لا يمكن الكلام عن فتح مصر، من دون الوقوف طويلاً أمام شخصية عمرو بن العاص الذى تحيَّر فى وصفه القدماء والمحدثون، وأورد عنه المؤرِّخون ما لا حصر له من أخبار، وأفرد له المؤلفون عدداً من الكتب التى لم تستطع -فيما أرى– أن تحيط بشخصيته الفريدة، المحيِّرة.. ولعل العبارة التى قالها ابنُ العاص فى مرض موته، تُلقى بعضاً من الضوء على تناقضات (الحيوات)، التى عاشها هذا الفاتح البديع، فقد أشار بعباراته إلى أنه مرَّ بمرحلة كان يكره فيها الإسلام ويحقد على النبىِّ، حتى يتمنى قتله لو يستطيع إلى ذلك سبيلاً، وفى مرحلةٍ تالية أسلم فصار فى قلبه حبٌّ عظيم للدين والنبىّ، لا يعدله حبٌّ مماثل.. وفى مرحلةٍ ثالثة دخل فى أمورٍ مدخولة الحق والباطل (حرب علىِّ بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان) فلم يعد يعرف خيرها من شرِّها، لكنه فى المجمل نادمٌ عليها.
لكن هناك مرحلة فى حياة عمرو بن العاص، أسبق من (الحيوات) الثلاث المذكورة، أعنى مرحلة الطفولة والشباب المبكر، وهى الفترة التى تشكلت فيها الملامحُ لشخصية عمرو بن العاص، الذى وصفه معاصروه واللاحقون به بأنه: داهية قريش، أمير الحرب، رجل العالم، أرطيون العرب.. وسوف نتوقف بعد حين، عند هذا الوصف الأخير.
بدأت حياة «عمرو» فى مكة، حيث كانت أمه تعيش فى كنف قريش بين الفقراء، كامرأةٍ من السبايا أو من المعدمين. وكانت تفتح بابها فيغشاها الرجال، ولما ولدته نسبته إلى «العاص بن وائل السهمى» فنشأ فى حضنه وتزوَّج فور بلوغه بابنة عمه «رائطة بنت الحجَّاج بن منبه السهمية» فقضت معه حياتها كلها، وأنجبت له ولده، الذى سماه «عمرو» باسم أبيه «العاص» غير أن النبىَّ غيَّره لاحقاً، وأعطاه الاسم الذى اشتُهر به: عبدالله بن عمرو بن العاص.. وكان الفارق فى السن بين «عمرو» وابنه «عبدالله» فى حدود الاثنتى عشرة سنة فقط!
وكان نبوغ «عمرو» فى مكة، مبكراً، فقد روت المصادر أنه كان صبياً يافعاً حين واجه بكلماته البليغة، رجالَ قريش الذين انتقدوا أباه «العاص بن وائل»، لاعتدائه على الحقوق المالية لواحدٍ من تجار اليمن، وهى الواقعة التى انتهت بتأسيس (حزب الفضول) الذى كان يقوم، من قبل الإسلام، بنُصرة المظلومين.
والغمَّازون اللمَّازون الكارهون لعمرو بن العاص، كثيراً ما يشيرون إلى أمه ظناً منهم أن ذلك يحطُّ من شأنه، لكنه فى واقع الأمر كان قد تجاوز هذه المسألة، منذ فترة مبكرة من حياته. بل كان لا يجد غضاضة فى الإشارة إليها، وهو ما يدل على ثقته الوفيرة بذاته، فعندما مات أخوه «هشام» بكاه بحرقة، وهو آنذاك أميرٌ على جيش المسلمين، فلامه على ذلك كبار قُوَّاده، فقال لهم ما معناه: كيف لا أبكى عليه، وقد كان أفضل منى، وأمه أفضل من أمى.. وفى واقعةٍ تالية، أيامَ كان أميراً لمصر، تراهن بعض الخبثاء مع رجلٍ على مبلغٍ من المال، إذا استطاع أن يسأل «عمرو» يوم الجمعة وهو على المنبر، عن أمِّه! فسأله الرجل، فقال له عمرو بن العاص ببساطةٍ وثقة ما فحواه: كانت امرأةً من فقراء قريش، اسمها كذا.. فاذهبْ وخُذْ من أصحابك المال الذى جعلوه لك.
ويتصل بما سبق، روايات أخرى لا تتعلق بقدرة «عمرو بن العاص» على تجاوز الوقائع القديمة التى لم يكن له يد فيها، فحسب، وإنما تدل أيضاً على قدرته الفائقة على ضبط النفس والثقة المفرطة بذاته. فقد كان أمير الجيش يوم نهر بعض جنوده ليقوموا إلى أعمالهم ويتركوا الطعام، فردَّ عليه أحدهم بقوله «مهلاً» فإنما نحن لحم وعظم، فقال له عمرو بن العاص «بل أنت كلب» فقال الجندى: فأنت أمير الكلاب.. فضحك ومضى عنهم! وكان قد انفعل يوماً حين سبَّه المغيرةُ بن شعبة، فشتم قبيلته قائلاً: «يا آل هصيص، أَيَسُبُّنى ابن شعبة» فقال له ابنه عبدالله: «إنا لله، دعوتَ بدعوى القبائل، وقد نهى النبىُّ عن ذلك».. فاعتذر عمرو، وكفَّر عن ذنبه بأن أعتق ثلاثين عبداً.
ومعروفٌ عن عمرو بن العاص، أنه ساعد معاوية بن أبى سفيان فى نزاعه مع الإمام علىّ بن أبى طالب، وحارب فى صفِّه وجعل له الأمر بالخدعة الشهيرة (التحكيم)، لكنه حين دخل على «معاوية» المجلس، فوجده يحكى من الوقائع ما يُعلى به من شأنه، ويحط من شأن الإمام علىِّ.. صاح فيه عمرو بن العاص: «يا معاوية أحرقت قلبى بقصصك، أترانا خالفنا عليّاً لفضلٍ منَّا عليه، لا والله، إنما هى الدنيا نتكالب عليها، فإما أن تقطع لى من دنياك، أو أنابذنَّك».. فأعطاه مصر!
ومع أن «عمرو» هو القائل، حين انتقدوه لأنه يركب بغلةً كبيرة السن وبائسة، وهو الأمير: لا أملُّ دابتى ما حملتنى، ولا أملُّ زوجتى ما أحسنتْ عشرتى، ولا أملُّ ثوبى ما وسعنى، فإن الملل من سيئ الأخلاق.. فإن «عمرو» ذاته هو القائل حين اجتمع بنو أمية عند كبيرهم «معاوية» ليعاقبوه على تفضيل عمرو بن العاص، فصاح فيهم: أما والله، ما أنا بالوانى ولا الفانى، وإنما أنا الحية الصماء التى لا يسلم سليمها ولا ينام كليمها، وأنا الذى إذا همزتُ كسرتُ، وإذا كويت أنضجت، فمن شاء فليشاور ومَنْ شاء فليؤامر.. وقد علمتم أننى أحسن بلاءً، وأعظم غناءً.
■ ■ ■
إذن، نحن بإزاء شخصية متعدِّدة الأنحاء، ومحيِّرة، لكن فضلها ثابتٌ بوقائع التاريخ وبصحيح الشهادات النبوية فى حق عمرو بن العاص.. فمن الوقائع الثابتة أنه قاد جيش المسلمين فى حياة النبى، عقب إسلامه، وكان تحت إمرته كبار الصحابة والشيخان أبوبكر وعمر، وقاد الجيوش التى فتحت بلاد الشام وشمال الجزيرة وفلسطين، فأظهر من الشجاعة والحكمة والمهارة ما يثير الإعجاب. وحين صال القائد العسكرى البيزنطى (الرومى) المسمَّى أرطيون، وتكتبه بعض المصادر العربية: أرطبون، وأعجز جيش المسلمين، شكا الناسُ أمرَه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، فقال: نضرب أرطيون الروم بأرطيون العرب.. واستدعى له «عمرو بن العاص» فذهب إليه على رأس جيش، وهزمه، واضطره للفرار بحفنة من جنوده إلى مصر.. ومن الشهادات النبوية فى حق عمرو بن العاص، الحديث: ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام (رواه الإمام أحمد والحاكم وابن سعد وابن عساكر) والحديث: أبوعبد الله عمرو بن العاص من صالحى قريش، نِعْمَ أهل البيت أبو عبدالله وأم عبدالله وعبدالله (أخرجه أحمد والترمذى) والحديث: أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص (قال الذهبى: حديثٌ حَسَنُ الإسناد).
■ ■ ■
وفيما يتعلق بفتح مصر، هناك حكاية ذات طابع (مسرحى) ترويها المصادر التاريخية الإسلامية، مفادها أن «عمرو بن العاص» ألح على الخليفة «عمر بن الخطاب» فى فتح مصر، فوافقه الخليفة متردداً، وقال له إنه سيرسل له برسالة يحسم فيها أمر الموافقة، فإن وصلته قبل دخول مصر فليرجع عنها، وإن وصلته بعد دخوله فلا يرجع! فلما جاء المرسال، تأخر «عمرو» عن مقابلته واستلام رسالة الخليفة، حتى وصل إلى العريش. فلما وجد الرسالة تقول له لا تدخل مصر، سأل من حوله هل نحن الآن فى مصر؟ فقالوا نعم، فقال: إذن نمضى على بركة الله..وما كانت الأمور تسير على هذا النحو المسرحى، وما كان للخليفة أن يأذن لعمرو بن العاص فى الخروج بالجيش فى الليلة ذاتها، على أساس (بيننا تليفونات)، وما كان المسلمون بغافلين عن خطورة فتح الشام والعراق مع بقاء مصر بيد هرقل، وما كان من الممكن للمسلمين التغافل عن لجوء «أرطيون» وفلول جيشه إلى مصر، واستعدادهم للكرِّ ثانيةً لو سنحت لهم الفرصة لجمع الشتات.. وما كان قواد المسلمين بغافلين عن الوضع المزرى لهرقل وجيوشه، وعن اضطراب الأحوال فى مصر بسبب صراع الكنائس هناك، وعن القوة العربية الهائلة الساكنة فى مصر! ولذلك كله، كان خروج عمرو بن العاص بالجيش إلى مصر، ضرورةً حتمية تعلو فوق هذه الروايات ذات الطابع المسرحىِّ، الهزلىّ.
وهناك رواية شهيرة، أكثر مسرحيةً وهزلية، تقول إن عمرو بن العاص فى شبابه، كان قد أنقذ بفلسطين راهباً كاد يهلك جوعاً، فأعطاه طعاماً وشراباً، وكاد يهلك من لدغة ثعبان، فقتله عمرو بن العاص بسهم! فأخذه الراهب إلى الإسكندرية، ليعطيه جائزة مالية مكافأةً على إنقاذ حياته مرتين.. وفى الإسكندرية، حضر «عمرو» احتفالاً فى (الاستاد) يرمون فيه بكُرةٍ على الناس، فمن وقعت فى حجره يكون بعد حينٍ ملكاً لمصر! فوقعت فى حِجر «عمرو بن العاص» فاستهان الناس بالأمر، لكنهم بعد سنوات وجدوا النبوءة قد تحققت وصار «عمرو» حاكماً لمصر.
وبالطبع، فهذه الرواية الهزلية تصل من السذاجة إلى الحدِّ الذى لا يجوز معه مناقشتها. لا سيما أنه لم يكن من المعروف أن مثل هذه (اللعبة) موجودة آنذاك، وليس معروفاً عن الرهبان ارتياد الملاعب، ولم يكن للعرب من أمثال «عمرو» هذه السذاجة، التى تدعوه للسفر شهوراً كى يأخذ جائزةً مالية من راهب (ومتى كان الرهبان يملكون أموالاً؟!).. فلنترك مثل هذه القصص البلهاء جانباً، وننظر بشىءٍ من الجدية إلى دخول عمرو بن العاص إلى مصر، على رأس جيشٍ خرج من الشام وعدده ثلاثة آلاف وخمسائة، وقيل بل أربعة آلاف ، كلُّهم من قبيلة «عك» اليمنية. ولنجعل الأمر ملخَّصاً فى النقاط التالية:
أولاً: كان المسلمون قد عقدوا اتفاقاً قبل سنوات مع المقوقس، أبرمه «حاطب بن أبى بلتعة» فى خلافة أبى بكر الصديق. فلما لجأ «أرطيون» إلى مصر، وفيها من جند الروم عشرات الآلاف، صار (العهد) السابق قد انتُقض من جهة المقوقس باستقباله أرطيون، أو بعدم قدرته على طرده من البلاد.. ومادام الأمر كذلك، كان لا بد للعرب المسلمين من تعقُّب أرطيون، خشية أن يرتدَّ عليهم وقد ازداد قوةً، خاصة أن الأسطول البيزنطى كان يرابض بشواطئ الإسكندرية، وكان من الممكن أن يعود فيضرب سواحل الشام التى لم تكن آنذاك قد استقرت تماماً بأيدى المسلمين.
ثانياً: نقل لنا المقريزى، وهو من المؤرِّخين الكبار المتأخرين (تُوفى سنة ٨٤٥ هجرية) أن الخليفة «عمر» كتب إلى «عمرو» رسالةً بعد فتح الشام، يقول فيها لعمرو بن العاص: «اندبْ الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خفَّ معك، فِسرْ به»، وبعث الخليفة بالرسالة مع (شريك بن عبدة) فندبهم عمرو، فأسرعوا إلى الخروج معه.
إذن كان العربُ الساكنون قبل عقودٍ بمصر ينضمون لجيش «عمرو» تباعاً، خاصةً قبائل لخم وراشدة والأنباط وسكان سيناء من البدو، فيتزايد مع سير الجيش عدده، بحيث يمكن أن ينتصر العرب المسلمون على الروم فى أول موقعة عسكرية (الفرما = بيلوز= البرمون) ويأسرون منهم ثلاثة آلاف جندى، يرسلهم عمرو بن العاص كأسرى للمدينة (يثرب) فيردُّهم الخليفة «لعهدٍ كان قد سبق لهم»، هو العهد المبرم بين حاطب بن أبى بلتعة والمقوقس، ولم يكن لجند الروم المتحصِّنين فى الفرما (بلدة قريبة من بورسعيد الحالية) ذنب فى انتقاض هذا العهد.. ومن جهةٍ أخرى، يمكن أن نفهم فى ضوء ما سبق، قول المؤرخ المبكر «ابن عبدالحكم» أن عمرو بن العاص خرج بالجيش إلى مصر: فنقض الصلح وفتحها.
ثالثاً: لا يجب أن يغيب عن أذهاننا، خيانة المقوقس لهرقل بعد (العهد)، الذى أبرمه سراً مع المسلمين، ولم تُشِرْ إليه أى وثائق أو مدوَّنات تاريخية بيزنطية. وهو ما يفسر أشياء كثيرة جرت فى ابتداء الأمر، منها أن جيش «عمرو» وجد حدود مصر (العريش) خاليةً من جند الروم، وهو ما لا يستقيم مع حالة الاستنفار المفترضة فى بلدٍ يخضع للإمبراطورية البيزنطية، التى تحارب المسلمين فى الشام.. ومنها المفاوضات الهزلية التى قام بها المقوقس مع المسلمين أثناء حصار القصر (حصن بابليون)، الذى يسمِّيه بعض مؤرِّخينا القدامى: باب إليون. والمفاوضات التالية التى قام بها المقوقس مع عمرو، أيام فتح الإسكندرية، بعد وفاة هرقل حسيراً آسفاً على تداعِى أركان إمبراطوريته. فكان من مطالب المقوقس التى وافق عليها (عمرو) أن يبقى المقوقس فى الإسكندرية، وأن يُدفن بعد وفاته فى كنيسة يوحنا، التى تسمِّيها المصادر العربية المبكرة: كنيسة أبى يُحنَّس.. فقد كان المقوقس قبل سنوات يسعى إلى امتلاك الحكم الدنيوى، فصار بعد حينٍ يفكر فى ختام حياته، وفى القبر الذى يستر جسده ومخازيه.
رابعاً: كان عمرو بن العاص يسير بجيشه فى حواف الدلتا، وفى الجانب الشرقى من مصر، على هدى الأدلاء من العرب العارفين بتلك النواحى. فلما عبر النيل فى موسم التحاريق، حيث ينكشف قاع النهر، سار بجيشه على غير هدى حتى وصل الفيوم فى رحلةٍ ليس تحتها طائل، فوجد هناك قتالاً يدور بين الروم أنفسهم، فعاد وحاصر القصر بعد حين.. فلما اجتمع حوله أشتات العرب (المصريون) وجاءه مددٌ قوامه أربعة آلاف جندى مسلم من خيرة المقاتلين (فيهم: الزبير بن العوام، المقداد بن الأسود، عبادة بن الصامت، مسلمة بن مخلد) استطاع الاستيلاء على الحصن، واتجه إلى الإسكندرية عاصمة البلاد التى لا يستقيم (الفتح) إلا بدخولها، فوقف عند أسوارها الشرقية، حتى تداعى قلب المدينة واضطربت أحوال الناس فيها، فدخلها، ثم ثارت على المسلمين بعد حين، حين أتاها المددُ من بيزنطة.. فعاد إليها «عمرو» بن العاص وفتحها ثانيةً، وهرب الرومُ من أمامه بسفنهم.
خامساً: كان مجىء «عمرو» بن العاص بجيشه إلى مصر، إنما هو فى واقع الأمر لتسلم حكم البلاد، وليس للفتح أو الغزو أو الحرب التى من غير المعقول أن ينهزم فيها عشرات الآلاف من جند الروم المتحصِّنين فى القلاع (عددهم ما بين أربعين ألفاً ومائة ألف) أمام جيش المسلمين، الذى كانت خسائره اثنين وعشرين رجلاً..
وإلى مقالة الأسبوع القادم، حيث نختتم هذه السباعية.