كان العرب في جاهليتهم وفي صدر الإسلام يهتمون بأنسابهم ويحفظونها عن ظهر قلب ، كانوا يفتخرون بهذه الأنساب ، ويصونونها من النسيان ، ويذكرونها في أشعارهم .
وتمكنوا بفضل هذه الطريقة أن يحفظوا لنا شيئا من نسبهم وتاريخهم ، نستطيع أن نستخرج منها حقائق تاريخية تفوق الدر في نفاستها ، ذلك لأن كل شيء في تاريخ العرب غال ونفيس ، وأخباره نادرة كندرة حبات الماس ، ونحتاج إلى صبر الباحثين عن الماس لنتمكن من إيجاد بعض نتف من تاريخهم
.
وبرغم اهتمامهم الكبير بأنسابهم فإنهم لم يحفظوا لنا كل نسبهم وتاريخهم ، فما يتذكرون من نسبهم سوى عشرين أبا ، من رسول الله (ص) إلى نزار ، وحتى هذا العدد القليل من الآباء ليس معروفا عند جميع القبائل ، فإن كان الرسول يحصي عشرين أبا حتى نزار ، فلأن قبيلته تعد من أغنى وأشهر قبائل الجزيرة ، بينما رجال ينتمون إلى بعض القبائل الأخرى قد لا يحصون إلا القليل منها أحيانا لا تزيد على العشرة ، فهو يحصي بعض آبائه المتأخرين ثم يلصقهم مباشرة بنزار ، إذ لا يعلم شيئا بين آبائه المتأخرين وبين نزار ، وكل ما يعلمه هو أن أباه المعروف عنده هو ابن القبيلة الفلانية المنتمية إلى شعب عدنان ، ويحدث هذا خاصة لتلك الجماعات التي هجرت قبائلها ودخلت في قبائل أخرى ، وهي كثيرة جدا.
أما ما وراء نزار الذي يعتبرونه خطأ ابنا لمعد بن عدنان إلى اسماعيل ابن ابراهيم عليهما السلام ، فهي فترة طويلة وبعيدة جدا لا يعلمون شيئا من نسبها ولا من تاريخها ، فكأن التاريخ يبدأ في شمال شبه جزيرة العرب من نزار ، وكأن لا شيء كان هناك قبل نزار ، وكأن الأب الثاني للعرب المستعربة بعد اسماعيل هو معد بن عدنان الذي جعلوه أبا لنزار، وكاد أن يكون معد بن عدنان لعرب الشمال كما كان نوح عليه السلام عند بني اسرائيل ، الأب الثاني للإنسانية ، وسموا أنفسهم بالعدنانيين .
والأمر المثير للإستغراب ، أن تتوقف أخبار العرب فجأة عند عصر نزار ، ولا ندري بعد ما السبب ، ولابد أن حدثا كبيرا جدا حدث قبل هذا العصر لا نعلمه ، هو الذي سبب في هذا الصمت العميق ، ويحتمل أن تكون البلاد قد أقفرت ولم تبدأ في العمران إلا من عصر نزار ، ونستشف ذلك مما نسمعه عن العرب العاربة أو البائدة من "طسم" و"جديس" وغيرها التي أبادتها صروف الزمن ولم تعد لها باقية ، أو على الأقل تكون البلاد قد تعرضت لحالة من الجهل والفقر والإضطراب شديدة لم تخرج منها حتى حان عصر نزار ، ولابد أن يكون وراء هذا الإحتمال أوذاك أو غيره أسبابه الوجيهة التي فرضته ، لكن معرفة ذلك لا مطمع فيه الآن إلا أن تظهر أثارة من علم ما زالت مطمورة في مكان ما من الأرض .
وبين نزار ومعد غموض شديد واضطراب في الأخبار لا تناسق فيها ولا تخضع لمنطق الأحداث ، وتتعب في جمع تلك الأخبار وتنظيمها فلا تجد سوى أشياء غير معقولة يجعلها الراوي قهرا معقولة ، وتستنتج أن معدا هو ابن ظروف معينة ، ونزارا ابن ظروف أخرى مغايرة ، وحاول الراوي الذي جعل معدا أبا لنزار أن يتكلف فيوفق بين تلك الظروف بأخبار لا يمكن لها الحدوث ، ويظهر أمر تلفيقها جليا .
ونفس الشيء جعله الراوي لجرهم التي جعلها تلد أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، ثم جعلها في الوقت نفسه تلد أبناء نزار ، مع العلم أن القرون التي بين نزار وإسماعيل تزيد عن عشرين قرنا . لقد اختلط الأمر على الراوي إذ لم يهتم بتواريخ الأشخاص الذين يؤرخ لهم ، فأصبح يتخبط خبط عشواء في أخباره ، وأصبح لا يدري كم يبعد عصر إسماعيل عن عصر نزار ، فيحكي حكاية واحدة تارة على جرهم نزار وتارة أخرى على جرهم إسماعيل ، وخلط القرون بذلك بعضها ببعض ، وسنرى أن جرهم هي قبيلة حديثة جدا كانت في عصر نزار في القرن الأول للميلاد ، ولم تكن موجودة في عصر إسماعيل السحيق .
وحاول العرب أن يقتحموا تلك المرحلة المجهولة ، مرحلة ما قبل نزار ، وتهافتوا في أمرها ، وكثر قيلهم وقالهم فيها ، وسردوا آباء للعرب حتى إبراهيم واختلفوا في أعدادها وأسمائها ، وكثرت الأخبار الكاذبة حولها ، ولم يعودوا يروون حولها سوى الأكاذيب ، حتى تبرم من ذلك بعض الأفاضل من الصحابة ، من أمثال عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، فحاولوا أن يجعلوا نهاية لهذه الظاهرة ولو بتأويل آيات وتلفيق أحاديث .
وقد ساق ابن سعد في طبقاته بعض اعترافات النسابة القدماء يعترفون فيها بجهلهم لنسبهم القديم ، نذكر بعضها :
قال عـــــــروة :" مـــا وجدنـــا أحـــدا يعـــرف مـــا وراء معـــد بـــن عدنـــان " ( الطبقات :1 /48)
وقال أبوبكر بن سليمان بن أبي حثمة : " مـــا وجدنـــا فـــي علـــم عالـــم ولا شعـــر شاعـــر أحـــدا يعـــرف مـــا وراء معـــد بـــن عدنـــان بثبـــت " . ( الطبقات :1 / 48 ) .
ونفس الإعتراف جاء في كتاب "أنساب الأشراف" للبلاذري ،: أن الشعبي قال :" إنمـــا حفظـــت العـــرب مـــن أنسابـــها إلـــى أدد " . وأدد هو أبو عدنان .
واقتنع البعض باستحالة معرفة آباء عدنان ، وساءهم أن يروا بعض الناس يعدون لعدنان بعض الآباء ، وزادهم سوء أن يجدوهم مختلفين كثيرا فيما بينهم ، مختلفين في عدد الآباء وفي أسمائهم ، فلم يصبروا على هذه الحالة ، واعتبروها من الهراء ، ومن الخوض في أشياء بغير علم ، فأخذهم الغضب أن يروا الناس يخوضون في شيء مجهول ، واعتبروا من يخوض في ذلك كذابا أو خراصا أو راجما بالغيب ، وحاولوا ردعهم وصرفهم عن ذلك وجعل حد لهذا الهراء ، فاتهموهم بالكذب صراحة ، ولما لم يكن من حقهم أن يتهموهم بالكذب بدون حجة مقبولة ، صنعوا لذلك حديثا على لسان عبدالله بن عباس زعموا أنه رواه عن رسول الله (ص) ، ليكون اتهامهم بالكذب لكل من يذكر نسب عدنان اتهاما مقدسا ينص عليه الدين ، وليجعلوا من تاريخ ما بعد عدنان قضية تحرم الشريعة الخوض فيها ، وليس هناك ردع أقوى من ردع الشريعة .
وهذا هو النوع من التحربف الذي أصاب ديننا في مهده ، إذ القوم كانوا شديدي التعصب لآرائهم ، مستميتين في فرضها وإيجاد الحجج المفحمة لها ، ويحمل ذلك التعصب الأعمى طائفة منهم إلى إقحام الرسول (ص) في الأمر ، ويجعلونه يسب مخالفيهم معهم ، فيوهمون الناس أنهم متمسكون برأي الرسول ، والحقيقة أنهم جعلوا الرسول متمسكا برأيهم ، وهكذا فهم يشهرون سلاح الكذب على رسول الله (ص) في وجوه مخالفيهم فيرهبونهم به ويرغمونهم على الصمت ، متجاهلين أن من تجرأ على رسول الله (ص) وافترى عليه كذبا ، فليتبوأ مقعده من النار ، مقنعين أنفسهم بأنهم لا يكذبون على رسول الله ، بل يكذبون له ولصالح دينه ومناصرته ، وهكذا وجدوا تبريرا مقبولا لديهم يصغر جريمة الكذب على رسول الله (ص) في أعينهم ويأتونها وضمائرهم مرتاحة ،فقالوا:
1ـ أخبرنا هشام بن محمد بن السائب ، أخبرني أبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، أن النبـــي عليـــه الصـــلاة والســـلام ، كـــان إذا انتســـب لـــم يتجـــاوز فـــي نسبــــه معـــد بـــن عدنـــان ثـــــم يمســـك ويقـــول : كـــذب النســـابون ، قـــال اللـــه عـــز وجـــل : " وقـــرونا بيـــن ذلـــك كثيـــرا " ( الفرقـــان 38 ) . قـــال ابـــن عبـــاس : لـــو شـــاء رســـول اللـــه (ص) أن يعلمـــه لعلمـــه . ( الطبقات :1 /47 ) . وهذا حديث موضوع على لسان رسول الله (ص) القصد منه كما قلنا إنزال الآخرين على رأيهم ، وجعل حد للخلاف .
وقد تناول السهيلي ( 508 ـ 581 ) في تفسيره لسيرة ابن هشام هذا الحديث بالتحقيق ، فاستنتج أنه كلام ابن عباس وليس كلام الرسول (ص) . فقد جاء في تاريخ ابن خلدون ما يلي : " وأما حديث ابن عباس أنه (ص) لما بلغ نسبه إلى عدنان قال : من هنا كذب النسابون ، فقد أنكر السهيلي روايته من طريق ابن عباس مرفوعا ، وقال : الأصح أنه موقوف على ابن عباس " ( تاريخ ابن خلدون : 3 / 6 ) .
2ـ عـــن عبـــد اللـــه بـــن مسعـــود ، أنـــه كـــان يقـــرأ :" وعـــادا وثمـــودا والذيــــن مـــن بعدهـــم لا يعلمهـــم إلا اللـــه " ( الفرقـــان : 38 ) ، كـــذب النسابـــون . ( الطبقات :1 / 47 )
وذكر ابن عبد البر بعض الذين يحرمون الخوض في نسب معد بن عدنان : كابن مسعود ( 32ـ / 33ه ) ، وابن عباس ( 3ـ / 68 )........، وعمـــرو بـــن ميمـــون الأودي ( توفى 75 ) ،ومحمـــد بـــن كعـــب القرظـــي ، إذا تلـــوا :" والذيـــن مـــن بعدهـــم لا يعلمهـــم إلا اللـــه " قـــالوا : كـــذب النســـابون . ( البداية والنهاية 2 / 181 ) .
وهكذا اتخذ عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وغيرهما من الصحابة ، ومن تبعهم ، آية قرآنية أو آيتين سلاحا أشهروه في وجه النسابين ، فنعتوهم بالكذب كلما خاضوا في نسب عدنان ، وهذه جرأة في التأويل لا تليق بابن مسعود ولا بابن عباس .
فالقرآن لم يقل وابراهيم واسماعيل والذين من بعدهما لا يعلمهم إلا الله ، بل قال : " وعادا وثمودا والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله " ، فعاد إرم أو الآراميون هم الذين ورثوا قوم نوح الهالك ، وثمود ورثوا قوم عاد ، ثم سكت القرآن ولم يخبرنا عمن ورث قوم ثمود ثم عمن ورث ورثة ثمود حتى ابراهيم عليه السلام ، هذه الفترة التي أتت بين ثمود وبين إبراهيم ، ولا ندري كم طولها ، هي فترة مجهولة أو حلقة مفقودة من سلسلة تاريخ الشرق الأوسط .
وقد حاول اليهود أن يملأوا فراغها بأخبار يظهر تناقضها لكل من نظر، ويبدو أن القرآن يزرع اليأس في اليهود وفي من ينحو منحاهم في محاولة كشف أخبار تلك القرون ، ويبدو أن الله عز وجل أخفى على الناس أحداث تلك الفترة ، وهذه حقيقة مهمة للمتدبرين يفهمون بها لم اضطربت الأخبار قبل ابراهيم عليه السلام ، ولم لم تغن آثار الحضارات المنبوشة من الأرض شيئا في توضيح تلك الفترة ، فالناس لا يفهمون شيئا عن الأقوام الذين أتوا قبل السومريين ، وحين نقرأ السومريين الذين كانوا معاصرين لإبراهيم (ع) أو أتوا قبله بقليل ، فإننا لا نستطيع أن نتوغل في تاريخهم كثيرا ، أي لا نستطيع أن نتوغل في الفترة التي أتت مباشرة قبل إبراهيم (ع) ، وكل ما قبل هذه الفترة مضطرب وغير واضح .
لكن الله لم يخفي أحداث ما بعد ثمود إلى يوم القيامة ، كلا بل لما ظهر ابراهيم أخذ الله يتحدث لأنبيائه عنه وعن من أتى بعده ، والجميع يعلم ابراهيم وأبناءه والأسباط وعشرات من الأنبياء كلهم أتوا بعده ، وقوم لوط وقوم شعيب والفراعنة وغيرها من الأقوام التي أتت بعد إبراهيم (ع) . إن القرون المجهولة التي يعنيها القرآن هي القرون التي أتت بعد عاد وثمود وانتهت بعهد ابراهيم الذي ختم الملل وآتانا بالملة الحنيفية التي نحن عليها الآن ، والذي تحدث القرآن عنه كثيرا .
وقد عارض ابن عبد البر (368 ـ 463 ) من قبل تأويل ابن مسعود وقال : والمعنى عندنا غير ما ذهبوا ، والمراد أن من ادعى إحصاء بني آدم فإنهم لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم ، وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها ، واختلفوا في بعض فروع ذلك . ( البداية والنهاية 2 / 180 ) .
فأبو عمر بن عبد البر رآها أنها تعني عدد الناس وليس عدد القبائل ، وهو بذلك جانب الصواب أكثر مما جانبه ابن عباس وابن مسعود ، فهي تعني بصراحة واضحة جدا الأقوام كأقوام عاد وثمود ، غير أنها لا تعني جميع الأقوام الذين أتوا بعد عاد وثمود إلى يوم القيامة ، بل إلى عهد ابراهيم حين بدأ القرآن يتحدث من جديد ، وحين بدأت الكتب السماوية السابقة تتحدث بتفصيل .
وتهيب جل المؤرخين الذين أتوا فيما بعد من أن يخوضوا في هذا النسب البعيد ، وكان من بينهم ابن سعد صاحب الطبقات ، إذ صرح في كتابه قائلا :
" ولـــم أر بينهـــم اختـــلافا أن معـــدا مـــن ولـــد قيـــذر بـــن اسماعيـــل ، وهـــذا الإختـــلاف فـــي نسبتـــه يـــدل عـــلى أنـــه لـــم يحفـــظ ، وإنمـــا أخـــذ ذلـــك مـــن أهــــل الكتـــاب وترجمــوه لهـــم فاختلفـــوا فيـــه ، ولـــو صـــح ذلـــك لكـــان رســـول اللـــه ( ص ) أعلـــم النـــاس بـــه ، فـــالأمر عندنـــا علـــى الإنتهـــاء إلـــى معـــد بـــن عدنـــان ، ثـــم الإمســـاك عمـــا وراء ذلـــك إلـــى اسماعيـــل بـــن ابراهيـــم . ( الطبقات :1 / 49 ) .
قال السهيلي : " أما مالك رحمه الله ، فقد سئل عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم ، فكره ذلك وقال له : من أين له علم ذلك ؟ ، فقيل له : فإلى إسماعيل ؟ ، فأنكر ذلك أيضا وقال : ومن يخبره به ؟ ، وكره أيضا أن يرفع نسب الأنبياء ، مثل أن يقال ابراهيم بن فلان بن فلان ، هكذا ذكره المعيطي في كتابه " . ( البداية والنهاية 2 /180 ) . فتلاحظ هنا أن مالك رحمه الله لم يضطر إلي تأويل آية كما فعل ابن نسعود ، ولا وضع حديث على لسان الرسول كما فعل ابن عباس ، بل اكتفى بالمنطق السليم المقنع ليصد به الخوض في ما لا يمكن أن يعلموه ، وهذا هو السلوك الصائب الي يجب على الناس أن يقتدوا به .
قال ابن دريد ( 223 ـ 321 ) : وانتسب النبي (ص) إلى عدنان وقال : "كذب النسابون" . فما بعد عدنان فهي أسماء سريانية لا يوضحها الإشتقاق . ( الإشتقاق : 3 ) ، فابن دريد له منهاج فريد في دراسة التاريخ ، يعتمد فيه على أسماء الرجال الذين دخلوا التاريخ وعلى تفسيرها وفهم معانيها ، وهو منهاج عظيم الفائدة مساعد على الوصول إلى الحقيقة ، لا يمكننا الإستغناء عنه ، ولما تصدى لأسماء آباء عدنان وجدها أسماء ليست عربية ، بل هي سريانية غريبة عن جزيرة العرب ، فبدلا من أن يستأنف بحثه لعله يكتشف حقيقة جديدة ، إذ ربما سيقذف به البحث إلى أن يجد آباء قريش سريانيين ، فزع من الأمر واتهم تلك الأسماء بأنها كاذبة وأن ذلك خارج عن نطاق تخصصه ، فقفل سجل البحث دون أن يستغل تلك الفرصة التي لاحت له ، فحرمنا بذلك من علم تعطشت له القلوب كثيرا .
ومقابل هذا الإتجاه الشاجب لمن يخوض في نسب عدنان ، كان هناك اتجاه مناقض لا يرى أي بأس في الكلام عن نسب عدنان ، وهو اتجاه تتزعمه أم سلمة ( 28 ق.ه ـ51ه ) ، زوج الرسول (ص) ، وذلك بروايتها لحديث عن رسول الله (ص) أنه قال :" معد بن عدنان بن أدد بن يرى بن أعراق الثرى " ، فكان هذا الحديث ، رغم ما فيه من المجاز وتجاهل لعدد كبير من الآباء ، فقد كان حجة ضد حديث ابن عباس بأن الرسول (ص) إذا ذكر نسبه ووصل إلى عدنان أحجم ، فهو عند أم سلمة لم يحجم ، بل أضاف أربعة آباء آخرين ، ففتحت أم سلمة بذلك بابا لمن يريد أن يخوض في نسب معد بن عدنان .
وقد أضافت كريمة بنت المقداد صوتها إلى صوت أم سلمة ففندت هي كذلك ما ادعاه غيرها من أن رسول الله ( ص ) كان لا يتعدى معدا في عرضه للنسب ، وذلك بروايتها لنفس الحديث الذي روته أم سلمة :
أخبرنـــا هشـــام بـــن محمـــد ، قـــال : وحدثنـــي محمـــد بـــن عبـــد الرحمـــن العجـــلاني ، عـــن مـــوسى بـــن يعقـــوب الزمعـــي ، عـــن عمتـــه ، عـــن أمهـــا كريمـــة بـــنت المقـــداد بـــن الأســـود البهـــراني ، قالـــت : قـــال رســول اللـــه ( ص ) :" معـــد بـــن عـــدنان بـــن أدد بـــن يـــرى بـــن أعـــراق الثـــرى " ( انظر الحديث في المستدرك ، والمعجم الصغير ، ودلائل النبوة ، والبداية والنهاية ، وكنز العمال ) .
وقـــال الزبيـــر بـــن بكـــار : حدثنـــي يحيـــى بـــن المـــقداد الزمعـــي عـــن عمـــه مـــوسى بـــن يعقــوب بـــن عبـــد اللـــه بـــن وهـــب بـــن زمعـــة ، عـــن عمتـــه أم سلمـــة زوج النبـــي ( ص ) قالـــت : سمعـــت رســـول اللـــه (ص) يقـــول :" معـــد بـــن عدنـــان بـــن أدد بـــن زنـــد بـــن يـــرى بـــن أعــــراق الثـــرى " ، قـــالت أم سلمـــة : فزنـــد هـــو الهميســــع ، ويـــرى هـــو نبـــت ، وأعـــراق الثــــرى هـــو اسمـــاعيل بـــن ابراهيـــم . ( الطبري:
وهكذا اختلف صحابي عالم ، هو عبد الله بن عباس (3ـ / 68 ) ، وأم المؤمنين ، هي أم سلمة ( 28 ق.ه ـ 51 ) ، حول حكم من يخوض في أنساب العرب بعد عدنان ، الصحابي حديثه ينكر الخوض فيه ، وأم المسلمين حديثها يقر ذلك ، وهكذا انقسم الناس قسمين .
ويبدو أن هذا التعارض بين الحديثين شجع البعض على الخوض في نسب ما وراء معد بن عدنان ، منهم أبو عبد الله المصعب الزبيري ( 156 ـ 236 ) ،في كتابه نسب قريش ، فقد نقل عن ابن شهاب : معد بن عدنان بن أدد بـــن الهميســـع بـــن أشجـــب بـــن نابـــت بـــن قيـــدار بـــن اسمـــاعيل بـــن ابراهيـــم خليـــل اللـــه ( ص ).
ومنهم كذلك ابن هشام ( توفى . 213 ه ) ، فقد سرد نسب رسول الله ( ص ) منه حتى آدم ، مرورا بعدنان ثم ابراهيم ثم نوح عليهم جميعا السلام ، دون أن يتحفظ عما يقول ودون أن يلتفت إلى أن هناك نهي من رسول الله ( ص ) عن ذلك ، وبعد أن سرد سلسلة النسب من محمد ( ص ) إلى آدم ، قال : " وإنا إن شـــاء اللـــه مبتـــدئ هـــذا الكتـــاب بذكـــر اسماعيـــل بـــن ابراهيـــم ، ومـــن ولـــد مـــن ولـــده واولادهـــم لأصلابهـــم الأول فـــالأول مــــن اسماعيـــل إلـــى رســـول اللـــه ( ص ) " ، ذكر هذا دون خوف ولا تردد من أن يتجرأ على نهي رسول الله (ص) .
وذكر السهيلي بعض الذين يرون رأيه في إباحة الخوض في نسب معد فقال : إنما تكلمنا في رفع هذه الأنساب على مذهب من يرى ذلك ولم يكرهه ، كابن اسحاق ، والبخاري ، والزبير بن بكار ، والطبري وغيرهم . ( البداية والنهاية 2 / 180 ) . مما نفهم منه أنه كان يرى هناك مذهبين مفروضين ومتناقضين في ميدان التاريخ ، مذهب يحرم الخوض في تاريخ ما قبل عدنان ، ومذهب يدعو إلى الخوض فيه .
ونحن ضد المذهب الذي يمنعنا من الإهتمام بعصر عدنان ، لأن حججه أولا واهية متعسفة ، ولأنه يحرمنا من فرصة إيجاد شيء ما قد يلقي بعض الضوء على ذلك العصر المظلم ، ويحرمنا من الأمل في إمكانية ربطه بالعصر الذي قبله والعصر الذي بعده ، فنحقق بعض الإستمرارية والإنسجام لأحداث تاريخنا الهزيل . خاصة وقد لاحت لي بعض الملامح في كتب التاريخ قد نستخرج منها حقائق تفوق الدر في نفاستها ، قد تتمكن من أن تنفي غموضا وحيرة قاتلتين نعاني منهما تجاه هذا العصر .