الأربعاء، 23 مايو 2012

ماهية التشريع الطلاق


مقدمة
هناك لغة مشتركة بين تشريع الطلاق فى الفقه السلفي وتشريعه فى العصر الجاهلى تتمثل فى أن الرجل يملك أن يطلق زوجته أو زوجاته بمجرد كلمة, وفى أدبيات العصر الجاهلى أن أشهر طبيب عربى وهو الحارث بن كلدة حين استقذر امرأته فقال لها (كنتى فبنتى) أى كنتى زوجة فأصبحتى بائنا أى مطلقة بينونة قاطعة, فخرجت من بيته وانتهت علاقتها به . 
وهذا التشريع الجاهلى ألغاه القرآن الكريم فى تشريعاته التفصيلية فى الطلاق, ولكن ما لبث الفقه السلفي أن تجاهل تشريع القرآن الكريم وأرجع التشريع الجاهلى الذى يؤكد على حق الرجل فى التطليق بكلمة دون شهود, وتحت هذا الإطار اختلفوا فى فروع كثيرة.

تشريع الطلاق فى القرآن : 
 الطلاق هو لمحاولة التوفيق بين الزوجين 
عكس الفقه السلفي فإن رعاية الأسرة هى المقصد التشريعى الأساسى لمعظم تشريعات القرآن الاجتماعية عموما. وفى تشريعات القرآن الكريم فى الطلاق فإن هناك حقيقة قرآنية أغفلها جهل أئمة الفقه السلفي, وهى أن الطلاق لا يعنى نهاية العلاقة الزوجية, بل هو مرحلة انتقالية لمحاولة إعادة الحياة إلى مجاريها بين الزوجين المتنازعين. الطلاق فى التشريع القرآنى ليس لقطع الزواج وإنهائه بل هو مجرد مرحلة فى العلاقات الزوجية تسبقه وتتلوه مراحل. الطلاق فى تشريعات القرآن ليس نهاية المطاف لأنه مرحلة لمحاولة التوفيق بين الزوجين فإذا تعذر التوفيق أصبح الطلاق انفصالا كاملا أو مفارقة أو سراحا أو تسريحا للمرأة أى إطلاقا لسراحها. والطلاق أيضا فى تشريعات القرآن مسبوق بعدة أحكام مماثلة تسهم كلها فى استقرار الأسرة وتدفع عنها عوامل الإنهيار. وتدعيم الأسرة هو المقصد. هذا يستلزم توضيحا مختصرا بقدر الامكان.

ما قبل الطلاق  
القواعد التشريعية الأساسية فى التعامل بين الزوجين تتجلى فى آيتين فى سورة النساء (19 و34) وهما باختصار شديد:

1- قوامة الرجل أى مسئوليته عن الزوجة ورعايته لها, وتتحقق هذه القوامة بقيامه بالانفاق عليها بعد أن دفع صداقها. يقول تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله" (النساء 34)
بدون الانفاق لا تكون للرجل قوامة على الزوجة إلا برضاها واختيارها. كما أن للزوجة أن تشترط أن تكون العصمة بيدها, أو أن تكون لها القوامة على الرجل. إن عقد الزواج مجال للتفاوض بين الطرفين يضع فيه كل طرف ما يعبر مكانته ومقدرته, وما يتم الاتفاق عليه فى العقد يصبح سارى المفعول طبقا لأمر الله تعالى للمؤمنين فى أول سورة المائدة بالوفاء بالعقود.

2- معاملة الزوج للزوجة بالمعروف حتى ولوكان كارها لها. يقول تعالى: " وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا" (النساء 19)
وفى إطار تلك القاعدتين التشريعتين نفهم تشريع القرآن فى إصلاح الشقاق بين الزوجين. فقد يكون السبب من الزوجة( نشوز الزوجة ) أو من الزوج ( نشوز الزوج ) أو منهما معا ( الشقاق بين الزوجين ). 
وفى كل حالة وضع القرآن الكريم علاجا مناسبا غفل الفقه السلفي عن تدبره والاتعاظ به.

أولا: نشوز الزوجة هو اعتدائها على زوجها, هنا تبدأ المشاكل وتتكاثر لتحول البيت الهادىء الساكن الى أصوات نشاز. يقول تعالى فى وصف الزوجات الفاضلات والزوجات النواشز المستحقات للتهذيب:  "فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا" (النساء 34)
فإذا خاف الزوج اعتداء زوجته عليه فعليه, فى ضوء مسئوليته عنها ومعاملته لها بالمعروف وحرصه على دوام العلاقة الزوجية واستقرار البيت, بأن يعالج ذلك الاعتداء بالوعظ أولا, ثم ثانيا بالهجر فى المضاجع, وأخيرا بالضرب. وهو هنا يتعامل أساسا بتقوى الله تعالى لأنه إذا ظلمها كان الله تعالى خصما له حيث يقول تعالى: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا" (النساء 34)
بإمكانها إذا كانت تكرهه وتريد أن تتركه أن تفتدى منه بأن ترد إليه المهر أو جزءا منه حسبما يقع عليه الاتفاق, وهو ما يعرف عند الفقهاء بالخلع. فكما أن الطلاق من حق الرجل فإن الافتداء ( بالمصطلح القرآنى ) أو الخلع ( بالمفهوم الفقهى ) من حق المرأة.
لكننا هنا مع زوجة ينفق عليها زوجها ويرعاها ويتقى الله تعالى فى معاملتها وهى لا تريد الانفصال عنه, وبدلا من أن ترد له حسن المعاملة والرعاية بالمثل فإنها تنشز عليه وتحيل حياته إلى موسيقى نشاز من الشجار والمشاكل. فى هذه الحال عليه إصلاحها بالطرق الثلاثة المشار إليها. 
نؤكد ثانيا على أن هذا كله فى إطار الزوجة التى دفع زوجها صداقها وله عليها القوامة بإنفاقه عليها. وهناك حالة أخرى للزوجة التى تشترط أن تكون العصمة بيدها أو تشترط أن تكون لها القوامة بأموالها وجاهها, وتصيغ عقد الزوجية على هذا الأساس فيصبح لازما لأن المؤمنين مطالبون بالوفاء بالعقود (المائدة:1) كما أن هناك حالة أخرى للزوجة التى تنفر من زوجها وتريد الانفصال عنه وهذا ميسور لها إذا افتدت نفسها منه بأن تدفع له ما أخذته منه من مهر أو بما يتفقان عليه من فدية تدفعها مقابل الإنفصال ( البقرة:299) . 

لا ضرب للمرأة في القرآن الكريم
القرآن الكريم لا يأمر بضرب المرأة حيث يقول تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" (النساء 19) لكن إذا قامت المرأة للاعتداء على زوجها فمن حق زوجها الدفاع عن نفسه وهذا حق إنساني أصيل. والقرآن الكريم عندما يقول "واضربوهن" فإنه فقط يتحدث عن المرأة الناشز حيث يقول تعالى: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن" والنشوز هو القيام إلى شئ وهو كناية عن الضرب هنا, ومع هذا لم تأمر الآية بأن يضرب الرجل زوجته التي تضربه حفاظا على تبقى من تماسك الأسرة بل أمره أولا بوعظها فإن لم تستجب فبهجرها في الفراش فإن لم تستجب فبضربها دفاعا عن نفسه من ضربها.

الكارهون للإسلام تجاهلوا ما جاء فى عشرات الآيات الأخرى من حفظ لحقوق المرأة ورعاية لها, وأن هذا الحفظ والرعاية لا يعنى الحصانة المطلقة للمرأة من التوجيه والتهذيب إذا كانت محتاجة لذلك, ومتجاهلين أن الحقوق لا بد أن تقابلها واجبات, ولا نريد الخوض فى المزيد مما يخرج عن موضوعنا, ومتناسين ما يحدث الآن من انتهاك لحقوق المرأة وضرب لها فى أرقى المجتمعات سواء كانت زوجة شرعية أو فى ظل معاشرة مستمرة بدون سقف الزواج الشرعى الذى يحمى المرأة ويصون كرامتها وآدميتها فى شبابها وشيخوختها, ومتناسين أن هذه التشريعات القرآنية المتقدمة فى رعاية المرأة سبقت العصر الذى نزلت فيه, وكانت ثورة تشريعية فى المجتمع البدوى العربى الذى لا يرى فى المرأة إلا مجرد متاع مملوك للرجل, والدليل أن الفقه السلفي نفسه جاء متسقا مع ثقافة العصور الوسطى فى ظلم المرأة وانتهاك حقوقها فـأتيح له التطبيق بينما تجاهل معظم المسلمين تشريعات القرآن عن المرأة لأنها كانت تتناقض مع ثقافة العصور الوسطى السائدة, وهم أيضا تجاهلوا أن الفقه السلفي ذاته مع قسوته على المرأة فقد كان أرحم بها من ثقافة الأروربيين فى العصور الوسطى, وأن المرأة الغربية حتى فى عصرنا لا تزال أقل حقوقا مما يتيحه لها القرآن الكريم.

ثانيا: نشوز الزوج هو بأن تشكو الزوجة من مجرد إعراضه عنها أو انشغاله عنها أو بالتعبير المصرى شديد الدلالة " مش بيديها وشه ", فعليها وعليه معا أن يعقدا بينهما صلحا يقوم على أساس التخلى عن الأنانية وشح النفس حيث يقول تعالى: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" (النساء 128)
الملاحظ هنا أن إعراض الزوجة عن زوجها لا يعتبره القرآن الكريم نشوزا, لأن نشوز الزوجة هى أن تعتدي عليه وهو ما يستدعى أن يتدخل لإصلاحها بالطرق الثلاثة السالفة, وهو الزوج الذى يتقى الله تعالى فى تعامله معها فلا يظلمها ولا يقصر فى حقوقها. نشوز الزوج هو مجرد إعراضه عن زوجته, لأن من حق الزوجة على زوجها أن يقبل عليها بوجهه ويوليها اهتمامها, فإذا تجاهلها أو أهملها أو فقد اهتمامه بها كان ذلك نشوزا منه لا بد من علاجه بجلسة مصارحة حميمة يتعهد فيها الطرفان بالتخلى عن الأنانية أو بالتعبير القرآنى "شح النفس" وهما إذ يفعلان ذلك لا بد أن يتذكرا أن رب العزة جل وعلا شاهد عليهما باعتبارهما مسئولين أمامه على حفظ بيتهما ورعايته. 

ثالثا: وإذا تحول النشوز الى شقاق بينهما معا أصبح على المجتمع أن يتدخل فى صورة القضاء, بانتخاب ممثل عن الزوج وممثل عن الزوجة يريدان الاصلاح بين الزوجين والتوفيق بينهما حيث يقول تعالى: "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا" (النساء 35). الله تعالى هنا وضع مسئولية الاصلاح على الحكمين, مؤكدا أنهما معا إذا أرادا بإخلاص صلح الزوجين جاء توفيق الله تعالى مؤكدا على صدق نيتهما فى الصلح. والمعنى أن إرادتهما الاصلاح يتبعها توفيق الله فى عقد الصلح, والمعنى أيضا أن الفشل هو مسئولية الحكمين. 

قد يكره الرجل زوجته ولا يتمثل وصية الله تعالى فيها فلا يعاملها بالمعروف(النساء 19) وقد يصل فى كراهيته له إلى درجة الظلم والضرب تعديا ناسيا قوله تعالى: "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا" (النساء 34) وينسى تهديد الله تعالى له إن هو ظلمها. هو هنا مستحق لعقاب رب العزة فى الدنيا والآخرة. 
وقد يصل فى نسيانه لأوامر ربه وكراهيته لزوجته إلى الإيلاء, وهو هجر الزوجة جنسيا وإهمالها كليا بحيث يكون الفراق واقعيا فى إطار زواج شكلى. هنا يتدخل تشريع القرآن ليفرض على الزوج مهلة أربعة أشهر عليه أن يعود لزوجته ويعطيها حقها فى الجنس, وإلا فالطلاق حيث يقول تعالى: "للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم" (البقرة 226-227) طبعا تطبيق هذا التشريع يعنى لجوء الزوجة للقاضى فى دولة تطبق شرع الله تعالى الحقيقى فى القرآن وليس تشريع فقهاء الظلم. وعلى القاضى أن يحكم عليه إما أن يستأنف علاقته الجنسية بها أو يطلقها. 
ومع ذلك فإن هذا الطلاق ليس نهاية المطاف. إنه هدنة لاستئناف الحياة الزوجية وإصلاحها, أو مقدمة لانهائها.

مراحل الطلاق فى التشريع القرآنى 
كما أن للمجتمع دورا فى الإصلاح بين الزوجين إذا حدث بينهما شقاق ( النساء 35 ) أو إذا هجر الزوج زوجته لدرجة الإيلاء ( البقرة226- 227) فإن للمجتمع دورا فى الطلاق بحيث يكون على الطلاق إشهاد من المجتمع يتمثل فى وجود شاهدى عدل, أى إثنين من الشهود يمثلان المجتمع, أى يقوم المجتمع بمنحهما مصداقية رسمية ليكونا شهودا رسميين يمكن استدعاؤهما بواسطة الزوجين أو أحدهما لضبط موضوع الطلاق وما قد يترتب عليه, وذلك معنى قوله تعالى فى سورة الطلاق: "وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا" (الطلاق 2)

وإجراءات الطلاق كالأتى:

الطلاق الأول: 
1- إذا أراد الزوج الطلاق فعليه بالإشهاد على الطلاق فكما تزوج بشاهدى عدل فعليه أن يطلق بشاهدى عدل, فيستحضر الشاهدين ويعلن أمامهما أن زوجته طالق.

2- وهنا يوجب القرآن أن تظل الزوجة فى بيتها وهو بيت الزوجية طيلة مدة العدة. ويحرص القرآن الكريم على التأكيد على أن تلك الزوجة المطلقة لا تزال فى بيتها, وينسب ملكية البيت لها حتى مع وقوع الطلاق, ويحرم أن يطردها زوجها من بيتها مطلقا إلا فى حالة واحدة وهى ضبطها متلبسة فى واقعة زنا مثبتة, وتلك حدود الله التى نص عليها القرآن الكريم: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا" (الطلاق 1).
وقوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) يعنى أن مدة أو فترة الطلاق هى مدة أو فترة العدة التالية لوقوع الطلاق أمام الشاهدين. وفى فترة الطلاق والعدة لا يجوز على الإطلاق طرد المرأة من بيتها إلا فى حالة إثبات الزنا عليها. 

3- وهى فى فترة العدة تعتبر زوجته يجوز له أن يعاشرها جنسيا, وإذا عاشرها جنسيا فقد زال موضوع الطلاق وأصبح كأن لم يكن, وعادت بينهما الحياة إلى مجاريها بدون أية آثار جانبية, عليهما فقط إشعار الشاهدين بأن الموضوع زال وانتهى. 

4 -ومدة العدة التى تظل يها المطلقة فى بيت زوجها هى للمرأة العادية ثلاث حيضات تطهر منهن كى تتأكد إن كانت حاملا منه أم لا, ويحرم القرآن عليها أن تكتم حملها أو تخفيه ( البقرة 228 ) فإن لم تكن تحيض أصلا أو بلغت سن اليأس فمدة عدتها ثلاث أشهر. فإذا ظهرت براءة الرحم من الحمل انتهت عدتها بمرور ثلاث حيضات أو ثلاثة أشهر, أما إذا ظهر أنها حامل فإن عدتها تستمر إلى أن تضع حملها وبعده تنتهى عدتها بخلو رحمها ( البقرة 228 والطلاق 4 ) 

5- وبانتهاء عدة المطلقة وهى فى بيتها مع زوجها, وبدون أن يعاشرها جنسيا ويتصالحا, تنتهى مرحلة الطلاق أو تصل مدة الطلاق الى نهايتها, وتدخل الزوجة والزوج فى وضع جديد أمام الشاهدين.

6- يأتى الشاهدان فى نهاية فترة الطلاق ( العدة) ويقومان بتخيير الزوج بين شيئين:
(ا) إما أن يتمسك بالزواج ويحتفظ بالزوجة ويتعهد أمام الشاهدين بمعاملتها بالمعروف وألا يكون دافعه للتمسك بها هو للاضرار بها, فإن فعل رجعت الحياة الزوجية بينهما إلى مجاريها ولكن تحسب عليه أمام الشاهدين أنه قام بتطليق زوجته طلقة, وتظل تلك الطلقة ترفرف فوق رؤوسهما. 
(ب) وإما أن يتمسك بالانفصال التام عنها, وحينئذ يتحول الطلاق إلى فراق نهائى أو سراح, وحينئذ تخرج من بيته الذى لم يعد بيتها, وتصبح حرة يمكن أن تتزوج بمجرد خروجها من ذلك البيت, فقد انتهت عدتها وانتهت مرحلة طلاقها بانتهاء العدة داخل بيتها دون أن يلمسها ودون أى محاولة للاتفاق والصلح. بخروجها تبدأ مرحلة جديدة تتزوج من تشاء بعقد جديد ومهر جديد حتى لو كان زوجها السابق. 

7- ويحرم القرآن أن يتمسك الزوج بزوجته ليوقع بها الضرر, ويحذر الله تعالى من ذلك أشد التحذير: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم" (البقرة 231) الواضح هنا أن ثلث الآية فقط جاء فى التشريع, وهو أنه إذا بلغت فترة الطلاق نهايتها فعلى الزوج أن يختار بين الاحتفاظ بها بالمعروف, أى بالعدل والإنصاف والإحسان, أو يفارقها أى ينفصل عنها بالمعروف, مع التحذير من الله تعالى من أن يحاول الزوج الاحتفاظ بها للاضرار بها. بعد هذا التشريع تتالت عبارات التحذير والوعظ والتنبيه على التقوى والخوف من الله تعالى. كل ذلك لرعاية حقوق المرأة. 

8- كما يحذر الله تعالى من عضل الزوجة بعد إنتهاء العلاقة الزوجية بأن يمنعوها عن الزواج: " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (البقرة 282)
أى أنه بمجرد خروجها يكون من حقها الزواج ممن يعرض الزواج عليها حتى لو كان زوجها السابق. ويحرم الله تعالى على ولى أمرها أو أى شخص آخر أن يمنعها من حقها فى الزواج طالما تراضيا بالمعروف, أى المتعارف على أنه خير وعدل واحسان ومناسب للطرفين. وكالعادة يأتى معظم الآية فى التحذير والوعظ حتى يلتزم المسلمون بتنفيذ هذا التشريع وحفظ حق هذه المرأة وألا يعضلها أحد, أى يمنعها من الزواج.

الخلاصة:
أنه بمجرد أن يختار الزوج الفراق وإطلاق سراح الزوجة بعد إتمام عدتها فى بيته فإن الزوجة تخرج من بيتها وهى بريئة الرحم من أى شبهة حمل, وتستطيع الزواج بعدها مباشرة بمن تشاء. وحتى لو أراد الزوج السابق أن يرجع إليها فلن يتمكن إلا بعقد جديد وصداق جديد . 
وهنا يكون الطلاق مجردمرحلة, هى مرحلة العدة, يأتى بعدها الإنفصال التام وهو الفراق أو السراح. 
ويكون الطلاق أيضا مجرد مرحلة لإعادة الوئام فى حالتين إذا حدث صلح أو مجرد لقاء جنسى بين الزوجين أثناء العدة, وهنا تكمن الحكمة فى وجوب أن تظل الزوجة فى كنف زوجها وفى بيتها أى بيته, ينفق عليها ويرعاها فإذا حدث الصلح انهار موضوع الطلاق من أساسه كأنه لم يكن, أما إذا استمرت القطيعة بينهما إلى انتهاء العدة وجاء الشاهدان وتم تخيير الزوج فاختار إمساك الزوجة حينئذ يكون الطلاق إيضا طريقا لاستبقاء الحياة الزوجية ولكن تحلق فوق رأسيهما تلك الطلقة السابقة التى يعرفها الشاهدان والمجتمع والناس. 

الطلاق الثانى 
فإذا عادا إلى النزاع والشقاق وعزم على تطليقها للمرة الثانية, فعليه أن يسير فى نفس الاجراءات, استحضار الشاهدين وإعلان الطلاق أمامهما, وتظل فى بيته فترة العدة, فإذا تصالحا قبل انتهاء العدة, أى مدة الطلاق, أصبح الطلاق الثانى لاغيا ويبلغا الشاهدين بانتهاء الطلاق وإلغائه قبل تمام العدة وقبل احتساب طلقة عليهما. أما اذا استمرا بدون صلح وبدون مراجعة إلى أن تنتهى عدة الطلاق أو أجل الطلاق وحضر الشاهدان يتم تخيير الزوج بين إمساكها بالمعروف أو فراقها بالمعروف, فإذا اختار إمساكها كانت عليه طلقة ثانيا واستأنفا حياتهما الزوجية. أما إذا اختار فراقها خرجت من بيتها وأصبح من حقها الزواج. يقول تعالى عن الطلاق الأول والطلاق الثانى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح يإحسان" (البقرة 229) أى فى كل مرة من المرتين يتم تخيير الزوج بين أن يمسكها بالمعروف أو أن يفارقها بالاحسان. ويختلف الأمر فى الطلاق الثالث حيث لا يستطيع الاحتفاظ بها وإرجاعها لعصمته إلا بعد أن تتزوج شخصا آخر ثم تطلق من ذلك الشخص الآخر. 

الطلاق الثالث 
ونفترض أنه أمسكها بعد الطلقة الثانية واستأنفا حياتهما الزوجية للمرة الثالثة, ولكن احتدم الشقاق بينهما كالعادة وأراد أن يطلقها للمرة الثالثة, فإن الاجراءات تتم كالسابق من حضور الشاهدين ليسمعا إعلان الطلاق, وبقاء الزوجة فى بيت الزوجية إلى أن تتم عدتها. ولكن بعد أن تتم العدة لا يكون له حق الخيار, إذ تخرج من بيته وتتزوج من تشاء إلا هو, إذ لا يستطيع أن يتزوجها إلا بعد أن تتزوج شخصا أخر, ثم يطلقها ذلك الشخص الأخر ويتم الانفصال النهائى بينهما بالفراق أو السراح بانتهاء فترة الطلاق أو العدة. بعدها يمكن للشخص الأول أن يسترجعها بعقد جديد حيث يقول تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون" (البقرة 230)

الخلاصة: 
ومن هنا يتضح أن اجراءات الطلاق يمكن أن تؤدى إلى إعادة الحياة الزوجية إلى مجاريها كما يمكن أن تؤدى إلى الفراق النهائى, وذلك معنى قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا" (الطلاق 1) أى أن آلية الطلاق تشمل إحصاء مدة العدة وهى تعيش فى كنف زوجها أو بتعبير القرآن فى (بيوتهن) ثم إذا تمت العدة وبلغ الأجل يكون التخيير حيث يقول تعالى: "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم" (الطلاق 2) ويقول أيضا: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف" (البقرة 231) ولعل الله تعالى يحدث أمرا فتعود الحياة لمجاريها, وإلا خرجت بعد انقضاء العدة امرأة حرة صالحة للزواج بعدها بدقائق.

ما بعد الطلاق.
وفى كل الأحوال فالتشريع القرآنى يحرص على أن يكون إمساكها بمعروف وإطلاق سراحها بمعروف كما كان يحرص على أن تكون معاشرتها الزوجية بالمعروف. كما يحرص على سداد متعة طلاقها أيضا بالمعروف, وحقوق الرضاعة إذا كانت مرضعة لطفلها يكون أيضا بالتراضى وبالمعروف. وكلها حقوق للمرأة يؤكد عليها تشريع القرآن مثلما أكد من قبل على حقوقها فى الصداق وفى المؤخر (البقرة 229 و231 و233 و236 و241 والنساء 19 والأحزاب 49 والطلاق 2)

متعة الطلاق 
إذا طلق زوجته قبل الدخول بها وبدون أن يكون لها شرط مفروض فى عقد الزواج , أى مؤخر صداق, فليس الزوج مطالبا بالاجراءات السابقة ولا بالمؤخر. عليه فقط أن يدفع لها متعة, أى مبلغا من المال, تتمتع به مقابل طلاقها وانفصالها عنه. 
هذه المتعة المالية حق للمطلقة حتى لو لم يدخل بها الزوج ولم تكن قد فرضت لنفسها مؤخر صداق. هذه المتعة يمكن تقديرها حسب حالة الرجل المالية حيث يقول تعالى: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين" (البقرة 236)
وإذا طلق زوجته قبل الدخول بها ولكن كان قد فرض لها مؤخر صداق فعليه أن يدفع نصف المؤخر المفروض عليه فى عقد الزواج, إلا إذا تنازلت المرأة أو ولى أمرها عن حقها فى نصف المؤخر. ويدعو رب العزة إلى إيثار العفو والتسامح والفضل فى هذه القضية لتصفو النفوس حيث يقول تعالى: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير" (البقرة 237)
وفى كل الأحوال فلا بد للمطلقة من متعة طلاق, سواء كان الطلاق بدون عدة, إذا لم يدخل بها, أو كان الطلاق بعد الدخول وانتهى إلى فراق وانفصال. كل مطلقة انتهت علاقتها بزوجها لها متعة طلاق حيث يقول تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين" (البقرة 241) ويقول الله تعالى, بعد أن جاء بالتفصيلات الخاصة بالطلاق وغيره, يخاطب المسلمين بأهمية هذا الشرح والبيان والتفصيل فى تشريع القرآن الكريم: " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون" (البقرة 242) لكن فقهاء السلف لم يعقلوا بيان الله تعالى فى القرآن الكريم.

نفقة المطلقة
نفقة المطلقة تعنى الطعام والملبس والسكن وسائر النفقة المعتادة لها باعتبارها زوجة لزوجها الذى ينفق عليها. هذه النفقة تجب للمطلقة أثناء إقامتها فى بيت الزوجية الذى هو بالتعبير القرآنى بيتها هى. وتستمر هذه الإقامة مدة العدة التى هى مدة الطلاق, فإذا كانت حاملا استمرت عدتها ومدة الطلاق إلى أن تضع مولودها واستمرت النفقة طيلة هذه المدة. فإذا وضعت طفلا وانتهت عدتها بالوضع خرجت من بيته ولكن يكون على المولود له نفقة الرضاع والرضيع ونفقة المطلقة المسرحة المنفصلة عن زوجها السابق طالما كانت ترضع الطفل. وطالما ظل الطفل فى حضانتها فعليه نفقة الطفل مع انتهاء النفقة للأم. 
يقول الله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير" (البقرة 233)
مع أن سياق الحديث عن المطلقات إلا أن التعبير القرآنى جاء بوصف (الوالدات) ليجعل التشريع عاما للمطلقة والزوجة العادية وليؤكد أن المطلقة إذا ولدت لزوجها فلها نفس حقوق الزوجة فى موضوع الرضاعة, بأن ترضعه سنتين كاملتين إذا أرادت أن تعطيه حقه التام فى الرضاعة الطبيعية, وفى النفقة على الأم والرضيع, إذ تشمل النفقة سائر ما تحتاجه الوالدة ورضيعها مع الكسوة طيلة العامين, وأن يتم تقدير المتعة بالمتعارف على أنه عدل ومناسب لحال الرجل بحيث لا يحدث إضرار بالرجل الأب أو بالأم الوالدة, فإذا مات الوالدان أو أحدهما كان على الوارث القيام بالمسئولية نفسها. وإذا جاء وقت الفطام وانفصال الطفل عن صدر أمه والكف عن الرضاع فإن تحديد هذا الوقت يجب أن يكون بالتراضى والتشاور بين الأب والأم. وإذا أراد الأب أن يؤجر مرضعة للوليد فلا بأس إذا كان ذلك بالمعروف, وفى كل الأحوال فالله تعالى يراقب الجميع وعليهم أن يتقوه ويخشوه.
وفى تفصيلات أخرى يقول تعالى فى التأكيد على أن حقوق المطلقة فى النفقة تساوى حقوق الزوجة العادية وبنفس المستوى الذى يعيش فيه زوجها, ويحرم رب العزة التضييق فى النفقة على المطلقة والاضرار بها ويؤكد على تدخل المجتمع ممثلا فلى الهيئات المختصة حيث يقول تعالى: "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى" (الطلاق 6), هنا دعوة للمجتمع أو من يمثل المجتمع فى عقد مؤتمر أو جلسة للفصل فى هذه الموضوعات طبقا للمعروف المتعارف على أنه حق وخير وعدل ويسر وتيسير . 
وفى نفس الوقت يترفق رب العزة بالرجل فيؤكد على أن تكون النفقة على قدر قدرته المالية, مشجعا إياه على أن يكون كريما فى النفقة مع إعساره على وعد بأن يجعل الله تعالى عسره يسرا. فى هذا المجال يقول ربى جل وعلا: " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا" (الطلاق 7)
وفى هذا دعوة ضمنية تؤكد على ما أشرنا له من قبل وهو أن آيات التشريع القرآنى دائما تدعو إلى مراعاة التقوى وأهمية أن يتعامل المؤمن مع ربه مباشرة فيخشاه وحده ويتقيه وحده, وبذلك يقوم بتطبيق هذا التشريع ويعطى حق المرأة وهى الطرف الضعيف المعرض للظلم دائما, لذا كان على الطرف الأقوى وهو الرجل أن يتذكر من هو أقوى منه وهو رب العزة جل وعلا فيتقيه ويخشاه ويطمع فى فضله وفى رزقه.

أخيرا
1- كما قلنا فإن الملاحظ بوجه عام فى كل التشريعات الخاصة بحقوق الزوجة أن الله تعالى يخاطب ضمير الرجال ويحذرهم بكل الأساليب من إيقاع الضرر بالزوجة, إذا كان الزوج يكرهها أو يضربها ظلما أو يريد إستبقائها (كالأرض الوقف) أويمنعها حقها فى المتعة الجنسية, أو كان يريد منعها عن حقها فى الزواج أو العودة لزوجها. بل إن بعض الآيات, كما قلنا من قبل,  يأتى ثلثها فقط فى الحكم التشريعى ويأتى ثلثا الآية فى الوعظ والتحذير (البقرة231) ونحو ذلك فى نفس الموضوع فى سورة الطلاق (آية 2 و3 ) كما تكرر نفس المنهج فى النهى عن عضل النساء ( البقرة232) 
كما أن حرص التشريع القرآنى على حقوق المرأة يتجلى أيضا فى جعل المجتمع شاهدا وحكما ومراقبا وقاضيا فى كل المشاكل التى تحدث بين الزوجين إذا عجزا عن معالجة النشوز بينهما وتحول النشوز إلى شقاق وصراخ يستدعى تدخل المجتمع وسلطته المخولة بإصلاح الأسرة وحماية المرأة. ورأينا تدخل المجتمع فى موضوع الإيلاء وفى الإشهاد فى مدة الطلاق والعدة, وفى تحول الطلاق إلى انفصال وفراق وسراح, وتدخل المجتمع فى الآثار الجانبية للانفصال والطلاق من تقدير للمتعة والنفقة وسائر حقوق المرأة والمولود, وسريان ذلك كله بالمعروف والاحسان . 
ومن أسف أن بعض المجتمعات المتحضرة, كما فى أمريكا, قد سنت مثيلا لهذه التشريعات القرآنية فى قوانينها لحماية الأسرة وعلاج المشاكل النفسية والاجتماعية بين الزوجين, ومناصرة الزوجات المظلومات إلخ. بينما أضاع الفقه السلفي وأئمته كل هذا الاعجاز القرآنى فى التشريع, والسابق لأوانه.

2 - إن حرص التشريع القرآنى على القسط مع النساء لا يعدله إلا حرص فقهاء العصور الوسطى على ظلم المرأة. وإذا كان الإسلام قد كفل حقوق المرأة فى أشد العصور الوسطى ظلاما وفى أكثر بقاع الأرض وحشية وجاهلية فإن المسلمين السلفيين فى عصر حضارتهم ما لبثوا أن أضاعوا تشريعات القرآن الكريم بما قاله أئمة الفقه السلفي. بدأ ذلك بالإمام مالك ثم الشافعى ثم ابن حنبل والبخارى ومسلم وأشباههم, وأرسوا ظلما للمرأة المسلمة لا يزال سائدا ومستمرا ومطبقا بدليل الاستغراب الذى يصاحب القارىء لهذا المقال. 
لقد جاءت تفصيلات الكتاب العزيز تغطى كل المطلوب فى موضوع الحياة الزوجية والطلاق والفراق والسراح وحقوق المرأة فى أقل من عشرين آية فقط شديدة الوضوح لكل من أقبل على القرآن الكريم بعقل مفتوح يريد الهداية والتعلم منه.

القران و الرسول الأمي


القران والنبي الاُمّيّ
بقلم: زيد علي المهدي
كتبت بتاريخ: 20-10-2011

لقراءة اوضح ارجو الضغط على:

طالما سمعنا ان النبي محمدا كان اُميّا وطالما تم تعريف كلمة الاُميّ بانه لا يقرأ ولا يكتب.
سنتطرق في هذا البحث عن معنى (الاُميّ) قرآنيا وهل لها علاقة بالقراءة والكتابة ام لها معنى اخر.

الاية التالية تذكر الرسول محمد وتصفه بالاُمّيّ:
"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)" الاعراف

فما هو هذا الوصف (الاٌمي)؟ وهل هو وصف للقراءة والكتابة ام تعريف وتخصيص معين اخر يختلف؟
نعود بالزمن قرآنيا الى ما قبل رسالة الله القران وحاملها ومبلغها رسول الله محمد.

نعود قرآنيا الى نبي الله ابراهيم ومعه اسماعيل وننظر الى الاية التالية بتمعن:

"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)" البقرة

ابراهيم واسماعيل يرفعون القواعد من البيت ابراهيم واسماعيل يدعون...ولكن ما هو دعاؤهم؟

جزء من الدعاء (ومن ذريتنا امة مسلمة لك) ومن ثم (وابعث فيهم -اي في هذه الامة المسلمة التي هي من ذريتنا- ابعث فيهم رسولا منهم -اي من ذريتنا ايضا- يتلو عليهم اياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) هنا ابراهيم واسماعيل يتوجهون بالدعاء الى الله ويدعون منه ان تكون من ذريتهم المشتركه -اُمة- مسلمة ومن هذه الامة المعينه المسلمة يُبعث رسول. اذاُ هذا الرسول حسب دعائهم سيكون من امة مُوَحِدة مسلمة مسبقاً حسب الاسلام الابراهيمي وتكون من ذرية ابراهيم واسماعيل. 
هل تم الاستجابة لهذا الدعاء؟ الجواب نعم وبكل تأكيد فلو نقرأ بعد عدد قليل من الايات يأتي تحقيق وتلبية الدعاء: 
"كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)" البقرة

الكلام هنا موجه للامة من ذرية ابراهيم والكلام هو جواب واعادة كاملة لنفس دعاء ابراهيم واسماعيل. نطابق الاية اعلاه البقرة (151) مع البقره (128) و (129):
يتلو عليكم اياتنا == يتلو عليهم اياتك
 يعلمكم الكتاب والحكمة == يعلمهم الكتاب والحكمة 


الان لننظر الى هذه الاية الاخرى التي تؤكد على الاستجابة لدعاء ابراهيم واسماعيل وليس هذا فقط بل ستوضح مفهوم اخر:
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)" الجمعة
الان مجددا نطابق الاية اعلاه الجمعة (2) مع البقرة (128) و (129):
بعث في الاميين رسولا منهم == ابعث فيهم رسولا منهم (وفيهم ومنهم هنا تعود على الامه من ذريتنا)
يتلو عليهم اياته == يتلو عليهم اياتك
يزكيهم == يزكيهم
يعلمهم الكتاب والحكمة == يعلمهم الكتاب والحكمة

دعاء ابراهيم واسماعيل تم الاستجابة له بان جعل الله من ذريتهما معاً اُمةً مسلمة وبعث في هذه الامة رسولا منها (من نفس الامه) يتلو عليهم ايات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

وبجمعنا لايات سورة البقرة الثلاثة معا يتبين لنا الربط بان المُتَكَلم معهم هم ذرية ابراهيم واسماعيل:

"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)" البقرة
"كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)" البقرة

"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)" الجمعة 
الان لننتبه الى كلمة (الاُمة)...الاُمة هي من ذرية ابراهيم واسماعيل وهذه الامة صفتها انها مسلمة كما سماها ابراهيم واسماعيل في دعائهما والنبي والرسول محمد هو مسلم من هذه الذرية ويجب ان يكون من هذه الامة حسب الدعاء (وابعث فيهم رسولا منهم) اي من هذه الامة المسلمة التي هي من ذريتنا...الان سيتضح معنى الايات التالية:
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)" الجمعة
الاُميين هم من الاُمة المسلمة ومن الذرية التي دعا بها ابراهيم واسماعيل (حسب دعاء ابراهيم واسماعيل والاستجابة لهذا الدعاء)
"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)" الاعراف الرسول النبي الاُمي أي من الامة المسلمة التي هي من ذرية ابراهيم واسماعيل التي دعوا الله بان يجعلها من ذريتهم وتم الاستجابة لهذا الدعاء وهو موجود في التوراة والانجيل وقد يكون دعاء ابراهيم واسماعيل مذكور وموثق تماما كما وثقها القرآن. 
"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)" الاعراف رسوله النبي الامي من نسل وسلالة واُمة ابراهيم واسماعيل, الذرية والامة التي دعا بها ابراهيم واسماعيل. 

قد يتسائل القارئ, ما فائدة ان يختص الله اُمة معينة من بين الناس ليرسل لها رسول؟ وهل لو لم يدعو ابراهيم واسماعيل لما ارسل الله رسول؟

بالنسبة للسؤال الثاني, ابراهيم واسماعيل كانت دعواهم ان يُبعث رسول في ذريتهم المسلمة ان حقّت الرسالة...فلم تنتهي رسالات الله في زمن ابراهيم واسماعيل ودعائهم كان بأن اذا تم بعث رسول فيرجون ان يكون من ذريتهم. هذا الرسول يكون في امة من ذرية ابراهيم واسماعيل يعلمهم الكتاب والحكمة ليكونوا جميعهم سند للرسول في التبشير وايصال الرسالة بما سيتعلموه من تعاليم الكتاب والحكمة.

لكل رسول هناك جماعة معه تنصره وتؤازره وتدعو الى الدعوة معه يتم تعليمها الكتاب والحكمة لتحمل على عاتقها مهمة الدعوة, فموسى كان معه بنو اسرائيل وهي مجموعة معينه كان المفروض بها ان تؤازر موسى وتساعده في مهمته ففعلت ما فعلت..اما اليهود فهم التابعون فقط. 
"وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)" الجاثية
"أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)" الشعراء 
اما عيسى فكان من المفروض ان يكون معه بنو اسرائيل ايضا ولكن فعلوا ما فعلوا ايضا فلما احس منهم الكفر قال من انصاري الى الله فاستجاب له الحواريون انصاره الى الله وهي الجماعة التي تنصره وتؤازره:
"وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ....(49)" الى قوله "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)" ال عمران
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)" الصف
اما الرسول محمد فقد كان الذين آمنوا من المسلمين من ذرية ابراهيم واسماعيل (المؤمنون منهم والموجودون معه) هم من تم تكليفهم بمؤازرة ومساندة النبي الامي الذي هو منهم والذي علمهم الكتاب والحكمة وزكاهم, هذه الامة كانت خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وهي امة معينة من ذرية ابراهيم واسماعيل, والرسول النبي محمد جزء من هذه الامة:
"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)" ال عمران

فليست الاية اعلاه تعني اُمة العرب او الامة الاسلامية...ولكنها الامة المسلمة التي من ذرية ابراهيم واسماعيل التي دعوا بها الله ان يخرجها للناس ويبعث فيهم رسولا منهم.

كذلك, هي الامة الوسط المكلفة بالشهادة على الناس وسيشهد عليهم الرسول بقوله:
"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143)" البقرة

ويؤكد كدليل على ان هذه الامه الوسط هي نفسها الامة في دعاء ابراهيم واسماعيل وهي نفسها الامة من ذرية ابراهيم واسماعيل التي بُعِثَ منها الرسول ولها واجب الشهادة على الناس وكون الرسول شهيدا عليهم اذ علمهم الكتاب والحكمة وزكاهم:
"وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)" الحج
  اذ يقول (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ) وفي دعاء ابراهيم واسماعيل (...وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ...)
ابراهيم واسماعيل قاما بتسمية هذه الامة بالمسلمين (امة مسلمة لك) ثم يقول (اجتباكم, ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين).
ولو قارنا الايتين:
"... لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...(143)" البقرة
"... لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ...(78)"الحج

نجد ان من سيكون شهيدا على الناس ويكون الرسول عليه شهيدا هم الامة الوسط والتي هي من ذرية ابراهيم (ملة ابيكم ابراهيم).

*في آيتي البقرة (143) و الحج (78) اعلاه اشارة مهمة تستوجب افراد بحث كامل منفرد بها.
هناك (اهل كتاب) و (من اُوتي الكتاب) وهناك (اميين)
لست لاناقش من هم اهل الكتاب ومن هم الذين اوتوا الكتاب ولكن رأيي الحالي وباختصار وقد يحتاج الى بحث كامل اخر ايضا بان اهل الكتاب هم بنو اسرائيل اما الذين اُوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى (التابعين)
اما (الاميين) فهم من ذرية ابراهيم واسماعيل لم يأتهم كتاب مسبقا ولم يخرج منهم رسول بعد...هناك قد يكون احتمالان لتمييز هذه الفئة (الاميين) تاريخيا من القران:

الاحتمال الاول: ان يكون (الاميين) هم الجماعة والامة المسلمة التي تحيط بالرسول وهو منها كما في دعاء ابراهيم واسماعيل وان التسمية مأخوذه من الاُمة. وتكون الاية التالية:
"فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)" ال عمران

مماثلة لحد ما لما قال به عيسى (من انصاري الى الله)...فهنا تبيان وتأكيد وسؤال للجماعة المحيطة به (أأسلمتم)...خاصة نجد ان الله يقول له (قل اسلمت وجهي لله ومن اتبعنِ) ثم يميز الذين اوتوا الكتاب والاميين بسؤال خاص بهم لما لهم من العلم بالكتاب والمعرفة عن طريق تعليم الرسل لهم.

الاحتمال الثاني: ان يكون (الاميين) هو تعريف لجماعة او اٌمّة معروفة بنسبها وامتدادها لابراهيم واسماعيل قد تكون اخذت تسميتها من (اني جاعلك للناس اماما), منهم الذي آمن بالرسالة ومنهم من كان ظالما حالهم حال الناس الاخرين بدليل:
"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)" البقرة

وبذلك تكون الاية:
"فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)" ال عمران

والتي تماثل لحد ما "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)" الشعراء, وهنا قد يتبين انهم عشيرة وجماعة كانت موجودة تعرف بال(اٌميين) نسبها مشترك يعود الى ابراهيم واسماعيل.

اما الاية التالية فتنطبق على الحالتين اعلاه( الاولى والثانية) وتؤكد مفهوم ان (الاميين) هم جماعة معروفة بنسبها وان النبي محمد اٌميّ من الاُميين:
"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)" ال عمران

في الاية اعلاه تأكيد على ان الرسول اُميّ من الاميين...اذ يخاطب القران الرسول ويقول له ان من اهل الكتاب من ان تأمنه يؤد اليك الامانة ومنهم لا يؤدها وحجتهم في عدم تأدية الامانة بانك اُميّ من الاميين (ذرية اسماعيل وابراهيم) وليس علينا في الاميين سبيل.
ذرية ونسل ابراهيم واسماعيل كانت معروفة بتسمية (الاميين) بدلالة الايتين السابقة اعلاه وايضا بدليل: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)" ألجمعة
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)" البقرة

الان نأتي الى الايات التالية:
"أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)" البقرة

الاية (75 و 76) اعلاه المقصود بها بنو اسرائيل بحسب ماسبقها من الايات.
كذلك ان الايات التي تسبق الايات اعلاه من سورة البقرة تتحدث عن بني اسرائيل واعمالهم وافعالهم.
اذ تُذَكِّر الايات في بداية سورة البقرة بني اسرائيل بان يؤمنوا بما تم انزاله لانه مصدق (لما معهم).
كما تبين الايات ان الجماعة المقصوده والمخاطبة (بنو اسرائيل) يتلون الكتاب ويعرفونه جيدا (الاية 44) في الحاضر في زمن القران وليس في الماضي.
. وغيرها من الايات, القصد ان الكلام موجه وبشكل مباشر لمجموعة كانت موجوده في زمن القران اسمها بنو اسرائيل كان لديها معرفة جيده بالكتب السابقة.
هناك من يقول ان (ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب الا اماني) المقصود بها انهم من بني اسرائيل حيث ان منهم اميون لم يطلعوا على الكتاب مسبقا وهذا القصد من معنى الاميين او من يقول ان الاميين هنا تعني عامة الناس ممن لم يأتهم كتاب مسبقا. ولكن بالنظر الى الايات نجد:
الاية (75) تبين انهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه --من بعد ما عقلوه وهم يعلمون-- أي ان المخاطبين (بنو اسرائيل) لهم علم كامل بالكتاب.
فكيف يقول منهم اميون لا يعلمون الكتاب الا اماني وهو على طول السورة وفي هذه الاية يخاطبهم مباشرة ويقول لهم انكم تعلمون الكتاب؟

ابراهيم واسماعيل دعوا الله اثناء رفعهم للقواعد ان يكون هناك ,ومن ذريتهم حصرا, اُمة يبعث فيها رسول منها يُعلّم هذه الامة الكتاب والحكمة ويزكيهم يساندون ويؤازرون الرسول في رسالته على غرار ما كان المفروض ان يفعل بنو اسرائيل مع الرسل. وهنا نجد احد المشاكل الكبيرة لبني اسرائيل مع رسالة الله القران وحامل ومبلغ الرسالة رسول الله محمد, اذ انهم كانوا يريدون ان يكون الرسول من بني اسرائيل ويكونوا البطانة المحيطة بالرسالة والرسول كما كانوا دائما مسبقا ولكن تم استخدام الاميين بدل عنهم تأكيدا لما ورد في التوراة والانجيل "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ...." الاعراف(157)


المعنى يتضح بوحدة سياق الايات (76 و 77 و 78):
"وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ(78)"البقرة
فيتم قراءة المعنى كالتالي:
قالوا (بنو اسرائيل) اتحدثونهم (للذين امنوا) بما فتح الله عليكم ومنهم (اي من الذين امنوا) هناك اميون لا يعلمون الكتاب لانهم ليسوا منكم من بني اسرائيل بل اميون من ذرية ابراهيم واسماعيل لم يأتهم الكتاب مسبقا فيأخذون كلامكم حجة عليكم؟
لاحظ الاية (76) تقول ان بنوا اسرائيل اذا لقوا الذين امنوا قالوا لهم امنا واذا خلا بعضهم لبعض يقولون لماذا تخبروهم بما فتح الله عليكم من الكتاب ومن هؤلاء الذين امنوا مَن هم مِن الاميين الذين لا يعلمون الكتاب مسبقا فيستخدمون علم الكتاب حجة عليكم يلزموكم بها خاصة بان الاميين منهم رسول يعلمهم الكتاب (حسب دعوة ابراهيم واسماعيل) فبما سيتعلموه من الكتاب وبما تحدثونهم به من الكتاب سيكون حجة عليكم.

محمد اُميّ من اُمة ابراهيم واسماعيل. محمد اُميّ من ذرية ابراهيم واسماعيل. والاميون هم امة تعود بنسبها الى ابراهيم واسماعيل.

والسؤال قد يبرز مجددا...لماذا اهل كتاب ولماذا اميين؟ لماذا بنو اسرائيل؟ ماذا عن بقية الناس؟ هل الرسالة موجهة لفئة معينة؟ الجواب الاولي يكون بتذكر موسى وبنو اسرائيل وعيسى والحواريون ومحمد والاميين...وللحديث بقية.



كتبت بتاريخ: 20-10-2011
زيد علي المهدي

الجمعة، 11 مايو 2012

سانب-تعدد الزوجات في الإسلام


الحاج متولي وزوجاته الأربعة – حول تعدد الزوجات في الإسلام

بقلم سانب

في أثناء حوار دار بيني وبين أحد الأصدقاء منذ أيام حول تعدد الزوجات في الإسلام تذكرت بشيء من الأسي المسلسل التليڤزيوني الشهير ‫"‫الحاج متولي‫"‫ الذي صَوَّرَ للمشاهد ‫، ولأول مرة في تاريخ الفن المصري ‫، تعدد الزوجات بشكل إيجابي‫.‫ قام المسلسل علي فكرة بسيطة جداً‫: إذا كان تعدد الزوجات قائم علي مبدأ العدل بينهن فهاهو الحاج متولي يتزوج بأربع نسوة ويعدل!‏ وتبدو الحياة بسيطة وسهلة ‫، بل وجميلة‫ ومطلوبة‫.‫ وفي أثناء ذلك كله لم يرو المسلسل ‫، أو أي ممن عَلَّقُوا عليه من النقاد ‫، أن تعدد الزوجات له شرط أخر ‫، بل شرط مقدم علي شرط العدل بين الزوجات‫!‏
من جهة أخري ‫، ظهرت قريباً بعض الحوارات حول تعدد الزوجات في الجرائد المصرية ‫أثارت حفيظة بعض المعلقين الذين إتهموا المحاورين بالخروج عن صحيح الدين‫ ‫، ذاكرين أن التعدد ثابت في الإسلام بالأية الكريمة‫:
‫(‫‫انكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)‫

وهي أية مشهورة جداً يحفظها الكثيرون‫ ‫كما ذكرناها (‫خاصةً الرجال ‫، ولا عجب‫‫)‫.‫ ولاتجد من يتحدث عن التعدد في الإسلام إلا مستدلاً بهذه الأية‫.‫ والعجب العجاب أن هذه الأية الكريمة ‫، مرويةً هكذا ‫، هي في الواقع مقطوعة من سياقها!‏ بل أكثر من ذلك هي ليست أية كاملة بل جزء من أية‫!‏ يقول سبحانه في سورة النساء

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا * وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)‫

قرأت هذه الأيات كاملة لأول مرة ‫قراءة المدقق‫ منذ بضعة سنوات وإنتابتني الدهشة الشديدة!‏ ما علاقة الزواج بأكثر من واحدة باليتامي وأموالهم‫؟ بطبيعة الحال ذهبت إلي التفاسير المعتمدة لأجد إبن كثير مثلاً يقول

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم ‫‫[‫.‫‫.‫‫.‫‫]  وقوله: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ)‫ ، أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رجلاً كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ)‫ أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. ثم قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ)‫ ، قالت: يابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.

وهو رأي الجماعة‫.‫ ويروي الإمام الرازي أوجه أخري أقل شهرة في فهم هذه الأية فيقول

الوجه الثاني: في تأويل الآية: انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب ‫(‫الإثم‫)‫ الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى، فتحرجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء، فقالوا عدد المنكوحات، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج.
الوجه الثالث: في التأويل: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات.
الوجه الرابع: في التأويل: ما روي عن عكرمة أنه قال: كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام، فاذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ)‫ عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف، فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع، والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما، فكأنه تعالى قال: فان خفتم من الأربع فثلاث، فان خفتم فاثنتان، فان خفتم فواحدة، وهذا القول أقرب، فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير.

‫‫[ملحوظة هامة‫: الفقرة السابقة منقولة حرفياً من كتاب الإمام الرازي والأية ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ) مذكورة هكذا في كتابه ‫، هذا بالطبع ليس قرأناً ولكنه قراءة تفسيرية كما إعتاد بعض الأقدمون‫]
ويقول السيوطي في كتابه ‫"‫إعراب القرأن‫"‫‫ بالوجه الرابع أيضاً ثم يضيف عليه‫:
الوجه الخامس‫: وإلى هذا الوجه أشار أبو علي بعدما حكى عن أبي العباس في كتابه في القرآن تعجب الكسائي من كون ‫"‫فانكحوا ما طاب لكم‫"‫ جواباً لقوله‏: ‫"‫وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي‫"‫‏‏.‏ قال‏:‏ وقاله أبو عبيد وليس هذا الجواب فإنما الجواب في قوله‏:‏ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم كأنه قال‏:‏ فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏.‏ فقال أبو علي‏:‏ جواب إن خفتم الفاء في فواحدة كأنه في التقدير‏:‏ إن خفتم ألا تقسطوا إن كثرت عليكم مؤن الزوجات وأحوجتهم إلى مال اليتامى‏.‏ أي‏:‏ فانكحوا واحدة‏.‏ وقوله‏: فإنكحوا ما طاب‏ اعتراض بين الشرط والجزاء مثل قولك‏:‏ إن زيداً - فافهم ما أقول - رجل صدق‏.‏ قال‏:‏ ولما كان الكلام باعتراض الجملة المسددة للشرط كرر الشرط ثانياً فقيل‏:‏ فإن خفتم ألا تعدلوا وهو قوله‏:‏  وإن خفتم ألا تقسطوا‏.‏

طبقاً لهذا فإن علاقة اليتامي بالزواج هي أحد ما يلي‫:

الوجه الأول‫: إذا كان عندك يتيمة تربيها فأردت زواجها بدون أن تعطها مهراً فقف عندك ولا تفعل‫ وتزوج من عداها من يحلو لك من النساء حتي أربع‫ ‫(‫وقيل تسعة وقيل أيضاً ثماني عشر‫)‫.‫
الوجه الثاني‫: إذا خفتم عدم العدل في اليتامي فبنفس المنطق خافوا عدم العدل بين الزوجات‫.‫
الوجه الثالث‫: إن خفتم عدم العدل في اليتامي فبنفس المنطق خافوا الزنا‫.‫
الوجه الرابع‫: في حالة تعدد الزوجات لا يكون الإنفاق عليهن بمال اليتامي اللائي تحت مسئوليتكم‫.‫
الوجه الخامس‫: أن معني الأية هو ‫"‫‫ فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏"‫ وتكون ‫"‫فإنكحوا ما طاب‫‫"‫ جملة إعتراضية بين الشرط وجوابه‫.‫‫

والحقيقة أن هذه الأوجه لتثير عندنا بعض التساؤلات‫.‫

الوجه الأول مثلاً ‫، وهو رأي الجماعة ‫، يفسر الأية علي أنها جملة شرطية‫:

إن خفتم ‫(‫شرط‫)‫ ‫.‫‫.‫‫.‫ ‫فإنكحوا‫ ‫(‫جواب الشرط‫)‫

وهو ما سنتفق فيه معهم ‫، ولكن سنختلف في معني ذلك‫.‫ فالمعني المقصود هنا ‫، في نظرهم ‫، هو أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأكثر من واحدة إلا في حالة ما أن تكون له يتيمة يربيها وأراد زواجها بلا قسط ‫(‫عدل‫)‫ في مهرها ‫، فهنا عليه أن يتركها ويتزوج بأخريات‫.‫ نلاحظ أن الجملة علي هذا الوجه شرطية ‫، أي أنها تنهي عن التعدد إذا لم يتحقق الشرط‫!‏ ونحن نتفق في عامة هذا ولكننا سنختلف في معناه ‫، كما سيرد‫.‫ ويثير عجبنا أيضاً علي أنه علي الرغم من وضوح هذا المعني عند من يقولون به فإنهم يتناسون وجود هذا الشرط ويبيحون تعدد الزوجات مطلقاً بلا قيود ‫، عدا شرط العدل الذي هو شرطاً نسبياً من الصعب تقنينه‫.‫ أي أننا لم نسمع أحداً يقول‫: يا أيها المسلمون حرام عليكم الزواج بأكثر من واحدة إلا إذا كان لديكم ربيبة يتيمة تربونها وكنتم في ما سبق راغبين في الزواج منها بقصد عدم العدل في مالها‫.‫ ومن يعدد بلا وجود ربيبة فهو زان‫‫.‫ أليس هذا هو معني الشرط بالأية‫؟ لم لا يقولون بهذا إذاً‫؟ هناك أيضاً من التساؤلات الكثير في هذا الفهم‫.‫ مثلاً ‫، إذا كان اليتامي المقصودون هنا من الإناث فلماذا لم يقل ‫"‫إن خفتم الا تقسطوا في اليتيمات‫"‫‫‫؟ وإذا كن هؤلاء اليتيمات هن المقصودات بالزواج فلم رجع وقال ‫(‫‫وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ) ‫، ألم يكن هؤلاء اليتامي بالغات للنكاح من الأصل ولذلك فقد حرم نكاحهن بلا قسط في مهورهن‫؟

فلنستمر

الوجهان الثاني والثالث نري فيهم الشيء العجاب‫.‫ فهي تفسيرات غير قائمة علي المعني اللغوي للأيات‫.‫‫ لأن الله سبحانه لم يقل ‫(‫إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فخافوا ألا تعدلوا بين الزوجات أو فخافوا الزنا‫)‫ بل قال ‫(‫إن خفتم ألا تقسطوا ‫.‫‫.‫‫.‫ فإنكحوا‫)‫ أي أن النكاح ‫(‫الزواج‫)‫ هو جواب الشرط هنا‫.‫ ولا يصح أن نقول ‫(‫كما قال بعض الجاهلون بأصول اللغة‫)‫ أن جواب شرط ‫"‫إن‫"‫ محذوف‫.‫ فإن ذلك لا يليق‫.‫ جواب الشرط يكون محذوفاً عند وضوح المعني‫.‫ فمثلاً يصح أن نقول ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‫"‫ فجواب الشرط هنا هو ‫"‫إنكحوا‫"‫ أي أن المعني هو ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فإنكحوا واحدة‫"‫ ‫، وحذف جواب الشرط لوضوح المعني‫.‫ أما أن نقول أن جواب الشرط محذوفاً ولا نعرف ما هو فنسمح لأنفسنا بوضع أي كلام مكانه فهذا ما لايليق بمحاولة فهم كلام الله‫.‫ فلا يصح مثلاً أن نقول ‫أن أية ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‫"‫ جواب شرطها المحذوف هو ‫"‫إقتلوا‫"‫ ‫(‫مثلاً‫)‫ فهو إقحام علي المعني ما ليس فيه‫.‫ وهكذا فإن الإدعاء أن جواب الشرط في أية التعدد هو ‫"‫خافوا‫"‫ مثلاً أو شيئاً من هذا القبيل هو إقحام علي كلام الله ما ليس به‫.‫

أما الوجه الرابع فغريب أيضاً لأن معناه أن التعدد هنا حدث أولاً ثم تلاه واقعة الخوف من القسط في اليتامي ولكن الله سبحانه أوضح في الأيات أن الخوف من القسط في اليتامي هو أمر سابق لنكاح التعدد وليس لاحق‫‫.‫

أما الوجه الخامس الذي ذكره السيوطي فلا تعليق عليه فهو ‫، في ما نري ‫، لّي لعنق المعني لا جدال فيه‫.‫ وأغلب المفسرون إختلفوا مع السيوطي في ذلك علي كل حال‫.‫

والتفاسير الحديثة عاد‫ةً ما تأخذ بالوجه الأول في تفسير الأية ‫، فيقول الشعراوي مثلاً

‫(‫‫أى فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء. ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل: اترك واحدة وخذ واحدة، لكنه أوضح: اترك اليتيمة وأمامك النساء الكثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجىء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولى عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة ؛ لأن النساء غيرها كثيرات)

وقال ما شابه ذلك الألوسي في روح المعاني وسيد قطب في الظلال وكذلك طنطاوي في الوسيط‫.‫ ولم يذكر أحداً منهم أن وجود الشرط في الأية يَجُب ما عداه ‫، أي أنه يَحْرُم أن يعدد الرجل ما لم يتحقق لديه شرط الخوف من القسط في اليتامي!‏ ونحن نجد ذلك غريباً لوضوح الشرط في الأية‫.‫‫

ولكننا إذاً نتفق مع غالبية المفسرين أن أية التعدد أية شرطية واضحة‫:

إن خفتم ‫(‫شرط‫)‫ ‫.‫‫.‫‫.‫ ‫فإنكحوا‫ ‫(‫جواب الشرط‫)‫

وقال بهذا الغير قليل من علماء اللغة أيضاً ‫، أنظر مثلاً النحاس في كتابه ‫"‫إعراب القرأن‫‫"‫

‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ..‫)‫ [3‫]
 شرط أي إِن خفتم ألاّ تِعدِلُوا في مُهُورِهِنّ في النفقة عليهن ‫(‫فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ‫)‫ فدلّ بهذا على أنه لا يقال: نساء إِلا لمن بلغ الحلم. واحدُ النساء نسوة ولا واحد لنسوة من لَفظه ولكن يقال: إمرأة. ويقال: كيف جَاءت "ما" للآدميين ففي هذا جوابان: قال: الفراء: "ما" ههنا مصدر وهذا بعيد جدّاً/ 45 أ/ لا يصحّ فانكِحوا الطيبة وقال البصريون: "ما" تقع للنعوت كما تقع "ما" لما لا يعقل يقال: "ما عِندكَ؟" فيقال" ظريف وكريم فالمعنى فانكِحُوا الطيب من النساء أي الحلال وما حَرّمهُ الله فليس بطيب. ‫(‫مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ‫)‫ في موضع نصب على البدل من "ما" ولا ينصرف عند أكثر البصريين في معرفة ولا نكرة لأن فيه عِلّتين إِحداهما أنه معدول.

ونتساءل نحن‫: الشرط عادةً ينفي ماعداه ‫، فإذا قلنا مثلاً ‫"‫‫إن خاف عادل من المرض فلا يأكل من الباعة الجائلين"‫‫.‫ الشرط هو ‫"‫الخوف من المرض‫"‫ وجوابه هو ‫"‫عدم الأكل‫"‫ ولذا يكون المعني أن عدم الأكل لا يقع إلا في حالة الخوف‫.‫ أي أن إذا كان التعدد مشروطاً فلا يصح ‫، بل لا يحل ‫، التعدد إن لم يتحقق شرط ‫"‫الخوف من القسط في اليتامي‫"‫‫.‫ ومن هنا نقول أن من يتزوج بأكثر من واحدة من غير أن يحقق الشرط هو زاني‫!‏!‏

ولكن هذا مما يثير مشكلة جديدة‫.‫ من الواضح أن قصة الربيبة في حجر وليها هذه حالة خاصة جداً ‫، وإن سلمنا أنها كانت حالة منتشرة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فهي ليست كذلك الأن‫.‫ فنحن لا نري ‫"‫اليتامي في حجر أوليائهم‫"‫ مما يتكرر كثيراً في مجتمعاتنا الحديثة‫.‫ وفي هذا قولان‫‫:

القول الأول‫:

أن ينتفي الحكم مع إنتفاء العلة ‫، كما القاعدة الفقهية المشهورة ‫، أي أنه في حالة عدم وجود ‫"‫ربيبات في حجر أوليائهم‫"‫ فإن ذلك مما ينفي رخصة التعدد ويصبح التعدد حراماً وزنا ‫، وتنتهي المشكلة عند هذا الحد‫.‫‏

القول الثاني‫:

أن نجد للأية معني أخر ملائماً للعصر ‫، أي أن نُسَّلِمْ ‫، كما يري كاتب هذه السطور ‫، أن النص ثابت والفهم متغير ‫، بمعني أن أيات القرأن لها من المعاني الكثير ‫(‫القرأن حمال أوجه كما قال الإمام علي كرم الله وجهه‫)‫ يفهمها الناس بحسب مجتمعاتهم وعصورهم‫.‫ وأن كلها معانٍ صحيحة ‫، لأن الصواب والخطأ نسبيان ومتغيران‫.‫ فنجد مثلاً الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يغير متعمداً في أحكام الزكاة بلا نص قرأني أو من أقوال الرسول لأنه فهم كما فهمنا‫. ومن هنا تسقط حجة القائلون بأن فهم الصحابة للقرأن هو الفهم الوحيد الصحيح الواجب إتباعه حتي يرث الله الأرض ومن عليها‫.‫ ولاشك عندنا أن هذا هو مقصد الله سبحانه وتعالي وأصل القول أن القرأن لكل زمان ومكان‫.‫

ماهو إذاً هذا المعني الأخر‫؟ هو ما قاله عدد من المفكرين ‫، مثال ذلك مؤخراً الدكتور أحمد السايح أستاذ الدراسات الإسلامية والعالم الأزهري الكبير‫.‫ فالأيات

‫(‫‫يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا * وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًاْ)

‫تدور حول اليتامي كموضوع أساسي وتضع فيه قواعد إجتماعية عميقة الأثر وبالغة المعني‫.‫ فالله سبحانه وتعالي يبدأ كلامه العزيز بأمر الناس بإتقاءه ثم يسترسل بوضع حجر الأساس في الموضوع كله ‫، ألا وهو إيتاء اليتامي ‫(‫ذكوراً وإناثاً‫ ‫، وإلا كان قال ‫"‫يتيمات‫"‫)‫ حقوقهم وأموالهم‫.‫ ثم يقول أنه إذا كان هناك خوف من العدل في اليتامي فحل ذلك هو الزواج بأكثر من واحدة‫.‫ فما علاقة هذه بتلك‫؟ اليتيم لغةً هو من فقد والده وليس أمه ‫، ويسمي يتيماً في طفولته حتي يبلغ النكاح‫.‫ فنري أن المقصود هنا هو وضعاً إجتماعياً راجحاً في كل مكان وزمان ‫، ألا وهو وجود نسوة فقدن أزواجهن تاركين لهن يتامي ‫، ويأمرنا الله بالعدل والقسط في هؤلاء اليتامي ‫، فإن خفنا عدم العدل فحل ذلك هو الزواج من أمهاتهم لرعاية هؤلاء اليتامي مع إضافة شرط أخر وهو العدل بين هؤلاء الزوجات‫.‫ فإن خاف الرجل عدم العدل بينهن فعدم التعدد أولي‫.‫ ويضيف ‫"‫أو ما ملكت أيمانكم‫"‫ أي الإماء اللائي يحل وطئهن سواء كان ذلك بوجود شرط اليتامي أو لا ‫، ودلالة ذلك قوله ‫"‫أو ما ملكت‫"‫ وليس ‫"‫وماملكت‫"‫‫.‫ ثم يستسرسل ‫"‫ذلك أدني ألا تعولوا‫"‫ ‫و العول هو الجور والظلم‫.‫

شرط التعدد الأساسي إذاً ‫، في رأينا ‫، هو إعالة أيتام الزوجة الثانية والثالثة والرابعة‫.‫ فالتعدد بفتاة بكر لا أطفال لها في ظل هذه الأيات محرم‫.‫ بل نستمر فنقول أن التعدد من نساء لديهن أطفال أيتام ولكن هؤلاء الأطفال ليسوا بحاجة إلي رعاية محرم أيضاً‫.‫ فالشرط ليس وجود اليتامي ‫، بل هو الخوف من القسط في اليتامي ‫، فإذا إنتفي الشرط سقط جوابه ‫ورُفِعَ الحكم بإنتفاء العلة‫.‫ في عصرنا هذا مثلاً نجد الكثير من البلاد بها جهات رسمية ترعي الأيتام وتراقب حقوقهم المادية والمعنوية ‫، ولا حاجة لهذه الأمم لمثل رخصة التعدد هذه ‫، فمن هذا الوجه أيضاً يصبح التعدد حراماً‫.‫ أما قوله ‫"‫ما طاب لكم‫"‫ فهو ما يعطي للرجل الحق في إنتقاء الزوجة الثانية‫‫\الثالثة‫\الرابعة من أمهات الأيتام بحسب ما يري ‫، فهي ستكون زوجةً له بكل ما في الكلمة من معاني المودة والرحمة‫‫.‫

في جميع الأحوال ‫، سواء أخذنا بالقول الأول الموجود في التفاسير أو القول الثاني فالتعدد مشروط ولا يحل علي إطلاقه‫.‫ أي أن زواج الحاج متولي من فتاة بكر يعد زواجاً باطلاً تحت أياً من القولين!‏ ونحن إذ نرجح القول الثاني نظراً لوضوح سياق الأيات وعموم العلة علي القول الأول الخاص بعلة خاصة جداً ولا تتكرر كثيراً ‫، فإننا لا مانع عندنا من قبول القول الأول‫.‫ في الحالتين التعدد يصبح حالة خاصة ولا يصح إطلاقه‫ بلا رابط بحجة مقدرة الرجل علي العدل‫ ‫، الذي هو الشرط الثاني ‫، مهملين الشرط الأول والأساسي ‫، بل ما هو أساس هذه الفقرة من سورة النساء بأكملها.‫

نختتم هذا المقال بذكر رأي الشيخ محمد رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده في تفسيره حيث قال‫ ‫[مابين قوسين من عندي‫]:
‫"‫وقد يصح أن يقال أنه يجوز أن يراد بالأية ‫[إن خفتم ‫.‫‫.‫‫.‫‫] مجموع تلك المعاني ‫[يقصد الأوجه المختلفة التي أوردناها ‫، عدا رأينا‫] من قبيل رأي الشافعية الذين يجوزون إستعمال اللفظ المشترك في كل ما يحتمله الكلام من معانيه وإستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معاً‫.‫ والذي يقرره كاتب هذا الكلام ‫[رشيد رضا‫] في دروس التفسير دائماً هو أن كل ما يتناوله اللفظ من المعاني المتفقة يجوز أن يكون مراداً منه لا فرق في ذلك بين المفردات والجمل ‫، وعلي هذا تكون الأية مرشدة إلي إبطال كل تلك الضلالات والمظالم التي كانت عليها الجاهلية في أمر اليتامي وأمر النساء‫"‫

ويسترسل الأستاذ رشيد رضا ذاكراً رأي أستاذه الإمام الذي كان ميالاً إلي رأي الجماعة في هذا الموضوع‫:

‫"‫وقد قال تعالي في أية أخري من هذه السورة (‫ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‫)‫ ‫[‫.‫‫.‫‫.‫‫] فمن تأمل الأيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها ‫[فقط‫] بشرط الثقة التامة بإقامة العدل والأمن من الجور‫ ‫، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب علي التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات‫"‫

ويستمر الأستاذ رشيد في كتابه الرائع في شرح مذهب الأستاذ الإمام حول هذا الموضوع ‫، قائماً علي ما عهدناه منهما من عقلانية في فهم النص الإلهي‫.‫

أياً كان فمن الواضح أن تعدد الزوجات رخصة ضيقة التطبيق سواء كانت علتها ما ذهب إليه المفسرون أو ما ذهبنا إليه من إجتهاد‫.‫ وهذه الرخصة لا يؤثم تاركها ‫، فهي ليست فرضاً بأي حال من الأحوال ‫، فإذا رأي ولي الأمر ‫، أي القانون الوضعي ‫، أن يقيد أو يمنع التعدد تماماً فلا جناح عليه في ذلك إن تحقق أن الدولة بقوانينها الوضعية تستطيع أن تطبق شرط اليتامي ‫، أياً كان معناه ‫، وتحفظ لكل يتيمٍ أو يتيمةٍ حقهما‫.‫

والله أعلم

*******************************
ملحق‫:
إطلعت بعد إنتهائي من كتابة الموضوع علي رأي المفكر السوري عدنان الرفاعي في موضوع تعدد الزوجات ‫‫(‫‫http://www.thekr.net/thekr/books/t3ddalzawgat.doc)‫ وملخصه إعادة تفسير كلمة ‫"‫يتامي‫"‫ في الأية ‫"‫‫ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى ‫.‫‫.‫‫.‫"‫ بمعني اليُتم الأصلي وهو التفرد ‫، ويفسرها الرفاعي بأنها الزوجات المتفردات اللائي لا يجدن نكاحاً ‫(‫العوانس‫)‫ ‫، وهنا يُصرح لرجال المسلمين بالتعدد لتغطية أعداد العوانس الزائدة‫.‫ وعلي الرغم من تحليل الرفاعي المنطقي فإني أجد في هذا الرأي بعض الثغرات ‫، من أهمها إستخدام نفس الكلمة في الأيات السابقة واللاحقة وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ‫.‫‫.‫‫.‫"‫ ‫ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ .‫‫.‫‫.‫"‫ بمعناها المعتاد بصورة واضحة ‫، ومن هنا لا يكون من المنطقي ‫، علي الأقل ترجيحاً ‫، أن تُذكر كلمة اليتامي ثلاث مرات متتابعة في سياقٍ واحد بمعنيين مختلفين‫.‫