الخميس، 19 سبتمبر 2013

أحمد عبده ماهر-خرافة جسر جهنم

روى البخاري (فتح الباري ج11 ص453)، وروى الإمام مسلم في صحيحه بباب معرفة طريق الرؤية بالحديث رقم 182 : [.... ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم المؤمن بقي بعمله ومنهم المجازى حتى ينجى...].

إن هذا الحديث يتخذه دعاة الأزهر والسلفية منهاجا لدعوة الخرافة التي يتمتعون بها، وهم يفسرون قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً }مريم71؛

انهم يتصورون زيفا بأن كل الناس سترد جهنم،
وتصوروا الورود أنه المرور على ذلك الجسر الذي صنعه خيال المخبولين من السلف الذي ضل وأضل،........ فما الذي يجعلنا ننعت هؤلاء بالخبل وننعت الحديث بالفساد وتفسير المفسرين بالوهم الفقهي، إننا لابد أن نجول في سياحة قرءانية ولغوية ونتذوق الأحاديث الواردة ونقارب بينها وبين ذلك الحديث حتى نصل لحقيقة فساد التفسير والحديث في شأن وجود جسر على جهنم تمر عليه البشرية جمعاء.

إن افتراض المفسرين في تفسيرهم لآية سورة مريم السابق ذكرها بأن كل الناس بما فيهم الأنبياء سيردون على النار، أمر فيه مجازفة وسخف وقلة علم، وسبب تأليف وتزوير الحديث على رسول الله في هذا الشأن هو إقلابهم لمعنى كلمة (واردها ) فتلك الكلمة تعني (داخلها) ولا تعني (المرور على النار) كما قال بذلك أهل تزوير وترقيع التفسير بفقه مدسوسات الحديث المدسوس على رسول الله والوارد بالبخاري ومسلم.

فلكي نعرف معنى الآية فلابد أن نعرف كل ما ورد بكتاب الله عن ذات الأمر، وكما نعلم فإن كتاب الله غير متناقض، وذلك حتى نعلم ما هو المقصود بتعبير (وإن منكم) هل منا نحن أم من الناس جميعا أم من فئة مخصوصة بعينها، حتى لا يصير تفسير القرءان على هوى من زوروا الأحاديث أو من قالوا عنها انها صحيحة.

يقول تعالى بسورة الأنبياء: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ{101} لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ{102} لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{103} ؛

فهل الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر، ولا يسمعون حسيس النار، وهم عنها مبعدون ......سيردون (أي يدخلون أو حتى يمرون) على النار؟! أين عقل العقلاء؟..

وتتبع معي أحداث الآخرة، أيكون الصراط المزعوم أنه جسر على جهنم قبل الميزان وقبل قراءة الكتب وقبل مجادلة كل نفس عن نفسها أم بعدها، وإذا كان قبلها وستأخذ الكلاليب الموجودة على جانبيه الناس فتغمسهم في النار على قدر أعمالهم فلا داع لميزان ولا قراءة كتب،.....أليس كذلك؟.

فأمر الصراط المزعوم أنه جسر على جهنم يكون إذاَ بعد الميزان وقراءة الكتب ومجادلة كل نفس عن نفسها، وهنا يجب أن تتدبر ما ورد بسورة الحاقة حيث يقول تعالى:

{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ{18} فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ{22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ{23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ{24}؛

يعني ذلك أنه بمجرد أن تسلم كتابه بيمينه وقرأ ما فيه يكون في عيشة راضية مما يستحيل معه أن يرد النار بعدها والرسل تقول اللهم سلم كما ورد بالحديث المزور على الإسلام والوارد بالبخاري ومسلم.

وتدبر ما جاء عن هذه الفئة الراضية المرضية منذ أن توفاها الله حال حياتها وقال يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي، وهو أيضا يقول عنهم في سورة الأنبياء:

{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ{101} لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ{102} لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{103}؛

فهل النفس المطمئنة الراضية المرضية التي سبق لها من الله الحسنى سترتعد فرائصها على ذلك الجسر المزعوم وتقول اللهم سلم اللهم سلم، فأين الطمأنينة إذا وأين الحسنى التي سبقت الحساب، وأين البشرى التي يبشر الله بها عباده الصالحين طالما أن الجميع سترتعد فرائصه على ذلك الجسر اللعين ويتمنى أن ينجيه الله.

ثم تتبع معي باقي المشهد الأخروي المؤكد، لكن هذه المرة من الجانب الآخر، جانب الكافرين، حيث يقول تعالى:

{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ{25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ{26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ{27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ{29} خُذُوهُ فَغُلُّوهُ{30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ{31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ{32} إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ{33} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ{34} فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ{35} وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ{36} لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ{37}.

وهؤلاء يقول الله تعالى فيهم بسورة الأنبياء:

{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ{98} لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ{99} لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ{100}؛

فتدبر هنا قوله تعالى (ما وردوها) يعني (ما دخلوها)، والدليل الثاني خلودهم فيها.
ومما يؤكد أن كلمة (واردها) تعني داخلها ولا تعني أنه يمر عليها، هو قوله تعالى بسورة هود:

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ{96} إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ{97} يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ{98}؛

فالورد المورود هو الداخل والمدخول، وقوله تعالى [فلما ورد ماء مدين] تعني فلما وصل إلى ماء مدين، وكما أسلفنا فإن المؤمنين سيكونون أبعد من حتى أن يسمعوا حسيس النار، فكيف نقنع بحديث يقول بأن نبينا سيرد على النار ويقول اللهم سلم اللهم سلم.

والدخول إلى النار يكون عبر أبواب وليس بالسقوط من أعلاها، وذلك لقوله تعالى بسورة الحجر:

{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ{42} وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ{43} لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ{44}.

وتلك الآيات الأخيرة من سورة الحجر بها القول الفصل، حيث يقول تعالى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)؛ فكلمة (أجمعين) هنا تعني جميع (الغاوين) وليس جميع الناس، فلو كان لنا موعد بجهنم كما انتهى مفسروا آية (وإن منكم إلا واردها) ما خصص الله موعد جهنم للغاوين فقط.

لذلك أرى بأن اتخاذ العقائد وإخضاع تفسير كتاب الله لكتب الحديث وهي كلها تقريبا روايات آحاد أمر لا يستقيم به فقه ولا تفسير ولا بيان ولا دعوة إلى الله، لذلك لابد من التفسير الموضوعي لكتاب الله كما قال بذلك الإمام /محمد الغزالي (رحمه الله)، ولابد ألا نقدّم فقه الرواية على فقه الآية، لأن في ذلك إساءة لكتاب الله وللإسلام ما بعدها إساءة، وأسأل الله أن يوفق أهل الأزهر لما فيه صالح الأمة.

الأحد، 8 سبتمبر 2013

محمد رياض- أهل الحديث.. حزب الدولة

حين إحتدم الصراع بين معسكري معاوية بن أبي سفيان وعلى بن أبي طالب، لجأ معاوية إلى إستخدام حيلة جديدة لم تكن معروفة من قبل عند المسلمين وهي إنشاء جهاز إعلامي مضاد يعمل على نشر الشائعات والدعاية الإعلامية المؤيدة لمعسكر معاوية، وهكذا نشأت ظاهرة القُصّاص وهم أشخاص يتنقلون بين الناس في الأسواق والنوادي وأماكن التجمعات ويقومون بقص الأخبار والأحاديث النبوية على الناس.

الملاحظ في الصراع الدائر بين المعسكرين، أن معظم هذه المرويات المقصوصة كانت مخصصة للطعن في علي وحزبه وللترويج لمعاوية وجماعته، ثم لجأت هذه الجماعات بعد إنتصار معاوية وحزبه إلى الترويج لعقائد تسعى لتثبيت سيطرة الحكم الوراثي الجديد الذي لم يألفه الناس من قبل، وكانت هذه الأطروحات تسمى بعقائد (القدر) ومحتواها أن الحكم والفقر والرزق والظلم أقدار من الله لا يجوز الإعتراض عليها، وكان معاوية يجزل العطاء لهؤلاء القصاصين ولهذا يعتقد بعض المؤرخين أن معاوية هو اول من كون تنظيماً ممنهجاً لبث مرويات على أساس أنها أحاديث نبوية.

ثم كان أن صار لهؤلاء القصّاص أتباع ومريدون وجماعات وتلاميذ. إلا أن الساحة لم تخل من بعض الصحابة من كبار السن والتابعين الذين أخذوا عن بعض الصحابة والذين كانوا أيضاً يحدثون الناس بما سمعوه عن الرسول، وهكذا إختلطت الاحاديث المزورة بالأحاديث الصحيحة، ثم كان أن تكونت معالم مدرسة فقهية فيما بعد تقوم أساساً على اخبار المرويات والتي عرفت بمدرسة أهل الحديث.

وكان المعتزلة أشد خصوم أتباع مدرسة أهل الحديث لعلمهم بإختلاط الحق بالباطل في مروياتهم أولاً، وثانياً لأنهم (أي أهل الحديث) جعلوا مروياتهم هذه حجة على كتاب الله، بل وتجرأوا ان يشطبوا ببعضها بعض أهم محاور الدين الرئيسية، ولهذا سموهم بالحشوية أوأهل الحشو.
يقول الجاحظ في رسالة "نفي التشبيه" صفحة 206 على لسان واصل بن عطاء "مؤسس فرقة المعتزلة" عن أتباع هؤلاء (يقول واصل: ما إجتمعوا إلا ضروا وما تفرقوا إلا نفعوا، قيل له قد عرفنا مضرة الإجتماع فما منفعة الإفتراق؟ قال: يرجع الطيان إلى طينه، والحائك إلى حياكته، والملاح إلى ملاحته، والصائغ إلى صياغته وكل إنسان إلى صناعته).

ويقول الجاحظ في نفس الرسالة صفحة 207 على لسان عمر بن عبد العزيز ( وكان عمر بن عبد العزيز إذا نظر إلى اهل الحشو قال: قبح الله هذه الوجوه لا تعرف إلا عند الشر).

ويقول الجاحظ كذلك في نفس الرسالة مخاطباً أهل الحديث ( ثم يصول احدهم على شتمه ويسالم من شتم ربه ويغضب على من شبه اباه بعبده ولا يغضب على من شبه الله بخلقه ويزعم أن في أحاديث المشبهة تأويلاً ومخارج وأنها حق وصدق..فيكون لشهادته بصحة أحاديثهم مقراً فيصير فيما يدعي من خلاف تأويلهم مدعياً، ولوكانت هذه الأحاديث كلها حقاً لكان قول رسول الله (ص) "سيفشوا الكذب بعدي فما جاءكم من حديث فإعرضوه على كتاب الله" باطلاً!)

ويقول كذلك الجاحظ في نفس الرسالة صفحة 209 في معرض وصفه لأحوال اهل الحشو ( ولقد كانوا يتكلون على السلطان والقدرة، وعلى العدد والثروة، وعلى طاعة الرعاع والسفلة)

محمد رياض- كيف ضاعت فرصة دخول الهند في الإسلام؟

كان واصل بن عطاء رحمه الله مؤسس فرقة المعتزلة كلما خرّج فوجاً من المتكلمين وجههم لنشر الإسلام وإفحام الخصوم في أفاق الأرض، وتذكر كتب التاريخ أنه بعث بتلاميذ له إلى أقصى المغرب، وقد اقام هؤلاء هناك وبنوا مدينة لهم في جنوب المغرب سموها بإسم إستاذهم (الواصلية) ولا زالت هذه المدينة موجودة في جنوب المغرب إلى يومنا هذا.

ويقول عن ذلك إبن العماد صاحب كتاب (شذرات الذهب في أخبار من ذهب): أن واصلاً بعث وفوداً إلى المغرب وخراسان واليمن وأرمينية على رأسها عبدالله بن الحارث إلى المغرب وحفص بن سالم إلى خراسان، والقاسم إلى اليمن، وعثمان الطّويل إلى أرمينية.)

المحنة الأولى في عصر هارون الرشيد:

يذكر لنا إبن المرتضى في كتابه (المنية والأمل) قصة مثيرة عن ما كان بين هارون الرشيد وملك الهند وكيف ضاعت على المسلمين فرصة ذهبية لإدخال جمهور اهل الهند في الإسلام، وملخص القصة أنه: 

تحت وطاة ضغط الشعوبيين وأهل الحديث وبفعل دسائسهم المستمرة للإيقاع بالمعتزلة قام هارون الرشيد بسجن متكلمي المعتزلة وكبار علماءهم، ثم كان أن وصلته رسالة من ملك الهند وكان رجلاً أديباً حكيماً يقول له فيها التالي: (إنك رئيس قوم لا ينصفون، ويقلدون الرجال ويغلبون بالسيف، فإن كنت في ثقة من دينك فوجه إلي بعض من أناظره، فإن كان الحق معك تبعتك وإن كان الحق معي تبعتني)

وقد كانت (السّمنية) ديانة الأمراء وأهل العلم والأدب في الهند، وكان هؤلاء يرون أنفسهم أفضل الخلق وأحكمهم لما ورثوا من علوم الفلسفة والحكمة، وكان ملك الهند على ديانتهم وعنده رئيس معبدهم وكان أعلمهم ولا يجاريه أحد في جدل ولا نقاش.

لاحظ كيف كانت ثقتهم بأنفسهم وبما عندهم من علوم بحيث تحدوا هارون الرشيد أن يبعث لهم من يناظرهم وعاهدوه على الدخول في الإسلام إن هو غلبهم!

المهم، ما كان من هارون الرشيد إلا أن بعث لهم بكبير قضاة بغداد وكان من أهل الحديث ووعده بإجزال العطاء له إن هو غلبهم في مجلس ملك الهند. ثم بعث هارون الرشيد برسالة جوابية لملك الهند يخبره فيها أنه وجه له شيخاً من أكابر علماء الإسلام لتمثيل المسلمين في المناظرة الموعودة.

كان كبير السّمنية في مجلس الملك ذو دهاء وفطنة، وكان يعرف أن المعتزلة لا يقطعهم أحد في جدال، فخاف على نفسه أن يفضح أمام جمهورة وأتباعه، فبعث إلى الشيخ المحدث في الطريق من يتقصى أخباره ويجالسه ويعرف من أي الفرق هو، وكان أن إلتقى جاسوس كبير السّمنية بالشيخ القاضي، فلما عرف من هو أرسل إلى كبيرهم يخبره: أن لا تقلق فهذا رجل من أهل الحديث!.

سر السّمني لذلك أشد السرور وأمر حراس المدينة بمرافقة الشيخ وإكرامه، فلما جاء موعد المناظرة وحضر الملك وإجتمع الأمراء والفلاسفة والحكماء الهنود وجاء الشيخ المسلم من أهل الحديث ووقف أمام كبير السًمنية، قال له السّمني:

ما الدليل على أن دينك حق؟ 
فقال له الشيخ حدثنا سفيان الثوري بكذا وحدثنا...! 
فقال السمني: من أين علمت أن هذا الذي روى لك هذه الروايات عنه صادق فيما ادعاه من النبوة؟ 
فقال الشيخ المحدث: القرآن يقول (محمد رسول الله) 
قاطعه السمني قائلاً: ومن أين علمت أن هذا الكلام من عند الله؟ ولعل صاحبك وضعه!
فسكت الشيخ المحدث ولم يدر ما يقول!
فضحك القوم اجمعين وظنوا أن المسلمين ليسوا على شيء!

إلا أن ملك الهند لم يقتنع أن الشيخ المسلم كان أفضل من يدافع عن دين الإسلام الذي إنتشر شرقاً وغرباً، فارسل لهارون الرشيد رسالة ثانية يقول له فيها:
(إن الذي وجهته لنا لا يصلح لما أردناه، وإنما نريد رجلاً متكلماً ليحتج لأصل دينه).

فلما ورد الكتاب إلى هارون وعرف أن الشيخ المحدث قد جعل من المسلمين موضع سخرية حكماء الهند، قال: إئتوني بمتكلم يقطع هؤلاء!
فقيل له: يا أأمير المؤمنين: لا يقوم لأمثال هؤلاء إلا المعتزلة وهم جميعاً في سجنك!
فقال هارون: إئتوني بأفصحهم، فجاءوا له بمعمر السًلمي المعتزلي، فقال له هارون: اتثق بنفسك في مناظرته؟ قال معمر: أنا له إن شاء الله تعالى. فوجهه الخليفة إليهم أني قد بعثت لكم رجلاً متكلماً من أهل ديني.

لما عرف كبير السًمنية بهذا أوجز خيفة، فدس أحد أعوانه لملاقاة مبعوث الخليفة في الطريق ومعرفة أخباره وأمره إن عرف أنه من المعتزلة أن يدس له السم في طعامه وإن كان من غيرهم أن يوصله ويكرمه، وكان أن إلتقى الجاسوس بمعمر، فلما عرف أنه من المعتزلة تظاهر له أنه مندوب من الملك ليرافقه إليه، ثم ما كان منه إلا أن دس له السم خفية في طعامه فقتله.

بعد هذه الحادثة بسنوات طويلة، خرج معظم أهل الإعتزال من السجن وقاموا ببعث الوفود تلو الوفود في بلاد السًمنية وتمكنوا من إفحامهم في كثير من المناظرات الشعبية وتمكنوا من إدخال كثير منهم في الإسلام، إلا أنه لم تتكرر لهم فرصة الإشتراك في مناظرة كبرى وحاسمة كالتي عرضها الملك من قبل على هارون، إذ لو كان المعتزلة طلقاء في ذلك الحين لربما تمكن أحدهم من الوصول إلى ذلك الملك المنصف.
ولا حول ولا قوة إلا بالله

الأحد، 1 سبتمبر 2013

أحمد عبده ماهر-أين ما كتبه البخاري


كتاب البخاري الذي بين أيدينا هل هو ما كتبه البخاري؟، لابد أن نتبين حتى نُنفِّذ قول ربنا [إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا]، ولقد تصدر الأمر الباحث العراقي عواد كوركيس عضو المجلس العلمي العراقي، بكتابه [أقدم المخطوطات العربية في مكتبات العالم] وهي المخطوطات المكتوبة منذ صدر الإسلام حتى القرن الخامس الهجري.

ونسخة الكتاب محفوظة بمكتبة جامعة الدول العربية بميدان التحرير بالقاهرة، وهو من منشورات وزارة الثقافة والإعلام بالجمهورية العراقية عام 1982. وتم توثيق الكتاب بدار الكتب والوثائق المصرية عام 1983.
وتجد بالكتاب المعلومات الخطيرة الآتية:

أولا: لا توجد أي مخطوطة لأي كتاب في القرنين الأول والثاني الهجريين سوى مخطوطات القرءان الكريم ويستثنى من هذا التعميم مخطوطة كتاب سيباويه.

ثانيا أرجو العلم بأن البخاري [يرحمه الله] توفي عام 256 هجرية وتوجد لكتاب منسوب له مخطوطات ثلاثة هي كالتالي:

1. أولها وأقدمها بالعالم تمت كتابتها عام 407 أي بعد رحيل الإمام البخاري ب151 سنة وهي الوثيقة رقم 303.
2. ثانيها في القدم الوثيقة رقم 304 والتي كتبت في عام 424 بالقرن الرابع أي بعد رحيل الإمام البخاري ب 168 عام تقريبا.
3. ثالثها في القدم الوثيقة رقم 305 والتي كتبت في عام 495 هجرية أي بعد رحيل الإمام ب 239 عام.

ولم يذكر أي من المخطوطات الثلاثة المذكورة والمنسوبة زورا للبخاري... اسم الذي قام بكتابتها.
كما لم يذكر أيضا أنها مستنسخة من الأصل المكتوب بيد الإمام البخاري وهو الأصل غير الموجود له أثر بالعالم.

وجدير بالبيان أن ابن حجر قد دون بكتابه [فتح الباري بشرح صحيح البخاري] بجزء مقدمة الكتاب بالفصل الثاني صفحة 10 نقلا عن الحافظ أبو إسحق إبراهيم بن أحمد المستملي قال:

[انتسخت البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربرى فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض].

وهو الأمر الذي يؤكد أنه حتى أصل البخاري [الذي لم يكن موجودا ]تم العبث به وباعتراف شراح الحديث للبخاري، لأن ابن حجر الذي كتب هذا الكلام الأخير قد توفي عام 852 هجرية. أي بعد وفاة البخاري بستمائة سنة ومع هذا فهو يؤكد العبث بتلك المخطوطات التي لم تكن بخط يد البخاري.

وجدير بالبيان أيضا أنه لا توجد مخطوطة بخط يد الإمام مسلم عن صحيحه، لكن توجد مخطوطة بالعالم كتبت عام 368 هجرية على انها صحيح مسلم، أي بعد وفاة الإمام مسلم ب 107 سنة.

وهكذا تجدنا نتصارع لأجل أوهام مزيفة على المسلمين بل ونجعلها مصدرا من مصادر الدين بينما ليس لها أي مصداقية تاريخية تثبت صحتها أونسبتها لأصحابها.

الجمعة، 30 أغسطس 2013

سامر إسلامبولي‏-دراسة دلالة كَلمة نسيء ونساء في لسان العَرَب والقرآن

دراسة دلالة كَلمة نسيء ونساء في لسان العَرَب والقرآن 
بعد التّوطئة التي مرَّت معنا آنفاً؛ نأتي لدراسة دلالة كَلمة (نسيء)، وكيف جَمَعَهَا العَرَبُ، وعلى ماذا اعتمدوا؟ ولماذا اختار العَرَب كَلمة (نساء) لتدلَّ على جَمْع (امرأة)؟ وكُلُّ هذا إنَّما هُو نموذج عملي لما مرَّ ذكْره من الأفكار؛ لإسقاطها على الواقع، وتفعيلها، وإعادة الحياة لها بعد فترة من الرُّكُود قد طالت كثيراً، ولتقريب وتوضيح المنهج، ولتمكين القُرَّاء والدّارسين والمُهتمِّين من وَضْع أيديهم عليه، والتّعامل معه بشكل مُباشر، إنْ كانوا من الدّارسين، أو استخدامه للنَّقْد والتّقويم، إنْ كانوا من المُثقّفين. 
من المعلوم أنَّ مُعجم لسان العَرَب هُو من أهمِّ المعاجم في اللُّغة العَرَبيَّة، إذا لم يكن أهمّها وأوَّلها، فلننظر كيف أورد كَلمة (نسيء) ( ): 
نسأ: نُسئَتْ المرأة تنسأ نَسْأ: تأخَّر حيضها عن وقته، وبدأ حَمْلُهَا، فهي نسءٌ، ونسيءٌ، والجَمْع أنساءٌ، ونسوءٌ، وقد يُقال: نساءٌ نسءٌْ، على الصّفة بالمصدر. 
ونسأ الشّيء ينسَؤُه نسأ، وأنسأه: أخَّره... والاسم النّسيئة والنّسيء. 
وفي الحديث عن أنس بن مالك [ مَنْ أحبَّ أنْ يُبسطَ له في رزقه، ويُنسأ في أجله، فليصلْ رَحمه ] النّسء: التّأخير يكون في العُمر والدَّين. 
وإذا أخَّرتَ الرّجل بدَينه قُلتَ: أَنسأتُهُ، فإذا زدتَ في الأجل زيادة يقع عليها تأخير قُلتَ: قد نَسَأَتُ في أيَّامكَ، ونَسأْتُ في أجلكَ. وكَذلك تقول للرّجل: نسأَ اللّه في أجلكَ؛ لأنَّ الأجل مزيد فيه، ولذلك قيل للّبن: النّسيء لزيادة الماء فيه. وكَذلك قيل: نسئت المرأة إذا حبلت، جُعلت زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللّبن. 
ونُسئت المرأة تَنْسأُ نسأ على ما لم يُسمَّ فاعله، إذا كانت عند أوَّل حَبَلها، وذلك حين يتأخَّر حيضها عن وقته، فيُرجى أنَّها حُبلى، وهي امرأة نسيء. 
وفي الحديث: كانت زينب بنت رسول اللّه تحت أبي العاص بن الرّبيع، فلمَّا خرج رسول اللّه إلى المدينة، أرسلها إلى أبيها، وهي نَسوُء؛ أيْ مظنون بها الحَمْل. 
يُقال: امرأة نسء ونسُوءٌ، ونسوةٌ نساءٌ، إذا تأخَّر حيضها، ورُجي حَبْلها، فهُو من التّأخير، وقيل بمعنى الزّيادة من نسأت اللّبن إذا جعلت فيه الماء تكثره به، والحمل زيادة. انتهى. 
إذاً؛ دلالة (النّسيء) تُطلق على التّأخير والزّيادة. 
فاللّبن الممزوج بالماء يُطلَق عليه (نسيء) لزيادة اللّبن بالماء، والمرأة الحامل يُطلَق عليها (نسيء) لتأخُّر حيضها، ولزيادة الجنين لها، وللواقع. 
ونقول: ربا النّسيئة؛ لتأخير الأجل، وزيادة المال مُقابل التّأخير. 
ونقول: امرأة نسء ونسوء، إذا تأخَّر حيضها، ورُجي حَبَلُهَا. 
ونقول: نسوة نساء إذا تأخَّرنَ في حيضهنَّ، ورُجيَ حَبَلهنَّ. 
فدلالة كَلمة (نسء) هي تأخير من جانب، وزيادة من آخر، ولذلك قال تعالى:[ إنما النسيء زيادة في الكفر]، فهذه العمليَّة هي تأخير أشهر الحُرُم عن وقتها، وإضافتها إلى غير وقتها. 
هذا مُلخَّص ما أورده لسان العَرَب. وكما هُو مُلاحظ أنَّه قد استخدم كَلمة (نساء) جَمْعاً لكَلمة (نسيء)، وذلك بقوله (امرأة نسء ونسوء، ونسوة نساء)، وبقوله (فيُرجى أنَّها حُبلى، وهي امرأة نسيء)، فإذا أردنا أنْ نصف مجموعة منهنَّ نقول (نسوة نساء) كما في استخدام لسان العَرَب، فالمرأة الحامل: نسيء، والنّسوة الحوامل: نساء. 
إذاً؛ لسان العَرَب قد استخدم كَلمة (نساء) جَمْعاً لكَلمة (نسيء)، وعدم شُهرة هذا الجَمْع لما وُضع له أصلاً، وندرة استخدامه في اللُّغة المُستخدمة اليوميَّة لا ينفي صحَّة وُجُوده لُغة، ولا يمنع من استخدامه بدلالته الأصليَّة الحقيقيَّة؛ لأنَّ موت دلالة كَلمة في مُجتمع ما لا يعني موتها لُغة، والنَّصُّ القُرآني قد نزل عَرَبيَّ اللُّغة، ولم يُقيِّد نفسه بموت وحياة دلالات الكَلمات في الثّقافة العَرَبيَّة، فالأصل في النَّصِّ القُرآني هُو اللُّغة العَرَبيَّة ودلالتها الحقيقيَّة، التي تمَّ ولادة الكَلمة لتدلَّ عليها، فإذا أراد اللّه ـ عزَّ وجلَّ ـ من دلالة الكَلمة معنىً ثقافيَّاً مُقيَّداً بموت وحياة الكَلمات في المُجتمع الذي زامن نُزُول النَّصِّ الإلهي نصَّ على ذلك بقرينة من النَّصِّ أو الواقع. ومن هذا الوجه؛ نجد عُلماء الأُصُول عندما يتعاملون مع النَّصِّ القُرآني يضعون الاصطلاح اللُّغوي في المرتبة الأُولى، وبعد ذلك الاصطلاح الشّرعي، ومن ثمَّ الاصطلاح العُرْفي. 
لماذا تمَّ اختيار كَلمة (نساء) جَمْعاً لكَلمة (امرأة): 
من المغالطة بمكان أن يظن الإنسان أن العرب قد استخدموا كلمة ، أو جَمْعَاً لها من غير جنسها بشكل اعتباطي، أو ارتجالي، أو قُرعة، أو ما شابه ذلك من الأساليب الفوضويَّة، فاللُّغة العَرَبيَّة هي لُغة قائمة وفق نظام مُتكامل مُنسجم، فهي أشبه بشجرة أصلها في أعماق الأرض، وفرعها في السّماء، والعلاقة بين الأصل والفرع علاقة جَدَليَّة تكامليَّة؛ ليُشكِّلا ـ مع بعضهما ـ بناء معرفيَّاً عظيماً قائماً على قوانين تحكمه. 
فمن المعلوم أنَّ الجَمْع للشّيء هي عمليَّة لاحقة لوُجُود المُفرد أوَّلاً، فنقول: كتاب، ونجمعه على كُتُب، وكَذلك قلم، نجمعه على أقلام، وجبل على جبال، فيكون هذا الجَمْع من جنس أحرف المُفردة، مع بعض التَّصرُّف تقديماً، أو تأخيراً، أو زيادة، لضرورة تصريف الكَلمة. 
أمَّا الجُمُوع التي استخدمها العَرَب من غير جنس أحرف المُفردة؛ نحو كَلمة (جيش)؛ وهي جَمْع كَلمة (جُندي)، فذلك راجع إلى سببَيْن: 
الأوَّل: انتفاء إمكانيَّة إيجاد جَمْع من أحرف المُفردة نفسها؛ نحو كَلمة (امرئ).
ثانياً: انتفاء تحقيق المقصد في الواقع لجَمْع الكَلمة التي من جنس المُفردة في وَضْع مُعيَّن؛ نحو كَلمة (جُنُود)، وهي جَمْع كَلمة (جُندي)، ولكنَّ كَلمة (جُنُود) لا تدلُّ ـ في الواقع ـ على الجُنُود المُقاتلين في صفٍّ واحد، تغلي دماؤهم، وتثور عاطفتهم، وتتأجَّج نُفُوسهم بالغضب، فلاحظ العَرَب هذه الدّلالة في واقع المُقاتلين، فاختاروا من اللُّغة كَلمة تدلُّ على جَمْعهم، وتُعبِّر عن حالهم، فقالوا: جَمْع الجُندي المُقاتل هُو: الجيش، وذلك من جيشان نُفُوس المُقاتلين بنار الغضب لتحقيق النّصر، مع العلم أنَّ كَلمة جيش لا مُفرد لها من جنسها، ولكنْ؛ لا يعني ذلك أنَّها دُون أصل وُلدت منه لتوظيفها في دلالة مُعيَّنة، فأصل كَلمة جيش هي جَيَشَ التي تدلُّ على الثّوران والغليان. 
إذاً؛ لإيجاد جَمْع كَلمة من غير جنسها يُنظَر في حال ووظيفة هذا الجَمْع، فيتمّ البحث عن كَلمة تدلُّ على حال الجَمْع، ومن ثمَّ نقوم بتصريف الكَلمة، وإخراج كَلمة منها تدلُّ على الجَمْع الذي نُريده؛ نحو كَلمة الجيش، وكيف تمَّ تصريفها، وَوَضْعُهَا جَمْعاً لكَلمة جندي. 
بعد هذا المدخل؛ تعالوا لنرَ لماذا استخدم العَرَب كَلمة (نساء) جَمْعَاً لكَلمة (امرأة)؟. 
من خلال عمليَّة السّبر والتّقسيم للثّقافة العَرَبيَّة المكتوبة والمنقولة في صُدُور أفراد المُجتمع نجد أنَّ هُناك عدَّة احتمالات وصُور قد تمَّ وَضْعُهَا كَدافع لولادة كَلمة (نساء) كَجْمع لكَلمة (المرأة)؛ وهي: 
رُوي في النُّصُوص التّوراتيَّة (المُحرَّفة) أنَّ خَلْقَ المرأة تأخّر عن خَلْق الذَّكَر، فَجُمعَ هذا الجنس بكَلمة (نساء)؛ لتحقُّق صفة التَّأخُّر في الخَلْق به!!. 
رُوي في التُّراث دسَّا وكَذباً أنَّ المرأة ناقصة عقل ودين( )، فاختار الذُّكُور كَلمة (نساء) لتدلَّ على جَمْع المرأة المُتخلِّفة والمُتأخِّرة عقليَّاً. 
وهذا الرّأي الذُّكُوري باطلٌ في واقع الحال، وباطل من حيثُ ولادة كَلمة (نساء)، فمن المعلوم أنَّ كَلمة (نساء) مُوغلة في القدَم قبل وُجُود النُّصُوص الأدبيَّة والتُّراثيَّة، التي قد يُنسب بعضها إلى النّبي الأعظم افتراءً عليه، وهذا يدلُّ على الفَهْم الذُّكُوري، وإرادتهم وَضْع المرأة تحت الوصاية الذُّكُوريَّة بحُجَّة التَّأخُّر العقلي!. 
يُقال: إنَّ المرأة في دورتها الشّهريَّة تتعرَّض لعمليَّة التّأخير والتّقديم بوقت الحيض، فاختاروا كَلمة (النّساء) جَمْعَاً لهذا الجنس؛ لتَحقُّق دلالة النّسيء به، وهذا رأي مُتهافت لا قيمة له. 
قيل: إنَّ المرأة في حالة الحيض تُصاب باضطراب نَفْسي نتيجة الاضطراب الجسدي الذي أصابها، وهذا ـ بدوره ـ يُؤدِّي إلى تأخُّر في إمكانيَّاتها العقليَّة، وهذا باطل في واقع الحال، فالمرأة مسؤولة واعية عن كُلِّ تصرّفاتها، سواء أ كانت في حالة الطُّهْر، أم في حالة الحيض، هكذا عاملها الشَّرْع الإلهي والقانون الإنساني، فلم يُسقط أحدٌ عنها المسؤوليَّة في حالة الحيض، ممَّا يدلُّ على كامل مسؤوليَّتها ووعيها، وبالتَّالي؛ فهذا الرّأي باطل. 
لم يبق أمامنا إلاَّ أنَّ نبحث في واقع المرأة، ونقيس الغائب على الشّاهد، مع الأَخْذ بعين الاهتمام تناقص الحضارة والمَدَنيَّة كُلَّمَا أَوْغَلْنَا في التّاريخ قُدُماً. 
فماذا رأى العَرَب في المرأة من دلالة تحقَّقت بها، حتَّى اختاروا كَلمة (النّساء) جَمْعَاً لهنَّ؟!. 
بعد استبعاد الاحتمالات السّابقة لتهافتها؛ نقوم بعمليَّة دراسة لواقع المرأة المُشاهَد، فنُلاحظ أنَّ المرأة ـ كأُمٍّ وزوجة، ـ دائماً دورها في الحياة الاجتماعيَّة هُو في الخطِّ الثّاني، وليس في الخطِّ الأوَّل؛ لأنَّ الخطَّ الأوَّل خطُّ المشقَّة والتّعب والنّصب والخطر، فأُبعدت المرأة اجتماعيَّاً واقتصاديَّاً إلى الخطِّ الثّاني المحمي من الخطِّ الأوَّل، وذلك لتقوم بإمداد الخطِّ الأوَّل نَفْسيَّاً ومادِّيَّاً، وتُحافظ على البنية التّحتيَّة للخطِّ الأوَّل من رعاية للأُسرة، وتأمين جوِّ الاطمئنان والاستقرار للأطفال، إذاً؛ طبيعة الاختلاف الفيزيُولُوجي والسّيكُولُوجي للمرأة عن الرّجل فرزها الواقع الاجتماعي إلى الخطِّ الثّاني في الحياة لتأمين الحماية والرّعاية لها، ولتقوم بدورها على أكمل وجه في مكانها الذي فرزها إليه الواقع، وإذا رجعنا في التّاريخ إلى ما يُسمَّى عصر الكُهُوف (الإنسان الحجري) نجد أنَّ المرأة تبقى في الخطِّ الثّاني، ترعى الصّغار، وتُؤمِّن لهم الحماية، وتُشرف على إعداد الطّعام؛ بخلاف الرّجل، فإنَّه يخرج إلى الصّيد، ويقوم بحراسة بيته من الوُحُوش الكاسرة، ويُدافع عن زوجته وأولاده، هكذا استمرَّت دورة الحياة الاجتماعيَّة لكُلِّ جنس دوره، فلاحظ العَرَبُ ـ من خلال بدء ميلاد اللُّغة ـ هذا الفرقَ الوظيفيَّ بين الرّجل والمرأة، فاستخدموا كَلمة (النّساء) جَمْعَاً للمرأة لتُحقِّق بجنسها صفة التَّأخُّر عن الخطِّ الأوَّل إلى الخطِّ الثّاني في معركة وميدان الحياة الاجتماعيَّة، إضافة إلى قيامها بزيادة وُجُود الجنس الإنساني من خلال كون كَلمة نسيء تدلُّ على التّأخير والزّيادة، وعندما نزل النَّصُّ القُرآني استخدم كَلمة (النّساء) جَمْعاً لكَلمة (المرأة)، وبذلك الاستخدام؛ أعطى مصداقيَّة لما رأى العَرَب في المرأة من حيثُ أنَّ دورها الوظيفي والاجتماعي إنَّما هُو في الخطِّ الثّاني، الذي هُو أساس للخطِّ الأوَّل، والخطُّ الأوَّل أمان وحماية للخطِّ الثّاني،والعلاقة بينهما علاقة تكامليَّة جَدَليَّة. 
فكما لاحظنا من خلال العرض أنَّ كَلمة (نساء) جَمْعٌ لابُدَّ له من مُفرد، أو مصدر تمَّ الاشتقاق منه، ولم يتمّ اختيار كَلمة (نساء) جَمْعَاً لكَلمة (المرأة) اعتباطاً وارتجالاً، وإنَّما تمَّ لتحقُّق دلالة كَلمة (نساء) في واقع المرأة الاجتماعي و الوظيفي (الولادة). 
دراسة صرفيَّة لكَلمتَيْ نسيء ونساء: 
إنَّ كَلمة نسيء هي اسم وصفة تُطلَق على كُلِّ ما تحقَّقت به دلالة النّسء؛ نحو قولنا: امرأة نسيء، واللّبن: نسيء( )، فتُستخدم للعاقل، وغير العاقل، والاستخدام لكَلمة (نسيء) مفتوح لكُلِّ حالة مُستجدَّة تتحقَّق بها دلالة كَلمة (النّسء). 
إنَّ كَلمة (نسيء) على وزن (فعيل)، فَلنرَ وزن جَمْع (فعيل)، كيف استخدمه العَرَب. 
نُلاحظ أنَّ وزن جَمْع (فعيل) ليس وزناً واحداً، وإنَّما هُو مجموعة أوزان، وذلك راجع إلى أنَّ العَرَب يعتمدُون على المعاني والمقاصد، وليس على الألفاظ، وقديماً قالوا: إنَّ الألفاظ خَدَمٌ للمعاني، وليس المعاني خَدَمَاً للألفاظ. فعندما شاهد العَرَب أنَّ المعاني والمقاصد مُختلفة لحال دلالة الكَلمة التي تأتي على وزن (فعيل)، قاموا ـ فطرة وتفاعلاً ـ بالتّفريق بينهم في حالة الجَمْع، بما يُناسب كُلَّ كَلمة دلالة وحالاً، هكذا نَطَقَ لسانهم بما تفاعلوا به عقلاً ونفساً ومُجتمعاً. 
فلاحظ عُلماء اللُّغة ـ فيما بعد ـ هذا التّفريق، فقاموا بعمليَّة السّبر والتّقسيم للمُفردات، وكيفيَّة استخدامها في الواقع، ووضعوا نظاماً له، يتمُّ ـ من خلاله ـ معرفة وزن الجَمْع، وكان ذلك بحُدُود وتعاريف مُنضبطة؛ فقالوا: 
1 ـ كُلُّ كَلمة تأتي على وزن (فعيل) تدلُّ على صفة فاعل لمُذكر عاقل بمعنى المَدْح أو الذَّمِّ تُجمَع على وزن (فُعلاء)؛ مثل: 
فعيل................. فُعلاء 
عليم................. عُلماء 
بخيل................. بُخلاء 
شريف................ شُرفاء 
2 ـ كُلُّ كَلمة تأتي على وزن (فعيل) وهي وَصْفٌ لفعل وَقَعَ على الإنسان بمعنى مفعول به، يأتي جَمْعها على وزن (فَعْلَى)، مثل: 
فعيل ....................... فعلى 
قتيل..................... ... قَتْلَى 
جريح..................... .. جَرْحَى 
مريض..................... . مَرْضَى 
3 ـ الكَلمات التي تأتي ـ دائماً ـ على وزن (فعيل) وعَيْنُها (واو) وصحيحة (اللاَّم) تُجمَع على وزن (فعال) دائماً، مثل: 
فعيل..................... .فعال 
طويل..................... طوال 
قويم..................... . قوام 
4 ـ الكَلمات التي تأتي على وزن (فعيل) مُعتلَّة اللاَّم، أو مُضاعفة، وتدلُّ على صفة الشّيء تُجمَع على وزن (أَفْعلاء)؛ مثل: 
فعيل................. أفْعلاء 
نبي.................. أنبياء 
وصي................. أوصياء 
شديد................. أشدَّاء 
عزيز.................. أعزَّاء 
5 ـ الكَلمات التي تأتي على وزن (فعيل)، وتدلُّ على صفة، أو حال الشّيء، وصحيحة اللاَّم تُجمَع على وزن (فعال)، مثل: 
فعيل............... فعال 
قصير............... قصار 
كبير............... كبار 
سمين............... سمان 
نحيف............... نحاف 
عريض.............. عراض 
6 ـ كُلُّ كَلمة تأتي على وزن (فعيل)، وتدلُّ على اسم شيء بعينه تُجمَع على وزن (فُعْلان)، مثل: 
فعيل.................. فُعلان 
قميص................. قُمصان 
رغيف................. رُغفان 
قضيب................. قُضبان 
7 ـ ما أتى من الكَلمات على وزن (فعيل) مُضاعفة اللاَّم تدلُّ على صفة تُجمَع على وزن (أفْعلة)، مثل: 
فعيل..................... .. أفْعلة 
حبيب..................... . أحبَّة 
قليل..................... .. أقلَّة 
ذليل..................... .. أذلَّة 
عزيز..................... .. أعزَّة 
هذه هي أهمُّ أوزان جَمْع التّكسير( ) لوزن (فعيل)، وهُناك كَلمات شواذّ عن هذه الأوزان، وهذا الشُّذُوذ لا يعني خطأ الكَلمة، وإنَّما يعني أنَّ الكَلمة لم تندرج تحت القواعد التي وضعها العُلماء، وذلك لأنَّ القواعد إنَّما وُضعت لتستوعب مُعظم حالات الكَلمة، وليس كُلَّ اللُّغة. فإذا تناولنا كَلمة (نسيء) نجد أنَّها على وزن (فعيل)، وإذا تناولنا كَلمة (نساء) نجد أنَّها على وزن (فعال)، هذا واقع موجود في اللُّغة لا مفرَّ منه، ووُجُود الكَلمة على وجه مُعيَّن هُو ـ بحَدِّ ذاته ـ دليل عليها؛ لأنَّ وُجُود الكَلمة أسبق من القاعدة، وما القاعدة إلاَّ لاحقة في الوُجُود للكَلمات، قد تتناول كُلَّ حالات الكَلمات، وقد تقصر عن حالات. 
أمَّا مسألة استخدام العَرَب ـ سابقاً ـ للكَلمة على دلالة دُون أُخرى كَامنة في أصل دلالة الكَلمة؛ فلا يعني أنَّ ذلك مُلزم للمُجتمعات اللاَّحقة باستخدام الدّلالة المُختارة من قبَل المُجتمع السّابق، فلكُلِّ مُجتمع حُرِّيَّة التّفاعل والاستخدام لدلالة الكَلمة الأصل، حسب أدواته المعرفيَّة؛ نحو كَلمة (كَتَبَ)، فهي تدلُّ على مُجرَّد الجَمْع للشّيء المُتجانس، ولهذا الجَمْع صُور لا مُتناهية في الواقع، والقُرآن نزل عَرَبيَّ اللُّغة، فلكُلِّ مُجتمع أنْ يفهم صُورة دلالة كَلمة (كَتَبَ) حسب أدواته المعرفيَّة، مادام أنَّ النَّصَّ القُرآني لم يُحدِّد صُورة مُحدَّدة لدلالة كَلمة(كَتَبَ) في الواقع. 
فالحُجَّة في اللُّغة، وليس باستخدام مُجتمع مُعيَّن للُّغة على صُورة مُحدَّدة، فكُلُّ استخدام للُّغة إنَّما هُو مُرتبط بثقافة المُجتمع وأدواته المعرفيَّة، وتتَّسع دلالات اللُّغة حسب تطوُّر المُجتمع أدواتيَّاً ومعرفيَّاً، فلُغة مَنْ يتعامل بالكمبيوتر والإلكترونيَّات والتّلسكوبات غير لُغة مَنْ يكتفي بشُرب الشّاي، والنَّظَر إلى القنوات الفضائيَّة، وهُو مُضطجع على فراشه، ناهيكَ عن لُغة ابن البادية، الذي مازال يركب على الإبل، ويرعى الغنم!!!. 
وعود على بدء لكَلمة (نسيء)، فهي كَلمة تدلُّ على التّأخير والزّيادة، قال تعالى:  إنما النسيء زيادة في الكفر] ، وهُو تأخير أشهر الحُرُم عن وقت مجيئها؛ لاستمرار القتال وإباحته. 
قال النّبي: [ مَنْ أراد أنْ يَنْسأَ في أجله، فليصلْ رحمه ]. 
ويُقال: ربا النّسيئة، وهي الزّيادة في المال مُقابل تأخير الزّمن. 
ويُقال: نسأت المرأة؛ إذا تأخَّر حيضها، ورُجي حَمْلُهَا. 
ويُقال: امرأة نَسوُء، ونسيء للمرأة التي تأخَّر حيضها، ويُشتبه بحَمْلها. 
ويُقال: نسوة نساء للنّسوة الحوامل. 
هذا هُو معنى دلالة كَلمة (نسيء): التّأخير والزّيادة في الشّيء، وهي على وزن (فَعيل) كما هُو مُلاحظ من لفظ الكَلمة. 
فالسُّؤال المطروح ما هُو وزن جَمْع كَلمة (نَسيء)؟. 
لإيجاد الجَمْع لكَلمة (نسيء) لابُدَّ من معرفة دلالة الكَلمة في الواقع: هل هي تدلُّ على فاعل؟ أم تدلُّ على مفعول به؟ أم صفة حال للشّيء؟ أم غير ذلك؟ حتَّى تُقاس على مثيلاتها في الأوزان، وكُلُّ ذلك على افتراض أنَّ كَلمة (نساء) غير موجودة، إنَّ كَلمة (نسيء) لا تدلُّ على صفة فاعل مُذكَّر على سياق المدح أو الذَّمِّ، وبالتَّالي؛ لا تُجمَع على وزن (فُعلاء) نُسآء. 
وكَذلك ليست ـ هي ـ اسماً لشيء بعينه حتَّى تُجمَع على وزن (فُعلان) نُسآن، وكَذلك ليست هي مُعتلَّة اللاَّم، أو مُضاعفة، لتُجمَع على وزن (أفْعلاء) أنْسآء. 
فعمليَّاً؛ انحصرت تحت وزنَيْن؛ وهُما: وزن (فَعْلَى) ووزن (فعال) قال الفرَّاء( ): النّسيء المصدر، ويكون المنسوء، مثل قتيل ومقتول، والنّسيء فعيل بمعنى مفعول؛ من قولك نسأتُ الشّيءَ، فهُو منسوء؛ إذا أخَّرته، ثُمَّ يُحوَّل منسوء إلى نسيء، كما يُحوَّل مقتول إلى قتيل. 
وبناءً على كلام الفرَّاء يكون جَمْع (نسيء) على وزن (فَعْلَى) نسأى؛ نحو قتيل تُجمَع على قَتْلَى، واسم المفعول هُو المقتول، وكَذلك كَلمة نسيء تُجمَع على نسأى، واسم المفعول هُو المنسوء. 
وهذا الكلام هُو الذي تمَّ الاعتماد عليه عند مَنْ رفض أنْ تكون كَلمة (نساء) جَمْعَاً لكَلمة (نسيء)، رغم اعترافهم أنَّ كَلمة (نساء) تعني عكس الرّجال، وهي جَمْع (نسيء)، كما هي جَمْع (امرأة) ( ). 
فلماذا الخوف من أنْ تكون كَلمة (نساء) جَمْعَاً لـ (نسيء)، رغم وُجُودها في اللُّغة، واعترافهم بذلك؟ إنَّه الخوف من استخدام هذا الأمر لتفسير القُرآن، والخُرُوج برأي غير رأي السَّلَف، والحلُّ هُو تمييع الموضوع، وإثارة الشُّكُوك والشُّبهات وإكالة الشّتائم والاتِّهام بالعَمَالة والزّندقة والمُرُوق من الدِّين ومُحاربة الإسلام، لماذا هذا الأمر يا عُلماء المسلمين؟ ولمصلحة مَنْ هذه الادِّعاءات والمواقف؟ أما كان يجدر بكم أنْ تُقارعوا الحُجَّة بالحُجَّة؟! ألا تعلموا أنَّ الفكر لا يُجابَه إلاَّ بالفكر [ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، لماذا لا نفتح باب الحوار؟ ولماذا لا نرضى بالرّأي الآخر حتَّى يرضى برأينا؟ 
إنَّ كَلمة (نسيء) تُطلَق على الأشياء العاقلة وغير العاقلة؛ فنقول: امرأة نسيء،ولبن نسيء. 
فعندما نقوم بنسأ (اللّبن) (زيادة الماء له) يصبح اسمه (نسيء)، فإذا تركناه يُصبح اسمه (منسوء)، وكما هُو مُلاحَظ أنَّ اللّبن وَقَعَ عليه فعل (النّسء)، فأصبح منسوءاً، فهُو (نسيء). 
فهل المرأة تُعامَل مُعاملة الأشياء غير العاقلة؛ حيثُ تُصبح شيئاً متروكاً مُؤخَّراً، فنُطلق عليها اسم المفعول به (منسوء)؟! وهل وقع على المرأة فعل (النّسء) لتُصبح (منسوء)؟ 
نُلاحظ أنَّ هُناك فرقاً في الاستخدام لكَلمة (نسيء) بين العاقل والأشياء، فالأشياء إذا قُمنا بنسئها تُصبح منسوءة، وإذا كانت كَذلك يُطلَق على المنسوء منها اسم (نسيء)، بخلاف المرأة؛ لا نقوم نحنُ بنسئها؛ أيْ لا يُوجد فعل وَقَعَ عليها، وإنَّما صفة حال تُلابس المرأة، سواء أ كان الحال اجتماعيَّاً، أم وظيفيَّاً من عمليَّة الزّيادة من خلال الإنجاب للأولاد، وإكثار المُجتمع منهم، وبالتَّالي؛ لا يصحُّ أنْ نقول عن المرأة إنَّها منسوء؛ لانتفاء وُجُود الإنساء لها، ولكنَّها (نسيء) لتحقُّق صفة التّأخير الاجتماعي بها، ولقيامها بفعل الإنساء للمُجتمع من خلال الإنجاب،فالمرأة الحامل هي امرأة نَسوُءْ، وليست منسوءة. 
ومن هذا الوجه؛ لا نجد في كُتُب المعاجم، وعلى رأسها اللّسان ذكْر وصف (منسوء) للمرأة، وإنَّما نجده وصفاً للأشياء، كونها يقع عليها فعل الإنساء، فتُصبح (منسوء)، ونُطلق على مادَّتها كَلمة (نسيء) كاسم لها؛ نحو فعل القتل إذا وقع على إنسان، فيُصبح مقتولاً، ونسمه (قتيل)، وهذا الوجه الذي ذكره الفرَّاء، وسكت عن الوجه الآخر!!. 
الخُلاصة: أنَّ جَمْعَ كَلمة (نسيء) يُراعى فيه حال الاستخدام من الواقع، فإذا كانت كَلمة (نسيء) تُطلَق على الأشياء، فجَمْعُهَا يكون على وزن (فَعْلَى)، (نسأى)، وهي مجموعة الأشياء المتروكة والمُهمَلَة خلف الإنسان، أو التي قام بزيادتها على أصلها، أمَّا إذا كانت تُطلَق على العاقل رجلاً، أو امرأة، أو ما يتعلَّق بهما، فتُجمَع على وزن (فعال)؛ كونها وصف لحال مُتلبِّس به الإنسان، وليس فعلاً وقع عليه من غيره، حتَّى يُصبح (منسوء). 
فكَلمة (نسيء)عندما تأتي وصف لحال الإنسان الذي تلبَّس بهذه الصّفة ـ وهي صحيحة اللاَّم، وعلى وزن (فعيل)، قطعاً ـ جَمْعُهَا يجب أنْ يكون على وزن (فعال)، وكما ذكرتُ سابقاً إنَّ وُجُود اسم المفعول به لكَلمة (نسيء) ـ وهُو (المنسوء) ـ لا يدلُّ على شيء، ومثله مثل وُجُود اسم المفعول به لكَلمة (عليم) وهُو (معلوم)، فالمُلاحَظ أنَّ الدّلالة في الواقع مُختلفة ـ تماماً ـ بين صفة الفاعل العليم الذي قام بالفعل وبين مَنْ وقع عليه الفعل (المعلوم)، فهُو شيء آخر، وكَذلك دلالة كَلمة (نسيء) عندما تُطلَق على الإنسان، أو ما يتعلَّق به، فهي صفة حال مَنْ تلبَّس بصفة التَّأخُّر، أو الزّيادة،ولا يصحُّ أنْ نقول عنه إنَّه (منسوء)؛ لأنَّ المنسوء مَنْ وَقَعَ عليه فعل الإنساء من غيره، فأصبح منسوءاً، فكما أنَّ العليم غير المعلوم، كَذلك النّسيء (كصفة للعاقل) غير المنسوء من الأشياء، بخلاف القتيل، فهُو المقتول، فيجب التَّنبُّه إلى هذه النُّقطة لأهمِّيَّتها. 
إذنْ؛ كَلمة (نساء) جَمْعٌ حقيقي لمُفردتها (نسيء)، من نفس جنس الأحرف، وكُلُّ هذا سُقناه على افتراض أنَّ العَرَب لم يشتقّوا هذا الجَمْعَ، فما بالكَ أنَّ الجَمْعَ موجود في اللُّغة، وهُو دليل على نفسه بنفسه، أمَّا شُيُوع استخدام كَلمة (النِّساء) لجَمْع كَلمة (امرأة)؛ فهذا لا ينفي ولا يلغي أنَّ (النّساء) جَمْعٌ حقيقي لكَلمة (نسيء)، وهُو الأصل في اللُّغة، والقُرآن نزل عَرَبيَّ اللُّغة، غير مُلزم باستخدام ما اصطلح عليه القوم في زمن مُعيَّن، وعندما يُريد النَّصُّ القُرآني معنىً مُعيَّناً يُحدِّده بقرينة من خلال سياق النَّصِّ، أو الواقع؛ نحو مدلول كَلمة (الصّلاة، الصّيام، الحجّ.....)، وهُو ما يُسمَّى بالاصطلاح الشّرعي المبني على الاصطلاح اللُّغوي، لا يتجاوزه، وإنَّما يُحدّد في الواقع صُورة خاصَّة، وينفي الصُّور الأُخرى اللاَّمُتناهية، وما لم يُحدّده يبقى على الأصل، وهُو الاصطلاح اللُّغوي، ولكُلِّ مُجتمع أنْ يتفاعل مع أوجه النَّصِّ لُغة حسب أرضيَّته المعرفيَّة وأدواته، بما يُلبِّي حاجاته، ويُحقِّق غاياته، وبهذا؛ نكون ـ فعلاً ـ قد حقَّقْنَا المقولة التي تقول: إنَّ القُرآن صالح لكُلِّ زمان ومكان.

سلالة البشرية الذاتية

سلالة البشرية الذاتية / محمد بن عبدالوهاب بن محمد بن يوسف بن اوداوا بن ديغالة بن يونس بن علي بن وايس بن حوش بن يونس بن نوح بن إسماعيل بن جبريل بن حسين بن أبوبكر بن إسحاق بن سعد بن موسى بن زبير بن عبدالرحمن بن إسحاق الهاشم بن أحمد بن محمد الصفي بن حسين بن علي بن مطهر بن عبدالله بن أيوب بن محمد الصوفي بن قاسم بن أحمد بن علي التقي بن عيسى بن يحيى بن محمد الجواد بن علي الهادي بن محمد العسكري بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي الزين عابدين بن حسين بن فاطمة محمد عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد المناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار

الخميس، 29 أغسطس 2013

يحيى عبابنة-نقش ثمودي (لوحة النقش العجيب)2\3

قراءة الحرف في النقش
الجانب الكتابي:
ونعني به تلك الكتابات التي جعلها الناقش جزءاً من الرؤيا الكلية التي أراد أن يُعَبِّر عنها في التشكيل الفني. وتمتاز هذه الكتابات بسمَة يمكن أن نطلق عليها التطويع الفني، فصورة الحرف تعبير كتابي عن صوت (كتابة)، هو كذلك جزء من الصورة، فالناقش فنَّان من هذه الناحية.
ومن ميزات هذه الكتابة أنّها تظهر الكاتب أو الناقش على وعي كبير بأنواع الخطوط، فهو يعرف الخط الثمودي معرفة كاملة، ويدرك تداخل الصور في التعبير عن الرمز الكتابي، فالمعروف للمعنيين أن بعض الرموز كان يعبِّر عن أكثر من حرف واحد، فالرمزكان يعبر عن العين والجيم معاً في نقوش ثموية مختلفة، غير أنه عبر عنهما في هذا النقش معاً، كما أن الرمز(  ) استعمل للتعبير عن صورتي الباء والسين، وفقاً لجهتي القراءة. وكذلك غيرهما من الرموز لمستعملة في النقش كما سنلاحظ.
ومن الخطوط الموجودة في النقش أيضاً الخط السرياني، ومن الغريب أن يكون هذا الخط معروفاً في هذا الوقت المبكر، إلا إذا كان الناقش يعرفه قبل وقت انتشاره الذي أعقب وقت انتشار الخطوط الثمودية.
ويمكن أن نتأول من التشكيل الصوري كلمتين كتبتا بالخط الكنعاني القديم الذي تبنّاه اليهود في المراحل الأولى من حياتهم التي عاشوها إلى جانب القبائل الكنعانية، قبل أن يقلعوا عن استعماله، ويستعملوا الخط الآرامي المربع الذي صار يعرف بالخط العبري المربَّع، وما زال مستعملاً عندهم إلى يومنا هذا.
وقبل النقل الصوتي (الكتابة الصوتية) لصور الحروف الموجودة في النقش ودلالاتها، أشير إلى قضية مهمة جداً في قراءة النقش، وهي التي لاحظناها في التشكيل الصوري الفني، فقد كانت الصورة قابلة للتشكيل أنّى جعلنا اتجاهها، فإذا نظرنا إليها عمودياً رأينا صورة ما، وإذا قلبناها، سنرى صورة أخرى، وهو أمر تمكن الناقش من نقله إلى الصور الكتابية أيضاً، فقد بدت الكلمة مقروءة بصورة ما من اليمين مثلاً ولكنك تستطيع أن تقرأها بصورة مختلفة من الشمال، ولكنها تصبح ذات دلالة أخرى، وهو أمر تحتمله الكتابات الثمودية التي لم يكن اتجاه الكتابة مهماً فيها، فالكاتب يستطيع أن يبدأ من الشمال إلى اليمين أو العكس، ويستطيع أن يكتب كتابة حلزونية من أي جهة شاء وكذلك من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى، ولكن اتجاه الكتابة وقراءتها شيء، والقصد إلى تشكيل كتابي يُقرأ من جهات مختلفة بدلالات مختلفة مقصودة شيءٌ آخر، فهو لم يرد أن يجعل من نقشه نقشاً تذكارياً، بل أراد أن يصنع رؤيا، وأن يخلّد شيئاً يتعلق بالبعد الديني (غير الوثني)، ولذا فقد سخر معرفة واسعة بالخطوط والكتابات القديمة، كما ابتعد عن الخطين العبري المربع والعربي الشمالي (ما عدا الخط الثمودي المأخوذ من الخطوط العربية الجنوبية (اليمنية) المعروفة بالخط المسند.
ونستطيع أن نخمِّن سبب ابتعاده عن الخط العربي الشمالي الذي مازلنا نستعمله، وهو الذي كتب به القرآن الكريم، فالخط بكل بساطة لم يكن معروفاً أو شائعاً على الأقل، ولذا فإن الناقش لم يكن يعرفه.
وأما عدم استعمال الخط العبري المربع، فهو أن الناقش نفسه يريد أن يخفيه عن مستعملي هذا الخط، وهم اليهود؛ لأنه يخاف منهم ولا يريد أن يتعرض لردة فعلهم، فيقع في دائرة الأذى، أو يوقع عمله في تلك الدائرة، فلعله يريد أن يقول شيئاً ليس من السهولة أن يقوله بحريَّة.
الكلمات المستعملة في النقش:
سنقسم الكتابات المستعملة في النقش بحسب القلم الذي تنتمي إليه، إلى الأقسام الثلاثة الآتية:
1-
الكلمات الثمودية:
الكتابة الثمودية، كتابة عربية، استعملها العرب الشماليون قبل اكتشاف الخط العربي الشمالي بزمن ليس قصيراً، ويعيد أغلب الدارسين الخط الثمودي إلى القرن السابع أو الثامن قبل ميلاد نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، وقد قسم الباحث (Winnett) النقوش الثمودية التي عثر عليها حتى الآن إلى خمس مجموعات بحسب تاريخها، وهي:
*
المجموعة : أ ، وتعود إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد.
*
المجموعة: ب، وتعود إلى الفترة الواقعة بين القرن الثالث إلى القرن الأول قبل الميلاد أيضاً.
*
المجموعة: ج، وهـي تعود إلى القرن الأول أو الثانــي الميلاديين.
*
المجموعة: د، وتعود إلى المدة الواقعة بين القرنين الأول والثالث الميلاديين، فقد ورد فيها نقش مؤرَّخ بـ (267م).
*
المجموعة: هـ، وتعود إلى القرن الرابع أو الخامس الميلاديين(.. وينظر: آمنة الزعبي "اللهجة العربية الثمودية" (ص19)، Winnett, F, A Study of the Lehynite & Thamudic Inscriptions, PP.50-54).
وقد نقضت (Eerstin Eksell) هذا التقسيم، ورأت أنه لا يصدق على زمن النقوش الثمودية، وأعادت النقوش الثمودية إلى القرن الثامن قبل الميلاد (ksell, K, Meaning in Ancient North Arabian Carvings, P. 17).
ونورد ملاحظة يعرفها المعنيّون بالكتابات القديمة، وهي أن الكتابات الثمودية كأكثر اللغات السامية، لا تعني برسم الصوائت (الحركات) قصيرة كانت أم طويلة، فهم يكتبون (عالم) كما يكتبون (علم)، لا فرق بينهما، وإنما كانت تعرف صوتياً، لا كتابياً، وقد كتب المصحف الشريف على هذه الطريقة، وما زال كذلك إلى وقتنا الحاضر. والكلمات الثمودية متداخلة في نقشنا هذا تداخلاً مقصوداً عجيباً بحسب التفريغ، فالمساحة التي تفصل بين كل حرف وآخر هي حرف لكلمة أخرى تتداخل معها، وهكذا بين كل حرفين، وهي تقرأ من اليمين إلى اليسار في التشكيلين الناتجين عن التداخل الذي ذكرناه، وهذه الكلمات هي:

العبارة الثمودية الأولى:
وجميع هذه القراءات لها تفسير يرتبط بالصورة والدلالات التي تحملها. وتفصيلها على النحو الآتي:
وهي القراءة التي تحتملها الرؤيا العامة للصورة، وتعني وفقاً للتحليل الذي نرتئيه: الشديد الجماع اللئيم، وجاء في العربية: الطاء: الرجل الكثير الجماع، وفي بعض الكتب: (الشيخ الكثير النكاح)(الخليل بن أحمد الفراهيدي، (الحروف، ضمن كتاب، ثلاثة كتب في الحروف)، حققه رمضان عبد التواب (ص20).)، وعليه قول زهير بن أبي سلمى:
وإني وإن قَلَّ في كُل الهوى طمعي

طاء الجماع قويٌّ غير عنِّينِ
ويمكن أن يكون الناقش قد قصد أن يهجو الرجل الموجود في الوضع (أ) بأنه شيخ نكوح، أو لعلّه قصد إلى القول بأنه فحل، وعند ذلك لا يكون في العبارة هجاء. ومن الجدير بالذكر أن النقش على هذه القراءة قد أهمل التعبير عن الهمزة، وهو أمر مألوف في لغة النقوش الثمودية، ولهذا السقوط نظائر، كما في كلمة (brt) بمعنى (بريئة) ( Harding & Littmann, Some Thamudic Inscriptions, No. 293)، وكلمة (hd) بمعنى (هدوء) (Jaussen & Savignac, Mission archeologique en Arabie, No. 374)، وقد جاءت دون همزة.
وهو إخبار عن مبتدأ مقدّر ، تدل عليه الصورة، أي: هذا طبنٌ لكَعٌ. والطَّبن والطبانية: الفطنة، ورجل طَبنٌ: فَطنٌ حاذقٌ عالمٌ بكل شيء (نشوان الحميري (شمس العلوم) (ص4060).)، و(طَبَننَ): تعني دَفَنَ النارَ ،(المرجع السابق (ص4062).) وهو معنى مرجّح، لعله مرتبط بقول الله على لسان موسى عليه السلام: ]إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى[ ( سورة طه الآية (10).)، فيكون المعنى أن صاحب هذه الصورة هو طابن النار، أي: مطفئها، وأرجِّح أن يكون اللفظ: طَبنٌ أو طابن بمعنى الفطن أو المخادع. وأما اللُّكع فهو الؤم مع حمق ودناءة (ابن منظور، (لسان العرب)، لكع (8/383).).
ذكرنا معنى (طاء) سابقاً، وأمَّا (لهع) أو (لهيع)، فهو المسترسل في الكلام، أو المتفيهق فيه، أو أنه المتواني في الشراء والبيع، أو هو من فيه فتور أو كسل (ابن منظور، (لسان العرب)، (لهع) (8/389).)، وكلُّها دلالات تحتملها الكلمة في رسمها الذي نراه.
لقد أوردنا سابقاً أن الطَّبن هو الفطن الحاذق العالم بكل شيء، وأوردنا في الفقرة السابقة أن اللهع هو المسترسل في الحديث، أو الذي فيه فتورٌ، في حديثه أو سلوكه، فيكون الكلام إشارة إلى الرجل الذي نراه في الوضع (أ)، هو رجل فَطِنٌ مسترسلٌ في الحديث، متفيهقٌ فيه، وهو كلامٌ يمدح به هذا الشخص.
ربما كان لفظه (لسيع)، وهي صيغة (فعيل) بمعنى مفعول، أي المجامع الملسوع (الملدوغ) كما نقول: لديغ أو جريح، بمعنى ملدوغ أو مجروح.
أي: فطِنٌ ملسوع كناية عما تعرَّض له الرجل الذي نراه في الوضع (أ) من غدر وخديعة، أو أنه مَن تعرَّض للسع من نارٍ أو من الهوام والأفاعي.
وتعني هذه العبارة النكوح ابن المثابر على الأمر (النكاح) الولوع به، أي أن هذا الرجل منكاح كوالده، مثابر عليه.
وتعني هذه العبارة أن هذا الرجل فطنٌ عالم بكل شيء، حاذق، مثابر على الفطنة والعلم، وله علاقة باللسان.
فاللهجة في اللغة: طرف اللسان(ابن منظور، (لسان العرب) (لهج) (2/419).). ومن المفيد أن نذكر هنا أن الكاتب قصد إلى تعدد القراءات، كما قصد إلى تنوع الدلالات، فقد كان يقصد أن يمدح أو يذم، وتقودنا الصورة إلى تحديد الممدوح أو المذموم، فصاحب الصورة الحسنة، كان هو المقصود بالمدح، وأما الشخص صاحب الأوصاف الذميمة، فهو المذموم بهذه الصفات السيئة.

* العبارة الثمودية الثانية:
تقرأ هذه الكلمة من الوضع (ب)، تحت الصورة المواجهة للرجل ذي العين الواحدة، وكتابتها الصوتية على النحو الآتي:
وغيرها من القراءات الصوتية المحتملة، وفيما يأتي دلالات الألفاظ المذكورة:
النسب في اللغة هو القرابة في الأبناء والآباء خاصَّة، ويكون في البلاد أيضا، ومنه يقال: انتسب واستنسب، أي ذَكَرَ نسبه (ابن منظور، (لسان العرب)، (نسب)، (1/889). وابن فارس: (مجمل اللغة) (نسب) (4/399-400).)، وأما كلمة (ghl)، فهي (جهل(، ويمكن قراءتها بصور مختلفة، ولكنّها تحتمل المعنى نفسه، فقد تكون (جاهل النسب) بمعنى مجهول النسب، كما في كلمة (دافق) في قوله تعالى: ]خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ[( سورة الطارق آية (6). )، بمعنى مدفوق، فيكون المعنى: الذي يجهل الناس نسبه ولا يعرفونه، كأن يكون لقيطاً مثلاً، أو قد تكون اسم فاعل، والمعنى: الذي يجهل نسبه ولا يعرف أباه أو نَسَبَ أبيه. وقد تكون (جهيل) على وزن (فعيل) بمعنى مجهول، كما نقول: أسير وقتيل بمعنى مأسور ومقتول، وجاء في العربية أمثلة كثيرة على صيغة فعيل بمعنى مفعول، وقدأوردنا جانباً كبيراً منها في كتابنا "دراسات في فقه اللغة وفنولوجيا العربية"، ونورد هنا بعضها اختصاراً:
بعيث بمعنى مبعوث، وهو الرسول، وحليب بمعنى محلوب ، وأخيذ بمعنى مأخوذ، وأسير بمعنى مأسور، وحنيذ بمعنى محنوذ، أي: مشوي، ودفين بمعنى مدفون، وظنين بمعنى مظنون به، وذبيح بمعنى مذبوح، وجريح بمعنى مجروح، وكحيل بمعنى محكول، وطحين بمعنى مطحون، وغيرها كثير (يحيى عبابنه، (دراسات في فقه اللغة والفنولوجيا العربية)، (75-81).).
النبط قوم معروفون كانوا يقيمون في مناطق واسعة من البوادي الشامية والعراق، وقد علا شأنهم في القرون التي عايشت وضع هذا النقش، أي القرون التي سبقت الميلاد، إلى أن قام الرومان باستئصال شأفتهم في أوائل القرن الثاني الميلادي، وتخريب عاصمتهم (البتراء)، وهي اليوم خرائب كثيرة تقع في جنوب الأردن.
وقد جاء في اللغة ما يحمل انتقاصاً منهم من جهة عروبتهم، ولهذا جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: (تمعددوا ولا تستنبطوا) (ابن الأثير، (النهاية في غريب الحديث والأثر)، (5/9).)، أي: تشبَّهوا بمعد، ولا تتشبَّهوا بالنبط، وقد وصفوا بالحذق في الزراعة والتجارة.
ومن دلالته أيضاً الموت (ابن الأثير، (النهاية في غريب الحديث والأثر)، (لهج) (7/466).) . وعلى هذا يكون معنى هذه العبارة (جهل نبط) أي النبطي المجهول، أو الأعجمي غير الواضح المعروف.
ومعناه القريب المأخذ هو الجاهل الذي آذى الآخرين بصوته، فهو كالكلب النابح، الذي ينبح الآخرين دون فائدة، أو أن يكون (جاهل نابح)، أي أن صفته أنه كذلك، ومن معانيه أيضاً: مجهول الصوت الذي لا يعرف أحدٌ صوته، فهو كالكلب الذي يختلط صوته بأصوات كثيرة.
ومعناه القريب المأخذ هو الجاهل الذي آذى الآخرين بصوته، فهو كالكلب النابح، الذي ينبح الآخرين دون فائدة، أو أن يكون (جاهل نابح)، أي أن صفته أنه كذلك، ومن معانيه أيضاً: مجهول الصوت الذي لا يعرف أحدٌ صوته، فهو كالكلب الذي يختلط صوته بأصوات كثيرة.
ومعناه القريب المأخذ هو الجاهل الذي آذى الآخرين بصوته، فهو كالكلب النابح، الذي ينبح الآخرين دون فائدة، أو أن يكون (جاهل نابح)، أي أن صفته أنه كذلك، ومن معانيه أيضاً: مجهول الصوت الذي لا يعرف أحدٌ صوته، فهو كالكلب الذي يختلط صوته بأصوات كثيرة.

* العبارة الثمودية الثالثة:
إن الكشف عن موقع هذه العبارة يحتاج إلى خبرة في التعامل مع النقوش القديمة، ولا سيما مع هذا النقش، فقد موَّهها الناقش تمويهاً ذكياً جداً، إذ إنَّه كتب العبارتين السابقتين اللتين تقرآن من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين، بالحروف النافرة (البارزة)، وقد اختار الرموز بعناية فائقة، بحيث مثّلت المناطق المحفورة (الغائرة) عبارة مستقلة أيضاً، ويستطيع قارئ هذه الدراسة أن يكتشف هذا بسهولة الآن، إذا دقق النظر في لون الخط، فبين الحروف السوداء خطوط بيضاء، تبدوا أوّل وهلة كما لو كانت تفريغات الحفر، ولكنها لم تكن تفريغت عبثية، بل مثَّلت عبارة مستلقَّة.وتفريغ هذه العبارة هو:
قراءات العبارة:
لم تسعفنا المراجع في الوصول إلى دلالة لأحد اشتقاقات (أفح) سوى أن (أفيح) هو اسم موضع قريب من ديار قبيلة مذحج العربية (ابن الأثير، (النهاية) (2/473).) ، وهو موضع يقع إلى الشرق من ديار أزذ شنوءة، شمالي اليمن(رابين تشيم، (اللهجات العربية الغربية القديمة)، (ص195).).
ودلالته من دلالة المواجهة، أي: لاقى الآخر وجهاً لوجه، أي: فاجأ وجهه، ومنه المكافحة في الحرب، ومن دلالات هذا الجذر: الجبن، كفِحَ بمعنى: جَبُن(المرجع السابق، (كفح) (2/678).) . فيكون المعنى: جبان إذا ارتبط بالوضع (ب)، والمصادق المحارب، إذا ارتبط بالوضع (أ).
جاء في اللغة أن (أمح) معنى يرتبط بالجرح، وهو أن الجرح يضرب على صاحبه بألم (المرجع السابق، (أمح) (2/473).)، ونحن نربط هذا المعنى بالوضع (أ)، ويؤيد هذا تلك الزفرة التي تخرج من فمه، وما يبدو من علامات الألم والدموع التي نراها على وجه الشاب في الوضع (أ).
دمح: طأطأ رأسه أو ظهره وحناه (رابين تشيم، (اللهجات العربية الغربية القديمة)، (دمح) (2/510).)، ولعل في هذا ما يمكن أن يكون تعريضاً بالذل الذي سيلحق بمن اتخذ الأذى (العقرب)، والخبث (القرد)، والقذارة (الخنزير) ولياً له، وهو الشخص في الوضع (ب).

* الكلمة الثمودية الرابعة:
وكتابتها ،وهي الكلمة نفسها التي نجدها في الفقرات السابقة، غير أن اتجاه القراءة وتأويل رسم الحروف الثمودية مختلف، ويحتمل قراءات أخرى، وهي:
أي حَمد، أو حامد، أو حميد، وهو من الصفات الحسنة، ولعله إيماء على الشخص في الوضع (أ).
معناه من معنى الخفّة في العمل والسرعة فيه، والاحتفاد: السرعة في كل شيء، والحفدان كذلك (رابين تشيم، (اللهجات العربية الغربية القديمة)،(لهج) (2/419).)،ومن المرجَّح أنَّه يدل على الشخص في الوضع (ب)، فقد رُوي عن الأعور الدجال أنه يطوي الأرض طياً، ولعل في هذا إشارة إلى أنه كان من أعوان القرد والخنزير الظاهرين في الصورة إن كانت تعبيراً عن هذه الرؤيا، وهو أمرٌ فيه وجاهة وترجيح، فإن من صفة سرعة الدجال أنه (كالغيث استدبرته الريح) ( ابن كثير، (النهاية في الفتن والملاحم) (1/121).) .
الأولى: الطين الأسود المنتن الذي يكون في الماء الراكد كالآبار، والثانية من الغضب من الشيء(ابن منظور، (لسان العرب)، (حمأ) (1/74-75)) ، فإذا كانت من دلالة النتن، فهي دالة على الوضع (ب)، لأن الناقش قد عبَّر عنه تعبيراً سلبياً شكلاً ودلالة، فأراد أن يُشنِّع عليه في الدلالة، وأما إذا كانت من معنى الغضب، فإن المرجح أن يكون المقصود منها هو الشخص في الوضع (أ).
امتلأ، وطفح عقله بمعنى ارتفع، والسكران يقال له طافح إذا ملأه الشراب (المرجع السابق، (طفح) (2/627)) ، وارجِّح أن يكون من معنى الارتفاع بالعقل، وهو بهذا صفة للرجل في الوضع (أ).

* الكلمة الثمودية السادسة:
وهي الكلمة السابقة مقلوبة رأساً على عقب ومعكوسة أيضاً، وتقرأ: ، وقد قرأناها على النحو الآتي
وصف بأنه فعل ممات، وهو (حَمَطَ يَحْمُط)، والتحميط: أن يُضرب الرجل فيقول: لم يوجعني ضربه (ابن منظور، (لسان العرب) (حمط) (7/312))، وإذا كان من هذه الدلالة التي أرجِّحها، فإن المعنى أن هذا الشخص (ب) مع ما يمتلكه من الأذى والخبث والقذارة التي تدل عليها رسوم العقرب والقرد والخنزير لا يملك ما يضر به الآخرين (الشخص أ).
(المرجع السابق، (ذمط) (7/340).)، ولكنه قد يستعار في اللغة الأدبية والتعمية، للتعبير عن السرعة للبشر. وهذا ما تمكنا من قوله في الكلمات الثمودية التي رصدناه حتى الآن، غير أن هذا الأمر ليس نهائياً، فربما كان الوقت ليس كافياً لمثل هذا النقش الزاخر بالدلالات، وسيكون لنا رجع نظر فيه مرات.
2-
الكلمات السريانية:
لا يمكن الجزم بأن الكلمات التي نلاحظها مباشرة في النقش كانت تشكيلات صورية، فإذا كانت كما نعتقد، فإن هذه الكتابة السريانية تعد أقدم تشكيل كتابي سرياني على الإطلاق، وقد كتب بخط السرطو أو النسطوري، وليس بالخط السرياني الاسترانجولي، وهو عبارة عن كلمة واحدة نقرأها من اليمين إلى الشمال مع كل من الصورتين (الوضعين أ و ب).
وأما عن عدد الكلمات السريانية في النقش، فلا يزيد على كلمتين تقرأ الأولى من الوضع (أ)، من اليمين إلى اليسار، فإذا قلب النقش إلى الوضع (ب)، فإن النقش سيقرأ من اليمين إلى اليسار على صورة أخرى، وبدلالة مختلفة تماماً، وفيما يلي تفصيل ذلك:
1- الوضع (أ):
2- الوضع (ب):
وأما إذا كانت مخففة فإنها ستكون من النتن، وهو القذارة.
هذه هي الكلمات التي رأيناها في النقش، ولعل إرجاع النظر فيه مرات، وهو ما يحتاج إليه هذا النقش الفريد، سيقدم شيئاً جديداً، ومن الممكن أن يطَّلع عليه غيرنا مين بعلم الكتابات القديمة، وعندها قد يضيف شيئاً جديداً، أو يقول فيه غير ما قلنا.
مسألة المزج بين الصورة والكتابة في النقوش الثمودية القديمة:
لا نستطيع أن نقول إن لهذا النقش مثيلاً، بل هو في حدود ما نعلم لوحة فنية ذات رؤى دينية ليس لها نظير، وهذا لا يعني أبداً اجتماع الرسم مع الكلمة، فهذا الاجتماع موجود حتى فيما نعرفه باسم (مخربشات الرعاة)، كما في النقشين المرفقين بعد قليل، ولكن الغريب في هذا النقش هو الفنية العالية التي مكَّنت صاحب النقش من التعبير عن عدد من المعاني والدلالات عن طريق المزج بين الصورة والكتابة، بالخطوط نفسها، أي أنَّه كان يسخر الخطوط التي يرسم بها الصور للتعبير عن الكتابة، كما يستخدم الكتابة لتكون جزءاً من الأجزاء التعبيرية عن الصورة، فالأنف مثلاً قد يكون أنفاً للوضع (أ)، كما يكون أذناً للوضع (ب)، وقد يكون جزءاً من الكلمة، وكذلك الأذن، والفم، وغيرهما مما رأيناه في عرض الكتابة والصور.
وأما أن يضمِّن الثمودي أو الناقش بالقلم الثمودي أو القلم الصفاوي نقشه صورة معزولة عن مثل هذا التمازج، فهو أمر معروف، وإن كان فيه من البداءة والبساطة ما ليس موجوداً في هذا النص الذي كان كل خط فيه محسوباً بعناية فائقة، قد لا نجد لها نظيراً، بل إنني لم أرَ ولم أسمع بمثله في فنون العالم القديم.
(1) ومن الأمثلة على بساطة التعبير الذي يستعمل فيه الناقش الصورة دون مدلول أو مضامين ما جاء في النقوش الثمودية نفسها(النقشان من نقوش (Eksell): ينظر: Eksell. K. Meaning in Ancient North Arabian Carvings. P. 87
على أننا نقول مرة أخرى إن هذه الرسوم رسوم ساذجة إذا ما قيست بالنقش الذي ندرسه، وأزيد هنا أن هذا النقش يمكن كتابة الكثير من الملاحظات حول رؤاه المرتبطة بقصة الدجال بلا شك، فالمدلولات التي تجمعت فيه تشير إلى هذه القضية، والصور والكتابات تتشابك فيما بينها لتنقل الرؤيا الدينية التي تتعلق بالدجال وما يرافقه من أذا وبعد عن الإنسانية واتحاد مع عناصر الشر التي رمز إليها بالقرد والعقرب والخنزير، وربما الشيطان الذي يسيِّر خطاه، وهو ما نتركه لدراسة مفصّلة سنعد لها في الأيام المقبلة بحول الله تعالى، وقد كان غرضنا هنا التعريف والتحليل لما نشاهده في اللوحة دون أن نغوص في دلالاتها.
والله يهدي إلى سواء السبيل.