولاغي من الرواية عن احتلال قرطبة بواسطة سبعمئة فارس حصلوا على الخيول بعد نزولهم في إيبيريا قائلاً :
" هكذا إذن نجحت هذه الكوكبة من الفرسان في عمل باهر يعتبر فريداً في سجلات الحروب فقد استطاعوا احتلال أهم مدن إيبيريا تلك المدينة كان يحميها سور هائل بني في أواخر عهد الأمبراطورية الرومانية ولا يزال قسم منه منتصباً حتى الآن "
و هناك من ظنهم أكلة لحوم البشر وإذا كان "المقري" قد ذكر أن أهل مارده Merida ظنوا قوم موسى بن نصير انهم اكلة لحوم البشر ثم يقول متحدثاً عن مارده :
" كانت هذه المدينة من أهم مدن إيبيريا كان يسكنها أكثر من نصف مليون نسمة (ولابد أن العرب فقدوا عقولهم أمام عظمتها) وقد ظلت حتى القرن الثامن مركزاً حضارياً هاماً خصوصاً بعماراتها الأنيقة ولم تكن قرية مأهولة بسكان جهلة ولم يكن من الممكن خداعهم بحيلة : تغيير لون اللحية..! "
وثمة فكرة أخطر وأهم كثيراً مما تقدم جميعاً يقدمها أولاغي نقلاً عن "أخبار مجموعة" فهو يقول :
" عندما نزل موسى بن نصير في مدينة الجزيرة Algeciras أخبروه عن الطريق التي اجتازها طارق فأعلن عدم رغبته باللحاق به فقال له المسيحيون الذين يلعبون دور الدليل : " نقودك في طريق أفضل من طريقه حيث تجد مدناً أكثر أهمية من المدن التي استولى عليها "
و يتابع أولاغي " لم يعرف العرب أين يذهبون فالمسيحيون هم الذين يقترحون لهم الأفكار و أما "الغزاة" فكانوا تحت رحمة السكان المحليين فلو كان هؤلاء المسيحيون السكان يشعرون بالعداء إزاء هؤلاء الغزاة الأجانب، فكيف يتطوعون ليدلوهم على طريق أفضل ويخبروهم عن مدن أهم للاستيلاء عليها !؟ "
٥- معركة بواتبه
" ألا يمكننا الافتراض أن أولئك الفرسان الذين اندفعوا في غزواتهم حتى مدينة بواتيه والذين تدّعي الروايات أنهم عرب لم يكونوا إلا من سكان جبال البيرنة و لم يعرفوا إلا تحت أسماء عربية !؟ "
ويصل هذا المؤرخ الإسباني في هذا الاتجاه إلى حدود المبالغة فيقول :
" حوالي سنة 755م توصل محارب شجاع إلى احتلال قرطبة و السيطرة على الأندلس و نقلت الروايات البربرية اسمه و سكتت عنه الروايات اللاتينية و لقّبه العرب بالمهاجر ثم بالداخل من أجل تدعيم هيبته و نفوذه ثم من أجل مداهنة ذريته التي درج الناس على مدحها ومصانعتها ثم ينتهي أولاغي إلى هذا الاستنتاج المدهش :
" يقول المؤرخون التقليديون إن عبد الرحمن كان من ذرية خلفاء دمشق الأمويين بينما نحن نعلم أنه نموذج جرماني أشقر اللون فاقعه و حافظت ذريته على هذه الخصائص خلال قرنين من الزمن : بشرة فاتحة اللون و عيون زرقاء و شعر شديد الشقرة و إن استمرار هذه الخصائص الفيزيولوجية في ذرية الأمير "العربي" لفتت أنظار المؤرخين الأندلسيين المسلمين وقد فسّر بعضهم هذا الأمر مستنداً إلى ما يقوله كُتّاب الأخبار البربر حول أن أُمّه كانت بربرية ( من قبائل الطوارق الذين يحملون هذه الفيزيولوجية الجرمانية )
ينتهي أولاغي إلى أن عبد الرحمن الداخل " لم يكن أموياً ولا سامياً ولا بربرياً وهذا ما يؤكده السياق التاريخي تماماً و كما يؤكد أن الغزو العربي لم يحدث مطلقاً "
و يذهب أولاغي أبعد من هذا فيذكر أنه " كان على كل رجل عظيم أن يعود في أصوله إلى العرب و الإيبيري الذي لم يكن بإمكانه ادعاء الرجوع بأصوله إلى الرسول (ص) كي لا ينافس أمراء قرطبة اكتفى باتخاذ إبراهيم وهاجر جدَّين له "
وهو يجزم أن اثنين من أعلام الأندلس هما من أصل إيبيري فيكتب :
" أما الإيبيريون التوحيديون الأحاديون فكانوا قد بدؤوا منذ القرنين التاسع والعاشر يتخذون أسماء عربية والأمثلة كثيرة خصوصاً في صفوف كبار كتاب العربية الذين نعرف بصورة أكيدة أصلهم الإيبيري : ابن حيان وابن حزم اللذين لا خلاف حول أصلهما الإيبيري "
في النهاية فإن إغناسيو أولاغي يرفض رفضاً قاطعاً فكرة غزو العرب شبه الجزيرة الإيبيرية فالعرب والمسلمون لم يفتحوا إسبانيا عسكرياً و قد حدث التحول إلى الإسلام في الأندلس عبر حركة الأفكار و تصارعها ثم هيمنة الفكرة-القوة على حد تعبير أولاغي و هي التي شكلت عصب الحضارة العربية الإسلامية في ثلاثة أرباع العالم
ويعود أولاغي إلى التأكيد على هذه المسألة فهو يقول :
" حسب الروايات العربية تمّ غزو إيبيريا من قبل سكان شبه الجزيرة العربية الذين استطاعوا بقوة السلاح أن يؤسسوا امبراطورية عظيمة و حسَب أقدم النصوص اللاتينية التي وصلتنا فإن الأمر لا يعدو كونه ثورة دينية كانت في بادئ الأمر محلية ثم انخرطت في حركة سياسية ثقافية حضارية واسعة النطاق، شملت نصف العالم آنذاك "
٦- سكان ايبيريا الاصليين
" لم يحدثنا التاريخ عنهم بعد سنة 711م مع هذا فإن عشرة ملايين نسمة -في أقل تقدير- لا يمكن أن يكونوا قد اختفوا هكذا بضربة ساحر ففي تلك الحقبة السعيدة لم تكن هناك وسائل إبادة جماعية و كان يلزم الفاتحين كثير من الوقت و العمل لجزر هذا العدد بالسيف "
ثم يتساءل تساؤلاً يجيء في موضعه :
" فإذا كان اجتياح أرض مسيحية من قبل "الكفار" قد بدا بهذه الضخامة بماذا نستطيع إذاً أن نصف اعتناق شعبها الإسلام وتمثله الحضارة العربية الإسلامية !؟ إما أن يكونوا قد قتلوا جميعاً و إما أنهم استرقوا عبيداً أو إنهم لجؤوا إلى الجبال أو ببساطة أن المؤرخين تجاهلوا وجودهم "
ثم يندفع أولاغي بثقة و قوة كي يضع النقاط على الحروف معتبرا أن الإيبيريين قد وضعوا أيديهم على نبض العصر حينذاك من خلال الإندفاعة الحضارية العربية التي كان الدين الجديد شعارها إنها لم تكن اندفاعة بدوية ولا غزواً تترياً :
" لماذا و كيف اعتنقت الجماعات الإنسانية التي كانت متمركزة في المقاطعات البيزنطية في آسيا ومصر وإفريقيا الشمالية و شبه جزيرة إيبيريا إيماناً جديداً و مفهوماً جديداً للوجود !؟ قد يسهل تحويل خرافة الغزوات العربية -المستحيلة جغرافياً- و تاريخياً إلى حقيقة ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن حضارة عربية إسلامية قد امتدت في جميع هذه الأصقاع "
- انتشار الاسلام في شبه الجزيرة
" تميزت التوفيقية الأريوسية بالإيمان بإله واحد يحمل بالنسبة لبعض المفكرين صفات الكائن الماورائي أو يرتدي هالة الأبوية المافوق أرضية و يراقب الناس وأعمالهم فيكافئ ويعاقب ولم يكن هذا المعتقد مجرداً ولا حتى خارقاً ولايتضمن قواعد تتجاوز المبادئ الطبيعية أو البيولوجية التي تشكل مجتمعاً سليماً و اضفت أهمية الموروث الثقافي الإيبيري على التوفيقية الآريوسية حساسية الانفتاح على جميع التيارات الثقافية الآتية أو التي ستأتي من أراضٍ بعيدة شرط أن تكون مشهورة بحضارة غنية وذات طاقة خلاقة "
"حين وصل دعاة الإسلام لم تختلف الخطوط الكبرى في إيمانهم عن تلك التي كانت في معتقد السكان الأصليين. ولعل نقطة الخلاف الوحيدة كانت وجود النبي (ص) وبعض قواعد في السلوك. وعبر السجال الفكري بين فقهاء مدرستين تكادان أن تكوّنا مدرسة واحدة، انزلقت التوفيقية. الآريوسية إلى التوفيقية الإسلامية. وهكذا دون صراع أو تواطؤ تم التبشير بصورة بطيئة وهادئة "
" لا نعرف الكثير عن سياق التعريب الذي عاشه الشعب، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن المثقفين من أنصار التوحيد الأحادي -يعني الأريوسيين- تركوا في تلك المرحلة اللغة اللاتينية ليتعلموا العربية، بهدف التميّز عن "الثالوثيين" والإطلاع على عقيدة تتفق وعقيدتهم في شأن الطبيعة الإلهية، وعلى الحضارة التي بدأت تزدهر في ظل هذه العقيدة. وشيئاً فشيئاً بدأت السياسة والحضارة تؤثران على الدين في فروعه العامة "
" فخلال النصف الأول من القرن التاسع كانت أقلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عباداتها بحرية كاملة"
و يستشهد أولاغي بما كتبه القديس إيلوج، وكان مسيحياً متعصباً عايش تلك الفترة فهو يقول :
" نعيش بينهم دون أن نتعرض إلى أي مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا "
ويتابع أولاغي:
" وبالفعل فإن كنائسهم حافظت على أبراجها وأجراسها وتوجد محتويات آخر هذه الكنائس واثني عشر ديراً في محيط المدينة "
" كذلك تمتع المسيحيون بامتياز المحافظة على حاكم مستقل و كان كونتاً أو قاضياً يدعى الرقيب وكان حرس الأمير من الطائفة المسيحية ولعب هذا الحرس دوراً هاماً في السياسة الإسلامية و احتل عدد من الأرثوذكس مناصب هامة في الدولة "