الخميس، 17 أكتوبر 2013

نهرو طنطاوى- أوجه التشابه والتطابق بين أنبياء القرآن وقادة الأديان الشرقية القديمة

ينبغي أن يعلم المرء أن الرسالات السماوية جميعها جاءت لأجل الإنسان فقط، جاءت لأجل الإنسان أولا وقبل أي شيء آخر،فالإنسان هو الحرمة الأولى في الأديان وهو الاهتمام الأكبر من كل شيء في الوجود، وهو القيمة الكبرى التي لا تدانيها قيمة، فجميع الأديان جاءت في الأساس لترعى حرمة الإنسان وقيمة الإنسان، جاءت الأديان لتحفظ لهذا الكائن فضله وكرامته على سائر المخلوقات جميعا، أيا كان موطن الإنسان أو جنسه أو نوعه أو شكله أو لونه.
لكن ماذا حدث لتصبح الأديان محرقة للإنسان على مدار التاريخ؟؟. ما حدث يكمن في أن الإنسان قد انحرف وحرف المقصد الحقيقي للأديان، فقد انحرف بالأديان إلى الوثنية ليرضي أطماعه وأهوائه وأنانيته وشهوانيته وطغيانه، فحول الأديان من منهج إنساني قويم يعيش في ظلاله كل الناس إلى وثنيات استعبدت الإنسان وجعلته عبدا للأشخاص والأحجار والمخلوقات، وعبدا لمذاهب الناس وآرائهم وأهوائهم. بل لقد حول الناس الدين نفسه إلى وثن يعبد من دون الله، فبهتت حقائق الدين وذابت وتلاشت حتى توارى المقصد الحقيقي للدين، وتحولت مظاهر الأديان وشعائرها وعباداتها ونصوصها إلى أوثان عبدها الناس من دون الله، بل تحولت الأسماء المجردة للأديان بعد تفريغها منمضمونها إلى أوثان تفوق في وثنيتها وثنية اللات والعزى وهبل، فقد أصبحت كلمة اليهودية وثن يعبده اليهود، وأصبحت كلمة المسيحية وثن يعبده المسيحيون، وأصبحت كلمة الإسلام وثن يعبده المسلمون. وسوف نفصل ذلك لاحقا في مقالين الأول بعنوان: (ما هي حقيقة الوثنية) والثاني بعنوان: (من هو الله). لقد بعث الله النبيين والمرسلين إلى جميع الأمم ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، من ظلمات النفس والهوى والظلم والفساد، إلى نور الوحدة والتعاون والعدل والمساواة، فكان أول ما دعا إليه الأنبياء جميعا هو التحرر من قيد الوثنية البغيض الذي يهبط بالإنسان إلى أسفل درك الانحطاط الفكري والخلقي والسلوكي، والتمسك بوحدانية الله التي ترتقي بالنفس البشرية إلى أعلى قمم السمو والرقي الإنساني، فالتوحيد الذي نادى به الأنبياء جميعا ودعوا أقوامهم إليه، لم يكن مجرد عقائد نظرية محضة، تبدأ من العقل وتنتهي في العقل، بل كان التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء هو عبارة عن خلق واقع إنساني سامي جديد وسلوك بشري راقي، يقوم على تحرير الإنسان أولا من العبودية للمخلوقات سواء كانت تلك المخلوقات بشرا أو حجرا أو شجرا أو أفكارا أو أهواء أو عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وتحريره ثانيا من نفسه وشهواته وأطماعه وأنانيته والسمو به إلى روح الجماعة والتعاون والإيثار والتضحية هذا هو التوحيد وهذه هي رسالات الأنبياء جميعا وهذا هو المقصد الحقيقي لدين السماء.فلم تعتبر الأديان الخضوع للمخلوقات في صورتها البدائية وعبادتها وتقديم الشعائر والقرابين لها هي الوثنية فقط، بل اعتبرت الأديان جنوح النفس البشرية وسعيها الدؤوب وراء أطماعها وأنانيتها وشحها لا يقل وثنية عن وثنية عبادة الأشجار والأحجار والمخلوقات، لذلك يروي لنا القرآن الكريم قصص بعض الأنبياء الذين جاءوا لأقوامهم فقط من أجل تقويم سلوكهم البشري والأخلاقي المنحرف وربط ذلك بتوحيد الله سبحانه، ولم يذكر القرآن عن هؤلاء الأقوام أنهم كانوا يعبدون آلهة من الحجر والشجر والمخلوقات كما كان يفعل أقوام آخرين، وفي ذلك دلالة على أن الانحراف السلوكي والخلقي لا يقل وثنية وفسادا عن الانحراف العقائدي الفكري، فقوم لوط مثلا لم يذكر القرآن عنهم شيئا من عبادة الأصنام أو أي آلهة مخلوقة أخرى من دون الله، ولم يذكر القرآن أنهم كان لديهم انحرافا عقائديا في قضية الألوهية، وإنما كان انحرافهم الأساسي هو الانحراف الخلقي والسلوكي، وكذلك قوم شعيب، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم المسيح عيسى بن مريم، كما سنبين ذلك لاحقا من هذا المقالقبل أن نتناول النبوة في الديانة البرهمية والبوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية ينبغي أن نلقي نظرة سريعة أولا على طبيعة بعض الرسالات التي جاء بها الأنبياء لأقوامهم كماجاءت في القرآن الكريم، فكما ذكرت في مقالي السابق أن هذه الدراسة ستركز على مقارنة النصوص الدينية للأديان الشرقية القديمة بنصوص القرآن الكريم، فلابد من إلقاء نظرة عابرة على رسالات بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، كي يتسنى لنا فهم طبيعة رسالات قادة الديانات الشرقية القديمة (الهندوسية والبوذية والزرادشتية والكونفوشيوسية) ومدى تطابقها مع رسالات الأنبياء الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريمفكما هو معروف وبين لدى الجميع، أن الأنبياء هم بشر كبقية البشر، أرسلهم الله إلى الناس لتحريرهم من ربقة العبودية للمخلوقات وللنفس والهوى، وأيضا لهدايتهم إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، إلا أن كل رسول كان يأتي قومه بشريعة ورسالة قد تختلف في كثير من تفصيلاتها التشريعية عن النبي أو الرسول الآخر، وذلك لأن هؤلاء الأقوام كانت لكل قوم منهم أخطاؤهم وخطاياهم الخاصة بهم، والتي قد يختلف فيها قوم هذا النبي عن قوم ذلك النبي، والمطالع لقصص الأنبياء والمرسلين في القرآن الكريم، يجد أن كل نبي كانت رسالته وشريعته تركز على معالجة خطأ بعينه أو عدة أخطاء بعينها، هذه الأخطاء قد تكون غير موجودة لدى قوم النبي الآخر، ونلحظ ذلك في قصص أقوام كلالأنبياء الذين ذكر القرآن قصصهم مع أقوامهمفمثلا نوح كان من صلب رسالته نبذ عبادة الأصنام من دون الله والاعتقاد بوحدانية الله دون غيره، حيث كانت خطيئتهم الكبرى هي الوثنية العقائدية وذلك لاعتقادهم في بعض المخلوقات بأنها آلهة مع الله، وقد عرض القرآن قصتهم على النحو التالي:
(
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) (سورة نوح- الآيات 21: 24) .وإبراهيم كذلك كان من صلب رسالته محاربة الوثنية الاعتقادية الإلهية، والدعوة إلى وحدانية الله دون غيره كما هو الحال في رسالة نوح، وقد عرض القرآن قصته مع قومه على النحو التالي:
(
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ* قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ* قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ* قَالَأَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَفَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ*) (سورة الشعراء – الآيات 69: 82) .أما المسيح عيسى بن مريم، فلم تكن رسالته عقائدية إلهية على غرار رسالة نوح وإبراهيم، وذلك لأن بني إسرائيل كانوا وقتها يدينون بالديانة اليهودية التوحيدية، ولم يكن حينها ثمة وثنية بالمعنى الصنمي كما كان الحال مع قوم نوح أو قوم إبراهيم أو قوم محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت رسالة المسيح رسالة روحية تركز على السلوك القويم وتهذيب النفوس أكثر من أي شيء آخر، وذلك لأن طبيعة اليهود وقتها كانت قاسية فظة غليظة مادية مقيته، فكانت رسالته خالصة في تهذيب الروح وتنقية النفس وإشاعة التضحية والتسامح والمحبة بين الناس، وقد وصف القرآن طبيعة قوم المسيح من بني إسرائيل اليهود على النحو التالي:
(
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ*وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) (سورة البقرة – 87: 88)
(
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (سورة المائدة- 78: 79)
(
وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌفَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ*) (سورة الزخرف- 63: 65) .إذن لم تكن رسالة المسيح عليه السلام رسالة لقوم يعبدون الأصنام والأوثان ولم تكن رسالة عقائدية إلهية كرسالة نوح وإبراهيم ومحمد، وإنما كانت رسالته روحية سلوكية تقويميةولوط عليه السلام كذلك لم تكن رسالته في صلبها دعوة للتوحيد وترك الوثنية وعبادة الأصنام، ولم تتناول أو تناقش العقائد الإلهية، بل كانت رسالة لوط عليه السلام في المقام الأول رسالةسلوكية أخلاقية تقويمية تدعو إلى العفة والطهارة والبعد عن الشذوذ الجنسي بين الرجال، ولم تتعرض رسالته إطلاقا للجانب العقائدي الإلهي، وهذا بعض ما جاء بصددها في القرآن الكريم على النحو التالي:
(
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (سورة الأعراف- 80: 82). وكذلك كانت رسالة شعيب عليه السلام على غرار رسالة المسيح ورسالة لوط، فقد كانت رسالة سلوكية أخلاقية قويمة، تدعوا إلى إصلاح الكثير من الفساد الاجتماعي والسلوكي لدى قومه، إلا أن رسالة شعيب قد نادت بالتوحيد وترك عبادة غير الله، لكنهاركزت في شقها الأكبر على تقويم الانحرافات السلوكية التي كانت شائعة ومنتشرة في البيع والشراء كالنقص في الميزان والمكيال، والغش في البيع والشراء، وبخس الناس أشياءهم، والإفساد في الأرض، وقد ذكر القرآن أحوال قوم شعيب على النحو التالي:
(
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ *) (سورة الشعراء- 177: 183). إذن يتضح لنا من كل ما سبق أن كل نبي كانت رسالته لها اهتمام معين بمسألة العقائد الإلهية قد يكون ذلك الاهتمام كبيرا وقد يكون محدودا وقد يكون شبه معدوم، وذلك يرجع لنوع الانحراف لدى كل قوم من أقوام النبيين، ومدى وثنيتهم، أو مدى انحرافهم السلوكي والأخلاقي والإنساني، فحسب تفشي نوع الخطيئة تكونرسالة النبي، فإن كان الغالب على القوم الوثنية الصنمية الكوكبية وعبادة غير الله بالمعنى العقائدي تأتي الرسالة واهتمامها الأول العقائد التوحيدية، وإن كان الغالب على القوم الطغيان والجبروت من الحاكم واستعباد الشعب تأتي الرسالة بالثورة على الطغيان كما في حالة موسى مع فرعون وملئه، وإن كان الغالب على القوم قسوة القلب وغلظة الطباع تأتي الرسالة واهتمامها الأول ترقيق القلوب وإحياء الأرواح كما في حالة المسيح مع اليهود من بني إسرائيل، وإن كان الغالب على القوم الفساد والانحراف الجنسي وفساد الفطرة، تأتي الرسالة واهتمامها الأول الطهارة والعفة والاعتدال كما في حالة لوط مع قومه، وإن كان الغالب على القوم الفساد المالي والأخلاقي كالغش ونقص الميزان والمكيال وبخس الناس أشيائهم، تأتي الرسالة بالأمر بالقسط والعدل وإصلاح الذمم في البيع والشراء وحسن التعامل بين الناس، كما في حالة شعيب مع قومه، وهكذاوكما أن انحرافات أقوام النبيين اختلف في طبيعتها ونوعيتها، فكذلك اختلفت أيضا التشريعات التي جاءت بها الرسالات المختلفة، بحيث أن كل قوم جاءتهم شريعة بها تحريم لأشياء لا يوجد مثله في شريعة أخرى، وقد يكون بها شعائر وفرائض ومقدسات لا يوجد مثلها في شريعة أخرى، والسبب في هذا الاختلاف في التشريعات والفروض والمقدسات، يرجع إلى طبيعة هؤلاء القوم وطبيعة انحرافهم العقائدي أو الأخلاقي والسلوكي، فكذلك تختلف تعاليم الأديان عن تعاليم البشر، فتعاليم الأديان تربط الناس الموجودين فوق الأرض بالسماء وتربطهم بما بعد الموت وبما بعد الحياة، وبالثواب والعقاب يوم الحساب، وهذا ما لا نجده في التعاليم الأرضية البشرية، فالتعاليم الدينية تبني الإنسان ذاتيا، فالإنسان المؤمن الصادق يلزم نفسه بهذه التعاليم دون إكراه أو إغراء دنيوي، وهذه فروق فاصلة بين التعاليم البشرية الأرضية والتعاليم الدينية السماوية، أما إن كانالفساد يستشري في كثير من الأحيان بين المؤمنين بالسماء وبين رجال الدين في كل الديانات، فذلك يرجع إلى انحرافهم بالتعاليم السماوية عن مقاصدها الحقيقية، ويرجع كذلك إلى انحراف مقاصدهم وأطماعهم وأنانيتهم، لذلك يكون انحرافهم كبيرا ونتائجهوخيمة وأليمة، لأنهم ينحرفون باسم الله والدين، فيظنون أنفسهم يتحدثون بتفويض من الله لهم في القيام على دينه ليفعلوا به ما شاءوا، أما عوام الناس في جميع أديان الأرض فهم أكثر أتباع الأديان التزاما بتعاليم الأديان وأفضل سلوكا وأقوم خلقا وسماحة وطيبة وتضحية وإيثارا وحبا من قادتهم الدينيين، ونجدهم أيضا أقل شرورا وفسادا في الأرض من قادتهم الدينيين.
إرسال الرسل إلى جميع أمم الأرض كما نص القرآن على ذلك:ليس هناك أدنى اعتراض في القرآن الكريم على وجود أديان سماوية في أي بقعة من بقاع الأرض قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بل إن القرآن الكريم أقر بأنه ليس من أمة من أمم الأرض إلا وقد بعث الله فيها نبيا أو رسولا، فقد أخبر القرآن الكريم أن الله بعث في كل أمة من أمم الأرض رسولا يدعوهم إلى طاعة الله والالتزام بالفضيلة ومكارم الأخلاق والبعد عن الرذيلة والفواحش والظلم والبغي والفساد في الأرض، وأخبر القرآن أيضا أن الله لم يهلك الأمم والقرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آيات الله ويذكرهم بها، وأخبر القرآن الكريم أيضا أنالأنبياء الواردة قصصهم في القرآن الكريم ليسوا هم كل الأنبياء الذين أرسلهم الله وإنما هم بعض الأنبياء والرسل، فقد ذكر القرآن أن هناك أنبياء ورسلا قد أرسلهم الله إلى أمم أخرى ولكن لم يقصص الله علينا قصصهم في القرآن، وإنما أشار إليهم دون تحديد لأسمائهم أو أماكنهم أو زمانهم، وهذه طائفة من النصوص القرآنية التي تقرر ذلك على النحو التالي:
(
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطاغوت) (النحل – 36)
(
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْآيَاتِنَا) (القصص– 59).
(
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (غافر – 78). وقال تعالى:
(
وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر – 24). إذن أقرت نصوص القرآن الكريم بأن الله قد بعث في كل أمة من أمم الأرض رسولا، ولم تخل أمة من الأمم إلا وقد جاءها نذير من الله، منهم من قص الله قصصهم في القرآن ومنهم من لم يقصص.
أنبياء ورسل الهند والصين وإيران القدماءسوف نحاول في هذا الفصل أن نقتفي أوجه الشبه والتطابق بين ملامح شخصيات أنبياء القرآن الكريم وأحوالهم مع أقوامهم وموقف أقوامهم منهم ومن دعوتهم، وكذلك نتبين ملامح قادةالأديان الهندية والصينية والإيرانية القدماء وأحوالهم مع أقوامهم، وموقف أقوامهم منهم ومن دعوتهم، فقد نص القرآن الكريم على حالات من التشابه والتطابق في نشأة وحياة وشخصية جميع الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن، وأيضا نص على تشابه وتطابق ردود فعل أقوامهم تجاه دعوتهم، وسوف أبين الحالات التي نص عليها القرآن ثم أقارن بينها وبين كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، لنرى مدى التطابق والتشابه بين أحوال وأوضاع الأنبياء الذين نص عليهم القرآن مع أقوامهم ورد فعل أقوامهم معهم، وسوف أتجنب الحديث عن الديانة البرهمية القديمة، وذلك لعدم توصل الباحثين والمؤرخين وعلماء مقارنة الأديان على المؤسس الأول للديانة البرهمية والتي مرجعها الأولوالأكبر هو الكتاب المقدس المسمى بـ(الفيدا)، وسوف أستعرض هذه الديانة في هذا المقال فقط عند الحديث عن الوحي والنبوة، وسوف أتناول تعاليم الديانة البرهمية وتشريعاتها الدينية والأخلاقية والعقائدية في المقالات القادمة، أما عن أوجه التشابه والتطابق بين أنبياء القرآن وقادة الأديان الشرقية القديمة فنتناولها في التقسيمات التالية:
1 - 
العزلة والاعتكاف والتأمل قبل النبوةتحكي كتب التاريخ أن معظم الأنبياء والرسل قبل بدء دعوتهم قد مروا بمرحلة من الخلوة واعتزال الناس والاعتكاف والتأمل استمرت لعدة سنوات، وبعدها يبدأ النبي أو الرسول في دعوةقومه إلى تعاليمه التي بعثه الله بها إلى قومه، فمثلا النبي محمد عليه الصلاة والسلام قد اعتكف في غار حراء حسب ما تحكي كتب التاريخ لعدة سنوات قبل البعثة، وبعدها مباشرة بدأ الرسول في دعوة الناس إلى تعاليم دينه، وهذا ما حدث أيضا مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، على النحو التاليعزلة بوذا واعتكافهعندما بلغ بوذا السادسة عشر كان له ثلاثة قصور في ثلاث مناطق مختلفة, قصر لكل فصل من فصول السنة ولكنه وسط هذا اليسر والثراء كان يحس بالأسى أو الحزن الذي يسببه ثراء وسلطان بعض الناس للآخرين غيرهم, وبعد أن تزوج بوذا امرأته وولدت له طفله الأول ترك هذا الرخاء في منزله ليبحث عن حياة ترضيه أكثر من غيرها. ولقد تحدث في السنوات الأخيرة واصفا هذا الحادث فقال: (لقد عرفت الضيق والضجر من الحياة في منزل لا تسهل فيه ممارسة حياة دينية كاملة النقاء ومع أنني كنت في فجر العمر.. وعلى الرغم من بكاء والدي حتى غطت العبرات وجهيهما قصصت شعر رأسي ولحيتي وارتديت ثيابا صفراء اللون ثم تركت حياتي المستقرة في منزلي إلى حياة أهيم فيها دون ما مستقر). (مانوراما موداكص89). ومكث بوذا في عزلته ست سنواتعزلة كونفوشيوس واعتكافهأما كونفوسيوش قد حكى عن نفسه أنه اعتزل واعتكف منذ أن بلغ الخامسة عشر وحتى بلغ الثلاثين من عمره وفي تلك الفترة كان كل شغفه بالقراءة والاطلاع فقد (كان يؤثر الاطلاع على الطعام والنوم وكثيرا ما أمضى أياما وليالي يستزيد من المعرفة متغاضيا عن طعامه وراحته وكان يبدي تصميمه على العمل على إزالة شرور أربعة اعتبرها أمهات الكبائر : عقلية مغرضة , أحكام جائرة , العناد والأنانية. (د. فؤاد محمد شبل, ص87). عزلة زرادشت واعتكافه تذهب الروايات إلى أن زرادشت نشأ محبا للحكمة ولحياة العزلة والاعتكاف. (د. محمد أبو المحاسن عصفور, ص280). ولما بلغ زرادشت العشرين من عمره أحس رغبة شديدة في الوقوف على حقيقة الكون وخالقه ومحتويات الطبيعة وما وراءها ، فآثر العزلة والرياضة الروحية والتأمل العميق في ملكوت السماوات والأرض ، لتصفو روحه، ويوقن بقدرة الإله، وتتطهر نفسه من جميع عقائد الشرك والسحر ونسبة الأفعال للكواكب والمخلوقات، ويتهيأ لتلقي الإشراق والاهتداء إلى معرفة الحق، وأخذ يطوفبمختلف بلاد إيران لتزداد تجاربه وتزداد معرفته بالمجتمعات وشئون حياتها. وقد استغرقت هذه الرحلة عشر سنين، فبلغ في نهايتها الثلاثين من عمره وكان حينئذ قد وصل إلى أرقى درجات الصفاء الروحي. (د. علي عبد الواحد وافي، ص130).
2 - 
الوحي والنبوةما من نبي من الأنبياء والرسل إلا وأقر بأن ما جاءه من تعاليم ليس من عند نفسه، وإنما هو بوحي من الله، وأنه قد جاءه من يأمره بتبليغ ما أمر به، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) (سورة الرعد- 38)، فقد أثبتت معظم الدراسات والأبحاث أن البرهمية وبوذا وكونفوشيوس وزرادشت، قد اعترفوا أن ما جاءوا به من تعاليم لم يكن من عند أنفسهم، وإن ما جاءوا به قد أتاهم من مصدر خارجي عنهم، ولم يبتدعوه من عند أنفسهم، وذلك على النحو التاليالوحي والنبوة في الديانة البرهميةذكر الشهرستاني في الملل والنحل أن من عقائد البرهميين إنكار النبوة ونسب ذلك إلى رجل منهم يقال له (براهم) مهد لهم نفي النبوات أصلا وقرر استحالة ذلك في العقول، ولا ريب أنه إن صح هذا بالنسبة للبرهمية كان دليلا على انحرافها بعد استقامتها خصوصا وأن الشهرستاني نفسه يقول (ومن أهل الهند جماعة أثبتوا متوسطات روحانية يأتونهم بالرسالة من عند الله عز وجل في صورة البشر من غير كتاب فيأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء ويسن لهم الشرائع ويبين لهم الحدود وإنما يعرفون صدقه بتنزهه عن حطام الدنيا واستغنائه عن الأكل والشرب والجماع). (د. عمارة نجيب, ص193، 194). الوحي ونبوة بوذاحينما كان بوذا في العزلة والاعتكاف في الغابات، وجد في الغابة معلما اسمه (جورو) قضي بعض الوقت في الدراسة معه ثم سار بمفرده حتى استقر على شاطئ النهر وبدأ يحد من كمية غذائه حتى وصل إلى حد كان يعيش يومه على طعام يمكن أن يضعه في راحة يده, ومر الوقت وأدرك أن هذا إجراء لا ينفع أحدا غيره وأنه قد انعزل عن الناس أكثر من اقترابه منهم وعندئذ عاد إلى زيادة كمية طعامه في غير شراهة. وفي تجواله من مكان إلى آخر استقر أسفل شجرة, شجرة تين. (مانوراما موداك, ص87). وهو تحت الشجرة المقدسة تمت له الإشراقة وانجلت له عقد الكون, وبوذا نفسه يصف هذه الإشراقة فيقول: كلمني صوت من داخلي قائلا: إن الهوى هو أصل الحزن. والنفس هي التي تجلب الشقاء وذلك أن المرء يقول دائما: أنا أنا, ويقول أيضا: زوجتي وأولادي فهم أيضا نوع من أنا أما من سواهم فليسوا أنا فيهوى ما يرى فيه شهوة نفسه وإذا خاب شقي بهذه الفكرة, يذهب الناس في الدنيا كالحريق العظيم المدمر فيؤذون ويقتلون ويكونون لعنة على الخلق. قال بوذا للصوت: إن قبلت قولك فهل أنال الحرية؟. فأجاب الصوت: نعم نعم إنه يجلب لك الحرية أيها الناسك. فهل هذه هي النيرفانا؟ هل هي القضاء على الأنانية والتحرر من الهوى وسلطان النفس؟. (د. أحمد شلبي, ص158). الوحي ونبوة كونفوشيوسويؤثر عن كونفوشيوس قوله: وقتما كنت في الخامسة عشر وقفت نفسي على الاطلاع فلما بلغت الثلاثين توطدت معلوماتي فلما أصبحت في الأربعين زالت شكوكي وفي الخمسين ميزت إرادةالسماء وفي الستين كنت مستعدا للإصغاء إليها وفي السبعين تيسر لي إطاعة رغبة قلبي دون أن أتجاوز ما هو حق. وفي مجلس ضم طائفة من مريديه تنهد وقال ليس هناك من يعرفني, فسأله أحدهم عن السبب فأجاب: إنني لا أجأر بالشكوى ضد الشعائر ولا ألقي باللوم على الناس, إن مطالعاتي ودراساتي – وإن كانت متواضعة – تخترق أعلى مكان ولعلي – قبل كل شيء – معروف لدى السماء. ووصف نفسه بأنه مجرد ناقل وليس مبدعاووردت بمأثورات كونفوشيوس عبارات يتحدث فيها عن السماء, معبود الصين الرئيسي ويبدو من استقراء كتاباته أنه كان يحس بأن السماء قد استودعته رسالة إبراء العالم الصيني من أوجاعه, وآمن بأن السماء لن تخذله وفي ذات مرة أظهر استهجانه لعدم ثقة أحد به لكنه أضاف بأن السماء تفهمه. (فؤاد محمد شبل, ص77، 78). ولقد انبهر المبشرون الغربيون عندما علموا ما عند الصينيين من حكم موروثة ووصايا وآراء خلقية سامية ولذا قرروا أن الصينيين لا بد أن قد بعث فيهم رسل ولقد أخذوا لهذا يوازنون بين التوراة والكتب الصينية في الأخلاق والحكم والوصايا. (محمد أبو زهرة, ص80). بل إن كونفوشيوسقسم الناس بالنسبة للمعرفة إلى أربع درجات فقال عن صاحب الدرجة الأولى: رجل وهبته السماء المعرفة وأوتي الإلهام وهي من أعلى الدرجات). (محمد أبو زهرة, ص 96). الوحي ونبوة زرادشتتروي أسفار الديانة الزرادشتية أنه حينما بلغ هذه المرحلة نزل عليه الوحي من السماء. فبينما هو واقف على شاطئ نهر ديتي في مقاطعة أذربيجان إذا به يرى كائناً مضيئاً يهبط من السماء، وكأنه عمود من نور ، حجمه تسعة أمثال حجم الإنسان، ويحمل في يده عصا من اللهب، ولما دنا منه أنبأه أنه فاهومانا كبير الملائكة أرسله الله إليه ليعرج به إلى الملأ الأعلى ليحظى بشرف المثول أمام رب العالمين "أهورا مزدا ". وهنالك أشرقت عليه معرفة الحق، وتكشفت له أسرار الكون، ورفعت عن بصره الحجب، ووقف على ما كان يسمى للوقوف عليه وأصبح نبيا ً مرسلاً، وأوحى الله إليه بتفاصيل دين كامل يبلغه للخلق، وبكتاب مقدس هو "الأبستاق". (د. علي عبد الواحد وافي، ص130).
3 - 
جميع الرسل دعوا أقوامهم إلى طاعة التعاليم التي جاءوا بها:
(
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء – 25).
(
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ) (النساء- 64). فقد نص القرآن الكريم على أن الرسول أو النبي كان من أكبر وأهم أولوياته دعوة الناس إلى طاعة التعاليم التي أتي بها من عند الله، ودعوة الناس إلى تقبل هذه التعاليم في لين وتذلل للآمر الذي هو الله، لأن لفظ (فاعبدون) يعني اللين والذل فمعنى (عَبَدَ) فيأصل اللسان العربي هو اللين والذل للمعبود، ويكون بالاستجابة لما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه، وقد ثبت بصورة قطعية من خلال جميع الدراسات الفلسفية والتاريخية ودراسات مقارنات الأديان، أن رهبان الديانة البرهمية وبوذا وكونفوشيوس وزرادشت، قد قاموا بدعوة أقوامهم إلى الالتزام بطاعة التعاليم التي نادوا بها، وشددوا على أتباعهم في الالتزام بها، كما سنرى فيما بعد، ونلاحظ أيضا أن من صفات الأنبياء دعوة الناس إلى الالتزام بدعوتهم وطاعة التعاليم التي نادوا بها، فلم تكن دعوتهم مجرد نظريات فلسفية أو علمية محضة، كحال الفلاسفة والمنظّرين والحكماء، وإنما الأنبياء والرسل هم وحدهم من حولوا ما لديهم من تعاليم إلى واقع حي على الأرض، وذلك عن طريقدعوة الناس إلى ما معهم من رسالات وتعاليم، وتحملوا كل المشاق والمصاعب في سبيل تلك الدعوة، ثم إلزام أتباعهم بتطبيق هذه التعاليم في واقعهم الحياتي والالتزام بها حرفيا، وهذا هو الفارق الكبير بين تعاليم الأنبياء، وبين فلسفة الفلاسفة وحكمةالحكماء، وهذا ما حدث بالفعل مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، فسوف نرى أن دعوتهم لم تكن من باب الحكمة وعرض الآراء وتعليم الناس فقط، بل كانت دعوتهم للناس من باب التكليف، وهذا ما أثبتته كتبهم وتعاليمهم وسيرة حياتهم، فكانوا يطوفون البلاد يدعون الناس ويلاقون العنت والمشقة في سبيل ذلك، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن هؤلاء الأشخاص مكلفون ومأمورون بالدعوة إلى تعاليمهم، وليس نافلة منهم كما سنرى على النحو التاليدعوة بوذا لقومه إلى طاعة ما جاء به من تعاليمبعد أن عاد بوذا من رحلة العزلة والاعتكاف والتي استغرقت عددا من السنين: (بدأ يجمع الناس من حوله لينصتوا لحديثه وقد قابل في البداية خمس رجال يسيرون معا على الطريق فأخذيدعوهم إلى مذهبه) (مانوراما موداك, ص 88). (وكان يوضح ما يفسره لتلاميذه ولم يكن أي من خصومه يستطيع أن يربك تفكيره, وجاء الناس من كل بقاع الهند ليناقشوا معه عقيدته, كان الجمع قد وصل إلى قرابة ألف رجل يجلسون كلهم منصتين دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة فقد كان حديثه العذب وجمال تفكيره المنطقي يسحران مستمعيه. وتزايد عدد تلاميذه ومريديه وأنشأ الصوامع للدرس والعبادة في البساتين والحدائق حيث عاش المريدون حياة طيبة هادئة, وذات يوم طرد راهب لم يتبع قواعد (المنسك) وأحزن هذا بوذا حتى إنه ترك الدير وخرج ملتمسا الوحدة في الغابة وأحزن هذا بدوره سكان المدينة المجاورة حتى إنهم ذهبوا جميعا إلى الراهب المتمرد ودفعوه دفعا لالتماس عفو بوذا). (الموسوعة العربية العالمية, ص89). دعوة كونفوشيوس لقومه إلى طاعة ما جاء به من تعاليم:
(
وقد أحس كونفوشيوس بحنين منذ بلغ أشده واكتملت نفسه إلى إرشاد الناس إلى خير مناهج الحياة وأقوم السلوك ولذا كان أشد ما يرغب فيه أن يتولى صناعة التدريس ... وقد اعتكف على أسرته يعلم آحادها ومن ينضم إليها وصار منزله منتدى طلاب العلم ومقصده ولقد عين بعد ذلك أستاذا وعندئذ أخذ مذهبه يتكون وآراؤه تتجمع ويبديها لا في كتب يؤلفها ولكن في شبيبة ينشئها فأخذ يبث تعاليمه فيها حتى كان له منهم صحب يشبهون حواري النبيين يؤمنون بفكرته والذود عن دعوته والإخلاص لنحلته ... ولقد أخذ كونفوشيوس يطوف في الآفاق دارسا مرشدا رائضا لنفسه وحاثا أصحابا على الأخلاق القويمة... وأخذ كونفوشيوس يطوف البلاد داعيا مرشدا ومسترشدا وكان في كثير من الأحيان يخص بإرشاده الحكام معتقدا أن صلاح الراعي يستلزم صلاح الرعية وأن حسن قوامته على الناس يتبعه صلاحهم ولأنه يرى أن السياسة الحكيمة في تهذيب الرعية حتى تقوم المحبة بين الناس مقام القانون ولقد كان يقول: (السياسة هي الإصلاح) فإن جعلت صلاح نفسك أسوة حسنة لرعيتك فمن الذي يجترئ على الفساد ؟ ) لهذا كان يخص – وهو يطوف مقاطعات الصين – الأمراء بإرشاده لأن في صلاحهم صلاح العامة وعليهم يواسي .) (محمد أبو زهرة, ص84 :86). (وقد مات بعد أن ترك من تلاميذه الذين أخذوا على عاتقهم بث دعوته في الأقاليم الصينية ثلاثة آلاف وقد نبغ منهم اثنان وكلهم تعاون في نشر مذهبه الخلقي في البلاد حتى صار بعد ذلك مذهبا رسميا لتلك البلاد المترامية الأطراف واستمر كذلك من آخر القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن العشرين بعده). (محمد أبو زهرة، ص 88دعوة زرادشت لقومه إلى طاعة ما جاء به من تعاليم:
(
وقضى زرادشت عشر سنين يطوف فيها ببلاد إيران، يبلغ الناس رسالته بدون أن يجد مستجيبا لما يدعو إليه. وفي السنة الحادية عشرة بعد نبوته أي حينما جاوز الأربعين من عمره بدت في أفقه طلائع النجاح، فآمن ابن عمه (متيوماه) وانتصر لدينه، فشد الله به أزره، وقوى به دعوته. ومضت سنتان بعد ذلك لم يؤمن به في أثنائهما أحد، وإن كانت محتويات رسالته قد انتشرت وأصبحت معروفة لكثير من الناس. وأخذ الناس بعد ذلك يدخلون في هذا الدين أفواجاً، ولم تمض بضع سنين حتى اعتنق الزرادشتية معظم أهل إيران، بل يقال أنه قد دخل في هذا الدين كثير من أهل البلاد المجاورة لإيران، وخاصة بلاد من الهند، ويقال إنه أنتشر كذلك في بعض بلاد اليونان نفسها). (د. علي عبد الواحد وافي، ص131: 133).
4 - 
اضطهاد وتكذيب أهل الترف والحكم والجاه للأنبياء والرسل ومحاربتهملقد نص القرآن الكريم على أن جميع الأنبياء والرسل قد اضطهدوا من قبل أقوامهم وخاصة من أهل السلطة والترف والجاه، باعتبارهم هم المتضرر الأكبر من دعوات الأنبياء، وكانت حجتهم المعتادة إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. وهذه بعض نصوص القرآن التي تشير إلى ذلك:
(
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) (سورة سبأ- 34)
(
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ) (سورة الحجر– 10 :11).
(
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذاريات – 52 :53).
(
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف- 23: 24). أيضا هذا ما حدث مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، فقدكذبهم الناس في بادئ الأمر واضطهدوهم وطردوهم وكذبوهم في دعواهم، وهذا ما أجمعت عليه كتب الباحثين والمؤرخين وعلماء الأديان، كما سنرى على النحو التالياضطهاد بوذا من قومهلما كانت تعاليم بوذا شديدة الزهد والتجرد عن الدنياوكانت تعاليمه تدين بشدة وصرامة كافة ألوان الممارسات الشعائرية الوثنية والطبقية التي تشكل البقايا الأخيرة للفترة (الفيدية) البرهمية. لاقى بوذا وأتباعه بسبب ذلك اضطهادا كبيرا في الهند بعد الانطلاق الهائل لتعاليمه بين الناس. وبسبب هذا الاضطهاد التجأ رهبان بوذيون كثر إلى الصين هربا من اضطهاد البرهميين، فلم تلقى التعاليم البوذية سوى التهكم والسخرية من الرهبان البراهمة الذين رموه بالكفر والإلحاد، وذلك لأن بوذا نادى بالمساواة بين الناس جميعا وثار على نظام الطبقات والتفرقة العنصرية بين الناس ذلك النظام الذي وضعه رجال الدين البراهمة والذي يقسم أتباع الديانة البرهمية إلى ثلاث طبقات، وسوف نتحدث عن هذا الموضوع في المقالات القادمةاضطهاد كونفوشيوس من قومهأما كونفوشيوس فلم يكن اضطهاده يتمثل سوى في رفض الناس لتعاليمه وعدم تقبلها، أو تقبلها بعض الوقت ثم الخروج عليها فيمابعد، وهذا هو ما عانى منه كونفوشيوس وجعله يطوف في شتى مقاطعات الصين عله يجد من يتقبل تعاليمه، إلا أن بعض حكام المقاطعات كانوا يكرمونه ويعينونه في مناصب رفيعة كوزارة العدل، وفي هذه تشابه مع بعض حالات الأنبياء التي وردت في القرآن، والذين لم يضطهدوا من أقوامهم بسبب تعاليمهم، اضطهاد كالنفي أو التعذيب أو التهديد بالقتل، فعلى سبيل المثال: النبي يوسف الذي أحبه ملك مصر وولاه في منصب كبير، وأحبه الشعب وأعجبوا بأخلاقه وتعاليمه، ولم يؤثر عنه أنه اضطهد من أحد أثناء تواجده في مصر، وهكذا كان كونفوشيوس فلم يتعرض لأي اضطهاد يذكر من قومه بل على العكس فقد تلقى الناس تعاليمه بالبشر والقبول، وإن لم يلتزموا بها. (ولقد رفعه أمير المقاطعة إلى مرتبة نائب الحاكم للمقاطعة ثم ولاه وزارة العدل فكان شأنه في هذا كشأنه الأول يروض مرءوسيه على الأخلاق ويعطيهم من نفسه أسوة حسنة فيقتدون به, واستعان في أعماله ببعض أصدقائه الذين أشربوا تعاليمه ومازجت نفوسهم نفسه, ولكن تلك الحال لم تدم طويلا فإن رجالا نفسوا على الحكيم تلك المنزلة وضاقت صدورهم حرجا من عظيم ما طويت عليه منالحقد فزينوا لأمير المدينة أن يخالف إرشاد كونفوشيوس وقدموا له امرأة حسناء وحسنوا له أن يفك نفسه من القيود ويقبل عليها ففعل وعصى إرشاد كونفوشيوس). (محمد أبو زهرةص86، 87). اضطهاد زرادشت من قومهلقد قضى زرادشت عشر سنين يطوف فيها ببلاد إيران، يبلغ الناس رسالته بدون أن يجد مستجيبا لما يدعو إليه. وقد قاسى في أثناء ذلك من المتاعب والأهوال مالا يصبر على احتمال مثله. ولما لم يظفر في بلاده بأتباع يدخلون في دينه رحل إلى بلاد الطورانيون، فلم يجد منهم خيرا مما وجده من أهله، بل لقد كانوا شرا عليه من أهله، فقد لقي منهم عنتاً وأذى شديدين، بل لقد تعرض للهلاك أكثر من مرة. (د.علي عبد الواحد وافي، ص 132). وقد أثارت حفاوة الملك بزرادشت حسد كثير من رجال الحاشية والمقربين للملك، فأخذوا يأتمرون بزرادشت، ويسعون ضده بالوشاية، ويدبرون له المكايد ويتربصون به الدوائر. (د. علي عبد الواحد وافي ص133).
5 - 
الهجرة : ما من نبي من الأنبياء أتي قومه إلا وهاجر من وطنه إما لكثرةاضطهاد قومه له، أو خوفا على نفسه وأتباعه، أو لنشر دعوته في أماكن أخرى بحثا عمن يؤمن بدعوته وتعاليمه، وهذا ما حدث أيضا مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، وكان ذلك على النحو التاليهجرة بوذاتخبرنا كتب التاريخ أن بوذا هرب من نيبال إلى الصين فرارا من اضطهاد البرهميين له ولأتباعه. فعندما خرج بوذا من الريف إلى المدينة رحب به السكان ترحيبا ملكيا وقد وصلها في قارب عبر نهر (الجانج) حيث استقبله الناس وقد زينوا الطريق من النهر إلى المدينة بالأعلام وتوجوه بالأزهار ورشوا الأرض بالمياه لمنع تناثر الأتربة وفرشوا الأرض بالزهر وحرقوا العطور على طول الطريق وجمعوا للاستقبال الفيلة والعجلات الحربية. وتبع جمع غفير من الناس بوذا في مسيره, كان هو فقيرا ولكن كان الملوك يحنون هاماتهم أمامه, كان بوذا يرحب بالناس باحترام وقدسية ويقدم الطعام والمأوى والدواء لمن ينزل به من أغنى الناس وأكثرهم كبرياء أو حتى من أفقرهم الذي قد يرضى بالقليل من الطعام, وغيرت حياته وتعاليمه من البناء الاجتماعي للهند والصين وبلاد أخرى كثيرة لقرون طويلة تلت عصره. (الموسوعة العربية العالمية، ص91). هجرة كونفوشيوساعتاد كونفوشيوس منذ أن بدأ دعوته على الطواف في الأقاليم الصينية لا يقيم في بلد إلا على نية الخروج منه وكلما حل على أمير مقاطعة دعاه إلى السلوك الفاضل فلم يجب أحد منهم دعاءه وإن أكرم وفادته حتى برم بهم ولم يكن له عزاء إلا تكاثر تلاميذه الذين اعتنقوا آراءه حتى بلغوا ثلاثة آلاف أو يزيدون وكلهم قد أشرب روحه ومازجت آراؤه نفسه وخالطت منها المهجة والفؤاد. وقد عاد بعد الرحلة الطويلة إلى مقاطعته (لو) فأكرم أميرها وفادته ولكنه لم يطعه كسائر الأمراء فعكف الحكيم على مدارسة أصدقائه. (محمد أبو زهرة, ص87). هجرة زرادشتلقد قاسى زرادشت في سبيل دعوته كثيرا حتى اضطر إلى الهجرة إلى شرق إيران. (د. محمد أبو المحاسن عصفور, ص280). ولم يودعه الله (أهورا مزدا) ولم يحرمه عنايته في هذه المدة، بل ظل يؤيده ويقوي عزيمته ويربط على قلبه، ويثبت عقيدته بالوحي المتوالي، ويعده بأن الآخرة ستكون خيراً له. وقد نزل عليه الوحي في أثناء هذه السنين العشر سبع مرات ظهر له فيها الملائكة الستة كبار الملائكة. وأخذ الناس بعد ذلك يدخلون في هذا الدين أفواجاً ، ولم تمض بضع سنين حتى اعتنق الزرادشتية معظم أهل إيران، بل يقال أنه قد دخل في هذا الدين كثير من أهل البلاد المجاورة لإيران، وخاصة بلاد الهند، ويقال إنه أنتشر كذلك في بعض بلاد اليونان نفسها. (د. علي عبد الواحد وافي ص133).
6 - 
عدم ادعاء الأنبياء للألوهية أو الربوبيةلقد نفى القرآن نفيا قاطعا أن يكون الله قد أرسل أحدا من البشر إلى أمة من الأمم وآتاه الكتاب والحكم والنبوة، ثم قال هذا النبي أو ذلك الرسول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، ولم يأمر الله الناس في تلك الرسالات بأن يتخذوا الأنبياء والمرسلين أربابا من دون الله، وإنما كان النبي أو الرسول يأمر قومه بأن يكونوا ربانيين، بمعنى أن يكونوا ملتزمين بالتعاليم الربانية المرسلة إليهم من الله.
(
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ*) (آل عمران79- 80). ومن هنا يمكننا القول أن النصوص الأولى للديانة البرهمية والبوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية، لم يرد في أي نص من نصوصها نص واحد يدعوا إلى تأليه بوذا أو كونفوشيوس أو زرادشت، ولم يرد أيضا أن بوذا أو كونفوشيوس أو زرادشت، قدنادى أحد منهم بأنه إله أو رب، وإنما عملية التأليه حدثت من أتباعهم الذين جاءوا من بعدهم بعشرات السنين أو من بعدهم بعدة قرون، وهذا ما اتفق عليه كل المؤرخين والفلاسفة وعلماء مقارنة الأديان كما سنرى في المقالات القادمة.
7 - 
وضع الأتباع هالة من القداسة والأساطير حول شخصية النبي بعد وفاتهما من نبي من الأنبياء جاء لقومه إلا وأضفى عليه أتباعه من بعده هالة من القداسة والأساطير التي قد ترفعه فيما بعد إلى منزلة الإله، وهذا ما حدث مع معظم الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن من أتباعهم من بعدهم، فقد رفعوهم إلى منزلة الآلهة والأرباب، وهذا ما حدث أيضا مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت على النحو التاليتقديس بوذا والأساطير حول شخصيتهحياة بوذا كانت حياة بسيطة لا تعقيد فيها ولا تزيد ولكن يأبى الذين جاءوا من بعده إلا أن يحوطوها بشتى الأساطير, أوحت بها الأوهام ودفعت إليها أخيلة خصبة, فقد زعموا أن أمه بشرت به في المنام وأن ولادته سبقتها معجزات وأن الإله حل فيه وأن حياته كلها أحيطت بالمعجزات, وأنه هو المنقذ المعزى والذي قدم نفسه فداء للخليفة من الخطايا وقد كثرت هذه الأوهام عند البوذيين الذين يسكنون في التبت في الشمال, أما أهل الجنوب وهم يبلغون نحو أربعمائة مليون فلم ترج كثيرا بينهم هذهالخرافات وتلك الأوهام. ومن الغريب أن الأوهام التي جعلها بوذيو التبت أوصافا لبوذا تتوافق مع ما ينحله المسيحيون على شخصية المسيح. (محمد أبو زهرة، ص54). وقد كانت كثرة هذه الأساطير والأخبار يعسر على العقل أن يصدقها من غير بينات قائمة, فكانت سببا في أن وجد من المؤرخين من يزعم أن بوذا شخصية خرافية لا وجود لها وأن البوذية ليست إلا مجموعة تعاليم انتحلت لها هذه الشخصية انتحالا. (محمد أبو زهرة، ص99). ويعتقد البوذيون أنه كان هناك على الأقل ستة أشخاص يسمون بوذا قبل جوتاما, بل يزعمون أن هناك بوذا آخر اسمه مايتريا سيظهر في المستقبل. (الموسوعة العربية العالمية، ص224). تقديس كونفوشيوس والأساطير حول شخصيتهوتجابهنا في سعينا لفهم كونفوشيوس صعوبات ضخمة تتبلور فيما أضفاه الصينيون على شخصيته من أساطير وحاكوه من أقاصيص ونسبوه إليه من روايات الأمر الذي يعرقل جهود الباحث لاجتلاء حقيقة هذه الشخصية الفذة واستكشاف أبعادها الواقعية. (د. فؤاد محمد شبل, ص63). وتضفي الروايات الصينية القديمة هالة من التقديس على شخصية كونفوشيوس حتى يكاد أن ينسب إليه تأليف جميع ما أنتجه الفكر الصيني في جميع عصوره, فهي تعزو إليه تأليف ما يعرف في الفلسفة الصينية (بالمراجع الستة) وتشمل كتب: التغيرات – الأناشيد –السجلات التاريخية – الطقوس – حوليات الربيع والخريف – الموسيقى. لكن أثبتت الدراسات العلمية أنه لم يؤلفها لكنه استخدمها في تثقيف مريديه وكان أول من استعان بها في تعليم جمهرة الناس. (د. فؤاد محمد شبل, ص67). ويروى أنه لما مات كونفوشيوس أقاموا له الهياكل وعبدوه على سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين, وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة رسمية أي حكومة على عهد أسرة (هان) في القرن الثاني قبلالميلاد, وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم, وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاةولم تزل عبادته قائمة إلى أوائل القرن العشرين فخصوه في سنة 1906 بمراسم الإله الأكبر (شانج تي) إله السماء لأنه في عرفهم (ند السماء) ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه وقد جعلوا يوم ميلاده عيدا قوميا يحجون فيه إلى مسقط رأسه. (د. عمارة نجيب، ص232تقديس زرادشت والأساطير حول شخصيتهتذهب الروايات إلى أن مولد زرادشت قد اقترن بالمعجزات، وأن الإله ظهر له ووضع (الأفستا) بين يديه, وهو كتاب مملوء بالمعرفة والحكمة وأمره بنشر تعاليمه بين الناس جميعا. (د.محمد أبو المحاسن عصفور, ص280). وقد وردت روايات كثيرة بظهور معجزات كثيرة على يديه وإبرائه لأمراض وعاهات يعجز الطب العادي عن شفائها: فمن ذلك شفاؤه لجواد الملك كشتاسب. ومن ذلك أيضاً أنه أعاد البصر إلى أعمى من بلدة الدينور بأن وصف له حشيشة وطلب أن يعصر ماؤها في عينه فأبصر. (د. علي عبد الواحد وافي، ص132). وأخيرا، فقد لاحظنا مما سبق أن هناك تطابقا بين أحوال وأوضاع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، وبين الأنبياء الواردة قصصهم في القرآن، من ناحية طبيعة عدم ادعاء أحد منهم للألوهية، ومن ناحية أن تعاليمهم لم تأمر الأتباع بذلك، ومن ناحية دعوتهم للناس وإلزامهم باتباع تعاليمهم، ومن ناحية تكذيب أهل الترف والجاه والسلطان لهم ورفض دعوتهم، ومن ناحية اضطهادهم والتحرش بهم، ومن ناحية اضطرارهم إلى الهجرة من بلدانهم وقراهم إما خوفا من أعدائهم أو بحثا عن أتباع يتقبلون ما يدعوا إليه بعدما لم يجدوا من يتقبلهم في أوطانهم، ومن ناحية عزلتهم واعتكافهم في الفترة الأولى من حياتهم قبل دعوتهم الناس إلى ما لديهم من تعاليم، ومن ناحية اعتراف كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت بأن ما لديه من تعاليم جاءته من مصدر خارجي وليس من عند نفسه، وقد يقول قائل، ولكن إن كلا من بوذا وكونفوشيوس لم تتطرق تعاليمهما للألوهية أو العقائد أو ما بعد الموت أو الثواب أو العقاب، أقولإن بوذا وكونفوشيوس قد تطرقت تعاليمهم بشكل مؤكد لهذه المسائل، وسوف أعرض لها عند حديثي عن العقائد الإلهية للديانات الشرقية.
(
وللحديث بقية في الجزء الثانيالكتب والرسالات الإلهية)
قائمة بالمراجع:
1 - 
الموسوعة العربية العالمية, مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع, المملكة العربية السعودية, 1996.
2 – 
د. محمد أبو المحاسن عصفور, معالم حضارات الشرق الأدنى القديم, دار النهضة العربية , بيروت 1987.
3 - 
د. عمارة نجيب, الإنسان في ظل الأديانالمعتقدات والأديان القديمة, المكتبة التوفيقية، القاهرة 1977.
4 - 
د. أحمد شلبي, مقارنة الأديان, أديان الهند الكبرى, الهندوسية – الجينية – البوذية, الطبعة الخامسة, مكتبة النهضة المصرية 1979.
5 - 
محمد أبو زهرة، مقارنات بين الأديان "الديانات القديمة"، دار الفكر العربي، القاهرة.
6 - 
د. مانوراما موداكالهند-شعبها وأرضها, ترجمة: العميد محمد عبد الفتاح إبراهيم, مراجعة وتقديمالدكتور عز الدين فريد, مكتبة النهضة العربية, القاهرة 1964.
7 - 
د. فؤاد محمد شبل, حكمة الصين: دراسة تحليلية لمعالم الفكر الصيني منذ أقدم العصور, الجزء الأولدار المعارف بمصر.
8 - 
د. علي عبد 

الأربعاء، 16 أكتوبر 2013

حاتم محمد-اللغة المصرية بين "المسيحية" والإسلام

 

يدندن الكثير من "المسيحيين" بأن هناك لغة مختلفة كان المصريون يتحدثون بها قبل الفتح الإسلامي لمصر، وقالوا: إنها اللغة القبطية، وإنها كانت سائدة في مصر القديمة.

ويقولون أيضًا: "إن هذه اللغة ما زالت تُستخدم حتى الآن في بعض الكنائس "المسيحية" .

   وادَّعوا أن شعب مصر إنما تحول بأكمله في جميع المدن والقرى للتحدث باللغة العربية بدلاً عن القبطية؛ نتيجة للاضطهاد الذي مُورِس بطرق شتى، ما أدَّى لاندثار تلك اللغة القبطية.

 

   وهو أمر في منتهى الغرابة؛ إذ أن "المسيحية" التي دخلت مصر بعد منتصف القرن الأول الميلادي لم تكتب إنجيلاً واحدًا معترفًا به باللغة القبطية.
 
   ومن الجدير بالذكر، أن القديس مرقص، وهو كاتب الإنجيل الثاني، وهو الذي بشَّر بـ "المسيحية" في مصر، وأنشأ بها كنيسة في الإسكندرية ومدرسة للاهوت، لم يكتب إنجيله بالقبطية، وإنما كتبه باليونانية، هذا مع ما يذكر من أنه ألفه في مصر على وجه الاحتمال؛ إما في بابليون وإما في الإسكندرية.

   وعلى أي حال، فلا تعرف ترجمة  لهذا الإنجيل ولا لغيره من الأناجيل للغة القبطية، بالرغم من انتشار "المسيحية" بمصر على مدار ستة قرون على حد أقوالهم ودعاويهم العريضة.

   حتى أن ما تم اكتشافه مؤخرًا من بعض الترجمات باللغة القبطية فيما عُرف بمخطوطات نجع حمادي، إنما هي تصنف لدى "المسيحيين" اليوم ضمن الكتب المحرفة ـ غير معترف بها ـ ويطلقون عليها (الأبوكريفا).

 

   وينسبونها إلي الفرق الغنوصية، وهي فرقة كانت تنكر صلب المسيح وقصة خيانة يهوذا له، فيا ترى أية "مسيحية" كان يؤمن بها الشعب المصري القبطي؟!
بل إن الباحث في أسماء آباء الكنيسة المصرية يجد أغلبيتها أسماء يونانية فمثلاً ( كرنذوس، أوريجينوس، ألكسندروس، ديمتريوس، ......إلخ).

 

   وهذا يدل على أن المؤمنين بـ "المسيحية" لم يكن أغلبهم من المصريين، وإلا فأين الأسماء المصرية التي برعت في الخدمة لما لا نجد لها كبير ذكر؟!!

 

   أو أن المصريين كانوا على مذهب "مسيحي" خلاف المذهب التثليثي لـ"المسيحيين" الرومان، مع إنكارهم للصلب، كما تدل عليه مكتبة نجع حمادي؛ فلذا كانوا خاملي الذكر؛ نتيجة أن الجاليات الرومانية كانت أعلى شأنًا من عامة الشعب المصري، بالرغم من انتساب الفريقين لـ"لمسيحية".

وإما أن أسماء الشعب المصري قد صارت يونانية، وتلك هي قمة الذوبان للهوية وبخاصة الهوية اللغوية.

فأين تلك اللغة التي تم اضطهادها؟ فهل يقصدون اليونانية؟!!

 

 حقيقة اللغة المصرية

 

   اللغة: هي مجموعة النغمات الصوتية التي يتلفظ بها قوم ما للتعبير عن أغراضهم المختلفة، ولا يُعرف بشر قد خلو من لغة ما للتعارف فيما بينهم. وما يدل على تلك النغمات الصوتية من خطوط هي اللغة المكتوبة.
ومن المعروف أن اللغة المصرية القديمة كانت تكتب بطريقة تصورية لا أبجدية.

   وكانت تكتب بثلاث صور هي: الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية، أو أن هذه الهيئات هي أدوار ثلاثة لكتابة اللغة في مراحل مختلفة.

 

   وأما اتجاه الكتابة فكان من اليمين للشمال، وإن سلمنا لنظرية شمبليون فإنها كانت تكتب من اليمين للشمال والعكس من الشمال لليمين ومن أعلى لأسفل.

 

حقيقة اللغة القبطية

 

أما ما يسمى باللغة القبطية فتكتب بالأبجدية اليونانية، وتكتب من الشمال لليمين فقط.

   وهي في حقيقة الأمر كانت محاولة من الرومان لكتابة اللهجة المصرية ـ النغمات الصوتية المصرية ـ بأبجديتهم اليونانية؛ لزيادة التقريب بينهم وبين المصريين.

 

   ولما كانت الأبجدية اليونانية لا تملك التعبير عن جميع النغمات الصوتية المصرية استعاروا بعض الحروف من اللغة المصرية.

   وبالرغم من ذلك، فقد ظلت بعض النغمات المصرية لا يوجد ما يعبر عنها في اللغة الجديدة، كالنغمات التي تخرج من وسط الحلق؛ فكلمة مثل "محب" وهو لفظ مصري قديم، مازال الكثير من "المسيحيين" يسمون به أبنائهم، لو كتب بالقبطية ثم تم النطق به لصارت صوت الحاء فيه هاء، وقِسْ على ذلك كلمات (حابي، حورس، واح وتعني واحة ،.....إلخ). فالقبطية لم تكن في بداية نشأتها لغة، ولكنها خط أو كتابة استخدمت للتعبير عن النغمات الصوتية المصرية.

 

   يذكر الدكتور بولس عياد، الأستاذ في قسم دراسة المجتمعات البشرية بجامعة كلورادو: أن اللغة القبطية كانت نَسْخًا مختزلاً للهجتين رئيستين من لهجات الشعب المصري القديم مكتوبًا بالأبجدية اليونانية.

 

   وكان أشد ما في الأمر، أن الوليد الجديد لم يعجز عن التعبير عن اللغة المصرية وحسب، بل فرض فيها كلماته اليونانية واصطلاحاتها.

   يقول أنطوان ذكري، في كتابه مفتـاح اللغـة المصريـة القديمـة (ص124) : "اندمج كثير من الكلمات اليونانية في اللغة القبطية؛ لأن أغلب الكتب القبطية ترجمت من اليونانية، فكان من السهل عليهم نقل الكلمـات اليونانية إلى لغتهم، كما سهل عليهم في بدء الأمر نقل الأبجدية اليونانية، ولم يجد الأقباط في لغتهم الأصلية كثيرًا من الاصطلاحات للتعبير بها عن الأفكار الجديدة التي أدخلتها "المسيحية" في عقائدهم. وكانت اللغة اليونانية منتشرة انتشارًا كبيرًا في أرض مصر في بداية ظهور الديانة "المسيحية" . ويعبر الأقباط للآن في بعض طقوسهم الدينية باللغة اليونانية".

 

وبذلك أضحت اللغة القبطية خليط من اللغة اليونانية المتداولة بين الجالية اليونانية في مصر وبعض المصريين المختلطين بهم.
 
   ويقول المؤرخ الأثري، جونسون في كتابه (النظام المنطوق للغة الديموطيقية): "لم تكن اللغة القبطية نقلاً أو نَسخًا للكتابات الديموطيقية بأبجدية يونانية، ولكنها كانت نسخًا مختزلاً لبعض ما ينطقه المصريون من لهجات مختلفة تأثرت كثيرًا بلهجات ولغات أجنبية، انتقلت إليهم عبر التاريخ الاستعماري الطويل ونتيجة لاختلاطهم المتكرر بموجات الهجرة السامية المختلفة".

 

   يؤكد ذلك ما ذكره المؤرخ سليم حسن في موسوعة مصر القديمة (1/126) أن: الأب النصراني اليسوعي "كرشر" عندما ظن في أواسط القرن السابع عشر أن اللغة القبطية التي تستعمل في ممارسة طقوس كنيسة مصر الأرثوذكسية، هي لغة تحفظ في ثناياها اللغة المصرية القديمة ولكنها تُكتب بحروف يونانية، وأخذ يقوم ـ بناءً على هذا الظن ـ ببحوث علمية في هذه اللغة، محاولاً أن يرجع بها إلى اللغة المصرية القديمة فلم يفلح قط!  بل وتساءل عن اللغة المصرية القديمة: هل هي حروف أو أصوات أو معان؟ وكيف يمكن قراءتها؟

 

النشأة والأسباب

 

   نستطع أن نجزم بأن الخط اليوناني المستخدم في كتابة اللغة المصرية والمسمى باللغة القبطية، لم يكن له وجود حتى عام 196 قبل الميلاد يدل على ذلك أن حجر رشيد، الذي كتب في ذلك الزمن نقشت عليه النصوص بالخط الهيروغليفي والديموطيقي واليوناني.

 

   فلو كانت تلك اللغة موجودة لظهرت في ذلك الحجر، بل لما كانت هناك حاجة للكتابة بالخط الهيروغليفي والديموطيقي.
 
   ويذهب أنطوان ذكري في كتابه (مفتـاح اللغـة المصريـة القديمـة) إلى أن ظهور القبطية كان في عام 389 م، لما حرَّم الإمبراطور ثيودوس الديانة المصرية الوثنية وأمر بغلق الهياكل.

 

   إلا أننا نرى أن نشأة ذلك الخط كان مبكرًا عن ذلك بكثير، وربما كان في بدايات القرن الأول الميلادي، يرشد إلى ذلك أن مخطوطات نجع حمادي التي تسخر من قصة الصلب، كتبت بما اصطلح عليه بالخط القبطي ويرجح أنها دونت في وقت أقرب إلى وقت المسيح من الكتابات الأخرى.


 
وإن كانت أقوال "المسيحيين" تُشير إلى أن نشأة الخط القبطي بدأت في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث. فيقولون: "إن بنتينوس ـ وهو من أوائل من أداروا مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وقد تولاها عام 181م ـ عندما شعر بحاجة عامة للأقباط  والكنيسة إلى ترجمة الكتاب المقدس من اللغة العبرية واليونانية إلى لغة المصريين، حتى يتداوله الأقباط في الكنائس والمنازل، وجد أنها لا تصلح لترجمة الكتاب المقدس؛ لأنها كانت خليط من الهيروغليفية والديموطيقية.

 

   فأدخل بنتينوس الأبجدية القبطية، مستخدمًا الحروف اليونانية، مضيفًا إليها سبعة حروف من اللهجة الديموطيقية القديمة، وبهذا أمكن ترجمة الكتاب المقدس إلى القبطية تحت إشرافه".
(راجع آباء مدرسة الإسكندرية الأولون للقمص تادرس يعقوب ملطي: ص 47 وما بعدها)

 

   فهذه إذن، وجهة نظر بنتينوس الصقلي أن لغة المصريين الذين صنعوا الحضارة وهم أصلها ومنشأها ليست أهلاً لحمل الكتاب المقدس.

 

   وإضافة إلى ذلك، فإن بنتينوس وآباء الإسكندرية الذين كانوا في عصره كـ(أكليمنضس)؛ إما لم يكن لديهم علم بإنجيل المصريين وغيره من الكتب المدونة بالقبطية، والتي وُجدت في مكتبة نجع حمادي، وإمَّا أنهم أرادوا التبشير بين المصريين بمذهب "مسيحي" يثبت الصلب والتثليث، خلافًا لما كان عليه عامة "المسيحيين" المصريين من إنكارهما، كما تدل عليه تلك المكتبة، وكما يدل عليه ما عرف من حال المصريين في القرن الرابع الميلادي، ووقوفهم بجانب أريوس في مواجهة أثناسيوس بعد أن رفع عنهم نير الاضطهاد.

 

وعلى أي حال، كان الأمر فهو يكشف عن مدى الانفصام الذي كان بين الشعب المصري وآباء الإسكندرية اليونان.

   وعمومًا.. فما سبق يدل على أن اللغة القبطية ـ أو بالأصح الخط القبطي ـ ظهر بين الشعب المصري كلغة دينية طائفية، لم يكن يهتم بها أحد من المصريين إلا معتنقي "المسيحية"، بغض النظر عن مذهبهم، ولم تكن لغة قومية شعبية.

 

يقول الدكتور بولس عياد: "إن اللغة القبطية لم تُصنع لتكون لغة واحدة منطوقة للشعب المصري القديم".

وظل الأمر على تلك الصورة حتى تولى الإمبراطور ثيودوس، الذي تعامل بالعنف مع كل شيء، ومنها مصر.

 

   يقول أنطون ذكري، ص 120: "في سنة 389 م حرم الإمبراطور ثيودوس الديانة المصرية الوثنية وغلقت الهياكل تنفيذًا لأمره وأصبحت الديانة  الأرثوذكسية هي الديانة الرسمية للحكومة، وبذلك بطلت نهائيًّا الكتابة الهيروغليفية و الديموطيقية، واقتبسوا الحروف الهجائية اليونانية وأضافوا لها سبعة حروف من اللغة المصرية بالخط الديموطيقي؛ لعدم وجود ما يماثلها لفظيًّا في الأبجدية اليونانية".

 

   وهكذا حُوِّلت المعابد المصرية بالقوة إلى أديرة وكنائس "مسيحية"، وتمَّ إبطال الكتابة بالخط المصري القديم، فانتشرت الأمية بين المصريين قراءة وكتابة كالوباء.

 

   فاللغة الرسمية في دواوين الدولة اليونانية نطقًا وكتابة، واللغة الدينية المسموح بها خليط من المصرية واليونانية نطقًا وكتابة، بالأبجدية اليونانية.

 

   وإذا أضفنا لما سبق، ما تم أيضًا من تغيير لأسماء المدن، فمثلاً نجد اسم بانوبوليس بدلاً من أخميم، وهيراكليوبوليس بدلاً من أهناسيا، وهرموبوليس بدلاً من الأشمونين.

 

   يتبن لك مدى ما تعرضت له شخصية مصر من عمليات صهر على مدار ألف عام (الفترة من 331 قبل الميلاد دخول الإسكندر المقدوني مصر وحتى 638 بعد الميلاد الفتح الإسلامي) لتذوب مصر في الهوية الرومانية.

 

   ويتبن لك الحالة التي كانت عليها مصر إبان الفتح الإسلامي، وكيف أن مدنها عادت لتحمل أسمائها القديمة أخميم وأشمون وغيرها في ظل الإسلام، ولم يفكر المسلمون في فرض أسماء خاصة بهم مع القدرة على فعل ذلك.


 
   كما أن المصريين مازالوا حتى يومهم هذا يتسمُّون بأسماء مصرية قديمة كـ( محب ، عزيز ، أمجد ، مينا ،....... )وغيرها.

لماذا نرفض هويتنا؟!

 

   وبالرغم من ذلك أبَى "المسيحيون" إلا الذوبان في اليونان، فقد كانت القبطية الأولى مازالت تحمل بعض سمات اللهجة المصرية القديمة حتى جاء البابا كيرلس الرابع (1854 - 1856 م)، الذي يُسمَّى بـ"أبي الإصلاح" ليشكل لجنة برئاسة عريان باشا مفتاح لإحياء اللغة القبطية وضبط النطق، استرشادًا بالنطق اليوناني الحديث، فتم تغيير نطق الحروف القبطية حتى تتماشى مع النطق اليوناني للحروف؛ ما تسبب في تغيير نطق أغلب  الكلمات القبطية وظهور حروف لم تكن موجودة من قبل، مثل حرف الثاء و شبه اختفاء حروف كانت موجودة من قبل، مثل حرف الدال، حرف الدلتا ينطق دال في أسماء الأعلام فقط و هناك كلمات قليلة جدًّا ينطق بها حرف التاء دال، ماعدا ذلك لم يعد يوجد دال في اللغة القبطية، وقد دعيت هذه اللهجة بالبحيري، وهى المستخدمة الآن في الصلوات والألحان والتسابيح الكنسية، بخلاف اللهجات الفيومية والأخميمية.

 

   وأُطلق على طريقة النطق الجديدة اللفظ الحديث، وطريقة النطق الأصلية اللفظ القديم، وتم تدريس اللفظ الحديث في الإكليريكية، ومع مرور الوقت اختفى تقريبًا اللفظ الأصلي (القديم).

أحمد عبده ماهر-لا شريعة تُجيز بتر اليد عقوبةً للسرقة

خذ منها نسخة لأصدقائك حتى يتوقف فقه الضلال والغلظة باسم الإسلام 

بالبداية فإني أود أن أذكر بأني متخصص في الفقه الإسلامي، والشريعة الإسلامية، لكني متخصص لا يتاجر بدينه ولا يتقاضى عنه مالا، فالتخصص دراسة وليس شهادة، والفقه يحتاج لإدراك قبل أن يحتاج إلى العلم، ومن غير المتصور أن يضيف إليك أي معهدا علميا إدراكا، لكنه يضيف علما، فالإدراك منّة من الله. ولنبدأ بدراسة حد السرقة وذلك فيما يلي:

يقول تعالى:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ }المائدة38.

لقد فسر الفقهاء والأئمة القطع على أنه بتر، وبتر اليد هو تطبيق فقهي لا ينتمي بحال لإدراك سوي، إنما هو إدراك شيطاني لمعاني ومرامي آيات كتاب الله، فلو أراد الله البتر لذكره، كما ذكره في سورة الكوثر قائلا:[ إن شانئك هو الأبتر ]، فالبتر يعني الفصل، لكن القطع يعني بقاء الأمر على حاله مع وجود حالة من التباعد، لكن كم ارتكب الفقهاء من جنايات بفهمهم الخاطئ على مر العصور. ولنبدأ بشرح الأمر.

فالقرءان يقول: [ تبت يدا أبي لهب وتب ] فدل هذا على أن الله يتكلم عن كلتا يدي أبي لهب، وليست يدا واحدة.

فحين يقول الله [ فاقطعوا أيديهما ] فإنه يتكلم عن كلتا يدي السارق، وكلتا يدي السارقة، يعني كل الأيادي وليست يدا واحدة لكل منهما، لأنه إن أراد يدا واحدة لكل من السارق والسارقة لقال فاقطعوا [ يديهما ]، لكن لأنه قال [ أيديهما ] فهو يعني 4 أيادٍ.

وحيث أن فقه الفقهاء أن يبتروا يدا واحدة لذلك فهم لا يطبقون النص القرءاني، كما لا يفوتني أن أذكر بأنه لا بتر ولا قطع بمعنى الجرح كعقوبة تعنيها تلك الآية.

لذلك فالأمر يعني أولا أن نكفّ أيديهما الأربعة [ للسارق والسارقة ] عن السرقة، وذلك بحبسهما أو تعليمهما حرفة، لأن القطع يعني المنع أو ما شابه ذلك,,,...

ودليل آخر يدل على أن القطع بمعنى المنع حيث يقول تعالى:

{ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }الرعد25؛

فهذا يعني منع وصل ما أمر الله به أن يوصل، لا أن يبتر ما أمر الله به أن يوصل، ولا إحداث جرح به.

ويقول تعالى:{ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ }الأنبياء93؛

يعني وتفرقوا أمرهم، فالقطع هو التفريق والمنع، بما يعني أن كل الدلائل القرءانية تؤكد أن القطع هو المنع والإبعاد، وليس البتر ولا الجرح.

أما أنهم يقولون بالبتر فهذا أيضا مخالف سواء أكانت يدا واحدة أو كلتا يدي السارق أو السارقة.

والتقطيع بتشديد حرف التاء... وكلمة [فقطّعن] بتشديد حرف الطاء، هو إحداث جرح قطعي بباطن اليد ، وذلك لقوله تعالى بسورة يوسف: [ فقطعن أيديهن ] فمعناها أن كل امرأة أحدثت جُرحا بيدها، ومن غير المستساغ أن نفهم أن النساء بترن أياديهن، كما أن هناك فرقا بين [قَطَعَ] و[قطّع] بتشديد حرف الطاء وهو ليس موضوعنا.

ومما هو جدير بالبيان أن القطع بمعنى الجرح أو البتر أو التفريق ورد بالقرءان بتشديد حرف الطاء في غالب أمره، ولم يرد أبدا بغير ذلك، لكن في آية حد السرقة ورد حرف الطاء غير مشدد، وللبيان تدبر الآيات التالية:

• [.......كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ }محمد15.
• {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ }الأعراف124.
• [.....فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }يوسف31.

وأنا لا أتناول المجاز بالقرءان، إنما أتناول حقيقة النص وحرفية المعنى
ولا يجب إقصاء أدلتي لنقول بالمجاز والحديث الفلاني قال كذا، لكن على العموم

أما المرأة المسماة [فاطمة] التي أمر بها سيدنا الرسول r لتقطع كانت قبل نزول سورة المائدة، وهي سورة مدنية، وكان النبي ينفذ شرع من قبلنا فيما لا يوجد نص عليه من القرءان، لأنه كما تعلم بأن القرءان نزل مُنَجّمًا أي على فترات ودفعاتفلم تكن سورة المائدة التي ورد بها القطع [يعني المنع] قد أنزلت بعد.

الأمر الثاني: ما العمل فيما إن تبين بعد البتر أن اللص بريء؟، من سيعيد إليه كفه المفصول؟، وماذا لو بترت يد عامل في مصنعه كيف سيبرئ نفسه من مظنَّة أنه سارق عند من لا يعرفه..

الأمر الثالث: لم يوقف سيدنا عمر حد السرقة [ السجن ]، كما زعم بذلك من زعم، إنما نفذ مقتضيات حد السرقة، لأنه لا يجوز تنفيذ الحد على جوعان محتاج ولا معتوه ...إلخ، كما أنه لا يحق لأحد وقف حد من حدود الله.

الأمر الرابع: إننا بعقوبة البتر نمنع اللص عن الصلاة بل عن التوبة، ونقيم محفلا لمضارين حوله، فمن ذا الذي سيتزوج ابنة اللص؟، ومن الذي سيقبل أن يعمل عنده ابن اللص؟، وغير ذلك من المضاعفات كثير.

الأمر الخامس: يقول تعالى بالآية التي تلي القطع مباشرة { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{39}؛

فكيف بالله سيتوب من تقطع يده ويتم تعرية شرفه بين الناس، 
وكيف سيكون وقتها الله غفور رحيم به، .....أين الرحمة فيمن تم الحكم عليه ببتر يده طوال فيظل عاجزا طوال حياته حتى وإن تاب، وقد يذهب بعض المجادلين بأنها مغفرة ورحمة بالآخرة، فلست أدري من أين جعلوها رحمة للآخرة فقط؟!.

ويتعلل القائلين بالبتر بأن الله تعالى قال: [جزاءا بما كسبا نكالا من الله] فهم يعنون أن التنكيل بالسارق وارد بالقرءان، لكن إن فهمنا أن كلمة [نكالا] وردت بعد فعل [كسبا] وليس بعد فعل [فاقطعوا] لعلمنا أن النكال يخص ما كسبه اللص نكالا عن أمر الشريعة التي وضعها الله، ولا يخص التنكيل بالسارق الذي ينتظر الله منه التوبة، فالله لا يُنَكِّل بعباده في الدنيا أبدا.

ويروي البخاري في صحيحه باب الحدود بالحديث رقم [ 6401 ] حدثنا عمر بن حفص ..... عن أبي هريرة عن النبي r قال: لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده.

بينما بشرح صحيح البخاري مدون الحديث التالي:[ ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع ] رواه الزبير عن جابر ورفعه وصرح بن جريج في رواية النسائي، ....فهل من اختلس مليون جنيه لا تبتر يده بينما من يسرق البيضة والحبل تبتر يده؟.

فهذان الحديثان أهديهما لكل الفقهاء الذين تخربت عقولهم من فقه الأقدمين، وهم يتخذون أحكاما من مدسوسات السُّنَة القولية. وهل يا ترى سنبتر اليد لسرقة بيضة أو حبل ولا نبتر يد مختلس، أتكون هذه سوية فكرية!؟.

ولا يقولن قائل بأن الاختلاس هو نوع من الحرابة فذلك قول من يتغذى بفقة الشياطين، أيمكن أن تصدقوا بأن رسولكم يتسامح في الاختلاس ويبتر لسرقة بيضة؟!، أيمكن أن نستخلص الأحكام مما تقولون عنه سُنّة نبوية قولية صحيحة بينما هي تحمل الأمر ونقيضه؟!؛ أو تحمل عدم توازن بين الأفعال والعقوبات.

ومن هو ذلك الصحابي الذي بترت يده بعد نزول سورة المائدة؟، أرى بأن البينة على من ادعى، أو تراهم يظنون بأنه حكم لم يتم تنفيذه في المسلمين. 

وقالوا بأن عمر بن الخطاب كان يبتر فهل لم يفهم أحدهم أن روايات الرسول رغم ما تم العناية بها وتنقيتها ومع ذلك لا زالت التنقية حتى تاريخه واسألوا تلامذة الشيخ الألباني [يرحمه الله]...فكيف بقصص عن زيد وعبيد عن عمر بن الخطاب؟......ألا يعقل أحد؟.

لذلك فمن كل الأوجه كلمة القطع لا تعني أبدا البتر، لذلك وجب تجديد الفقه وتعليم جهلاء القوم الذين يطالبون بتطبيق الشريعة وهم لا يفهمونها، وقد يكون ذلك الفهم مستساغا بعصور كانت المدارك العقلية أقل مما هي عليه الآن لذلك يجب أن نتعامل مع النص بعقل وإمكانية اليوم.

ولا يجوز الاحتجاج بكتب التراث التي ورد بها ذلك البتر المشوّه لدلالات آيات الله، إذ أن التراث لم يتعرض لأي غربلة كالتي تعرض لها الحديث النبوي، ومع ذلك لا نزال نجد بالحديث النبوي مدسوسات إلى يومنا هذا.

والبتر كان من شرائع اليهود، وتم نسخه بالقرءان على النحو الذي أسلفنا لكن فقه العصر القديم وقد ارتمى في أودية الهلاك مع المرويات ظنية الثبوت فقد خرج علينا بالبتر وألصقه بالإسلام، بينما الإسلام منه براء،

فلا بتر ولا حسم لليد المبتورة بالنار أو بوضعها بالزيت المغلي، فهذه كلها أمور كانت على عهد أمم قبلنا واختلط الأمر على فقهاء الأمة فتصوروها من الإسلام، دون أن يعلموا مناسبة الحديث النبوي ولا توقيته، وعما إن كان قد صدر عن نبينا قبل نزول سورة المائدة التي تقول بالمنع ولا تقول بالبتر أم بعدها.

وقد يتعجب المتعجبين من هذا التخريج الفقهي الذي أقول به لكنه تدبر كتاب الله الذي أهملناه واستبدلنا فقهه بمرويات ظنية قمنا بتشييد ديننا عليها.