المؤمن حين يخوض تجربته الإيمانية ، ويشرع في تقمص طباع العبودية ، ويجتهد في الإنسلاخ من نفسه وأمانيه ورغباته ومخاوفه ، ومن أفكاره التي تتوالد من أمانيه ورغباته ومخاوفه ، ويجتهد في تبصره لإرادة الله وقوته القاهرة التي ترغم كل شيء ولا يقف شيء أمامها ، حتى إذا أبصرها وظهرت له مظهر العين ، اجتهد في لباسها وتقمصها والتحرك وفقها والتدريب عليها ، وهو بهذه التجربة سيتميز عن الناس جميعا مثلما يتميز الجندي عن الناس حين يدخل سلك الجندية تماما .
وأثناء خوضه لهذه التجربة الرائعة العظيمة ، فإنه سيجد في طريقه مشكلة عويصة ، هي مشكلة العجز عن الوصول .. فهو قرر أن ينسلخ من أمانيه ورغباته ومخاوفه ، وهو يهفو إلى ذلك ويحاول ، لكنه لا يتوصل تماما إلى التخلص من أمانيه ورغباته ومخاوفه ، فيجد نفسه دائما خليطا من الإستجابة لإرادة الله ومن الإستجابة لرغبات نفسه ، يجد نفسه يتراوح بين النداءين اللذين يناديانه من داخله : نداء الله ونداء النفس . فهو قرر أن ينسلخ تماما من رغبات النفس نحو الإستسلام لإرادة الله القاهرة وتقمصها ، لكنه يجد أن لنفسه قوة لا يستهان بها ، فهي لديها وسائلها الخاصة تستعملها مع صاحبها الذي يتنكر لها ويعصيها ويتحفز إلى طلاقها لتسترجعه وتثنيه عن عزمه .
وهكذا يقضي حياته كلها في مجاهدتها ، فيفلح في إيقافها ما دام يجاهدها ، لكنه لا يفلح أبدا في القضاء عليها . وإذا فترت مجاهدته لها وغفل قليلا عنها ، فإنه لن يشعر إلا ونفسه قد استدرجته وعرته ـ في صمت وغفلة منه ـ من لباس الله ، وألبسته لباسها ، فيعود من جديد إلى حالته الأولى قبل أن يبدأ تجربته الإيمانية ، فيصبح شعوره مثل شعور الجندي الذي طرد من ثكنة الجندية ، يشعر أنه لم يعد يعيش قرارات رئيسه ، وأنه عاد إلى حضيضه ليكون مثل الناس من جديد ، لهذا نصح أحد المتصوفين المجاهدين لأنفسهم قائلا :" وحاسب النفس على الأنفاس " .
هذه هي حالة المؤمن الصادق مجملا ، التقوى تعريه من إرادة نفسه وتلبسه إرادة الله ، والتقوى تضعف وتقوى ، وسلوك المؤمن يتكون حسب ضعف التقوى وقوتها .
والرسول عليه ألف صلاة وسلام ، أكثرنا تبصرة وفهما لقوة الله القاهرة ، أكثرنا وأكثر من صحابته فهما بأن الله غالب على أمره بينما نفسه مغلوبة على أمرها ، أكثرنا ركونا إلى قوة الله القاهرة واستسلاما لها وتوكلا عليها ، وأكثرنا شكا في قوة نفسه اللهفانة الحمقاء ، التي تريد دائما أن تنال ما لا تقدر عليه ، فتسقط صاحبها ـ إن تبعها ـ في المهالك ، ويفهم بوضوح كالشمس أن النفس تأمر بالسوء ، وتنتصر لكبريائها فتسول صاحبها الإفساد ، وإذا ركن إليها فإنه لا يكاد يحصل منها إلا على الأوامر السيئة .. الرسول أكثر كفرا بنفسه منا بنفوسنا ، لأنه أعلم منا بمصائبها ، وأكثر تشبثا بإرادة الله منا ، لأنه أعلم منا بحسنات ذلك ، وأعلم منا كم أن الله يعلم وكم أن نفوسنا لا تعلم ، لذلك يكون فهمه لآيات الله وإرادته أكثر صوابا وأشد عمقا من فهمنا .
وإرادة الله جل جلاله مسجلة في كتابه المكنون ، والرسول تنكر لإرادته واستبدلها بإرادة ربه ، تمكن من إغلاق كتاب نفسه لا يقرأ فيه شيئا ، وهرع إلى كتاب ربه وغاص فيه بالكلية ، لا يُكون أفكاره ولا رغباته ولا مخاوفه إلا مما يوحي له ذلك الكتاب ، قال تعالى :" إن أتبع إلا ما يوحى إلي " (الأنعام 50)، ولشدة تطبيقه لهذه الآية وصفته زوجته عائشة بأنه :" كان خلقه القرآن " .. فالناس يرون جسد محمد يتحرك ، والحقيقة أن القرآن هو الذي كان يتحرك في داخله .
وبهذه الحالة ـ من انسلاخ كامل من إرادته الخاصة وتقمص كامل لإرادة الله ـ التي وصفنا بها الرسول ، سنقوم إن شاء الله بدراسة سلوك الرسول مع الأحداث التي كان عليه أن يعالجها في حياته العامة والخاصة ، وسندرس هنا على غرار ذلك إن شاء الله سلوكه الذي اتبعه في قضية تعيين خلف له في الحكم .
1 ـ نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) :" قل اللهم مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء " (آل عمران 26) ، ففهم أن أمر الملك أمر رباني لا دخل للإنسان فيه ، وأن الملك مثل الرزق والذرية والعز والنفع والضر والحكمة والهداية والألفة وغيرها ... هبات يهبها الله لمن يريد من عباده ، وينزعها ممن يريد من عباده ، ولا يمكن لإنسان ولا لرسول ولا لأي جهة أخرى أن يهبها لإنسان آخر ، وإذا حاول أن يفعل ذلك ، فإنه يتدخل في اختصاص من اختصاصات الله ، ويتحدى إرادته ، ويتطفل عليها ، ولن يجني من ذلك سوى غضب الله وازدراءه ، وتبقى إرادة الله تجاه عبده سائرة المفعول لا يقف في طريقها شيء ، ولا تبالي بشيء . إنها القدر العاصف الذي يدمر كل شيء وقف في طريقه ، ولا يبالي بالمتدخلين فيما لا يعنيهم .
هذه الآية من الآيات التي توزع الإختصاصات بين الله والعبد ، وبالمناسبة ، فإن توزيع الإختصاصات في القرآن علم ما زال غائبا علينا ، لم ينهض إليه أحد منا لا في القديم ولا في الحديث لاستخراجه من القرآن ، لذا اختلطت الإختصاصات لدى الكثير من المؤمنين ، فيرجعون أشياء يختص بها الله جل جلاله إلى رسول الله أو إلى أوليائه ، وهذا جهل خبيث من شأنه أن يتطور ويتحول إلى سمة من سمات الشرك .
وهذا الخلط في الإختصاصات يحدث كثيرا للناس ، ويتحولون أحيانا ، إذا تقوى عندهم ، إلى أرباب على الناس محل رب العزة سبحانه وتعالى ، يأمرون وينهون ، ويقتلون ويحيون كما تمليه عليهم أهواؤهم ، ومن هذا الخلط ظهر جميع الطغاة في التاريخ .. ولم ينج حتى الأنبياء من هذا الخلط في الإختصاصات ، ولو بدرجة ضعيفة .
ولقد تعرض نوح لهذا الخلط حين أصر على هداية ابنه ، ثم إنقاذه من الهلاك ، فأراد أن يتحدى كل شيء من أجل تحقيق ذلك ، ودفعه الحب الأبوي الجارف إلى أن يتجاوز الحدود ، وكم من مصيبة دينية سببها الحب الأبوي .. يقول الله عز وجل يقص على نبيه وهو ما زال في مكة قصتهما :" ونادى نوح ابنه ـ وكان في معزل ـ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين . قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء . قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم . وحال بينهم الموج فكان من المغرقين . وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي . وغيض الماء وقضي الأمر . واستوت على الجودي . وقيل : بعدا للقوم الظالمين . ونادى نوح ربه وقال : رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين . قال : يا نوح ، إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألني ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين . قال : رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين " (هود 42 ـ 47) . أراد نوح أن ينقذ ابنه بكل ما أوتي من إصرار ، فلما تباطأ ابنه عن الإستجابة لإلحاح أبيه ، أسرع إليه الموج فاختطفه من بين يديه وألقى به إلى الأعماق . فلم تتركه شعلة الحب لإبنه يستسلم لقدر الله الغالب ، وانتقل إلى ربه يلح عليه في إرجاع ابنه إليه ، فكانت الحقيقة قوية صدمت نوح بعنف وهزت كيانه فجعلته يرتعد كالعصفور الذي يتنفس أنفاسه الأخيرة .. لا تتعدى على اختصاصي ، ولا تتصرف تصرف الجاهلين ، والزم حدك ، ولا تتدخل في ما لا يعنيك قبل أن يصيبك مني ما تكره .
ولقد تعرض رسولنا عليه الصلاة والسلام لنفس الخلط الذي تعرض له نوح ، فقد كان عمه أبو طالب بمثابة أبيه ، رباه في صغره وصاحبه في كبره ودافع عنه بكل شيء لما تصدى قومه لدعوته .. فأحب محمد كثيرا أن يهدي عمه سواء السبيل ، لكن عمه المحب الذي لم يرفض أي طلب لإبن شقيقه المحبوب ، رفض له هذا الطلب ، وهو الطلب الوحيد الذي رفضه له . وأصر الرسول ، لكن إصرار عمه غلب في الأخير ، فمات على شركه ، فحزن الرسول كثيرا ، ورفض هذا القدر الذي مني به عمه ، فنزلت الآية توقظه من غلطه وتوعظه :" إنك لا تهدي من أحببت ، ولكن الله يهدي من يشاء " (القصص 56) . فأفاق الرسول من غفلته ، وفهم بالتحقيق أن قدر الله لا يقف أحد مهما كان في طريقه . وفهم أن ما يعطيه الله للناس ، لا يمكن ولا يحق لأحد أن يحل محل الله فيعطيه للناس ، وأخذ الرسول يحترم جيدا هذا الإختصاص ، ويعرف جيدا متى يقف عند حده .
2 ـ ونزلت هذه الآية كذلك عليه ، لتعطيه بعض الدروس في الحكم :" ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى ، إذ قالوا لنبيهم : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله . قال : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ؟ قالوا : وما لنا لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ، والله عليم بالظالمين . وقال لهم نبيهم : إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " (البقرة 246 ـ 247) . وفهم الرسول أن هذه الآية لم تنزل عبثا ، بل لتريه أن عملية تعيين الحاكم لا تكون اعتباطية أو من دون أحكام تنزل من السماء .
فعملية التعيين تبدأ أولا برغبة الملأ ، أي النخبة التي تمثل المؤمنين ، في الإنضواء تحت ملك يحكمها ، وتجتمع أهواؤهم على ذلك ، ثم يشرعون في التماس ذلك الحاكم . ولسبب ما ، وربما لخشية اختلافهم على اختيار الحاكم ، يلتجئون إلى نبيهم ، ثم يطلبون منه أن يسأل ربه ليختار لهم حاكمهم . أما قبل أن يسألوه ذلك الإختيار ، فلا يحق للنبي أن يأمرهم باختيار حاكم لهم . ولقد مكث النبي صموئيل في بني إسرائيل عشرات السنين يعلمهم ويزكيهم ، وشاخ بينهم ، ولم يحدثهم أبدا عن اختيار الحاكم ولو ببنت شفة ، حتى إذا كانت أواخر حياته ، ظهر للملإ أن من مصلحتهم أن ينصبوا ملكا عليهم ، فاجتمعوا آنئذ على نبيهم ، وطالبوه بذلك .
ويحق لهم أن لا يخبروا نبيهم ، إذا وجدوا في ذلك مصلحة لهم ، ويقوموا باختيار ملك عليهم وتنصيبه دون أخذ مشورته ، ولا حرج في ذلك . كما يحق لهم أن يلجأوا إلى نبيهم ليختار لهم حاكمهم ، إذا وجدوا في ذلك مصلحة لهم . ونلاحظ أن النبي لا يستجيب لهم بسهولة ، وهو يراجعهم ليستبين مدى جديتهم في ما يريدون . وكأن بقاءهم بدون حاكم أروح لهم وأهون ، ويغنيهم عن تحمل مسئوليات كثيرة يفرضها نظام الملك . لكنهم يلحون عليه ويؤكدون عليه ، ثم هو بدافع إلحاحهم يدعو ربه ، ثم يقوم الرب ، إذا استجاب لهم ، باختيار من يريد ، ثم إذا اختار الرب أحدا فلا يحق للملإ أن يعارض ما اختاره الله لهم . وقد لا يختاره الله من بينهم ، لأن لله معايير للحكم عادة ما لا تكون موافقة للمعايير التي عند الملإ . وهكذا نخرج من هذه الآية بفكرة مفادها ، أن لا يكون تدخل الله في اختيار الملك إلا بطلب ملح من الملإ .
فالمبادرة يجب أن تكون من الملإ وليس من الرسول ، مما يجعلنا نقر بأن الملك ليس فريضة على الجماعة ، فرضه الله على الناس فلا يحق لهم أن يمتنعوا عن تنصيب ملك عليهم ، بل الملك داخل في الإباحة ، وللجماعة الحرية الكاملة في أن تختار لنفسها ملكا أو تبقى سائبة لا يحكم عليها أحد ، لهذا لا يحق للرسول ـ مع ما يملكه من حق الطاعة عليهم ـ أن يفرض عليهم ما لم يفرضه الله . فاختيار الحاكم ليس من الدين في شيء ، وتكوين دولة منظمة ليس من الدين في شيء ، بل هو عقد يتفق عليه الناس ، وقرار يتخذونه بينهم ، ولا دخل للدين فيه . الملك هو طريقة معينة من العيش ، مثلما أن السيبة طريقة أخرى من العيش ، وللجماعة حق الإختيار بين الطريقتين ، ولا دخل للدين في ذلك .
فإذا اختار الملأ طريقة السيبة ، وهي طريقة الفوضى ، فهم آنئذ ليس عليهم إلا أن ينصبوا قضاة يحكمون في نزاعاتهم بأحكام الله ، ويبقى غير ذلك يتشاورون فيه ويتفقون عليه .
أما إذا اختارت طريقة الملك ، فلها أن تختاره من تلقاء نفسها ، عن طريق التشاور والإتفاق بينهم ، أو إذا كان عندهم نبي ، وخافوا أن لا يتفقوا على حاكم ، وأرادوا أن يختاره لهم ، آنئذ يمكنهم أن يقصدوا نبيهم ويطالبونه بمرادهم .
والملأ من المؤمنين يومئذ هم صحابة الرسول السابقين من المهاجرين والأنصار .. وقرار تكوين دولة أو عدم تكوين دولة ، هو قرار من اختصاص الملإ وليس من اختصاص الرسول ، من اختصاص المهاجرين والأنصار وليس من اختصاص محمد (ص) ، ولهم الحق الكامل في أن يختاروا تكوين دولة تحت ملك ينهى ويأمر ويفرض الضرائب ، أو يختاروا العيش تحت أمة تجتمع تحتها جماعات عديدة تسير نفسها عن طريق إصدار أوامر جماعية .
ومكث الرسول بينهم ثلاثة عشر يوما وهو يكابد مرض الموت ، ولم يجتمع أمر الملإ على أن يبحثوا لأنفسهم خليفة يخلف الرسول عليهم إذا مات ، لم يرغبوا في أن يختار الله لهم ..
فمن يدري ، قد يخرجها الله من قريش بالمرة ، ويختار أسامة بن زيد مثلا ، ألم يختره رسول الله لقيادة الجيش ؟
وقد يختار عبد الله بن مسعود ، ألم يقل له يوما ، كما جاء في صحيح البخاري :" لو كنت أؤمر أحدا من غير مشورة لأمرت ابن أم عبد " ؟ ،
وقد يختار أحد الأنصار ، ألم يقل لهم يوما كما جاء في صحيح البخاري :" لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الأنصار ، ولولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار " ؟ ،
أو قد يختار عليهم بلال الحبشي ، ألم يقل لهم يوما كما جاء في صحيح البخاري :" اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " ؟ .
إنها لمخاطرة كبيرة أن يطالبوا الرسول بأن يختار لهم ملكا . إن معايير الله غالبا ما تكون مخالفة لمعاييرهم ، فليس من المصلحة لهم أن يغامروا .
ألم تحدث هذه المفاجأة المهولة للملإ من بني إسرائيل ؟ فهم لما ألحوا على نبيهم أن يختار لهم حاكما ، ظنوا جميعا أنه سيختار واحدا منهم ، فصعقوا جميعا لما وجدوا أنه اختار لهم رجلا لا يمت إلى ملإهم بصلة . قال تعالى :" وقال لهم نبيهم : إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا . قالوا : أنى يكون له الملك علينا ، ونحن أحق بالملك منه ، ولم يؤت سعة من المال ؟ قال : إن الله اصطفاه عليكم ، وزاده بسطة في العلم والجسم ، والله يؤتي ملكه من يشاء ، والله واسع عليم " (البقرة 247) . ألم تثبت التجربة في بني إسرائيل أن معايير الله غالبا ما لا تكون موافقة لمعايير الصحابة ؟
لم يجرؤ الملأ من المؤمنين أن يخوضوا تجربة الملإ من بني إسرائيل ، لذلك لم يطالبوا الرسول باختيار ملك لهم ، وما كان للرسول أن يختار لهم وهم لا يطلبون ذلك ..
وقد كاد أن يحدث استثناء على هذا الصمت المطبق ، وفكر العباس بن عبد المطلب ، لما أحس أن هوى الناس ليس مع علي ، وأن جماعته تشكل الأقلية في المدينة ، فكر في أن يطالب الرسول باختيار أمير عليهم ، فعرض اقتراحه على علي ، وألح عليه ، لكن علي رفض ذلك بقوة .
جاء في طبقات ابن سعد ، عن ابن عباس : أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله (ص) في وجعه الذي توفى فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله ؟ قال : أصبح بحمد الله بارئا . قال ابن عباس : فأخذ بيده العباس بن عبد المطلب فقال : ألا ترى ؟ أنت والله بعد ثلاث عبد العصا . إني والله لأرى أن رسول الله (ص) سيتوفى في وجعه هذا ، إني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت ، فاذهب بنا إلى رسول الله (ص) فلنسأله فيمن هذا الأمر من بعده ، فإن كان فينا علمنا ذلك ، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا . فقال علي : والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا . فوالله لا نسأله أبدا . (جزء 2 ـ صفحة 189) .
كان العباس متأكدا بأن رياح الملك ليست في جهتهم ، وأن هوى الناس يحوم حول الثلاثي : أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، لذلك أراد أن يستعمل ورقة قرابته من الرسول ليكسب على الأقل مكسبا سياسيا ، أراد أن يسحب أمر اختيار الخليفة من أيدي الملإ ويضعه في أيدي الله ورسوله ، فيكون الأمر إذا اختار الله عليا كان له ما أراد ، وإذا اختار غيره سأله العباس أن يوصي الحاكم المختار بهم خيرا ، فيكونون من المقربين إليه .
لكن عليا تشاءم من هذا الإقتراح أكثر مما تشاءم من انتصار الثلاثي عليه ، وخاف إن سألها ثم منعها الله عنه ، فلن تعطى له أبدا ، فلإن يبقى طامعا فيها ولو انتصر عليه الثلاثي ، خير من أن لا يطمع فيها أبدا .. ففضل أن يلتزم بالصمت مثلما فضل الصحابة تماما ، لقد فضلوا جميعا أن تكون عن طريق العقد والإتفاق بينهم على أن يسلموها لله ورسوله ، فكان لهم ما أرادوا .
3 ـ ونزلت هذه الآية كذلك على رسول الله :" وأمرهم شورى بينهم " (الشورى 38) ، فهناك أمرُنا وهناك أمرُهم ، فأمرُنا يشملنا جميعا ، أما أمرُهم فيشملهم وحدهم ولا يشملنا معهم ، يشملهم لأنه يعنيهم وحدهم ، ويتحملون عواقبه وحدهم .. لذا حين كان أمرُ الرسول وأمرُهم واحدا ، وما يصيبهم يصيبهم جميعا ، أمر الله رسوله قائلا :" وشاورهم في الأمر " (آل عمران 159) ، أي لا تقم بعمل يهمك ويهمهم قبل أن تأخذ مشورتهم ، ويظهر تنفيذ هذه الآية بجلاء في غزوة أحد ، لما شاورهم في القرار الذي أراد أن يتخذه ، وهو اختيار المدينة ساحة للحرب ، وعارضه الأنصار وفضلوا الخروج إلى العدو . ولما رأى الرسول أن الرأي الغالب هو الخروج إلى الأعداء ، تنازل عن رأيه ، وأخذ برأي الأغلبية .
هذا حين يكون أمرُ الرسول وأمرُهم واحدا ، يتحملون عواقبه جميعا ، أما حين يكون أمرُهم وحدهم ، يتحملون عواقبه وحدهم ، فالمشاورة آنئذ تكون بينهم ، ولا تشمل غيرهم .:" وأمرهم شورى بينهم " (الشورى 38) .
وخلافة الرسول في الحكم ، لا تكون إلا بعد موت الرسول ، إذن فأمرُها لا تشمله ، لأن عواقبها لا تطاله ، إذن فهو ليس داخلا في الشورى . وهو لم يكن له الحق في أن يكون مسيطرا عليهم في حياته ، قال له ربه عز وجل :" إنما أنت مذكر ، لست عليهم بمسيطر " (الغاشية 21) ، ولم يعنفهم يوما ولم يرغمهم على اتباع رأيه ، قال تعالى يذكره :" فبما رحمة من الله لنت لهم " (آل عمران 199) ، فكيف يكون له الحق في أن يكون مسيطرا عليهم بعد مماته ، ويرغمهم على اتباع رأي تطالهم عواقبه دونه ؟ هذا لا يكون أبدا .
فالشورى شورة من تطالهم عواقبها ، ولا يحق لمن لم تطاله عواقبها أن يشارك فيها ، وإلا إذا كان هذا المبدأ يجوز ، فإنه يحق للأمم أن تتدخل في شؤون الأمم الأخرى ، وهذا باطل .
والرسول كان يشاور ملأه ثم يتخذ قراره الذي اتفقوا عليه ، وهذا هو الصواب ، أما أن يجمعهم ثم يعين عليهم خلفا له دون أن يشاورهم ، فهذه هي السيطرة التي نهاه الله عن مزاولتها ، بالإضافة إلى أنها وصية ، لأنه أمر ينفذ بعد موته ، ولا يحق له أن يوصي إلا في ماله الخاص ، والحكم هو شأن عام وليس مالا من ماله الخاص .
كان مريضا ، لكنه كان ما زال حيا ، لذا كان يصدر أمرا تلو الآخر لنفاذ جيش أسامة ، وهذا حق ، لأنه سينفذ في حياته وتحت حكمه ، ولذا أمر أبا بكر بالصلاة بالناس ، وهذه الصلاة تقام في حياته وتحت حكمه ، وليس في هذين الأمرين شيئا من الوصية ، ولكن أن يصدر أمرا يعين فيه من يحكم عليهم غدا بعد موته ، فهذه وصية ، ولا يحق له أن يوصي إلا في أمواله الخاصة ، والحكم ليس من ماله الخاص ..
وحتى لو افترضنا جدلا أن يكون له الحق في أن يصدر هذه الوصية ، آنئذ ستكون فاطمة وولداها الحسن والحسين هم أصحاب الحق في هذه الوصية ، لأن الله تعالى حدد الوصية في الأقربين وليس في الأقارب ، وقال : " أنما الوصية للوالدين والأقربين " (البقرة 180) ، فالأقرب إلى رسول الله يومئذ هي ابنته وحفدته .
لهذه الأسباب الثلاثة ، وربما لأسباب أخرى لم أقف عليها ، التزم الرسول الحكيم بالصمت تجاه من يخلفه في الحكم ، مع كثرة ما أوصى وأمر وتكلم ونصح في أيام مرضه الثلاثة عشر ، ولهذه الأسباب قرر الصحابة أن يسكتوا عن رسول الله ولا يسألونه أن يعين أحدا منهم عليهم ، وفضلوا أن يجعلوها شورى بينهم .