الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-فتح مصر ( بشاعةُ المقوقس) 7\4


عرفت مصرُ خلال تاريخها الطويل، ما لا حصر له من أنواع الحكام الذين تعاقبوا على عرشها بالتراضى، فى مراتٍ قليلة، أو خلعَ بعضُهم بعضاً وانتزع العرش فى معظم المرات. وفى تطوافه ببلادنا، مَرَّ التاريخُ على كثيرين من حكام السوء، وعلى بعض الجيِّدين!
فقد حَكَمَنا من قبلُ الإماءُ من النساء (الجوارى) مثل شجرة الدر، وحَكَمتنا الحرائرُ من الملكات البديعات من أمثال كليوباترا وحتشبسوت وزنوبيا (ملكة تدمر العربية التى امتد سلطانها شرقاً، حتى شمل الإسكندرية ودلتا النيل)..
وعرفنا من الحكام الرجال، عقلاء من أمثال المنصور قلاوون، ومهووسين من أمثال الظاهر بيبرس (وكلاهما لم يعرف الناسُ له أباً) وعرفنا مَنْ اشتهر عنهم الولع بالنساء، كالملك فاروق، وعرفنا العازفين عن الزواج وعن المرأة عموماً كالحاكم الشهير «كافور»، الذى كان خَصِيّاً..أو بتعبير عامى: مخصِيّاً.
لكن (العرش) فى بلادنا لم يشهد خلال تاريخه الطويل، فيما أعتقد، رجلاً أسوأ من «المقوقس» ولا أكثر منه بشاعةً ووضاعة.. ودعونا أولاً نتعرف معنى كلمة (مقوقس) لنحسم بذلك خلافاً، طالما اضطرب فيه المؤرِّخون وظنَّ فيه الباحثون الظنون، لأن أحداً منهم لم ينتبه إلى الآتى:
هناك طرقٌ مختلفة للنسبة، فى مختلف اللغات. ففى اللغة العربية، إذا أردنا أن ننسب شخصاً إلى بلدةٍ ما، أو إلى أىِّ شىءٍ آخر نريد أن ننسبه إليه. نأتى بالحرف المسمَّى (ياء النسبة) ونلحقه بآخر المنسوب إليه، فنقول مثلاً: فلان «القاهرىّ» وفلان «السكندرىّ= الإسكندرانىّ» وفلان «الدمشقىّ» أو «الحلبىّ» أو مثل ذلك .. وقد ننسب بهذه الياء إلى جماعة، فنقول: العباسىّ، القرشىّ، الأموىّ، العثمانىّ، أو مثل ذلك.. وقد ننسب بها إلى مذهبٍ فقهىٍّ أو عقائدى، فنقول: الحنبلىّ، الشافعىّ، المالكىّ، الشيعىّ، السنىّ، الإباضىّ.. إلخ.
وفى اللغة التركية، تلحق بالمنسوب إليه لفظةُ (جى) فإذا أرادوا نسبة الرجل إلى عربة (الكارو) قالوا: عربجى. وإذا كان مسؤولاً عن قلعة، فهو قلعجى. وإذا كان يعمل فى بيتٍ للدعارة، فهو كَرَخَانجى (قَرَا خان= المحل الأسود) وإذا كان هذا الشخص يقوم بالحملات ويُلقى البلاء على البسطاء، فهو حَمْلجى (حملة جى) وإذا كان يصنع الحلوى فهو حلوجى.. وقد ينسبون بإلحاق اللام والياء بآخر الكلمة، فيقولون: شربتلى (صانع الشراب) قوَّتلى، غُندقلى.. إلخ.
أما فى اللغة المصرية القديمة، التى تطورت كثيراً حتى وصلت إلى المرحلة التاريخية التى سبقت، وتزامنت، مع (دخول) المسلمين إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص. وهى اللغة المسماة اليوم، بشكل سبهللى غير دقيق: اللغة القبطية (بالمناسبة: سبهللة كلمةٌ عربيةٌ فصيحةٌ)..
فإن النسبة فى هذه اللغة تأتى على نحوٍ خاص، هو إلحاق لفظة «امْ» بأول الكلمة المنسوب إليها. ومن هنا، صار اسم هذا الرجل الذى وفد إلى مصر من الجهة المسماة بالعربية «القوقاز» وهى الجهة التى يُنطق اسمها باليونانية واللاتينية «قَوْقس» صار اسمه فى اللغة الدارجة بمصر آنذاك (امِّقوْقس) ونطقه العرب (المقوقس) أى القوقازى..
ومن لهجات العرب خصوصاً أهل اليمن، التعريف بالألف والميم بدلاً من الألف واللام، وقد خاطب النبىُّ جماعةً من أهل حِمْـيَر، وفدوا عليه وهم صائمون أثناء سفرهم قائلاً: ليس من امْبرِّ امْصيام فى امْسفر (= ليس من البر الصيام فى السفر).. وهو حديثٌ نبوى صحيحٌ.
إذن، المقوقسُ هو النطق العربىُّ للكلمة المصرية القديمة (تجاوزاً: القبطية) التى شاعت فى زمن الدخول الإسلامى مصر، كلقبٍ أو نسبة لهذا الأسقف/ الحاكم الذى هو فى الأصل من بلدة «فاسيس» بالقوقاز. واسمه الأصلى «كيرس» أو «قيُرس» أو «سيروس» وهو اسم كان شائعاً فى العالم المسيحى فى ذاك الزمان.. فما الذى جاء بهذا الرجل ليحكم مصر؟ القصةُ طويلةٌ، ولسوف نوجزها فيما يلى بقدر المستطاع.
■ ■ ■
ما كاد الحكم فى مصر والشام يستقر بيد «هرقل» الذى انتزع عرش الروم من الإمبراطور البيزنطى فوكاس (سنة ٦١٠ ميلادية = سنة ١٣ قبل الهجرة) حتى اجتاح الفرسُ البلاد وانتزعوها من قبضته وسلطانه سنة ٦١٦ ميلادية، الموافقة لسنة ٧ قبل الهجرة. وهو الحدث الجلل الذى أشارت إليه الآيات الأولى من سورة الروم فى القرآن الكريم، حيث قالت (غُلبت الروم. فى أدنى الأرض).
وكان مما يؤلم المسيحيين آنذاك، بالإضافة إلى وقوعهم تحت سلطان الفرس (عَبَدَة النار= أصحاب الأفيال= البابيلون) أن هؤلاء الغزاة بعد استيلائهم على العاصمة الروحية للمسيحيين آنذاك، وهى مدينة إيلياء التى كانت تسمى قديماً «أوروشاليم» وصارت تسمى لاحقاً «القدس»، قاموا بانتزاع الخشبة المسماة فى المصطلح المسيحى القديم: صليب الصلبوت.. وهى قطعةٌ من الخشب، استخرجتها فى بداية القرن الرابع الميلادى من تحت التراب هيلانة، أمُّ الإمبراطور قسطنطين، وهى امرأةٌ قيل إنها كانت فى بداية أمرها تعمل ساقيةً فى ماخورٍ من مواخير مدينة «الرُّها» العراقية،
وهناك أنجبت طفلاً غير شرعى، لم يُعرف له أبٌ. غير أن هذا الطفل (قسطنطين) صار من بعد ذلك رجلاً عسكرياً ماهراً، استطاع أن يقضى على منافسيه من رفقاء السلاح، وأصبح إمبراطوراً. وأصبحت أمُّه بعون الرب «قديسة»، لأنها اكتشفت (الصليب) الذى صُلب عليه السيد المسيح فى اعتقاد أهل الديانة، وأقامت فوقه قُبة كنيسة القيامة التى صارت قبلةً للحج المسيحى، خلال القرون التالية.
ولما انتزع الفرسُ (صليب الصلبوت) انخلعت قلوب أهل الديانة على اختلاف مذاهبهم، وانفطرت حزناً. لكن الروم استطاعوا بقيادة قواد هرقل، أن ينتصروا على الفرس بعد قرابة تسع سنوات على احتلالهم لمصر والشام، وهو الأمر الذى كانت سورة الروم قد تنبَّأتْ به، فى قوله تعالى بعد الآيات السابقة (وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون).
ولما انتصر الروم، أعادوا قطعة الخشب (التى اختفت ثانيةً بعد ذلك بقرون) من عاصمة الفرس «المدائن» وعاد بها هرقل سنة ٦٢٨ ميلادية، إلى إيلياء (القدس= أورشليم) فى حفلٍ مهيبٍ أسال دموع الناس فى أنحاء دولة الروم (المسيحية) على اختلاف مذاهبهم.
واختلاف المذاهب، كان آنذاك سبباً فى اهتراء الدولة. فالمصريون المسيحيون قلوبهم شتى، فيهم الأرثوذكس الروم (الملكانيون) والأرثوذكس السريان (الشوام) والأرثوذكس اليعاقبة (أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة الجامعة بين الله والمسيح)..
وأما سكانُ العراق المسيحيون (أغلبهم من العرب) فكان معظمهم نساطرة، يتبعون هذه الكنيسة الكبيرة التى امتدت فى ذلك الزمان من أطراف الشام إلى قلب آسيا. وأما الشام المسيحى، فكانت مذاهبه العقائدية خليطاً من النسطورية والآريوسية والأرثوذكسية.. وحسبما سنذكر تفصيلاً فى مقالنا القادم، فقد كان لهذا التنازع المذهبى، أثرٌ هائل فى الأحداث الكبرى آنذاك، وفى السِّجال العسكرى بين الفرس والروم.
ولما استقر «صليب الصلبوت» فى مكانه السابق، اجتمع الأساقفةُ فى (أورشليم، إيليا، القدس) حول هرقل الذى سألهم عن مخرجٍ عقائدى، يحلُّ الإشكال القائم بين الكنائس فى مصر، حتى يضمن (مناخ الاستقرار) بالبلاد، فلا يتفرَّق الناسُ بسبب العقيدة، ويلجأ المغلوبون منهم إلى أعداء الدولة، مثلما فعل اليهود.. وبالمناسبة،
فقد أعقبت هذه الزيارة التاريخية لهرقل، مذبحةٌ هائلةٌ لليهود فى أنحاء الأرض، قُتل فيها عشرات الآلاف عقاباً لهم على مساعدتهم للفرس (حسبما قال الأساقفةُ لهرقل) .. وبالمناسبة، أيضاً، فإن رسالة النبى محمد (ص) أو بعثته إلى هرقل، كانت فى تلك الأثناء.
ولذلك انشغل هرقل عن الردِّ على الرسالة التى جاءته من قلب جزيرة العرب، وهو الموضع الذى لم يكن هرقل يهتم به (لكنه سوف يهتم به لاحقاً، وينهزم أمامه) وقد جرى هذا الاتصال الأول، فى حدود سنة ٧ هجرية، أو سنة ثمانية (٦٢٨ أو ٦٢٩ ميلادية) .
ولما استقر الرأىُ على ضرورة توحيد المذاهب المسيحية، اخترع الأساقفة لهرقل مذهباً تلفيقياً سموه (المونوثيلية) أى: مذهب الإرادة الواحدة لله. واقترحوا عليه تعميم المذهب الجديد فى مصر، فلا يختلف أهل الديانة فيما بينهم..
وكان هرقل، بالطبع، يشجِّع اتفاق رعاياه من أهل الديانة على مذهبٍ واحدٍ، فلا تثور بينهم المشكلات وترُاق بسبب العقيدة الدماء، وبالتالى يضمن الولاء من الجميع. خاصةً أنه كان يريد أن يرتاح بعد سنوات من الكفاح، ويسعد بزواجه من (مرتينا) ابنة أخته، وهى فتاة باهرة الجمال أراد خالها هرقل أن ينالها، فاعترض بعضُ الأساقفة ووافق البعض.. وبعد شدٍّ وجذب، تزوَّجها.
ولما كان من المعروف عن المصريين (اليعاقبة) عنادهم، فقد كان من المهم أن يُعهد بتعميم المذهب الجديد، إلى شخصٍ حازمٍ وقوىٍّ بإمكانه تحقيق هذا الأمر، وإلزام المصريين المسيحيين جميعاً، بمذهبٍ عقائدىٍّ واحد. فاقترح البعضُ على هرقل، أن يأتى من بلاد القوقاز (قَوْقس) بأسقف بلدة فاسيس، الواقعة حالياً بجمهورية جورجيا، ليكون لأول مرة (ولآخر مرة) فى تاريخ مصر: الحاكم الدينى والدنيوى، معاً..
وتمت صياغة المذهب (المونوثيلى) على عجل، وعلى عجلٍ استدعى هرقل الأسقف القوقازى، ودرس هذا الرجلُ المذهبَ (المخترَع) وذهب به إلى مصر ليخلف الأسقف جورجيوس بن مينا، الذى يسميه العرب (جريج بن مينا) وليكون أيضاً قائداً عاماً للجيش، وملكاً أو أميراً يحكم مصر لصالح هرقل. وكان وصول هذا الأسقف القوقازى (المقوقس) إلى الإسكندرية عاصمة مصر آنذاك، فى خريف سنة ٦٣١ ميلادية.
وهو الأمر الذى أكَّدته المصادر التاريخية (يمكن مراجعة هذه النقطة المهمة، فى كتاب «ألفريد بتلر» عن فتح مصر).
ولنلاحظ هنا، أن وفاة النبى محمد (ص) كانت فى ربيع سنة ٦٣٢ ميلادية، أى بعد شهورٍ من مجىء المقوقس.
وبالتالى، فلا صحة لما توهَّمه عديدٌ من القراء، الذين ظنوا أن هناك خطأ فى الأحداث التاريخية المذكورة عَرَضاً فى روايتى «النبطى»، خصوصاً فيما يتعلق بمجىء السيدة (مارية القبطية، أم المؤمنين).. فالخطأ التاريخى ليس فى الرواية، وإنما فى أذهاننا.
■ ■ ■
وحين وصل المقوقس إلى مصر، كان للمسيحيين المصريين (الملكانيين) كبيرٌ منهم اسمه الأنبا صفرونيوس، وللمسيحيين المصريين (اليعاقبة) كبيرٌ اسمه الأنبا بنيامين.. وعرض الأسقف/ الأمير «قيرس» الذى سماه المصريون «امِّقَوْقس» المذهب الجديد على الملكانيين، فارتمى صفرونيوس تحت أقدامه، ونزفت عيناه دماً (حسبما يقول ساويرس بن المقفع) وصرخ متألماً، راجياً من الأسقف المقوقس أن يصرف النظر عن هدفه ونيَّته إلزامَ الجميع بالمذهب الجديد.
فأهانه المقوقس، لكنه لم يستطع أن يبالغ فى إيذائه، لأن الملكانيين كانوا آنذاك هم «أصحاب البلد» وكان بأيديهم المال والاقتصاد والتبعية المباشرة لكنيسة العاصمة الإمبراطورية «بيزنطة».. أما الكبيرُ الآخر، الأنبا بنيامين، فإنه لم يذهب إلى المقوقس ليفاوضه، أو يرجوه، أو يتحداه، ساعياً للشهادة. وإنما هرب من الإسكندرية، بعدما أوصى أتباعه بأن يصمدوا.
وقد قبض المقوقس على (مينا) المسكين، الأخ الأصغر للأنبا بنيامين، أملاً فى أن يعود أخوه الأنبا الهارب، فيلزمه المقوقسُ بالمذهب الجديد المخترَع. لكن بنيامين لم يرجع إلى الإسكندرية، واختفى عن الأنظار فى الصعيد، فاكتوى أخوه المسكين (مينا) بنار المقوقس وأتباعه.
فقد تفننوا فى تعذيبه بدنياً، ثم علَّقه المقوقس من ذراعيه وأوقد حوله ناراً حامية أذابت شحم جسمه، ثم أخذه إلى مركب وعلَّق بقدميه أثقالاً، وعرض عليه أن يقبل المذهب الجديد، أو يُلقى به فى البحر.. وآثر «مينا» الموت، فأغرقوه فى البحر، فصار شهيد المذهب اليعقوبى!
وآثر بنيامين البقاء هارباً، ومختفياً، وظل كذلك طيلة الثلاث عشرة سنة التالية، حتى جاءه من قلب الصحراء، الفاتحُ البديع (عمرو بن العاص) فأعاده إلى الإسكندرية بعدما أعطاه (الأمان) الشهير، وأوكل إليه رعاية أهل مِلَّته. حسبما ذكرنا فى مقالةٍ سابقةٍ نشرناها هنا، ضمن سباعية «البرديات».
لم يهدأ المقوقس بعد مقتل مينا، وإنما قام بحسب ما روته المصادر المسيحية، بتهديد الناس وسَلْب الكنائس (اليعقوبية) وإحراقها، وجمع من هؤلاء الناس «اليعاقبة» عشرين ألف شخص فى ميدان بوكاليا بالإسكندرية (محطة الرمل، حالياً) وعرض عليهم المذهب الجديد، فرفضوا قبوله، لأن الأب بنيامين أوصاهم قبل هروبه، بالثبات على العقيدة القويمة، حتى لو دفعوا حياتهم ثمناً لها.. وقد دفعوا بالفعل حياتهم ثمناً لها، فقد قتلهم المقوقس جميعاً، وجرت دماؤهم فى شوارع الإسكندرية كالأنهار.. (راجع فى ذلك: تاريخ البطاركة، لساويرس بن المقفع) .
وتفنَّن المقوقس فى إيذاء الناس بمصر حتى يقبلوا مذهبه، وقام بفظائع يطول ذكرها. حتى إن القَسَّ البريطانى (والباحث المتميز) ألفريد بتلر، جعل فى كتابه عن «فتح مصر» فصلاً بعنوان: الاضطهاد الأعظم للمصريين على يد قيرس (المقوقس)..
فمن أراد معرفة تفاصيل ذلك، أو الاطلاع على المزيد من شناعة المقوقس وبشاعته، فليرجع إلى ذلك الفصل الدامى. وليرجع أيضاً مَنْ أراد ذلك، إلى ما كتبه ساويرس بن المقفع عن الأهوال التى فعلها المقوقس، وذلك فى كتابه الذى اشتهر بعنوان (تاريخ الآباء البطاركة) وإلى ما كتبه حنا النقيوسى الذى كان معاصراً لهذه الفترة، فى كتابه الذى فُقد أصله المكتوب باللغة المصرية، واكتُشف حديثاً نصُّه المترجم إلى اللغة الحبشية، ونُشرت مؤخراً ترجمته العربية تحت عنوان: تاريخ مصر.
■ ■ ■
ولم يفلح المقوقس (قيرس) فى تعميم المذهب. واكتسب عداوة وكراهية المصريين جميعاً، ملكانيين ويعاقبة. وكان هرقل قد انشغل عنه، وعن أمور مصر، بما كان غارقاً فيه من اهتراءٍ وتفسُّخٍ أُسَرِىّ، وصراعٍ بين الزوجات والأبناء والقُوَّاد.. حتى إن هرقل فكَّر فى الهروب من العاصمة، وجهز سفينة لتبحر به إلى ساحل أفريقية (تونس) ليقضى هناك بقية عمره الذى كان قد آل إلى خطِّ الزوال، بعيداً عن صراعات العرش.
فى الوقت ذاته، كان الإسلام ينتشر بقوة ويملأ جزيرة العرب ويهدِّد سلطان الروم والفرس، معاً، فى حوافِّ الشام والعراق. وكان للمسلمين طريقتهم الخاصة فى تسيير الأمور، وفى صدق النية، وفى الصبر على الحرب، وفى الحيلة.. وكان المسلمون فى زمن الخليفة أبى بكر الصديق، قد عاهدوا حاكم اليمن الذى كان تابعاً لدولة الفرس، على أن يكون تابعاً للمسلمين فلا يضطروا لقتاله، فى مقابل أن يتركه المسلمون يحكم البلاد حتى وفاته.
وكان أبو بكر الصديق أثناء خلافته (أى بعد وفاة النبى ـ ص) قد أرسل «حاطب بن أبى بلتعة» إلى المقوقس، فأبرم سراً عهداً مثل ذلك الذى أُبرم مع حاكم اليمن.. ولم يُعلن المقوقس هذا العهد، ولم تُشِر إليه المصادر الإسلامية بشكل واضح. لكننى أدركته من العبارات التى أشرت إليها فى مقالتى السابقة، أعنى تلك التى أوردها «ابن عبدالحكم» حين قال إن عمرو بن العاص ألحَّ على الخليفة عمر بن الخطاب، حتى وافق له على الخروج إلى مصر: «فنقض الصلح وفتحها»..
وقال ابنُ عبدالحكم فى موضعٍ آخر، إن الخليفة عمر (الفاروق) رَدَّ الأسرى المصريين الذين أرسلهم إليه عمرو بن العاص مقيدين بالسلاسل (عددهم ثلاثة آلاف) بعد أول صدامٍ عسكرى! ردَّهم الخليفة العادل: «لعهدٍ كان قد سبق لهم».
وهناك الكثير من تلك «الإشارات» المهمة التى ذكرتها المصادر التاريخية المبكرة، لكن المؤرِّخين لم يتوقفوا أمامها بما يليق بأهميتها، فظلت عالقةً فى فضاء الأوهام والخرافات المتعلقة بالدخول العربى/ الإسلامى لمصر، سواء اسميناه فتحاً أو غزواً.. غير أن إعادة تركيب الصورة فى أذهاننا، فى ضوء ما نطرحه من تصورات (لا تزعم لنفسها اليقين التام) من شأنه تبديد ما فى أذهاننا من توهُّمات، ومن شأنه تحديد صورة الماضى (والحاضر) على نحوٍ أكثر منطقيةً وعقلانية.
■ ■ ■
ولم تتوقف بشاعة المقوقس على الفعال والفظاعات الدموية التى اقترفها فى حق البسطاء من الناس، وفى حق الآباء الكبار، وعلى الوضاعة التى تصرَّف بها حين خرَّب الكنائس وسلب الأوانى المقدسة. ولم تتوقف بشاعته على مخالفته أوامر وتعاليم سيِّدِه المسيح، ليرضى سيده هرقل.. فقد زاد على ذلك كله، خيانته لسيده هرقل باتفاقه مع العرب المسلمين سراً، والدور الهزلى الذى لعبه عند حصار حصن بابليون. حتى إنه طلب من المسلمين مفاوضاً آخر غير عُبادة بن الصامت، لأنه وجد هذا الصحابى الجليل: طويلاً وأسود. فطلب مفاوضاً أفضل منظراً، وهو الطلب الذى رفضه عمرو بن العاص.
وبعد تسليم حصن بابليون للمسلمين، قام جند المقوقس (جيش الروم) بتقطيع أيادى عدة آلافٍ من الرجال المصريين، كانوا يعتقلونهم فى هذا الحصن/ المدينة، كى لا يساعدوا المسلمين فى بناء الجسور لاستكمال الفتح..
ولا أظن أن المقوقس هو الذى أمر بذلك، فقد كان آنذاك أضعف من أن يفعل، لكنه وافق على الأمر وأسرع بالهروب من مصر إلى بيزنطة، كى يقنع هرقل بتسليم البلاد إلى المسلمين.. وبالطبع، رفض هرقل وأهان المقوقس، فظل مهاناً إلى أن مات هرقل، فاستطاع المقوقس أن يقنع خلفاءه بالتسليم.
وعاد إلى مصر ليزفَّ لعمرو بن العاص خبر تسليم مصر، ويطلب منه فى المقابل أن يُبقيه فى الإسكندرية آمناً حتى وفاته. فوافق عمرو بن العاص، فقضى المقوقس بقية أيامه بالمدينة حتى مات بها .. ودُفن.. ولم يُعرف له من بعد ذلك قبرٌ، ولا قَدْر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق