الأربعاء، 23 مايو 2012

القران و الرسول الأمي


القران والنبي الاُمّيّ
بقلم: زيد علي المهدي
كتبت بتاريخ: 20-10-2011

لقراءة اوضح ارجو الضغط على:

طالما سمعنا ان النبي محمدا كان اُميّا وطالما تم تعريف كلمة الاُميّ بانه لا يقرأ ولا يكتب.
سنتطرق في هذا البحث عن معنى (الاُميّ) قرآنيا وهل لها علاقة بالقراءة والكتابة ام لها معنى اخر.

الاية التالية تذكر الرسول محمد وتصفه بالاُمّيّ:
"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)" الاعراف

فما هو هذا الوصف (الاٌمي)؟ وهل هو وصف للقراءة والكتابة ام تعريف وتخصيص معين اخر يختلف؟
نعود بالزمن قرآنيا الى ما قبل رسالة الله القران وحاملها ومبلغها رسول الله محمد.

نعود قرآنيا الى نبي الله ابراهيم ومعه اسماعيل وننظر الى الاية التالية بتمعن:

"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)" البقرة

ابراهيم واسماعيل يرفعون القواعد من البيت ابراهيم واسماعيل يدعون...ولكن ما هو دعاؤهم؟

جزء من الدعاء (ومن ذريتنا امة مسلمة لك) ومن ثم (وابعث فيهم -اي في هذه الامة المسلمة التي هي من ذريتنا- ابعث فيهم رسولا منهم -اي من ذريتنا ايضا- يتلو عليهم اياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) هنا ابراهيم واسماعيل يتوجهون بالدعاء الى الله ويدعون منه ان تكون من ذريتهم المشتركه -اُمة- مسلمة ومن هذه الامة المعينه المسلمة يُبعث رسول. اذاُ هذا الرسول حسب دعائهم سيكون من امة مُوَحِدة مسلمة مسبقاً حسب الاسلام الابراهيمي وتكون من ذرية ابراهيم واسماعيل. 
هل تم الاستجابة لهذا الدعاء؟ الجواب نعم وبكل تأكيد فلو نقرأ بعد عدد قليل من الايات يأتي تحقيق وتلبية الدعاء: 
"كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)" البقرة

الكلام هنا موجه للامة من ذرية ابراهيم والكلام هو جواب واعادة كاملة لنفس دعاء ابراهيم واسماعيل. نطابق الاية اعلاه البقرة (151) مع البقره (128) و (129):
يتلو عليكم اياتنا == يتلو عليهم اياتك
 يعلمكم الكتاب والحكمة == يعلمهم الكتاب والحكمة 


الان لننظر الى هذه الاية الاخرى التي تؤكد على الاستجابة لدعاء ابراهيم واسماعيل وليس هذا فقط بل ستوضح مفهوم اخر:
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)" الجمعة
الان مجددا نطابق الاية اعلاه الجمعة (2) مع البقرة (128) و (129):
بعث في الاميين رسولا منهم == ابعث فيهم رسولا منهم (وفيهم ومنهم هنا تعود على الامه من ذريتنا)
يتلو عليهم اياته == يتلو عليهم اياتك
يزكيهم == يزكيهم
يعلمهم الكتاب والحكمة == يعلمهم الكتاب والحكمة

دعاء ابراهيم واسماعيل تم الاستجابة له بان جعل الله من ذريتهما معاً اُمةً مسلمة وبعث في هذه الامة رسولا منها (من نفس الامه) يتلو عليهم ايات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

وبجمعنا لايات سورة البقرة الثلاثة معا يتبين لنا الربط بان المُتَكَلم معهم هم ذرية ابراهيم واسماعيل:

"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)" البقرة
"كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)" البقرة

"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)" الجمعة 
الان لننتبه الى كلمة (الاُمة)...الاُمة هي من ذرية ابراهيم واسماعيل وهذه الامة صفتها انها مسلمة كما سماها ابراهيم واسماعيل في دعائهما والنبي والرسول محمد هو مسلم من هذه الذرية ويجب ان يكون من هذه الامة حسب الدعاء (وابعث فيهم رسولا منهم) اي من هذه الامة المسلمة التي هي من ذريتنا...الان سيتضح معنى الايات التالية:
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)" الجمعة
الاُميين هم من الاُمة المسلمة ومن الذرية التي دعا بها ابراهيم واسماعيل (حسب دعاء ابراهيم واسماعيل والاستجابة لهذا الدعاء)
"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)" الاعراف الرسول النبي الاُمي أي من الامة المسلمة التي هي من ذرية ابراهيم واسماعيل التي دعوا الله بان يجعلها من ذريتهم وتم الاستجابة لهذا الدعاء وهو موجود في التوراة والانجيل وقد يكون دعاء ابراهيم واسماعيل مذكور وموثق تماما كما وثقها القرآن. 
"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)" الاعراف رسوله النبي الامي من نسل وسلالة واُمة ابراهيم واسماعيل, الذرية والامة التي دعا بها ابراهيم واسماعيل. 

قد يتسائل القارئ, ما فائدة ان يختص الله اُمة معينة من بين الناس ليرسل لها رسول؟ وهل لو لم يدعو ابراهيم واسماعيل لما ارسل الله رسول؟

بالنسبة للسؤال الثاني, ابراهيم واسماعيل كانت دعواهم ان يُبعث رسول في ذريتهم المسلمة ان حقّت الرسالة...فلم تنتهي رسالات الله في زمن ابراهيم واسماعيل ودعائهم كان بأن اذا تم بعث رسول فيرجون ان يكون من ذريتهم. هذا الرسول يكون في امة من ذرية ابراهيم واسماعيل يعلمهم الكتاب والحكمة ليكونوا جميعهم سند للرسول في التبشير وايصال الرسالة بما سيتعلموه من تعاليم الكتاب والحكمة.

لكل رسول هناك جماعة معه تنصره وتؤازره وتدعو الى الدعوة معه يتم تعليمها الكتاب والحكمة لتحمل على عاتقها مهمة الدعوة, فموسى كان معه بنو اسرائيل وهي مجموعة معينه كان المفروض بها ان تؤازر موسى وتساعده في مهمته ففعلت ما فعلت..اما اليهود فهم التابعون فقط. 
"وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)" الجاثية
"أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)" الشعراء 
اما عيسى فكان من المفروض ان يكون معه بنو اسرائيل ايضا ولكن فعلوا ما فعلوا ايضا فلما احس منهم الكفر قال من انصاري الى الله فاستجاب له الحواريون انصاره الى الله وهي الجماعة التي تنصره وتؤازره:
"وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ....(49)" الى قوله "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)" ال عمران
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)" الصف
اما الرسول محمد فقد كان الذين آمنوا من المسلمين من ذرية ابراهيم واسماعيل (المؤمنون منهم والموجودون معه) هم من تم تكليفهم بمؤازرة ومساندة النبي الامي الذي هو منهم والذي علمهم الكتاب والحكمة وزكاهم, هذه الامة كانت خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وهي امة معينة من ذرية ابراهيم واسماعيل, والرسول النبي محمد جزء من هذه الامة:
"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)" ال عمران

فليست الاية اعلاه تعني اُمة العرب او الامة الاسلامية...ولكنها الامة المسلمة التي من ذرية ابراهيم واسماعيل التي دعوا بها الله ان يخرجها للناس ويبعث فيهم رسولا منهم.

كذلك, هي الامة الوسط المكلفة بالشهادة على الناس وسيشهد عليهم الرسول بقوله:
"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143)" البقرة

ويؤكد كدليل على ان هذه الامه الوسط هي نفسها الامة في دعاء ابراهيم واسماعيل وهي نفسها الامة من ذرية ابراهيم واسماعيل التي بُعِثَ منها الرسول ولها واجب الشهادة على الناس وكون الرسول شهيدا عليهم اذ علمهم الكتاب والحكمة وزكاهم:
"وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)" الحج
  اذ يقول (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ) وفي دعاء ابراهيم واسماعيل (...وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ...)
ابراهيم واسماعيل قاما بتسمية هذه الامة بالمسلمين (امة مسلمة لك) ثم يقول (اجتباكم, ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين).
ولو قارنا الايتين:
"... لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...(143)" البقرة
"... لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ...(78)"الحج

نجد ان من سيكون شهيدا على الناس ويكون الرسول عليه شهيدا هم الامة الوسط والتي هي من ذرية ابراهيم (ملة ابيكم ابراهيم).

*في آيتي البقرة (143) و الحج (78) اعلاه اشارة مهمة تستوجب افراد بحث كامل منفرد بها.
هناك (اهل كتاب) و (من اُوتي الكتاب) وهناك (اميين)
لست لاناقش من هم اهل الكتاب ومن هم الذين اوتوا الكتاب ولكن رأيي الحالي وباختصار وقد يحتاج الى بحث كامل اخر ايضا بان اهل الكتاب هم بنو اسرائيل اما الذين اُوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى (التابعين)
اما (الاميين) فهم من ذرية ابراهيم واسماعيل لم يأتهم كتاب مسبقا ولم يخرج منهم رسول بعد...هناك قد يكون احتمالان لتمييز هذه الفئة (الاميين) تاريخيا من القران:

الاحتمال الاول: ان يكون (الاميين) هم الجماعة والامة المسلمة التي تحيط بالرسول وهو منها كما في دعاء ابراهيم واسماعيل وان التسمية مأخوذه من الاُمة. وتكون الاية التالية:
"فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)" ال عمران

مماثلة لحد ما لما قال به عيسى (من انصاري الى الله)...فهنا تبيان وتأكيد وسؤال للجماعة المحيطة به (أأسلمتم)...خاصة نجد ان الله يقول له (قل اسلمت وجهي لله ومن اتبعنِ) ثم يميز الذين اوتوا الكتاب والاميين بسؤال خاص بهم لما لهم من العلم بالكتاب والمعرفة عن طريق تعليم الرسل لهم.

الاحتمال الثاني: ان يكون (الاميين) هو تعريف لجماعة او اٌمّة معروفة بنسبها وامتدادها لابراهيم واسماعيل قد تكون اخذت تسميتها من (اني جاعلك للناس اماما), منهم الذي آمن بالرسالة ومنهم من كان ظالما حالهم حال الناس الاخرين بدليل:
"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)" البقرة

وبذلك تكون الاية:
"فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)" ال عمران

والتي تماثل لحد ما "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)" الشعراء, وهنا قد يتبين انهم عشيرة وجماعة كانت موجودة تعرف بال(اٌميين) نسبها مشترك يعود الى ابراهيم واسماعيل.

اما الاية التالية فتنطبق على الحالتين اعلاه( الاولى والثانية) وتؤكد مفهوم ان (الاميين) هم جماعة معروفة بنسبها وان النبي محمد اٌميّ من الاُميين:
"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)" ال عمران

في الاية اعلاه تأكيد على ان الرسول اُميّ من الاميين...اذ يخاطب القران الرسول ويقول له ان من اهل الكتاب من ان تأمنه يؤد اليك الامانة ومنهم لا يؤدها وحجتهم في عدم تأدية الامانة بانك اُميّ من الاميين (ذرية اسماعيل وابراهيم) وليس علينا في الاميين سبيل.
ذرية ونسل ابراهيم واسماعيل كانت معروفة بتسمية (الاميين) بدلالة الايتين السابقة اعلاه وايضا بدليل: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)" ألجمعة
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)" البقرة

الان نأتي الى الايات التالية:
"أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)" البقرة

الاية (75 و 76) اعلاه المقصود بها بنو اسرائيل بحسب ماسبقها من الايات.
كذلك ان الايات التي تسبق الايات اعلاه من سورة البقرة تتحدث عن بني اسرائيل واعمالهم وافعالهم.
اذ تُذَكِّر الايات في بداية سورة البقرة بني اسرائيل بان يؤمنوا بما تم انزاله لانه مصدق (لما معهم).
كما تبين الايات ان الجماعة المقصوده والمخاطبة (بنو اسرائيل) يتلون الكتاب ويعرفونه جيدا (الاية 44) في الحاضر في زمن القران وليس في الماضي.
. وغيرها من الايات, القصد ان الكلام موجه وبشكل مباشر لمجموعة كانت موجوده في زمن القران اسمها بنو اسرائيل كان لديها معرفة جيده بالكتب السابقة.
هناك من يقول ان (ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب الا اماني) المقصود بها انهم من بني اسرائيل حيث ان منهم اميون لم يطلعوا على الكتاب مسبقا وهذا القصد من معنى الاميين او من يقول ان الاميين هنا تعني عامة الناس ممن لم يأتهم كتاب مسبقا. ولكن بالنظر الى الايات نجد:
الاية (75) تبين انهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه --من بعد ما عقلوه وهم يعلمون-- أي ان المخاطبين (بنو اسرائيل) لهم علم كامل بالكتاب.
فكيف يقول منهم اميون لا يعلمون الكتاب الا اماني وهو على طول السورة وفي هذه الاية يخاطبهم مباشرة ويقول لهم انكم تعلمون الكتاب؟

ابراهيم واسماعيل دعوا الله اثناء رفعهم للقواعد ان يكون هناك ,ومن ذريتهم حصرا, اُمة يبعث فيها رسول منها يُعلّم هذه الامة الكتاب والحكمة ويزكيهم يساندون ويؤازرون الرسول في رسالته على غرار ما كان المفروض ان يفعل بنو اسرائيل مع الرسل. وهنا نجد احد المشاكل الكبيرة لبني اسرائيل مع رسالة الله القران وحامل ومبلغ الرسالة رسول الله محمد, اذ انهم كانوا يريدون ان يكون الرسول من بني اسرائيل ويكونوا البطانة المحيطة بالرسالة والرسول كما كانوا دائما مسبقا ولكن تم استخدام الاميين بدل عنهم تأكيدا لما ورد في التوراة والانجيل "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ...." الاعراف(157)


المعنى يتضح بوحدة سياق الايات (76 و 77 و 78):
"وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ(78)"البقرة
فيتم قراءة المعنى كالتالي:
قالوا (بنو اسرائيل) اتحدثونهم (للذين امنوا) بما فتح الله عليكم ومنهم (اي من الذين امنوا) هناك اميون لا يعلمون الكتاب لانهم ليسوا منكم من بني اسرائيل بل اميون من ذرية ابراهيم واسماعيل لم يأتهم الكتاب مسبقا فيأخذون كلامكم حجة عليكم؟
لاحظ الاية (76) تقول ان بنوا اسرائيل اذا لقوا الذين امنوا قالوا لهم امنا واذا خلا بعضهم لبعض يقولون لماذا تخبروهم بما فتح الله عليكم من الكتاب ومن هؤلاء الذين امنوا مَن هم مِن الاميين الذين لا يعلمون الكتاب مسبقا فيستخدمون علم الكتاب حجة عليكم يلزموكم بها خاصة بان الاميين منهم رسول يعلمهم الكتاب (حسب دعوة ابراهيم واسماعيل) فبما سيتعلموه من الكتاب وبما تحدثونهم به من الكتاب سيكون حجة عليكم.

محمد اُميّ من اُمة ابراهيم واسماعيل. محمد اُميّ من ذرية ابراهيم واسماعيل. والاميون هم امة تعود بنسبها الى ابراهيم واسماعيل.

والسؤال قد يبرز مجددا...لماذا اهل كتاب ولماذا اميين؟ لماذا بنو اسرائيل؟ ماذا عن بقية الناس؟ هل الرسالة موجهة لفئة معينة؟ الجواب الاولي يكون بتذكر موسى وبنو اسرائيل وعيسى والحواريون ومحمد والاميين...وللحديث بقية.



كتبت بتاريخ: 20-10-2011
زيد علي المهدي

الجمعة، 11 مايو 2012

سانب-تعدد الزوجات في الإسلام


الحاج متولي وزوجاته الأربعة – حول تعدد الزوجات في الإسلام

بقلم سانب

في أثناء حوار دار بيني وبين أحد الأصدقاء منذ أيام حول تعدد الزوجات في الإسلام تذكرت بشيء من الأسي المسلسل التليڤزيوني الشهير ‫"‫الحاج متولي‫"‫ الذي صَوَّرَ للمشاهد ‫، ولأول مرة في تاريخ الفن المصري ‫، تعدد الزوجات بشكل إيجابي‫.‫ قام المسلسل علي فكرة بسيطة جداً‫: إذا كان تعدد الزوجات قائم علي مبدأ العدل بينهن فهاهو الحاج متولي يتزوج بأربع نسوة ويعدل!‏ وتبدو الحياة بسيطة وسهلة ‫، بل وجميلة‫ ومطلوبة‫.‫ وفي أثناء ذلك كله لم يرو المسلسل ‫، أو أي ممن عَلَّقُوا عليه من النقاد ‫، أن تعدد الزوجات له شرط أخر ‫، بل شرط مقدم علي شرط العدل بين الزوجات‫!‏
من جهة أخري ‫، ظهرت قريباً بعض الحوارات حول تعدد الزوجات في الجرائد المصرية ‫أثارت حفيظة بعض المعلقين الذين إتهموا المحاورين بالخروج عن صحيح الدين‫ ‫، ذاكرين أن التعدد ثابت في الإسلام بالأية الكريمة‫:
‫(‫‫انكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)‫

وهي أية مشهورة جداً يحفظها الكثيرون‫ ‫كما ذكرناها (‫خاصةً الرجال ‫، ولا عجب‫‫)‫.‫ ولاتجد من يتحدث عن التعدد في الإسلام إلا مستدلاً بهذه الأية‫.‫ والعجب العجاب أن هذه الأية الكريمة ‫، مرويةً هكذا ‫، هي في الواقع مقطوعة من سياقها!‏ بل أكثر من ذلك هي ليست أية كاملة بل جزء من أية‫!‏ يقول سبحانه في سورة النساء

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا * وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)‫

قرأت هذه الأيات كاملة لأول مرة ‫قراءة المدقق‫ منذ بضعة سنوات وإنتابتني الدهشة الشديدة!‏ ما علاقة الزواج بأكثر من واحدة باليتامي وأموالهم‫؟ بطبيعة الحال ذهبت إلي التفاسير المعتمدة لأجد إبن كثير مثلاً يقول

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم ‫‫[‫.‫‫.‫‫.‫‫]  وقوله: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ)‫ ، أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رجلاً كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ)‫ أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. ثم قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ)‫ ، قالت: يابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.

وهو رأي الجماعة‫.‫ ويروي الإمام الرازي أوجه أخري أقل شهرة في فهم هذه الأية فيقول

الوجه الثاني: في تأويل الآية: انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب ‫(‫الإثم‫)‫ الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى، فتحرجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء، فقالوا عدد المنكوحات، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج.
الوجه الثالث: في التأويل: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات.
الوجه الرابع: في التأويل: ما روي عن عكرمة أنه قال: كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام، فاذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى: ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ)‫ عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف، فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع، والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما، فكأنه تعالى قال: فان خفتم من الأربع فثلاث، فان خفتم فاثنتان، فان خفتم فواحدة، وهذا القول أقرب، فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير.

‫‫[ملحوظة هامة‫: الفقرة السابقة منقولة حرفياً من كتاب الإمام الرازي والأية ‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ) مذكورة هكذا في كتابه ‫، هذا بالطبع ليس قرأناً ولكنه قراءة تفسيرية كما إعتاد بعض الأقدمون‫]
ويقول السيوطي في كتابه ‫"‫إعراب القرأن‫"‫‫ بالوجه الرابع أيضاً ثم يضيف عليه‫:
الوجه الخامس‫: وإلى هذا الوجه أشار أبو علي بعدما حكى عن أبي العباس في كتابه في القرآن تعجب الكسائي من كون ‫"‫فانكحوا ما طاب لكم‫"‫ جواباً لقوله‏: ‫"‫وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي‫"‫‏‏.‏ قال‏:‏ وقاله أبو عبيد وليس هذا الجواب فإنما الجواب في قوله‏:‏ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم كأنه قال‏:‏ فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏.‏ فقال أبو علي‏:‏ جواب إن خفتم الفاء في فواحدة كأنه في التقدير‏:‏ إن خفتم ألا تقسطوا إن كثرت عليكم مؤن الزوجات وأحوجتهم إلى مال اليتامى‏.‏ أي‏:‏ فانكحوا واحدة‏.‏ وقوله‏: فإنكحوا ما طاب‏ اعتراض بين الشرط والجزاء مثل قولك‏:‏ إن زيداً - فافهم ما أقول - رجل صدق‏.‏ قال‏:‏ ولما كان الكلام باعتراض الجملة المسددة للشرط كرر الشرط ثانياً فقيل‏:‏ فإن خفتم ألا تعدلوا وهو قوله‏:‏  وإن خفتم ألا تقسطوا‏.‏

طبقاً لهذا فإن علاقة اليتامي بالزواج هي أحد ما يلي‫:

الوجه الأول‫: إذا كان عندك يتيمة تربيها فأردت زواجها بدون أن تعطها مهراً فقف عندك ولا تفعل‫ وتزوج من عداها من يحلو لك من النساء حتي أربع‫ ‫(‫وقيل تسعة وقيل أيضاً ثماني عشر‫)‫.‫
الوجه الثاني‫: إذا خفتم عدم العدل في اليتامي فبنفس المنطق خافوا عدم العدل بين الزوجات‫.‫
الوجه الثالث‫: إن خفتم عدم العدل في اليتامي فبنفس المنطق خافوا الزنا‫.‫
الوجه الرابع‫: في حالة تعدد الزوجات لا يكون الإنفاق عليهن بمال اليتامي اللائي تحت مسئوليتكم‫.‫
الوجه الخامس‫: أن معني الأية هو ‫"‫‫ فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏"‫ وتكون ‫"‫فإنكحوا ما طاب‫‫"‫ جملة إعتراضية بين الشرط وجوابه‫.‫‫

والحقيقة أن هذه الأوجه لتثير عندنا بعض التساؤلات‫.‫

الوجه الأول مثلاً ‫، وهو رأي الجماعة ‫، يفسر الأية علي أنها جملة شرطية‫:

إن خفتم ‫(‫شرط‫)‫ ‫.‫‫.‫‫.‫ ‫فإنكحوا‫ ‫(‫جواب الشرط‫)‫

وهو ما سنتفق فيه معهم ‫، ولكن سنختلف في معني ذلك‫.‫ فالمعني المقصود هنا ‫، في نظرهم ‫، هو أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأكثر من واحدة إلا في حالة ما أن تكون له يتيمة يربيها وأراد زواجها بلا قسط ‫(‫عدل‫)‫ في مهرها ‫، فهنا عليه أن يتركها ويتزوج بأخريات‫.‫ نلاحظ أن الجملة علي هذا الوجه شرطية ‫، أي أنها تنهي عن التعدد إذا لم يتحقق الشرط‫!‏ ونحن نتفق في عامة هذا ولكننا سنختلف في معناه ‫، كما سيرد‫.‫ ويثير عجبنا أيضاً علي أنه علي الرغم من وضوح هذا المعني عند من يقولون به فإنهم يتناسون وجود هذا الشرط ويبيحون تعدد الزوجات مطلقاً بلا قيود ‫، عدا شرط العدل الذي هو شرطاً نسبياً من الصعب تقنينه‫.‫ أي أننا لم نسمع أحداً يقول‫: يا أيها المسلمون حرام عليكم الزواج بأكثر من واحدة إلا إذا كان لديكم ربيبة يتيمة تربونها وكنتم في ما سبق راغبين في الزواج منها بقصد عدم العدل في مالها‫.‫ ومن يعدد بلا وجود ربيبة فهو زان‫‫.‫ أليس هذا هو معني الشرط بالأية‫؟ لم لا يقولون بهذا إذاً‫؟ هناك أيضاً من التساؤلات الكثير في هذا الفهم‫.‫ مثلاً ‫، إذا كان اليتامي المقصودون هنا من الإناث فلماذا لم يقل ‫"‫إن خفتم الا تقسطوا في اليتيمات‫"‫‫‫؟ وإذا كن هؤلاء اليتيمات هن المقصودات بالزواج فلم رجع وقال ‫(‫‫وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ) ‫، ألم يكن هؤلاء اليتامي بالغات للنكاح من الأصل ولذلك فقد حرم نكاحهن بلا قسط في مهورهن‫؟

فلنستمر

الوجهان الثاني والثالث نري فيهم الشيء العجاب‫.‫ فهي تفسيرات غير قائمة علي المعني اللغوي للأيات‫.‫‫ لأن الله سبحانه لم يقل ‫(‫إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فخافوا ألا تعدلوا بين الزوجات أو فخافوا الزنا‫)‫ بل قال ‫(‫إن خفتم ألا تقسطوا ‫.‫‫.‫‫.‫ فإنكحوا‫)‫ أي أن النكاح ‫(‫الزواج‫)‫ هو جواب الشرط هنا‫.‫ ولا يصح أن نقول ‫(‫كما قال بعض الجاهلون بأصول اللغة‫)‫ أن جواب شرط ‫"‫إن‫"‫ محذوف‫.‫ فإن ذلك لا يليق‫.‫ جواب الشرط يكون محذوفاً عند وضوح المعني‫.‫ فمثلاً يصح أن نقول ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‫"‫ فجواب الشرط هنا هو ‫"‫إنكحوا‫"‫ أي أن المعني هو ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فإنكحوا واحدة‫"‫ ‫، وحذف جواب الشرط لوضوح المعني‫.‫ أما أن نقول أن جواب الشرط محذوفاً ولا نعرف ما هو فنسمح لأنفسنا بوضع أي كلام مكانه فهذا ما لايليق بمحاولة فهم كلام الله‫.‫ فلا يصح مثلاً أن نقول ‫أن أية ‫"‫إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‫"‫ جواب شرطها المحذوف هو ‫"‫إقتلوا‫"‫ ‫(‫مثلاً‫)‫ فهو إقحام علي المعني ما ليس فيه‫.‫ وهكذا فإن الإدعاء أن جواب الشرط في أية التعدد هو ‫"‫خافوا‫"‫ مثلاً أو شيئاً من هذا القبيل هو إقحام علي كلام الله ما ليس به‫.‫

أما الوجه الرابع فغريب أيضاً لأن معناه أن التعدد هنا حدث أولاً ثم تلاه واقعة الخوف من القسط في اليتامي ولكن الله سبحانه أوضح في الأيات أن الخوف من القسط في اليتامي هو أمر سابق لنكاح التعدد وليس لاحق‫‫.‫

أما الوجه الخامس الذي ذكره السيوطي فلا تعليق عليه فهو ‫، في ما نري ‫، لّي لعنق المعني لا جدال فيه‫.‫ وأغلب المفسرون إختلفوا مع السيوطي في ذلك علي كل حال‫.‫

والتفاسير الحديثة عاد‫ةً ما تأخذ بالوجه الأول في تفسير الأية ‫، فيقول الشعراوي مثلاً

‫(‫‫أى فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء. ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل: اترك واحدة وخذ واحدة، لكنه أوضح: اترك اليتيمة وأمامك النساء الكثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجىء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولى عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة ؛ لأن النساء غيرها كثيرات)

وقال ما شابه ذلك الألوسي في روح المعاني وسيد قطب في الظلال وكذلك طنطاوي في الوسيط‫.‫ ولم يذكر أحداً منهم أن وجود الشرط في الأية يَجُب ما عداه ‫، أي أنه يَحْرُم أن يعدد الرجل ما لم يتحقق لديه شرط الخوف من القسط في اليتامي!‏ ونحن نجد ذلك غريباً لوضوح الشرط في الأية‫.‫‫

ولكننا إذاً نتفق مع غالبية المفسرين أن أية التعدد أية شرطية واضحة‫:

إن خفتم ‫(‫شرط‫)‫ ‫.‫‫.‫‫.‫ ‫فإنكحوا‫ ‫(‫جواب الشرط‫)‫

وقال بهذا الغير قليل من علماء اللغة أيضاً ‫، أنظر مثلاً النحاس في كتابه ‫"‫إعراب القرأن‫‫"‫

‫(‫وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ..‫)‫ [3‫]
 شرط أي إِن خفتم ألاّ تِعدِلُوا في مُهُورِهِنّ في النفقة عليهن ‫(‫فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ‫)‫ فدلّ بهذا على أنه لا يقال: نساء إِلا لمن بلغ الحلم. واحدُ النساء نسوة ولا واحد لنسوة من لَفظه ولكن يقال: إمرأة. ويقال: كيف جَاءت "ما" للآدميين ففي هذا جوابان: قال: الفراء: "ما" ههنا مصدر وهذا بعيد جدّاً/ 45 أ/ لا يصحّ فانكِحوا الطيبة وقال البصريون: "ما" تقع للنعوت كما تقع "ما" لما لا يعقل يقال: "ما عِندكَ؟" فيقال" ظريف وكريم فالمعنى فانكِحُوا الطيب من النساء أي الحلال وما حَرّمهُ الله فليس بطيب. ‫(‫مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ‫)‫ في موضع نصب على البدل من "ما" ولا ينصرف عند أكثر البصريين في معرفة ولا نكرة لأن فيه عِلّتين إِحداهما أنه معدول.

ونتساءل نحن‫: الشرط عادةً ينفي ماعداه ‫، فإذا قلنا مثلاً ‫"‫‫إن خاف عادل من المرض فلا يأكل من الباعة الجائلين"‫‫.‫ الشرط هو ‫"‫الخوف من المرض‫"‫ وجوابه هو ‫"‫عدم الأكل‫"‫ ولذا يكون المعني أن عدم الأكل لا يقع إلا في حالة الخوف‫.‫ أي أن إذا كان التعدد مشروطاً فلا يصح ‫، بل لا يحل ‫، التعدد إن لم يتحقق شرط ‫"‫الخوف من القسط في اليتامي‫"‫‫.‫ ومن هنا نقول أن من يتزوج بأكثر من واحدة من غير أن يحقق الشرط هو زاني‫!‏!‏

ولكن هذا مما يثير مشكلة جديدة‫.‫ من الواضح أن قصة الربيبة في حجر وليها هذه حالة خاصة جداً ‫، وإن سلمنا أنها كانت حالة منتشرة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فهي ليست كذلك الأن‫.‫ فنحن لا نري ‫"‫اليتامي في حجر أوليائهم‫"‫ مما يتكرر كثيراً في مجتمعاتنا الحديثة‫.‫ وفي هذا قولان‫‫:

القول الأول‫:

أن ينتفي الحكم مع إنتفاء العلة ‫، كما القاعدة الفقهية المشهورة ‫، أي أنه في حالة عدم وجود ‫"‫ربيبات في حجر أوليائهم‫"‫ فإن ذلك مما ينفي رخصة التعدد ويصبح التعدد حراماً وزنا ‫، وتنتهي المشكلة عند هذا الحد‫.‫‏

القول الثاني‫:

أن نجد للأية معني أخر ملائماً للعصر ‫، أي أن نُسَّلِمْ ‫، كما يري كاتب هذه السطور ‫، أن النص ثابت والفهم متغير ‫، بمعني أن أيات القرأن لها من المعاني الكثير ‫(‫القرأن حمال أوجه كما قال الإمام علي كرم الله وجهه‫)‫ يفهمها الناس بحسب مجتمعاتهم وعصورهم‫.‫ وأن كلها معانٍ صحيحة ‫، لأن الصواب والخطأ نسبيان ومتغيران‫.‫ فنجد مثلاً الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يغير متعمداً في أحكام الزكاة بلا نص قرأني أو من أقوال الرسول لأنه فهم كما فهمنا‫. ومن هنا تسقط حجة القائلون بأن فهم الصحابة للقرأن هو الفهم الوحيد الصحيح الواجب إتباعه حتي يرث الله الأرض ومن عليها‫.‫ ولاشك عندنا أن هذا هو مقصد الله سبحانه وتعالي وأصل القول أن القرأن لكل زمان ومكان‫.‫

ماهو إذاً هذا المعني الأخر‫؟ هو ما قاله عدد من المفكرين ‫، مثال ذلك مؤخراً الدكتور أحمد السايح أستاذ الدراسات الإسلامية والعالم الأزهري الكبير‫.‫ فالأيات

‫(‫‫يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا * وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًاْ)

‫تدور حول اليتامي كموضوع أساسي وتضع فيه قواعد إجتماعية عميقة الأثر وبالغة المعني‫.‫ فالله سبحانه وتعالي يبدأ كلامه العزيز بأمر الناس بإتقاءه ثم يسترسل بوضع حجر الأساس في الموضوع كله ‫، ألا وهو إيتاء اليتامي ‫(‫ذكوراً وإناثاً‫ ‫، وإلا كان قال ‫"‫يتيمات‫"‫)‫ حقوقهم وأموالهم‫.‫ ثم يقول أنه إذا كان هناك خوف من العدل في اليتامي فحل ذلك هو الزواج بأكثر من واحدة‫.‫ فما علاقة هذه بتلك‫؟ اليتيم لغةً هو من فقد والده وليس أمه ‫، ويسمي يتيماً في طفولته حتي يبلغ النكاح‫.‫ فنري أن المقصود هنا هو وضعاً إجتماعياً راجحاً في كل مكان وزمان ‫، ألا وهو وجود نسوة فقدن أزواجهن تاركين لهن يتامي ‫، ويأمرنا الله بالعدل والقسط في هؤلاء اليتامي ‫، فإن خفنا عدم العدل فحل ذلك هو الزواج من أمهاتهم لرعاية هؤلاء اليتامي مع إضافة شرط أخر وهو العدل بين هؤلاء الزوجات‫.‫ فإن خاف الرجل عدم العدل بينهن فعدم التعدد أولي‫.‫ ويضيف ‫"‫أو ما ملكت أيمانكم‫"‫ أي الإماء اللائي يحل وطئهن سواء كان ذلك بوجود شرط اليتامي أو لا ‫، ودلالة ذلك قوله ‫"‫أو ما ملكت‫"‫ وليس ‫"‫وماملكت‫"‫‫.‫ ثم يستسرسل ‫"‫ذلك أدني ألا تعولوا‫"‫ ‫و العول هو الجور والظلم‫.‫

شرط التعدد الأساسي إذاً ‫، في رأينا ‫، هو إعالة أيتام الزوجة الثانية والثالثة والرابعة‫.‫ فالتعدد بفتاة بكر لا أطفال لها في ظل هذه الأيات محرم‫.‫ بل نستمر فنقول أن التعدد من نساء لديهن أطفال أيتام ولكن هؤلاء الأطفال ليسوا بحاجة إلي رعاية محرم أيضاً‫.‫ فالشرط ليس وجود اليتامي ‫، بل هو الخوف من القسط في اليتامي ‫، فإذا إنتفي الشرط سقط جوابه ‫ورُفِعَ الحكم بإنتفاء العلة‫.‫ في عصرنا هذا مثلاً نجد الكثير من البلاد بها جهات رسمية ترعي الأيتام وتراقب حقوقهم المادية والمعنوية ‫، ولا حاجة لهذه الأمم لمثل رخصة التعدد هذه ‫، فمن هذا الوجه أيضاً يصبح التعدد حراماً‫.‫ أما قوله ‫"‫ما طاب لكم‫"‫ فهو ما يعطي للرجل الحق في إنتقاء الزوجة الثانية‫‫\الثالثة‫\الرابعة من أمهات الأيتام بحسب ما يري ‫، فهي ستكون زوجةً له بكل ما في الكلمة من معاني المودة والرحمة‫‫.‫

في جميع الأحوال ‫، سواء أخذنا بالقول الأول الموجود في التفاسير أو القول الثاني فالتعدد مشروط ولا يحل علي إطلاقه‫.‫ أي أن زواج الحاج متولي من فتاة بكر يعد زواجاً باطلاً تحت أياً من القولين!‏ ونحن إذ نرجح القول الثاني نظراً لوضوح سياق الأيات وعموم العلة علي القول الأول الخاص بعلة خاصة جداً ولا تتكرر كثيراً ‫، فإننا لا مانع عندنا من قبول القول الأول‫.‫ في الحالتين التعدد يصبح حالة خاصة ولا يصح إطلاقه‫ بلا رابط بحجة مقدرة الرجل علي العدل‫ ‫، الذي هو الشرط الثاني ‫، مهملين الشرط الأول والأساسي ‫، بل ما هو أساس هذه الفقرة من سورة النساء بأكملها.‫

نختتم هذا المقال بذكر رأي الشيخ محمد رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده في تفسيره حيث قال‫ ‫[مابين قوسين من عندي‫]:
‫"‫وقد يصح أن يقال أنه يجوز أن يراد بالأية ‫[إن خفتم ‫.‫‫.‫‫.‫‫] مجموع تلك المعاني ‫[يقصد الأوجه المختلفة التي أوردناها ‫، عدا رأينا‫] من قبيل رأي الشافعية الذين يجوزون إستعمال اللفظ المشترك في كل ما يحتمله الكلام من معانيه وإستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معاً‫.‫ والذي يقرره كاتب هذا الكلام ‫[رشيد رضا‫] في دروس التفسير دائماً هو أن كل ما يتناوله اللفظ من المعاني المتفقة يجوز أن يكون مراداً منه لا فرق في ذلك بين المفردات والجمل ‫، وعلي هذا تكون الأية مرشدة إلي إبطال كل تلك الضلالات والمظالم التي كانت عليها الجاهلية في أمر اليتامي وأمر النساء‫"‫

ويسترسل الأستاذ رشيد رضا ذاكراً رأي أستاذه الإمام الذي كان ميالاً إلي رأي الجماعة في هذا الموضوع‫:

‫"‫وقد قال تعالي في أية أخري من هذه السورة (‫ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‫)‫ ‫[‫.‫‫.‫‫.‫‫] فمن تأمل الأيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها ‫[فقط‫] بشرط الثقة التامة بإقامة العدل والأمن من الجور‫ ‫، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب علي التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات‫"‫

ويستمر الأستاذ رشيد في كتابه الرائع في شرح مذهب الأستاذ الإمام حول هذا الموضوع ‫، قائماً علي ما عهدناه منهما من عقلانية في فهم النص الإلهي‫.‫

أياً كان فمن الواضح أن تعدد الزوجات رخصة ضيقة التطبيق سواء كانت علتها ما ذهب إليه المفسرون أو ما ذهبنا إليه من إجتهاد‫.‫ وهذه الرخصة لا يؤثم تاركها ‫، فهي ليست فرضاً بأي حال من الأحوال ‫، فإذا رأي ولي الأمر ‫، أي القانون الوضعي ‫، أن يقيد أو يمنع التعدد تماماً فلا جناح عليه في ذلك إن تحقق أن الدولة بقوانينها الوضعية تستطيع أن تطبق شرط اليتامي ‫، أياً كان معناه ‫، وتحفظ لكل يتيمٍ أو يتيمةٍ حقهما‫.‫

والله أعلم

*******************************
ملحق‫:
إطلعت بعد إنتهائي من كتابة الموضوع علي رأي المفكر السوري عدنان الرفاعي في موضوع تعدد الزوجات ‫‫(‫‫http://www.thekr.net/thekr/books/t3ddalzawgat.doc)‫ وملخصه إعادة تفسير كلمة ‫"‫يتامي‫"‫ في الأية ‫"‫‫ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى ‫.‫‫.‫‫.‫"‫ بمعني اليُتم الأصلي وهو التفرد ‫، ويفسرها الرفاعي بأنها الزوجات المتفردات اللائي لا يجدن نكاحاً ‫(‫العوانس‫)‫ ‫، وهنا يُصرح لرجال المسلمين بالتعدد لتغطية أعداد العوانس الزائدة‫.‫ وعلي الرغم من تحليل الرفاعي المنطقي فإني أجد في هذا الرأي بعض الثغرات ‫، من أهمها إستخدام نفس الكلمة في الأيات السابقة واللاحقة وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ‫.‫‫.‫‫.‫"‫ ‫ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ .‫‫.‫‫.‫"‫ بمعناها المعتاد بصورة واضحة ‫، ومن هنا لا يكون من المنطقي ‫، علي الأقل ترجيحاً ‫، أن تُذكر كلمة اليتامي ثلاث مرات متتابعة في سياقٍ واحد بمعنيين مختلفين‫.‫

الأربعاء، 9 مايو 2012

حقائق و مستقبل اللغة العربية


ظهرت حقائق علمية جديدة مؤخراً تهم واقع ومستقبل اللغة العربية، ليس فقط باعتبارها اللغة الخالدة لخلود القرآن، ولكن أيضا باعتبارها لغة تملك كل مقومات الهيمنة على اللغات الأخرى. ليس الأمر مبالغة أو انحيازا عاطفيا للغة العربية فقط، ولكنه نتائج أبحاث علمية لم يكشف عنها العرب ولا المسلمون، وإنما الذي اكتشفها وعبر عنها ونشرها هو فريق علمي غربي بإحدى جامعات لندن، ليس فيه من المسلمين العرب إلا عالم واحد، هو الدكتور سعيد الشربيني من جمهورية مصر العربية وهو من تولى الإعلان عما وصل إليه فريقه. 

العلم الذي أتحدث عنه هنا هو ما يعرف بعلم اللغة الكوني ، وهو العلم الذي يدرس لغات العالم جميعها في وقت واحد بمقارنة النظام النحوي و العلاقة الجينية بينها ليعرِف أسباب موتها وأسباب بقائها واستمرارها وكذا قوتها وضعفها، أي هو العلم الذي يدرس لغات العالم دفعة واحدة ليعرف مراحل نشأتها وشبابها وشيخوختها، وليعرف بالتالي أي لغة يكتب لها الخلود لخصائصها ومميزاتها. هذا العلم بدأ سنة 2003 على يد زمرة من العلماء الغربيين في جامعة لندن، قسم "علم اللغة الكوني" حيث يسمى فيها قسم اللغة العربية بقسم "اللغة الأم"، وليس "قسم اللغة العربية".
أهم الخلاصات التي توصل إليها هذا الفريق كشف عنها الدكتور الشربيني في سلسلة حلقات تلفزيونية بقناة الرحمة قبل أيام ومن جملة ما أشار إليه، وهو كثير جدا، أذكر به تعميما للفائدة وبشارة لمحبي لغة الضاد، أن غالبية اللغات الآن تحمل في ذاتها عوامل فنائها وموتها إلا اللغة العربية، فهي لغة خالدة لخلود القرآن إلى قيام الساعة. وقد علل الدكتور سعيد هذا الحكم بالإشارة إلى أنه ثبت علميا أن جملة "الحمد لله" التي قالها آدم عليه السلام عند خلقه كانت بالعربية. وذلك لأن كلمة "الحمد" لا يمكن أن تترجم إلى أي لغة أخرى بما يحفظ لها معناها كما هو. فهي إن ترجمت ستكون إما شكرا وهو مقابل شيء ما، أو مدحا، وهو ما تجوز فيه المبالغة، أما الحمد فهو الشكر دون مقابل والمدح دون مبالغة، وإن كان يجوز مثلا أن نحمد في فلان أو علان سلوكا معينا، كأن نقول "أحمد فيك خلق الوفاء" وإن لم يشر الدكتور الشربيني إلى هذه الملاحظة. وعليه فهذه الكلمة لا يمكن ترجمتها، بما يحفظ لها معناها، بكلمة أخرى أبدا في أي لغة على الأرض، حية كانت أو ميتة.
وفي سياق بيان أفضلية اللغة العربية على غيرها أشار الشربيني إلى أن فريقه أثبت علميا من خلال دراسة نسبة وفاة اللغات على الأرض أنه عند نهاية القرن الحالي لن تبقى سوى ثلاث لغات فقط منها وعلى رأسها اللغة العربية بالإضافة إلى الإنجليزية والصينية. وأن اللغة الإنجليزية التي تهيمن على العالم الآن، والتي لم يخف إعجابه بها، قد دخلت عمليا في مرحلة شيخوخة واعوجاج، غير أن وفاتها لن تكون كوفاة معظم اللغات، فهي ستموت على الألسن بمعنى لن تكون لغة الحديث إطلاقا، لكن سيُبقى عليها لغةً الكترونية للعلم فقط. غير أنه في المقابل أكد أن عدد اللغات التي تموت في السنة الواحدة هو 50 لغة، بمعدل لغة واحدة كل أسبوع، مشيرا إلى أن آخر لغة ماتت هذه السنة هي اللغة النوبية بمصر، وأن عدد اللغات الحية حاليا هو 601 لغة، بينما عدد اللغات التي ماتت هو 402 لغة، وأن عدد اللغات التي ماتت بالهند وحدها في السنة الماضية فاق أربعين لغة، كما أنه بحلول 2030 يتوقع هذا الباحث أن تبقى فقط 15 لغة فقط من أصل الـ 601 الحالية، لتبقى فقط ثلاث لغات عند نهاية هذا القرن، أي بحلول 2100، طبعا لن تكون منها الفرنسية لأنه يتوقع ألا تستمر هذه اللغة على قيد الحياة أكثر من 70 سنة لتموت نهائيا. وهو ما عبر عنه بظاهرة "كوليرا اللغات".
أما اللغة الصينية فلعراقة تاريخها وتعدد أصواتها وحروفها (حوالي 60 صوتا) إلا أنها أصبحت لغة مُعوَّقة لما اعتراها من عيوب تتعلق بوضعية الضمائر وابتعادها عما سماه بـ ـ"فطرية التعبير الزمني": الماضي والحاضر والمستقبل. وهي في هذا تشترك مع الإنجليزية الآن التي أصيبت هي الأخرى باعوجاج حيث لم يعد من الخطأ أن يقول الطالب الإنجليزي في المرحلة الثانوية مثلا أنا أذهب أمس أو أنا أذهب غدا عوضا عن ذهبت أو سأذهب غدا، بل إن الجهات المسؤولة عن التعليم في بريطانيا تناقش بشكل رسمي أن تضيف اللواحق والمحددات أمس "Yesterday" واليوم "Today" وغدا "Tomorrow" للأفعال لتحديد الزمن المقصود. وهذا الاعوجاج، يقول الشربيني، مقدمة للموت المحقق، ولذلك يقول إن العربية لن تموت لاعتدال أصواتها، فهي لغة ليس بها اعوجاج لقوله تعالى في مطلع سورة الكهف: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا" وقريب من هذا كذلك قوله تعالى في سورة الزمر: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ". ويستشهد على ذلك بأن الكتب المكتوبة باللغة اللاتينية مثلا قبل 500 سنة فقط لا يمكن للعامة الآن قراءتها مهما حاولوا، ولا يستطيع ذلك إلا الدارسون المتخصصون جدا في هذه اللغة القديمة، فكانت النتيجة أن أصبحت هذه الكتب شيئا من التاريخ. غير أن الأمر مختلف تماما في ما يتعلق باللغة العربية، ذلك أن العرب بإمكانهم قراءة الكتب المكتوبة قبل 1400 سنة، وأن ما دخل عليها من تغيرات لم يدخل على معاني الكلمات ومدلولاتها أو طريقة نطقها الصحيحة، وإنما الذي أُلحق بها وأضيف إليها إنما هو مجرد نقطٍ للكلمات وشكل لها مما يزيد اللغة قوة ووضوحا. ويؤكد رأيه هذا فيضرب مثلا داعما حيا بالقرآن الكريم، وهو الكتاب الذي ما يزال يتلى تواترا ومشافهة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بالحروف نفسها والأصوات نفسها التي بها نزل والتي تلاها رسول (ص) الله نفسه. ليخلص إلى أن اللغة العربية محفوظة بحفظ الله للقرآن الكريم. أما اللغة العِبرية فهي لغة ميتة منذ آلاف السنين، وقد أعاد اليهود استعمالها فعلا، لكنهم لم يستطيعوا إحياءها إلا بعد أن غيروا فيها الكثير والكثير جدا فصارت مسخا للغة كانت ذات يوم "عبرية".
ويؤكد الدكتور الباحث من جملة المعطيات العلمية الجديدة التي أدلى بها أن العربية ليس بها عوج على الإطلاق وأنها شابَّة كما بدأت، وأنها أي كلمة "العربية" تعني من جملة ما تعنيه "الشباب" أو "الشابة" وإن لم يشر لمصدر هذا المعنى المشار إليه، كما أكد أن كلمة "العربية" إن هي إلا صفة لهذه "اللغة العربية" وليس اسما لها، فعندما أقول أنت عربي فكأنني أتمنى أن تظل دائما شابا، ولعل هذا التفسير يجد ما يؤكده في قوله تعالى وهو يتحدث عن جزاء أصحاب اليمين في الآخرة: "إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا، لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ" حيث يذهب المفسرون إلى أن كلمة "عربا" ومفردها "عَروب" تعني "العواشق المتحببات إلى أزواجهن، اللواتي يحسن التبعل"، ولا يفترض حدوث هذا تصوريا إلا ممن كانت شابة حيوية.
وإذا كان خير الحق ما شهد به الأعداء والخصوم فإن هذا الدكتور الباحث يؤكد أن في بريطانيا الآن، كما في أمريكا يتم تدوين معظم الأبحاث والدراسات والوثائق الهامة، وحتى المعاهدات الدولية، باللغة العربية لتكون متاحة للأجيال القادمة، وهذا اعتراف ضمني منهم بخلود هذه اللغة وتفوقها على اللغة الإنجليزية، فبالأحرى الفرنسية مثلا. وما يدعم هذا ويؤكده أن جامعات مرموقة كثيرة بدأت تعتني باللغة العربية عناية خاصة، فبدأت تكتب بها وتترجم إليها، وآخر جامعة شرعت في ذلك هي جامعة طوكيو.
ولكي يضفي الشربيني على حقائقه العلمية هاته صفة المصداقية واليقين يشير، ضمن سلسلة محاضراته سالفة الذكر التي خص بها قناة الرحمة، وهذا فعلا مما يثير الاستغراب والدهشة، إلى أن الكونجرس الأمريكي وافق على قرار كتابة صيغ التحذير على معلبات المخلفات النووية التي تلقى في أماكن غير مأهولة بالسكان في أمريكا، والتي يتوقع المسؤولون الأمريكيون أن يصل إليها الإعمار السكاني بعد 100 سنة، (وافق على كتابة التحذير) باللغة العربية وليس بالإنجليزية أو غيرها، فقط، يقول الشربيني، لأنهم يعلمون أنها هي اللغة التي ستبقى.
هذه المعطيات العلمية الجديدة التي كشف عنها الدكتور الشربيني تقتضي من الباحثين والمهتمين باللغة العربية أن يبدوا برأيهم في الموضوع، بعيدا عن كل تعصب أو تشنج، إننا نريده نقاشا علميا موثقا قائما على الحجة والدليل. وإني، كمهتم متابع، أتساءل ماذا سيكون موقف الكائدين للغة الضاد إذا ما ثبت صدق هذه النتائج العلمية سالفة الذكر، ماذا سيكون موقف هؤلاء وقد كشف النقاش الدائر حول دفاتر تحملات القطب العمومي، وخاصة ما تعلق منها بالهوية واللغة العربية، عن وجود لوبي قوي لا يريد للعربية أن تنتشر ولا أن تأخذ مكانتها الطبيعية في وقت صار الصراع مؤهلا لأن يصبح صراعا حول اللغة والهوية بامتياز.
د عبد الرحمان الخالدي
رئيس فرع الرباط للجمعية المغربية لحماية اللغة العربية