الاثنين، 20 مايو 2013

إسلام بحيرى-تاريخ تحقير النساء فى التراث الإسلامى طويل ومعقد ولايرضاه القرآن أو السنة


هل تتصور ان بعض كتب الحديث والتفاسير تصور المرأة باعتبارها أقرب الى النعجة؟! وتساوى بين المرأة والكلب فى قطع صلاة الرجل، تقرأ مثلاً فى القرطبى فى (الجامع لأحكام القرآن) (15/172) يقول فى تفسيره لآية{ إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } ما نصه:«والعرب تُكنِّى عن المرأة بالنعجة والشاة؛ لما هى عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب. وقد يُكنَّى عنها بالبقرة والحجرة والناقة، لأن الكل مركوب».

وقد لا أجد تعبيرا أكثر رؤية وشمولية وأصدق لهجة يعبر عن عقلية أهل التراث من المفسرين والفقهاء وأهل الحديث إلا ما تفضل به علينا القرطبى, حيث يجزم فى معرض تفسيره أن المرأة يكنَّى-كناية التعبير- عنها بالنعجة والشاة لما هى عليه من السكون والمَعجَزة - العجز الشديد - وضعف الجانب, مردفاً من فيض علمه الغزير وموضحا أنه يمكن كذلك أن يكنَّى-يعبر- عن المرأة بالبقرة والحُجرة - أنثى الفرس - والناقة لأن الكل مركوب أى أن الثلاثة يركبهم الرجل, ويا هول هذه الكلمات العليلة القبيحة الفجة التى وصم بها القرطبى نصف أمة النبى المصطفى, ووصم بها أمهات المؤمنين ووصم بها أمه هو نفسه بأنهن لا يختلفن كثيرا عن البقرة وأنثى الفرس والناقة حيث الكل مركوب, والغريب أن القوم من أهل التراث كانوا يتمتعون بجرأة عجيبة قلَّما نجدها عند المعاصرين، فالرجل لا يستحى أن يكون هذا رأيه فقط، بل إنه وتأكيدا للتكبر والغلو يضع رأيه بين ثنايا تفسير القرآن العظيم, القرآن الذى نزل بروح العدل والتساوى والحرية والعزة للمؤمنين جميعا رجالا ونساءً (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون 8), ولذلك فإن كلمات القرطبى هذه إنما هى تلخيص بليغ لروح الجاهلية التى عادت فى الظهور تجاه المرأة من خلال وسم الدين بآرائهم وطبائعهم واستنطاق الأحكام الشرعية الإلهية برؤى فقهية بشرية وبروح طبقية ذكورية تحتقر المرأة من المهد إلى اللحد، وتحط من شأنها وتفسر القرآن العظيم بالهوى والعادة, ومن تلك العقليات ظهرت وانتشرت واستقرت تفسيرات ومفاهيم نقصان العقل والدين والضلع الأعوج وأصبح تحقير المرأة نوعا من الحفاظ على التقاليد من خلال هذه العقليات العصبية القبلية التى جعلت من المرأة إنسانا من الدرجة الثانية.

ولأن تاريخ تحقير النساء فى التراث الإسلامى تاريخ طويل ومركب, يمثل لوحة فسيفساء كبيرة جدا فليس أمامنا إلا تفكيك هذه الفسيفساء قولا ورأيا وحديثا وتفسيرا, وقد اخترنا للمناقشة فى هذا المقال حديثين فقط أخرجهما (مسلم) عن أسباب قطع صلاة الرجل المسلم.
الحديث الأول: أخرج (مسلم) 4/228: «حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا إسماعيل بن علية.ح قال وحدثنى زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن يونس، عن حميد بن هلال، عن عبدالله بن الصامت، عن أبى ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قام أحدكم يصلى، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل. فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر! ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخى! سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتنى فقال »الكلب الأسود شيطان».

الحديث الثاني: أخرج (مسلم) فى نفس الباب 4/228: «حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا المخزومى، حدثنا عبدالواحد، حدثنا عبيد الله بن عبدالله بن الأصم، حدثنا يزيد بن الأصم, عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقى ذلك مثل مؤخرة الرحل». والمعنى فى الحديثين قد لا يحتاج إلى شرح وهو أن الرجل إذا صلى لغير سُترة مثل مسافة أو طول مؤخرة رحله يقطع صلاته مرور الحمار والمرأة والكلب.

هنا يجب نقد متن - نص - الحديث لتعارضه مع أحاديث صحيحة صريحة، فنحن نعلم أن السنة النبوية فى أصلها هى أفعال للنبى الكريم نقلت عنه وأقوال حفظت منه، وأنه فى حال تعارَض حديثان للرسول أحدهما سنة فعلية أو تقريرية كأن يشهد قوم من الصحابة أن الرسول فعل كذا أو سكت عن فعل كذا, والحديث الآخر سنة قولية محفوظة رجحت كفة السنة الفعلية أو التقريرية على كفة السنة القولية التى يعتريها الخطأ فى الحفظ والسهو والخلط والخرف والنسيان والكذب والتدليس المتعمد والرواية بالمعنى من رواة الحديث.

الأحاديث المعارضة
1- أخرج البخارى 1/751، وأخرج مسلم نفسه4/221: «حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة، عن عبدالله بن عباس أنه قال: أقبلت راكبا على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدى بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت فى الصف، فلم ينكر ذلك على أحد».

وهذا الحديث يؤكد فيه ابن عباس الصحابى الجليل أنه أقبل على الرسول فى جماعة يصلى بالناس وهو راكب على حمار أتان -أنثى الحمار- ورسول الله لا يتخذ جدارا ولا سترة وأنه نزل وصلى معهم, وظلت الأتان تسعى بينهم فلم ينكر عليه الرسول ذلك الفعل ولا أى من المصلين, فكيف يقر رسول الله بذلك ثم يقول عكسه.

مناقشة أقوال التراثيين فى هذا الحديث:
رغم وضوح الدليل فى كلام الصحابى الجليل ابن عباس والذى ينقض ويهدم الحديثين المرويين عن قطع الصلاة, فإن التعنت والغلو المعهود فى عدم رد أى حديث فى البخارى أو مسلم جعل الشرَّاح يلتفون حوله بأقوال واهية, فيقول (أبو زرعة العراقى) فى طرح التثريب 2/391): «حديث ابن عباس ليس صريحاً فى مخالفة حديثى (أبى ذر وأبى هريرة) لأن ابن عباس قال: (فمررت بين يدى بعض الصف) ولا يلزم منه أنَه مر بين يدى النبى، ولا الأتان التى كان عليها. والإمام سُترة للمأمومين وإن لم يكن بين يديه سترة، ولا يلزم من قوله فيه (إلى غير جدار) ألا يكون ثَم سترة».

والمعنى أن أبا زرعة يقول كلاما غاية فى العجب فيقول إن تلك الرواية ليست دليلا على مرور ابن عباس بين يدى النبى لأنه قال (فمررت بين يدى بعض الصف) ومع عدم تسليمنا بهذا فماذا عن قول ابن عباس (يصلى إلى غير جدار) فيقول أبو زرعة إن ذلك لا يتطلب تباعا ألا يكون هناك سترة من الأساس فلعل هناك سترة غير الجدار, وإذا صدقنا هذا القول فيجب أن نعترف أن ابن عباس قد قال كلاما زائدا فى الحديث ليس له معنى, لأنه لماذا يقول« إلى غير جدار» وهو يعلم أو يرى أن هناك سترة أخرى للنبى, وبالله على أى عاقل لماذا ذكر ابن عباس ذلك إلا إذا كان قاصدا المعنى المراد أنه يصلى وأمامه فراغ, ثم ماذا عن قول ابن عباس ( فلم ينكر على أحد) فلا يمكن تخيل أن ابن عباس يحكى قصة للأطفال, بل يقول ذلك عامدا أن يخبرنا معنى واضحا أقرَّه النبى وإلا لو أن ابن عباس يعلم أن الإمام سترة للمأمومين وأن الحمار لم يمر بين يدى النبى إذن لماذا يحكى ابن عباس الحديث من الأصل, وما وجه الاستدلال فى الرواية فهل يحكيها على سبيل الفكاهة مثلا ولماذا ختم قوله بجملة (فلم ينكر على أحد) إذا كان يعلم أن ما فعله لا يستدعى أصلا أن ينكر عليه أحد, فهل ابن عباس لم يكن يعلم أن هذا الذى فعله لا يستحق الإنكار وأبوزرعة وأهل التراث هم الذين يعلمون.

2- أخرج البخارى 1/773، ومسلم 4/229: «عن عائشة: ذكر عندها ما يقطع الصلاة، الكلب والحمار والمرأة، فقالت: شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يصلى، وإنى على السرير، بينه وبين القبلة مضجعة، فتبدو لى الحاجة، فأكره أن أجلس، فأوذى النبى صلى الله عليه وسلم، فأنسل من عند رجليه«.

وقد كرر البخارى الحديث مرات عدة فى الشواهد والمتابعات, والمعنى الواضح الصريح أن ما ذكر من قطع المرأة والحمار والكلب للصلاة قد تداول على ألسنة بعض التابعين حتى وصل لأسماع أم المؤمنين عائشة وهى الفقيهة التى عاشت الإسلام من خلال التطبيق العملى السهل المرن فى بيت النبوة, وهى النبيهة الذكية الفطنة وهى معلمة الصحابة, فقالت بذكائها وعلمها وقراءتها للمستقبل الذى لاحت فى أفقه بعد وفاة النبى بوادر وشواهد عودة الجاهلية تجاه المرأة, فقالت غاضبة ومنكرة وحازمة (شبهتمونا بالحمر والكلاب) وهى بذلك قد أخرجت المعنى والسياق من سياق مصطنع للحديث يمثل شرطا تعبديا للصلاة إلى السياق الحقيقى وهو إذلال المرأة وتحقيرها ويالها من فطنة حقيقية لأم المؤمنين- ثم أقسمت بالله صادقة وقالت (والله لقد رأيت النبى يصلى، وإنى على السرير، بينه وبين القبلة مضجعة، فتبدو لى الحاجة، فأكره أن أجلس، فأوذى النبى، فأنسل-أخرج- من عند رجليه) والمفهوم والمعقول أن هذا الحدث ربما يتكرر يوميا فى حياة الأزواج أى أن الرسول الكريم قد توفى وهو لا ينكر أن تكون أم المؤمنين الحبيبة والزوجة معترضة وقاطعة فيما بينه وبين القبلة من غير وجود سترة ولا شىء, فماذا قال التراثيون تفسيرا لهذا الحديث الذى ينقض صراحة حديثى (مسلم).

مناقشة أقوال التراثيين فى هذا الحديث
وقد أبدع التراثيون وتوسعوا فى مدى التعنت والجرأة والالتفاف على معنى هذا الحديث الواضح كالشمس, والذى قالته أم المؤمنين قاصدة رد الرواية المكذوبة على النبي, وقد تفرقوا على ثلاثة أقوال كلهم يسعى بأى سبيل لتصحيح الحديثين فالمهم أن يعيش مسلم سالما من الرد والتضعيف.

القول الأول: يقول (ابن خزيمة) فى صحيحه 2/21: «الدليل على أن هذا الخبر -أي: حديث أبى ذر- فى ذكر المرأة ليس مضادا لخبر عائشة، إذ النبى إنما أراد أن مرور الكلب والمرأة والحمار يقطع صلاة المصلى لا ثوى الكلب ولا ربضه ولا ربض الحمار، ولا اضطجاع المرأة يقطع صلاة المصلى وعائشة إنما أخبرت أنها كانت تضطجع بين يدى النبى وهو يصلى لا أنها مرت بين يديه»، أما ابن القيم فيقول فى (زاد المعاد) 1/306: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى وعائشة نائمة فى قبلته، وهكذا المرأة يقطع مرورها الصلاة دون لبثها».

ولنشرح معنى ما تقدم أولا, يقول (ابن خزيمة) إن الحديثين عند (مسلم) عن قطع المرأة والحمار والكلب للصلاة لا يعارضان قول (عائشة) أنها كانت تستلقى بين رسول الله والقبلة حين صلاته, لأن الحديثين مقصود بهما أن مرور المرأة هو الذى يقطع الصلاة أما أن تنام وتستلقى بين الرجل والقبلة فلا يقطع الصلاة, وكذلك جلوس الكلب وربض الحمار أمام المصلى لا يقطعانها بل مرورهما فقط, وبذلك يصبح الحديثان بلا تعارض فالذى يقطع الصلاة هو المرور وليس الجلوس أو الاستلقاء, وكذلك قال (ابن القيم) و هذا التفسير البغيض من (ابن خزيمة) ومثله الكثير مما اكتتبه أهل التراث قد يؤدى بكثير من الباحثين المعاصرين لفقد أحد شيئين، فإما أن نفقد عقولنا أو أن نفقد أخلاقنا, لأنه ليس من المستحب أن يقرأ الإنسان المسلم ما يشعره أنه مغيَّب أو مغفل أو أنه حيوان يحمل قرونا فوق رأسه, فكيف يقول عاقل فضلا عن أن يصدقه العقلاء أن مرور المرأة يقطع الصلاة وجلوسها ونومها أمام الرجل لا يقطعان الصلاة, فهذا التفاف حول الحقيقة غاية فى السخف والجهالة لا يراد به إلا تصحيح حديثى مسلم حتى لو كانا يعارضان فعل النبى وإقراره.

ولكن النقطة الأهم أن تفسير (ابن خزيمة) وأعوانه يخلِّف مشكلة دينية كبرى, ويولد من ورائه خطأ فاحشا بليغا بحق أم المؤمنين, فإذا كانت أم المؤمنين عائشة قد أقسمت على أنها كانت تعترض بين الرسول وقبلته ردا على الرواية التى نسبت للرسول أن الحمار والمرأة والكلب تقطع الصلاة, معنى ذلك أن السيدة عائشة كانت تعلم جيدا أن الاضطجاع أو النوم أمام المصلى هو أشد من المرور من أمامه, وأن ذلك الحدث الذى روته وأقسمت عليه إنما يهدم ويرد الرواية المنسوبة للنبى انتحالا وزورا, أما إذا أخذنا بكلام (ابن خزيمة) وأعوانه أن الاضطجاع والاستلقاء يختلف عن المرور, لاتهمنا أم المؤمنين صراحة بالجهالة وعدم الفقه-معاذ الله- حيث إنها لا تعلم الفرق بين النوم والاستلقاء أمام المصلى وبين المرور لأنها إن كانت تعلم أن النوم والاستلقاء هو بخلاف المرور فلماذا إذن ردت الرواية المزورة بهذا الحديث الذى روته, فهناك حلان لهذا المأزق الذى وقع فيه (ابن خزيمة) وإخوته, الأول أن عائشة وهى الفقيهة العالمة كانت تعلم أنه لافرق بين الاستلقاء وبين المرور أمام المصلى, بل إن النوم والاستلقاء أشد من المرور, ولذلك روت هذه السنة التقريرية عن النبى الكريم لتبطل بها الرواية الأخرى, وبهذا يبطل كلام (ابن خزيمة) وشركائه ويتضح التفافهم العليل وسخف شروحهم, أما الحل الثانى أن عائشة كانت قليلة الفقه والتدبر-معاذ الله- بحيث لم تتمكن من معرفة الفرق بين الاستلقاء وبين المرور أمام المصلى, وأنها قد استشهدت بسنة لرسول الله فى غير موضعها وردت حديثا بغير علم, لأنها من قلة علمها-معاذ الله- لم تكن تعلم أن المرور بين يدى المصلى وهى زوج الرسول فى بيته لتسع سنوات- يقطع الصلاة وأن النوم بخلاف المرور, وبذلك يصبح (ابن خزيمة) وأعوانه هم الأعلم والأفقه والأنبه-من النباهة- من أم المؤمنين عائشة, وأنهم فهموا ما لم تفهمه وعلموا ما لم تعلمه, وبالتأكيد فإن هذا الحل يليق بالمخابيل والحمقى الذين يظنون أن (ابن خزيمة) وكل أهل التراث أفقه من السيدة عائشة.

القول الثانى لأهل التراث: أما البعض فقال إن الحديثين ليسا على ظاهر معنى قطع الصلاة, ولكن المعنى هو الانشغال عنها رهبا- خوفا - من الكلب والحمار, ورغبا - رغبة وشهوة بالمرأة, وهذا الرأى أيضا بلغ من الحماقة والسخف مبلغا كبيرا, فمن أين أتوا بأن معنى قطع الصلاة ليس على ظاهره فلا دليل لغويًا ولا اصطلاحيًا ولا إشاريًا على أن القطع المراد به الانشغال فقط, أما الشق الثانى وهو الكلام عن الخوف من الكلب والحمار فقد علمنا ورأينا من يخاف من الكلب ولكننا لم نسمع أبدا أن أحدا يخاف من الحمار, ثم إذا كان الانشغال بسبب الخوف فقط فلماذا لا يقطع الصلاة الذئب والفرس والجمل والتمساح والثعبان والأسد وكل حديقة الحيوان, أما قولهم إن المرأة ينشغل بها الرجل شهوة, فهذا كلام مذموم لا يقع من مؤمن, وحتى إن فعل أحدنا ذلك فهو مريض القلب وقليل الإيمان وعليه هو الملامة والذنب, وليس على المرأة التى مرت, ولا يمكن أن يعمم رسول الله حكما لمرضى القلوب على سائر أمته, وإذا كان الأمر بهذا المنطق فلماذا لا يقطع الرجل صلاة المرأة أيضا فلعلها تنشغل به إذا مر أمامها أليست بشرا مثله, أم أن صلاتها تهبط إلى الأرض وصلاة الرجل هى التى تصعد للسماء.

القول الثالث: ذهب إلى أن الذى ذكرته أم المؤمنين خاص بالزوجة وأن الرسول كان مقصده هو مرور المرأة الأجنبية, ولا أدرى كيف امتلك هؤلاء الجرأة ليفتشوا عن نية النبى ويستنطقونه بما لم يقل, لأن ظاهر الكلام لغة ومعنى ودلالة لا يمكن أن يقبل التخصيص, فالمفترض أن ما نسب للرسول قوله يقطع الصلاة المرأة بالعموم فكيف خصصوا المرأة الزوجة عن الأجنبية.

نقد سند الحديثين
الحديثان آحاد وقد قال أغلب أهل الحديث والفقهاء إن حديث الآحاد يرد إذا خالف المقطوع به, لأنه لا قدسية لحديث آحاد أو غيره طالما خالف الثابت المعقول من القرآن أو سنن الرسول الفعلية والتقريرية.

نقد السند فى الحديث الأول:
يكفى لبيان اضطراب السند ذكر أن مدار الرواية على (عبدالله بن الصامت) فماذا قال فيه أهل الجرح والتعديل: (الرازى 5/84): «بصرى يكتب حديثه» وهذه درجة ضعيفة لتعديل - عدالة - الراوى حسب اصطلاحات الجرح والتعديل فهو يكتب الحديث ولا يحتج به, وقال (الذهبى): «يكتب حديثه», وقال (أبو حاتم): «يكتب حديثه», وقال (ابن سعد): «كان ثقة، وله أحاديث» أى له أحاديث أخطأ فيها, أما (ابن رجب) فقال:»والبخارى لا يحتج بحديث عبدالله بن الصامت، ولم يخرج له فى كتابه شيئا». والمعنى أن البخارى لا يحتج بهذا الراوى ولم يرض به لحد أنه لم يخرج له فى (الجامع) ولو حديثا واحدا.

نقد السند فى الحديث الثانى:
ومدار الرواية فيه على (عبيدالله بن عبدالله بن الأصم) وقال بعضهم بل هو شقيقه (عبدالله بن عبدالله بن الأصم) فماذا قال أهل الجرح والتعديل فيهما:
أولا (عبيدالله): قال (ابن رجب): «لم يخرج البخارى ليزيد بن الأصم، ولا بنى أخيه عبدالله بن عبدالله، وأخيه عبيدالله شيئا», وقال ابن حجر عن (عبيد الله):
«مقبول» وهذه أضعف درجات التصحيح عند أهل التعديل.

أما (عبدالله): فقد قال ابن حجر: «صدوق», وقال أبو حاتم: «شيخ» وهى أيضا درجات ضعيفة من القبول. وعلى هذا يظهر عوار واضطراب السند فى الحديثين مع مخالفة ونكارة متنهما-نصهما-للصحيح الثابت المقطوع به؛ لذا فقد رد الشافعى أحاديث المرأة والحمار والكلب (مختلف الحَدِيْث) (8/512) لمخالفتهم حديث عائشة وغيره, وجاء فى (فتح البارى) (1/589): «قال أحمد: «يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفى النفس من الحمار والمرأة شىء»، أى أن أحمد بن حنبل كان يرتاب فى رواية قطع المرأة الصلاة.

ولهذا فالحديثان فى (مسلم) مردودان لأنهما مضطربا السند ومنكرا المتن ولا يصح لنا دينا ولا عقلا أن ننافح عن الباطل ونحن نعلمه, لأن رد حديث فى البخارى أو مسلم هو أمر أكاديمى وبحثى بحت وليس أمرا دينيا يدفع لجنة ولا نار.

عزيزتى المرأة المسلمة يا نصف أمة النبى ويا أيتها الإنسان الكامل, نعتذر منك كثيرا مما فعله التراثيون ونعتذر منك أن تذكرين فى جملة مفيدة مع الكلاب والحمير لأنك أكرم على الله من ذلك, فلا تصدقى أن هذا الكلام من قول النبى وهو (أبو البنات), ونعتذر منك عن البذاءات والغباءات التى اكتتبها القرطبى وكثير مثله من الغث الذى حملته كتب التراث من حطٍ وتحقير لمكانتك العليَّة, حيث لا ريب أن هذا التراث قد حمل بين ثناياه أضعاف أضعاف هذين الحديثين من التحقير والتهميش لدور المرأة المسلمة, ولا ريب أيضا أنه أصبح لزاماً أن نستدرك هذه الأخطاء التاريخية ونستأصلها من عقولنا لأن ذلك هو روح الدين وهدف وجوده فى الأرض.

مكانة مسند الربيع بين كتب الحديث


يرى الإباضية أن مسند الربيع بن حبيب من أصح كتب الحديث سندا لأن معظم الأحاديث رواها الإمام الربيع عن شيخه أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أحد الصحابة، وقد وردت في المسند بعض الأحاديث التي رواها أبوعبيدة عن آخرين غير جابر إلا أنها قليلة.
وقد ذكر أئمة الحديث أن رُتَبَ الحديث الصحيح تتفاوت ,فالمرتبة العليا ما أطلق عليه بعض رجال الحديث بأن أصح الأسانيد هي الأسانيد الثلاثية كسند الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم )، وسند إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود عن الرسول (صلى الله عليه وسلم )،  وسند مالك عن نافع عن ابن عمر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) لأن هذه الأسانيد قصيرة السند واشتهر رجالها بقوة الحفظ والضبط وكمال الصدق والأمانة.
وإذا تتبعنا الأحاديث التي رواها الربيع في الجزء الأول والثاني  في المسند لوجدنا أن معظمها ثلاثية السند ورجالها من أوثق الرجال وأحفظهم وأصدقهم. فالأحاديث الثلاثية التي في المسند رواها الإمام الربيع أغلبها عن أبي عبيدة عن جابر عن أحد الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وسلم ). ومن هذا يعتبر الإباضية أن الأحاديث الواردة في الجزأين الأول والثاني من المسند هي من أصح الأحاديث الواردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) ويعتبرونها أعلى درجة من الأحاديث التي رواها الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله.
ورغم أن الأحاديث التي في المسند ثلاثية ورجالها مشهورون بالثقة، والحفظ والضبط  وأن أغلب الأحاديث مروية في كتب السنة الأخرى إلا أننا لا نجد لهذا الكتاب ذكرا عند أكثر المهتمين بعلوم الحديث  – لا في القديم ولا في الحديث - بل إن من المهتمين بعلوم الحديث من لم يسمع عنه مطلقا.
فجمهور علماء الأمة الذين اهتموا بتتبع أحوال رواة الحديث واقتفاء آثارهم جرحا وتعديلا قد أهملوا أو أغفلوا ذكر الربيع بن حبيب في كتب الجرح والتعديل عدا ما قاله يحيى بن معين في  كتابه "التاريخ" حيث قال: (الربيع بن حبيب يروي عن الحسن وابن سيرين وهو ثقة)[4]. وعدا بعض من ذكره من أئمة الحديث كالإمام أحمد والبخاري.
وقد سئل أستاذ  معاصر يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الحديث عن مسند الربيع بن حبيب فكان رده: سمعت عنه ولم أره. وسئل آخر وهو رئيس قسم التفسير والحديث في إحدى الجامعات المعتبرة عن الربيع ومسنده فأجاب: من الربيع وما مسند الربيع؟.
وبقدر ما نتأسف عند سماع ردود  كهذه من رجال كرسوا حياتهم ودراستهم لعلم الحديث، إلا أنه قد نلتمس العذر لبعضهم، لأنه لم تتيسر لهم ظروفهم للإطلاع على فكر الإباضية. ثم إن التعتيم السياسي والتاريخي على مدى أكثر من ألف قرن كان له بالغ الأثر في صد المثقفين والباحثين عن الإطلاع على فكر الإباضية عموما. ولا بد أن نسجل هنا أن الإباضية أنفسهم قد قصروا في نشر فكرهم،والتعريف بمذهبهم في القديم والحديث إلا ما رأيناه في السنوات الأخيرة من طباعة بعض كتب الإباضية وما قامت به وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عُمان من طباعة بعض أمهات الكتب عند الإباضية. ونحن نطمح أن يكون نشر آثار الإباضية دافعا لعلماء ومفكري الأمة الإسلامية للتعرف على فقه المذهب الإباضي ووضعه في مكانه الصحيح من أجل توحيد صفوف المسلمين ولمّ شعثهم في عصرٍ هُم أحوج ما يكونون فيه إلى وحدة صفوفهم لصد الطغيان المتربص بهم في الداخل والخارج.
ورغم وجود هذه الكتب إلا أننا نذكر بكل أسف أنه يوجد من الباحثين والمفكرين والفقهاء المعاصرين من يعرف عن الإباضية تاريخا وفكرا وعقيدة ومع ذلك يحاول - عن قصد أو غير قصد - تهميش الفكر الإباضي والتعتيم عليه والرد عليه بطريقة غير موضوعية ولا علمية. ولا ندرى سبب ذلك في هذا العصر الذي نتوقع فيه توفر الأمانة العلمية والنقاش العلمي المتزن والتفتح الفكري والعقلي.
ولا ننكر وجود بعض الأسباب التاريخية التي من أجلها لم يُعرف الإمام الربيع بين المحدثين من أهل السّنة و لم يعرف كتابه ضمن كتب الحديث رغم أنه من أوائل  كتب الحديث التي صُنّفت ومن هذه الأسباب:
·    اعتبار الإباضية إحدى فرق الخوارج المبتدعة الضالة مما أدى إلى تجنب المحدثين  الرواية عنه لأنهم اشترطوا فيمن يؤخذ عنه الحديث ألا يكون مبتدعا وداعيا لبدعته.
·        عزلة فرضها الإمام الربيع على نفسه بإغلاق الباب في وجوه طلبة العلم من غير أصحابه.
·        قلة مصادر تاريخ الإباضية بذهاب كثير منها نتيجة التعصب والظلم والحسد وحرق المكتبات.
·    ظلم الولاة والحكام الذين تسلطوا على الأمة الإسلامية في العصور الأولى   وسياستهم الجائرة التي طاردت كل من رفع صوته يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكرّهوا الأمة فيمن يقول بجواز الخروج على الحاكم  ووصفوه بالخروج من الدين.
·        انحسار الإباضية في مناطق بعيدة عن مراكز السياسة.


إسلام بحيرى-ملعون من قال إن والدى رسول الله فى النار


◄ حديثان رواهما مسلم بدون مشاركة البخارى لإثبات أن أبوى النبى فى النار خالدين.. لأنهما ماتا على الشرك والكفر

بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم تكاثرت وتناثرت أقواله على لسان أصحابه ثم انتقلت إلى مسامع وألسنة التابعين - الذين رأوا وسمعوا أصحاب النبى بعد وفاته - ثم شاعت واختلطت بعد ذلك أقواله، عليه صلوات الله، على ألسنة الصادقين والكاذبين والمدلسين على السواء، ولما بدأ عصر تدوين الحديث النبوى استحدث علماء الحديث دلائل وقرائن للتحقق من صدق أو كذب الإسناد - رواة الحديث - وهو ما سمى علم (الجرح والتعديل)، والإسناد هو سلسال أسماء الرجال الذين رووا الحديث صعودا حتى الصحابى الذى سمع النبى أو حكى عنه، ورغم نُبل ووجاهة الفكرة نظريا كمحاولة للتأكد من صحة الحديث فإن سلبيات مخيفة ومريعة قد نتجت عنها فيما بعد، حيث تطورت فكرة (الإسناد) تطورا عكسيا فأصبح يمثل قيدا ليس على قبول الحديث، بل على رفضه بمعنى أنه إذا صح السند وكان رواة الحديث ثقات أو أثبات أو عدول (بتقدير البعض) أدى ذلك طواعية وتبعية إلى قبول الحديث واستحالة رفضه ولو كان يناقض صريح القرآن، فتحول السند من كونه قيدا لقبول الحديث إلى قيد ضد رفضه، مما أدى إلى قبول وتدوين أحاديث تناقض وتضاد القرآن بوضوح وصراحة وجرأة، ومع أن المحدثين الأوائل وضعوا أول ضوابط قبول الحديث وهى وجوبية عدم مخالفة الحديث لصريح القرآن، وما اقترفه أهل التراث يتمثل أمامنا فى الكثير من أحاديث الصحيحين ولكننا سنهتم فى المقال بحديثين من هذه النوعية.

الحديثان أخرجهما (مسلم) وهما حول مصير أبوى النبى فى الآخرة:
الحديث الأول: (مسلم) باب «بيان أن من مات على الكفر فهو فى النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين» 203: «حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبى؟ قال: فى النار. فلما قفى دعاه فقال: إن أبى وأباك فى النار».

الحديث الثانى: (مسلم) «باب استئذان النبى ربه عز وجل فى زيارة قبر أمه» 976: «حدثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن عباد (واللفظ ليحيى) قالا: حدثنا مروان بن معاوية عن يزيد (يعنى بن كيسان) عن أبى حازم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: استأذنت ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى».

والمراد فى الحديثين إثبات أن أبوى النبى فى النار خالدين، لأنهما ماتا على الشرك والكفر، ودعونا نستعرض ما شيَّده الشارحون والمفسرون من طوابق شاهقة على هذين الحديثين:
1) زيَّن (مسلم) هكذا باستنتاجه الفطن باب الحديث باسم «بيان أن من مات على الكفر فهو فى النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين« ولا أعلم كيف جزم (مسلم) بهذا الجزم الذى ليس فيه فقط إيذاء لرسول الله فى أهله، ولكن الأعظم هو الافتراء على القرآن كما سنوضح، ورغم أننى على حد علمى لم أعرف أن (مسلما) كان فقيه زمانه لكى يحكم بهذا وحده، هكذا ابتناء على حديث آحاد، لم يشاركه فى إخراجه معلمه وأستاذه (البخارى)، ولكنه الزهو بالنفس أن يخرِّج الرجل حديثا على شرطه هو، مخالفا للقرآن العظيم ومخالفا للأحاديث الصحيحة كما سنبين، ومدعيا على أبوى النبى ادعاءً عظيما كهذا، ثم من كمال الزهو بالذات تأكيده فى عنوان الباب استنتاجه بجرأة ليست عجيبة على القدماء أن أبا النبى فى النار خالدا لا تنفعه شفاعة النبى.

2) قال (النووى) وهو الشارح الأكبر لكتاب (مسلم) فى تعليقه وشرحه على حديث (أبى وأباك فى النار): «فيه أن من مات على الكفر فهو من أهل النار، وفيه أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار. وليس هذا مؤاخذهُ قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء». ولا أعلم أيضا كيف يملك (النووى) هذه الجرأة أولا على أبوى النبى وذلك فى جزمه أنهما ماتا على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فكيف عرف ذلك وكيف تأكد منه وكيف أجاز لنفسه أن يقول «من مات على الكفر« والمعروف دينا ولغة وبداهة أن الكفر إنما هو الكفر بالدعوة فكيف كفر أبواه عليه صلوات الله بدين لم يُدعيا إليه، ثم يمتلك كالعادة أيضا جرأة عظيمة على تحدى آيات القرآن بقوله «فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم» كيف ذلك والقرآن يخاطب النبى الكريم بقول الله :«وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ» سبأ 44.

3) أما كلام (النووى) عن الحديث الثانى (استأذنت ربى) فيقول: «فيه جواز زيارة المشركين فى الحياة وقبورهم بعد الوفاة وفيه النهى عن الاستغفار للكفار» وهنا يكرر (النووى) ذات الجرأة ويجزم أن قبر أم النبى هو من قبور المشركين ولا أعلم من أين أتى بدليل إشراكها إذ إن المعلوم أنه لم يثبت أبدا برواية متيقنة أنها كانت على دين الشرك الجاهلي، بل الثابت عكس ذلك كما سنوضح، ثم يخلط النووى فى نهاية تعليقه خلطاً كبيرا فيقول «وفيه النهى عن الاستغفار للكفار» فيجعل أم النبى تارة مشركة وتارة كافرة، والفرق بينهما كبير، أو أنه إمعان فى الجرأة وتأكيد لهوان ما يكتبه عليه قد جعلها عامدا من عند نفسه تتصف بالوصفين معا فهى مشركة كافرة، ويا للعجب من جرأة كهذه.

4) أما (البيهقى) فيزيد الجرأة إبداعا وشرحا فيقول فى كتابه (دلائل النبوة) (1/192): «وكيف لا يكون أبواه وجده بهذه الصفة فى الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا»، ولا أدرى أيضا بأية طريق استقى (البيهقى) علومه الخاصة التى أكد منها أنهم كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا، فإما أنه رآهم بعينه وهم يعبدون الوثن قبل الإسلام وهذا خيال ومحال، أو لعل ذلك الجزم بعبادتهم الأوثان قد جاءه فى المنام.

5) ثم يأتى دور (ابن كثير) فى تفسيره لكى يضع بصمته فى الأمر فيقول: «وإخباره عن أبويه وجده عبدالمطلب بأنهم من أهل النار لا ينافى الحديث الوارد عنه أن أهل الفترة والأطفال والمجانين يمتحنون فى العرصات يوم القيامة فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب فلا منافاة ولله الحمد والمنة». وما قاله (ابن كثير) هو أعجب العجاب بل هو التعنت بعينه والمغالاة بقبحها فلأنه لا يريد أن يرد أحاديث (مسلم) أن آباء النبى فى النار، ولأنه وجد من طريق أخرى حديثا صحيحا يقول إن أهل الفترة-من ماتوا قبل بعثة النبى - سيمتحنون يوم القيامة بسؤالهم عن الإيمان، ما يعنى أن الحديث يدل على أن آباء النبى ليسا كما زعم (مسلم) من أهل النار، فلم يجد (ابن كثير) مخرجا من الأزمة إلا بجمع بين الحديثين يثير الضحك والبكاء فى آن على ما آلت إليه جرأة القوم على القرآن وعلى النبى، فيقول إن أهل الفترة سيمتحنون ويجيبون يوم القيامة بما يدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار ويكون آباء النبى من جملة الناس الذين لن يجيبوا بتوحيد الله لذلك سيدخلون النار، ووالله لولا المقام لكتبت كلاما قد لا يُحتَمل تعليقا على هذا البؤس الذى استنتجه (ابن كثير).

6) عدد من أهل السلف شبُّوا عن الطوق وردوا أحاديث (مسلم)، الأول هو (جلال الدين السيوطى) الذى ألف ثلاث رسائل فى رد حديثى (مسلم) كان أشهرها رسالة (التعظيم والمنة فى أن أبوى رسول الله فى الجنة)، والثانى هو القاضى (ابن العربى) الذى قال بجرأة لا نستطيعها نحن عندما سُئِل عمن يقول إن أبوى النبى فى النار قال: «ملعون من قال ذلك«.

أما المعاصرون باستثناء القلب الشجاع (محمد الغزالى) فقد استهجنوا الحديثين ولكنهم التجؤوا للتأويل- التأويل صرف المعنى الظاهر إلى معنى آخر إذا عنَّ ما يقتضى ذلك على أن يكون هذا الصرف مقبولا فى اللغة - إيثارا للسلامة من الدخول فى معارك رد حديث بأحد الصحيحين وارتكنوا فى تأويلهم إلى «أن العرب كانت تطلق على العم كلمة الأب، إذن فالمقصود فى الحديث هو (أبوطالب) عم النبى»، لكن الثابت أن العرب فى سياق كلام واضح كهذا لا يقصدون أبدا العم فى كلامهم عن الأب، فالرجل الذى سَأل النبى من البديهى أنه سأل عن أبيه الحقيقى؛ لذا فلا يُتَصور من النبى وهو أفصح العرب أن يعارضه إلا بمساويه فكان مقصد النبى فى الكلام لاريب الأب الصُلبى الحقيقى، حيث لا يتبادر إلى الذهن ولا تقبل اللغة الكلام هنا عن العم، وأيضا ارتكن المتأولون لمعنى الأب على أنه العم أن القرآن ذكر أن نبى الله (إبراهيم) كان يعظ أباه بقوله:«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً» الأنعام 74، وقال المتأولون أن اسم أبيه ليس (آزر) كما فى القرآن ولكن اسمه (تارح) أو (تارخ) لذلك فالمقصود بقول الله «لأبيه« هو عمه (آزر)، وبالطبع إن كانت محاولة التأويل تحمل نوايا طيبة، فإن الارتكان على دليل كهذا هو خطأ يراد به تصليح خطأ لأن ادعاء أن اسم أبيه هو (تارح أو تارخ) هو ادعاء مبنى على كذبة فاحشة من آلاف كذبات الإسرائيليات التى دُسَّت فى تفاسير القرآن عن طريق الراعى الرسمى للإسرائيليات (كعب الأحبار)، لذلك فإن معنى الأب فى آيات النبى إبراهيم ينصرف للأب الحقيقى وليس العم.

نقد الحديث لتعارضه مع صريح القرآن:
1) قول الله عز وجل: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ» القصص 59
والآية لا تحتاج شرحا أن الله لا يعذب أحدا ولا يهلك القرى حتى يبعث الرسل.
2) قول الله عز وجل: « وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ» الشعراء 208
وتلك الآية تحمل نفس المعنى أن الإهلاك مقترن ببعث الرسل المنذرين.
3) قول الله عز وجل: «ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ» الأنعام 131، والغفلة هى عدم إنذارهم برسول.
4) قول الله عز وجل: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا» الإسراء 15، وذلك للتأكيد على المعنى المراد أن شرط العذاب هو إرسال الرسل.
5) قول الله عز وجل: «رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» النساء 165، مما يؤكد أن الحجة لا تقوم إلا بعد إرسال الرسل.

وكل الآيات السابقة تكفينا صراحة ووضوحا لرد ألف حديث وليس حديثا واحدا حيث تؤكد أن أهل الفترة ممن عاشوا قبل الرسل لا يعذبون لعدالة ورحمة الله، وإن لم يعف عنهم فعلى الأقل يكون أمرهم موكلا إلى الله تعالى، فكيف نجزم أنهم فى النار ففى ماذا أذنبوا ليدخلوها، وكيف يتساوون فى العذاب مع من سمع دعوة النبى وبلغه القرآن ثم كفر به فأين عدالة الإله، والله يقول: «إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ» النساء 40

أما زعمهم البغيض أن أبوى النبى سمعا دعوة نبى الله إبراهيم ولذلك عُدُّوا من المشركين فالآيات تنضح بتكذيب دعواهم:
1) قول الله عز وجل:« لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ» يس 6، والحديث موجه للنبى الكريم يقول الله فيه ما لا يحتاج إلى شرح بل هو إقرار إلهى بأن قوم النبى ما أنذر آباؤهم، فأى جرأة وقحة هذه التى امتلكها من يدَّعون أن أبوى النبى فى النار لأنهما قد وصلتهما دعوة النبى إبراهيم. فلعله علم خاص بهم لم يعلم به الله - ونستغفر الله من ذلك-.

2) قول الله عز وجل: «وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ» سبأ 44، نفس المعنى الجلى الواضح أن الله لم يرسل لآباء النبى وقومهم أنبياء.

3) قول الله عز وجل:«لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» السجدة 3، تأكيد على المعنى المراد.

4) قول الله عز وجل:«لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» القصص 46
فما هو المطلوب أكثر من هذه الآيات الصريحات التى تعضد بعضها بعضا مؤكدة أن أهل الفترة لا يعذبون لأنهم لم تقم عليهم حجة الرسل، والآيات الأخرى التى تجزم أن قوم النبى خاصة لم يأتهم نذير قبل النبى؛ وعليه فإن كل ما يقال بخلاف ذلك كلام هابط مرسل واستدلال مضحك وهزلى.

نقد الحديث لتعارضه مع الأحاديث الصحيحة المتفقة مع صريح القرآن:
1) أخرج البخارى (4315) حديثا فى موقعة (حنين) أن النبى لما تولى عنه المسلمون قال: «أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب»، وهنا يتبين أن الرسول يفخر ببنوته لجده (عبدالمطلب) والثابت أن الله أنزل فى كتابه:« وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» التوبة 3، فلو كان جده صلوات الله عليه من المشركين الخالدين فى النار لتبرأ النبى منه تصديقا لنص القرآن، كما تبرأ النبى إبراهيم من أبيه:« وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» التوبة 114، فلا يُتصور أن يفخر النبى بجده المشرك وهو مطالب بالبراءة منه ما يؤكد أنه توفى على التوحيد.

2) أخرج مسلم نفسه (2276) قول النبى: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل. واصطفى قريشا من كنانة. واصطفى من قريش بنى هاشم. واصطفانى من بنى هاشم«. ولا أعلم معنى فى الاصطفاء إلا النسب المتسلسل الطاهر المبرأ من الشرك لأن الله سبحانه قال فى كتابه العزيز« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ « التوبة 28، فلا يمكن أن يصطفى الله النجس ولكن الاصطفاء للموحدين الأطهار وذلك ما يؤكد توحيد آباء النبى كما يؤكد بطلان ووهم حديثى (مسلم).

3) قول الله عز وجل فى كتابه: «وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ» الشعراء 219، جاء عن ابن عباس فى التفسير أن المعنى هو تقلب النبى فى أصلاب أجداده من الساجدين قبل مولده.

نقد السند فى الحديثين:
1) هذان الحديثان من أفراد مسلم أى ما انفرد به عن البخارى ولم يتابعه عليه إلا بعض كتب السنن والمسانيد، وذلك بنظر أهل الحديث يعد نزولا عن درجة الحديث الذى اتفقا عليه البخارى ومسلم مع أن رأينا فى هذه المسألة بخلاف ذلك فمن الجائز أيضا اجتماعهم على حديث به علل كثيرة فالعصمة لله ورسوله ولا لأحد بعدهما.

2) هذان الحديثان (آحاد) وقد قرر الكثير من علماء الحديث قديما وحديثا أن (الآحاد) لا يقام عليه عمل ولا عقيدة، وليس هذا فحسب بل هو مخالف كما أوضحنا لصريح القرآن والنقل.

3) أما الرواة ففى حديث (أبى وأباك) الراوى هو (حماد بن سلمة) وقد وثَّقه بعض العلماء ورده بعضهم، كما أن البخارى نفسه لم يقبل أن يخرج له ولو حديثا واحدا كتقرير منه بضعف روايته لأنه كان يخطئ كثيرا وكان يروى بالمعنى وليس باللفظ، وجاء فى (حماد) عند علماء الجرح والتعديل قول (أبو حاتم) فى الجرح والتعديل (9/66): «حماد ساء حفظه فى آخر عمره»، أما أهم ما قيل فيه فقد قال (الزيلعى) فى نصب الراية (1/285): «لما طعن فى السن ساء حفظه. فالاحتياط أن لا يُحتج به فيما يخالف الثقات«، والكلام معناه مهم وهو أن حديثه إذا خالف الثقات لا يحتج به، وقد خالف القرآن بذاته، فأى مخالفة بعد.

الخلاصة:
هذان الحديثان مردودان لا يصح منهما شىء لمعارضتهما القرآن والأحاديث المتفقة مع ظاهر آياته، لأنه لا يمكن رد النص القرآنى الذى هو قطعى الثبوت وقطعى الدلالة بنص ظنى الثبوت وظنى الدلالة إن تعارضا، فالآيات الكريمات لا تحتمل إلا الثبوت ولا يحتمل معناها معنى آخر غير ظاهرها.

إسلام بحيرى-قصة مقتل النبى «صلى الله عليه وسلم» بالسم على أيدى اليهود باطلة


كان من المفترض ألا تمثل وفاة النبى الكريم أى مبعث لخلاف أو نزاع أو شبهة تحملها كتب التراث بين دفتيها حول الواقعة، فكفى بها مصيبة ورزية حلت على أمة بأكملها فى وفاة إمام المرسلين، ولكن أهل التراث ومخرجى الأحاديث وأصحاب السير أبوا إلا أن يجعلوا هذه الواقعة مادة للطعن على رسول الله.

ولأن العقل الجمعى المسلم لا يمكن بحال أن يتقبل فكرة نقد أحاديث فى كتاب البخارى على أساس أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رغم أن البخارى يبقى مع كل إتقانه بشراً تعتريه الوساوس والأخطاء والأهواء وتظل منتجاته العلمية متاحة أمام النقد العلمى والأكاديمى ولا مطعن ولا مَعيب فى ذلك، فكما يعرف الغالبية من المسلمين أن النبى توفى على أثر وجع شديد وحمى ألمَّت به، إلا أن البخارى وحده فى كتابه دون أى أحد فى العالمين أخرج حديثا أن النبى مات مسموما مقتولا جراء أكله من شاة مسمومة قُدمت له من اليهود فى موقعة خيبر.

ولنعرض الحديث أولا.. أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428 ما يلى:
«وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضى الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم).

وأصل الحكاية أن البخارى ومسلما وكثيرا من أهل السير والتاريخ قد أخرجوا جميعا واقعة تصل إلى حد التواتر عن شاة قُدمت للنبى فى خيبر ولكنه عَلِم كنبى معصوم أنها مسمومة، وهذه الواقعة من المهم استجلاؤها قبل الخوض فى نتيجتها، فماذا عن هذاالاستجلاء؟
أخرج البخارى فى باب «إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم» 343/6-3169، وأخرجه مختصرا فى «باب» الشاة التى سُمَّت للنبى بخيبر»، وأخرج ذات الحديث بطوله فى باب «ما يذكر فى سم النبى صلى الله عليه وسلم» 284/10-5777» وفيه يقول:

حدثنا قتيبة: حدثنا الليث، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة أنه قال: «لما فُتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله (اجمعوا لى من كان ها هنا من اليهود).. ثم قال لهم: (فهل أنتم صادقىَّ عن شىء إن سألتكم عنه)، قالوا: نعم، فقال: (هل جعلتم فى هذه الشاة سماً)، فقالوا: نعم، فقال: (ما حملكم على ذلك). فقالوا: أردنا: إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك».

وأخرج البخارى حديثا شاهدا لذلك الحديث بسند عن أنس بن مالك فى باب «قبول الهدية من المشركين» 272/5-2617، وأخرج «مسلم» 2190، فى كتابه ذات الحديث بسنده إلى أنس بن مالك، ولكن بزيادة هامة عن المرأة اليهودية واضعة السم، فيروى فيها الصحابى أنس بن مالك: فجىء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك، قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» قال: أو قال: «على».

إذن ماذا نستنتج مما سبق:
رواية واقعة تقديم الشاة المسمومة رواية صحيحة متواترة، ولكن يجب التوقف عند بعض نتائجها المتحققة:

الرسول قد أُخبر بالغيب وفى بعض الروايات أُخبر من الشاة نفسها أنها مسمومة، وجاء فى بعض الروايات أنه لم يقربها قط وجاء فى أخرى أنه لاك - مضغ - قطعة منها ثم لفظها، وذلك ما يتفق مع مقام العصمة التى أقرها سبحانه وتعالى فى القرآن.

فى الرواية التى أخرجها البخارى عن أبى هريرة وقع الحوار الطويل بين الرسول واليهود ولكن المهم فيه هو المقطع الأخير، وهو ظن اليهود بما اعتقدوه امتحانا لصدق نبوة محمد صلوات الله عليه، فلما سألهم: «ما حملكم على ذلك»، قالوا: «أردنا إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك»، وهنا نتبين الهدف والغاية من إثبات الرواية الصحيحة، أنهم قالوا ما قالوه، وسكت النبى على قولهم إقراراً لهم أن اختبار النبوة الحقيقى على المحك، فلو كان كذابا أو مدعيا للنبوة لأكل منها وشبع، فاليهود على علم أنه لو كان من أولى العزم، كإبراهيم وموسى لكان محفوظا من إزهاق الروح قتلا، ثم أردفوا ما أقره النبى أيضا أنهم قالوا: «وإن كنت نبياً لم يضرَّك»، وهذه هى النتيجة الأبرز فى الحدث أن ضرر السم لا يمكن أن ينتقل لرسول الله من الأصل فضلا عن أن يميته ذلك السم، وإلا كان على حسب قولهم وعلى حسب إقرار النبى لقولهم ليس نبيا بل كذابا لأن السم قد أضره ولم يُخَبَّر من ربه.

فى الرواية الصحيحة الأخرى من حديث أنس الذى أخرجه البخارى ومسلم، جاءت الزيادة الهامة التى أشرنا إليها عند «مسلم» أن الرسول استدعى من دست السم له فى الشاة وسألها: «فقالت: أردت لأقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» أو قال: «علىَّ»، وهنا نستوضح العصمة بشكل جلى، فلم يكتف النبى بالسكوت عن كلامها إقرارا لها، ولكنه رد عليها ردا لائقا بكمال اليقين فى عصمة ربه له فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، والمعنى لا يحتاج إلى شرح ولا يقبل التأويل، فالرسول قال إن الله لا يسلطك على ذلك أبدا بالسم أو بغيره إذن هذا هو مفهوم الرسول ذاته عن العصمة الربانية له.

ونعود للحديث الأول والذى أخرجه البخارى وابتنى فيه على الروايات السابقة كأصل للقصة أن الرسول مات بعد ثلاث سنوات متأثرا من ذات السم، لنستعرض كم العلل والمعايب التى شابت إخراج البخارى لمثل هذا الحديث سندا ومتنا - نصا، ولنبدأ بذكر ماجاء فى الحديث:
أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428: «وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضى الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت إنقطاع أبهرى من ذلك السم).

ونبدأبنقد سند الحديث:
هذا الحديث معلق، والحديث المعلق ببساطة هو الحديث الذى لا يصرح فيه البخارى بصيغة «حدثنا» لأن هذه الصيغة تعنى ثبوت اللقاء بينه وبين الراوى عنه، ولكن التعليق يعنى أن البخارى أسقط فى أول السند شخصا أو أكثر، لذا فإن فهم هذا المصطلح هام جدا فى نقد هذه الرواية، وهنا ننقل كلاما جامعا لابن حجر فى كتابه «تغليق التعليق» فيقول عن أحاديث البخارى المعلقة وأنواعها: «فقد يكون معبرا بصيغة لا تقتضى التصريح بالسماع مثل قال وروى وزاد.. فإن جزم به فذلك حكم منه بالصحة إلى من علقه عنه، ويكون النظر إذ ذاك فيمن أبرز من رجاله ،فإن كانوا ثقاتا فالسبب فى تعليقه إما لتكراره أو لأنه أسند معناه فى الباب، ولو من طريق أخرى فنبه عليه بالتعليق اختصاراً».

والمعنى أن ابن حجر يقول إن البخارى إذا علق الحديث بصيغة الجزم بمعنى أن يقول فى أول السند: «قال» يكون ذلك بسبب حكمه بالصحة لمن علَّقه عنه ويبقى معرفة رجاله إن كانوا ثقاتا أو مادونهم، أو أنه علقه لأنه مكرر فى مواضع أخرى بتخريجه أو لأنه أسند معناه فى باب آخر فى الكتاب، ولكن بسند متصل فيحمل البخارى السند المعلق على السند المتصل فى الحديث الآخر طالما تشابها فى المعنى وكان السند المعلق رجاله ثقات.

ولكن هل ما قاله ابن حجر من شروط متحققة فى هذا الحديث؟ بالطبع لا.
أولاً: الحديث علقه البخارى عمن لم يره ولم يسمع منه وهو «يونس الأيلى» الذى توفى قبل مولد البخارى بأربعين سنة على الأرجح، وهذا بخلاف معلقات البخارى الأخرى التى يمكن أن تكون عن مشايخه.

ثانياً: معنى هذا أن الحديث به انقطاع ظاهر فى أول السند بين البخارى ويونس، وهو ما دعاه لتعليقه ولكن بشرطه الذى ذكره «ابن حجر».

ثالثاً: وهذا الشرط أنه إذا علَّق البخارى حديثا بصيغة الجزم «قال» كالذى بين أيدينا فيقول «ابن حجر» فإنه ولابد علقه بالجزم لسببين:
1: أنه مكرر فى موضع آخر من الكتاب بذات السند المنقطع هنا فيكون مجرد اختصار للسند فقط لا أكثر، فهل هذا الشرط منطبق على الحديث الذى بين أيدينا؟ بالطبع لا، فالبخارى لم يكرر الحديث فى أى باب من أبواب كتابه مرة أخرى لا بهذا السند موصولا، ولا بسند غيره أبدا، إذن سقط الشرط الأول لقبول معلقات البخارى.

2: يقول «ابن حجر»: إن البخارى قد يعلق الحديث المنقطع سندا لأنه أسند معناه فى الباب، ولو من طريق أخرى للسند، طالما كان رجال السند المعلق ثقاتا، فهل هذا ينطبق على الحديث الذى بين أيدينا؟ أيضا لا، لأن البخارى لم يسند المعنى المقصود من الحديث فى أى حديث آخر فى طول كتابه وعرضه، ولكنه فعل شيئا عجيبا وغريبا، فقد كان يكتب تحت اسم الباب الذى أخرج فيه الأحاديث التى ذكرناها سابقا عن واقعة تقديم الشاة المسمومة للنبى فى خيبر، جملة مقحمة ودخيلة فيقول «رواه عروة عن عائشة»، وكأن البخارى يريد أن يقول إن أحاديث تقديم الشاة المسمومة هى نفس المعنى المراد من الحديث الذى بين أيدينا حول تصريح الرسول بانقطاع أبهره - شريان القلب - من أثر ذلك السم، وما كتبه البخارى يعنى أنه استنتج أن الحديثين بمعنى واحد، أو أن أحدهما نتيجة للآخر، استنتاج لا يمكن قبوله بحال، لأن الأول - الذى ذكرناه عن الشاة- حديث متصل السند والثانى الذى هو لب المشكلة ليس مطابقا لمعنى لأول بأى وسيلة، وبالطبع لا رابط بينهما لكى يصبح الثانى نتيجة للأول، لذا فإن تعليق الحديث الثانى لا ينجبر ولا ينصلح باتصال سند حديث الشاة، وإنى لأعجب من البخارى كيف يتأتَّى له هذا الاصطناع فى أمر جلل كهذا، فالحديث الأول كما بيَّنا سابقا يخص واقعة حدثت وانتهت ساعتها تماما أن النبى قُدمت له فى خيبر شاة، وأُخبر من لدن حكيم عليم أنها مسمومة، وسأل هو اليهود رجالا ونساء لما فعلتم ذلك؟ فردوا بأنه كان اختبارا لنبوته، وأنه إن كان نبيا سيخبر من ربه، أو لن يضره السم، وهذا المعنى لا علاقة له من قريب أو بعيد بحديث السوء الذى يريد البخارى أن يجعله نتيجة للحديث الأول بل إن الحديث الأول والمتصل السند يناقض الثانى كليا، فالحديث الثانى يزعم أن النبى قال إنه يموت من أثر هذا السم، والحديث الأول يخبر فيه الرسول أن موته من السم مستحيل الحدوث، فأى شىء فعله بنا البخارى؟

فسبحان الله، إذا كان الرسول قد قال للمرأة اليهودية صراحة إن قتله بذلك السم لا يتأتى لها أبدا بقوله: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، فكيف يقول البخارى إن الرسول بعد ذلك بسنوات قال عند موته إن أثر السم ذاك هو الذى يميته، كيف استساغ البخارى أن يلصق بالرسول الكريم طعنا كهذا ونقضا لعصمة ربه التى أقرها هو بنفسه فى حديث الشاة، ثم يأتى البخارى بسند منقطع ويعلق الحديث على ادعاء أنه بمعنى الحديث الأول، بل الأمر واضح وجلى أن الحديث الثانى ليس له علاقة بالحديث بالأول.

لذا فإن هذا الاستنتاج يخص البخارى وحده ولا يخص الأمة ولا نبيَّها، ولكن تقديس البخارى هو الذى جعل الشراح والتابعين يقرون هذا الحديث المعلق على أنه الحقيقة ويطعنون فى نبيهم المعصوم ويجعلون اليهود هم الذين قتلوه إلى يوم القيامة، فسبحان الله.

رابعا: ولكن الأهم هنا أن السند المنقطع الذى ذكره البخارى ليس سندا سالما من العلل، فالسند هو: قال يونس عن الزهرى قال عروة، ويونس هو «يونس بن يزيد الأيلى» ورغم أنه يعد الراوى الثانى لحديث الزهرى فإن أهل الجرح والتعديل قد عابوا عليه منكراته عن الزهرى، فيقول ابن حجر فى تهذيب التهذيب ج 11 - 770: «وقال أبو زرعة الدمشقى سمعت أحمد بن حنبل يقول فى حديث يونس عن الزهرى منكرات... وسئل أحمد من أثبت فى الزهرى قال معمر قيل فيونس قال روى أحاديث منكرة»، ثم إن الراوى لم يصرح بالسماع فقال «عن» الزهرى وهذه صيغة دون كلمة «حدثنا» التى تفيد سماعه منه مباشرة.

أما الزهرى فهو ابن شهاب الزهرى، وهو مع جلالته وحفظه وقدره لكن العلماء عدوه من المدلسين، بل إن ابن حجر عده من الطبقة الثالثة من المدلسين المكثرين فى كتابه «طبقات المدلسين»، وكذلك «أبو زرعة»، ولكن يُتَّقى تدليسه يجب أن يصرح بالسماع عمن روى، والغريب أن الزهرى يروى الحديث هذا بصيغة عدم السماع المباشر بقوله: «قال عروة» ما يؤكد أنه لم يسمعه من «عروة» مباشرة وأنه أسقط الواسطة بينهم وهذا هو التدليس، رغم أن «عروة» شيخه.

خامسا: قال ابن حجر فى «تغليق التعليق» عن ذات الحديث ما مضمونه إن الحديث قد وصله - بمعنى وصل السند المنقطع - البزار والإسماعيلى والحاكم ولكن بمراسيل، بانقطاع فى السند.

سادسا: حتى «مسلم» تلميذ البخارى والذى كان شرطه فى إخراج الأحاديث أدنى مرتبة من شرط البخارى، لم يخرج هذا الحديث من أى وجه ولا جاء على ذكر قول كهذا للرسول عند وفاته أبدا.

الاستنتاج:
هذا الحديث آحاد وغريب وشاذ ومنقطع السند ولم يتابع عليه أحد ولم يصل سنده أحد من العلماء إلا بأسنايد مرسلة، لذا فهو حديث ضعيف بكل أوجه الضعف لا يصح الاحتجاج به ولا التعويل عليه.

أما عن نقد متن نص الحديث فنقول: إنه منكر النص ويخالف المعلوم من لب الشرع ومجامع العقل وذلك للآتى:
مخالفته القرآن العظيم فقد قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» المائدة 67 .

ولا أعلم معنى للعصمة من الناس إلا العصمة من الإيذاء ومن القتل وقد أقر أكثر المفسرين أن الرسول لم يتخذ حراسة بعد نزول هذه الآية، وقال ذلك بعض من أهل التراث:
ابن الجوزى زاد المسير - 2 / 397: «فعنه: أنه عصمه من القتل، والأسرِ، وتلفِ الجملة».
الزمخشرى - الكشاف - تفسير آية آل عمران 144: «المراد أنه يعصمه من القتل».
الحافظ ابن حجر - فتح البارى 6 / 82: «وعلى هذا فالمراد: العصمة من الفتن، والإِضلال، أو إزهاق الروح، والله أعلم».

2) قال الله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» الطور 48.
ولا أعلم معنى لعناية الله سبحانه لرسول نبى فضلا عن كونه من أولى العزم إلا أنها عناية يكلؤه بها سبحانه من كل إيذاء يحط من عصمته، وهى عناية مستمرة مستديمة إلى يوم يلقاه.

والمضحك المبكى الذى تقشعر منه الأبدان أن أهل التراث والمعاصرين لم يتلبثوا فى استلهام معانى عصمة النبوة بل ساقوا الحجج المليئة بالسخف والتكلف والتعنت لمحاولة الجمع بين العصمة ورواية البخارى عن الموت بالسم، فمن المعاصرين من يقول مقلدا للتراثيين إن «العصمة» فى الآية هى: العصمة من الفتنة، ومن الضلال، وقد عصمه ربه تعالى من كل ذلك».

وهذا كلام مردود لأن النبى من دون العصمة هو معصوم من الفتنة ومن الضلال وإلا فإن الله اختاره على غير علم - معاذ الله - كما أن سياق الآية لا يحتمل إلا العصمة الحقيقية البدنية - من القتل والتى عصم الله بها كل أولى العزم من الرسل.

ومن المعاصرين أيضا من ذهب أبعد من ذلك كالسلفى حامد العلى الذى قال: «(والله يعصمك من الناس) أى حتى تبلغ رسالتك، أما وإن تم التبيلغ، وأديت الأمانة، فقد يقدر الله على النبى أن يموت بسبب من أعدائه، فليس ثمة تناقض بين الأمرين».
والمعنى الذى يريده أن الله عصمه حتى يبلغ كامل الرسالة ثم بعد ذلك فلا مانع من أن يقتل على يد أعدائه فلا تناقض بين العصمة والقتل.

ووالله لا أجد شيئا أقوله تعليقا على هذا الكلام المتناقض الهابط، وأتركه ليحكم عليه العاقل، فالله يبعث نبيه ولما تنقضى حاجته بتبليغ الرسالة يتركه ليقتل! فسبحان الله العظيم.
3 - وأفتى آخرون بأن الله أبى إلا أن يعطى نبيه الحسنيين النبوة وأن يموت شهيدا، والرد على ذلك بسؤال مواجه لماذا يعطى الله لنبيه ورسوله الشهادة مع أن الشهداء ستكون مكافأتهم الكبرى فى الجنة أن يكونوا فقط مع الأنبياء والدليل قول الله تعالى: «فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا» النساء 69. فأى كرامة بعد النبوة ذاتها.

4 - أخرج البخارى 2753: «أن جابر بن عبد الله أخبر: أنه غزا مع رسول الله قِبَل نجد.. فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابى، فقال: إن هذا اخترط على سيفى وأنا نائم، فاستيقظت وهو فى يده صلتا، فقال: من يمنعك منى؟ فقلت: الله ثلاثا».
فهذا الحديث دليل دامغ وعملى على فهم وتطبيق الرسول بنفسه لعصمته المقررة قرآنا، فقال للأعرابى مجيبا على سؤاله: ما يمنعك منى؟ فقال له النبى «الله» ثلاث مرات فمن الذى عصم الرسول من القتل؟ وما الذى ارتكن إليه الرسول فى رده أنه لن يستطيع قتله؟ إلا أن تكون العصمة.

5 - أخرج عبد الرزاق (9754) وأحمد (27469) وصحح إسناده الحافظ فى الفتح 8/148، من حديث أسماء بنت عميس قالت: «أول ما اشتكى رسول الله.. قالوا: كنا نتهم بك ذات الجنب يا رسول الله، قال: إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفنى به».

وهنا نجد المعنى الذى يقوله الرسول على سرير المرض الأخير، فالرسول واثق متيقن من ربه أنه لا يبتليه بداء «ذات الجنب» أبدا قائلا: «ما كان الله ليقذفنى به»، وهو يجزم بذاك كرامة لرسالته وعصمته، ثم من المفترض أن النبى بعد ذلك بساعات يغير كلامه -معاذ الله- فى عصمة ربه ويقول ويقر بأنه يموت من أثر السم الذى دسوه له بخيبر، أفيحميه الله من الأمراض التى هى من قدَرِه بدون واسطة ولا سبب كرامة لعصمته ثم يتركه -معاذ الله- لليهود تقتله؟ أى قياس باطل منكر هذا؟ بل الرسول أحسن ظنه ويقينه بربه ومات محفوظا مهابا وخُيِّر بين الدنيا والآخرة فاختار الرفيق الأعلى.

6 - كما نود الإشارة إلى نقطة هامة جدا أنه بالرجوع للنصوص المختلفة فى حديث الشاة سنجد أن الروايات فى تلك الواقعة تباينت حول حال المرأة التى وضعت ذلك السم للنبى أَقُتِلت أم عُفِى عنها، وسنجد أن الروايات الأقوى تقول إن الرسول عفى عنها، فإذا ما قلنا إن الرسول وهو الذى لا ينطق عن الهوى أقر أن السم الذى وضعته المرأة هو السبب فى قتله - على زعم البخارى- أفلم يكن هذا يستدعى من الصحابة إقامة القصاص على هذه المرأة اليهودية، ولكن الغريب أن ذلك لم يحدث ولم يكن له ذكر، وذلك لسببين فإما لهوان أمر قتل النبى المصطفى على أصحابه، وهذا من غير المعقول، وإما لأن هذه الرواية الضعيفة المنكرة هى كذب على رسول الله، وهذا هو الحق لأن الرسول لم يقتل بالسم لكى يقتص من قاتله.

7 - ولتأكيد الأوهام فى هذا النص، آن لنا أن نحكم العلم، فقد بحثنا يمينا ويسارا وسألنا الأطباء الحذاق، وتأكدنا من أنه لا وجود لسم فى تاريخ الإنسانية يبدأ عمله فى جسم الإنسان بعد ثلاث سنوات أو حتى يظل أثره المميت لمدة ثلاث سنوات، حيث قدمت الشاة للرسول فى خيبر فى العام السابع الهجرى، فأى سم هذا وأين هو؟ فلن نجد هذا السم إلا فى الأساطير والخرافات، فما قول أهل التراث فى ذلك؟

8 - معارضة هذه الرواية الضعيفة للنصوص الصريحة المتصلة السند التى ذكرناها، فكيف بعد إقرار النبى نفسه بعصمته لنفسه أن السم لا يضره أبدا نأتى برواية ليقول فيها إنه يموت من أثر ذلك السم؟ سبحان الله أى عقل يقبل ذلك؟ فإذا قبلنا الرواية هذه يكون النبى قد أضره السم كما قال له اليهود فيصبح بذاك استنتاجا أنه ليس نبيا البتة، وكذلك يصبح كلامه -معاذ الله- للمرأة اليهودية فى الرواية الثانية باطلا وأن الله سلطها عليه أن تقتله بعد ثلاث سنوات، فإما قبول الروايات الصحيحة ورد الحديث المعلق، وإما رد الروايات الصحيحة بالحديث المعلق الضعيف ولا يمكن الجمع بينهما على الإطلاق.

الاستنتاج:
هذا الحديث المعلق الذى أخرجه البخارى وحده فى أمة الإسلام هو حديث اجتمعت فيه كل المعايب والعلل سندا ومتنا، فهو آحاد غريب وشاذ ومنقطع السند ومنكر المتن ومخالف للقرآن ولعصمة النبوة وللعقل وللعلم، فماذا بقى بعد ذلك لنرد هذا الحديث الضعيف فى «البخارى» انتصارا للحق وللشرع ولعقولنا.

الخلاصة:
ما كان الله ليترك نبيه فريسة لغدر اليهود المتوارث، ولكى نقبل حديث البخارى ولكى يستريح مقدسو التراث يجب أن نزيد - معاذ الله - على آية العصمة لتقول «إن الله يعصمك من الناس» - إلا اليهود -، فكيف نقبل حديثا به كل هذه المعايب لمجرد أن رجلا واحدا مهما علا شأنه قرر أن يخرجه لأنه رآه صحيحا، فهل أصبح عقل البخارى أو تصحيحه وحده بلا متابع هو إجماع الأمة، ويا ليت ذلك فى واقعة عادية بل فى حدث جلل وكبير وقد حذرنا الله فى الكتاب بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» الأحزاب 69، فأى إيذاء للنبى أكبر من أن نطعن فى نبوته بالكلية، والآيات تنضح بعصمته.