الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-فتح مصر (رسالةُ النبىِّ إلى المقوقس)7\2


«وأما الأخبارُ التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبعُ فيها غالب الظنِّ، لا العلم المحقَّق».. تلك هى عبارة العلامة ابن النفيس (رئيس أطباء مصر، علاء الدين بن أبى الحرم القَرَشى، المتوفى سنة ٦٨٧ هجرية) التى يعبِّر فيها بوضوحٍ باهر عن حقيقةٍ بسيطة «وخطيرة» تقول إن الأحاديث النبوية والأخبار الشريفة وروايات السيرة، ليست تامة اليقين مهما بلغ علوُّ إسنادها وانتقالها من هذا الراوى إلى ذاك عن طريق ما يعرف باسم (العنعنة) حيث يُروى الحديث والخبر، عن فلان، عن فلان.. وقد أورد ابنُ النفيس، الذى كان من دون شكٍّ عبقرياً، عبارته السابقة فى واحدٍ من مؤلفاته القيمة التى قال عنها: «لو لم أعلم أن تصانيفى تبقى بعدى عشرة آلاف سنة، ما وضعتها..».
والعبارةُ المذكورةُ، تبدأ بها فقرةٌ مهمةٌ فى كتاب العلامة علاء الدين، الذى عنوانه (المختصر فى علم أصول الحديث) وهو الكتاب الذى نشرتُه مُحقَّقاً قبل عشرين عاماً، وأعيدَ طبعُه مؤخراً.. والفقرة، كاملةً، تقول: «وأما الأخبارُ التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبع فيها غالب الظنِّ لا العلم المحقق، خلافاً لقوم. وقال قومٌ (من العلماء) إن جميع ما اتفق عليه مسلم والبخارى، فهو مقطوعٌ به (بصحته) لأن العلماء اتفقوا على صحة هذين الكتابين. والحق أنه ليس كذلك! إذ الاتفاق إنما وقع على جواز العمل بما فيهما، وذلك لا ينافى أن يكون مظنوناً بصحته، فإن الله تعالى لم يكلِّفنا الوقوف عند العلم، ولذلك يجب الحكمُ بموجب البيِّنة، وإن كانت قد أفادت الظن..» .
وقد ينصدم البعضُ من هذه (الحقيقة) وقد يخفِّف من صدمتهم، أن الرأى الذى يقرِّره ابن النفيس يطابق ما قرَّره غيرُ واحدٍ من علماء الحديث النبوى فى تاريخ الإسلام، تعليقاً على ابن الصلاح (المتوفى سنة ٦٤٣ هجرية) الذى يقول فى كتابه «معرفة أنواع علم الحديث» الذى اشتهر عند الناس بعنوان (مقدمة ابن الصلاح) ما نصُّه: «وإذا انتهى الأمرُ فى معرفة الصحيح، إلى ما أخرجه الأئمة.. فهذا القسم (الذى اتفق عليه البخارى ومسلم) مقطوعٌ بصحته، والعلمُ اليقينى النظرى واقع به، خلافاً لقول مَنْ نفى ذلك، محتجاً بأنه لا يفيد إلا الظن..» وقد عَلَّق الحافظ العراقى، المحدِّث الشهير، على قول ابن الصلاح السابق، بما يلى: «إن ما ادَّعاه ابنُ الصلاح من أن ما أخرجه الشيخان (البخارى ومسلم) مقطوعٌ بصحته، قد سبقه إليه الحافظ محمد بن طاهر المقدسى وأبونصر بن يوسف، فقالا إنه مقطوعٌ به. وقد عاب الشيخ عزالدين بن عبدالسلام، على ابن الصلاح، هذا.. وقال الشيخ محيى الدين النووى فى كتابه (التقريب والتيسير): خالف ابنَ الصلاح المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر.. وقد اشتدَّ إنكارُ ابن برهان الإمام، على من قال بما قاله الشيخ (ابن الصلاح) وبالغ فى تغليظه».
                                  ■■■
أرجو من القارئ أن يصبر معى قليلاً.. ولسوف يعرف بعد قليل، أهمية الوقوف عند تلك المسألة.
                                  ■■■
إذن، هناك خلاف بين علماء الحديث النبوى، فى «يقينية» الأخبار والأحاديث الشريفة، مهما بلغت من صحة (السند) أو الرواية عن سابقٍ، عن سابق، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم.. لأن العنصر البشرى يتدخل فى السند والعنعنة، وما دام الأمر كذلك فإن (غالب الظن) لا (اليقين المطلق) هو الأساس الذى يقوم عليه هذا الحديث النبوى أو ذاك، حتى وإن كان قد ورد عند الإمامين البخارى ومسلم، وهو ما يسمى اصطلاحاًً الحديث: المتفق عليه.
ولأن الذين كتبوا تاريخنا الإسلامى كانوا فى الأغلب من المحدِّثين (علماء الحديث) وكانوا فى كثير من الأحيان يؤكدون الطريقة التى يروى بها أهل الحديث الأخبار والأقوال النبوية (السنن القولية، السنن الفعلية) فقد تبادر إلى الأذهان، مع مرور القرون ومع الميل الفطرى إلى تبجيل السابقين، أن الروايات التاريخية والأخبار المروية، لها ذات المصداقية التى لنصوص الأحاديث النبوية.. وكان بعض مشايخنا المعاصرين، مثل أستاذنا الدكتور بشَّار عوَّاد معروف (المحقق الشهير فى التاريخ وعلم الحديث النبوى) يقول بأنه يجب علينا تطبيق قواعد علم الحديث على علم التاريخ! بحيث نظفر بعد تمحيص وضبط السند والرواية، بالصحيح من وقائع التاريخ.. بمعنى أن ننظر مثلاً، فى رواة هذا الخبر التاريخى، وفى اتصالهم الفعلى من عدمه، وفى صحة السند والمتن (الرواية والدراية) أو غير ذلك مما يفعله أهل الحديث، ونطبِّق ذلك على ما يرويه المؤرخون من وقائع، وما يذكرونه من أحداث.
وقبل عامين، وبالتحديد فى منتصف صيف عام ٢٠٠٨، استضفتُ د. بشار عواد معروف ليكون محاضراً فى مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، ضمن برنامج (الباحث المقيم) الذى نُحيى فيه تقاليد مكتبة الإسكندرية القديمة، حيث كان حكام مصر (البطالمة) يستقدمون كبار علماء العالم، للإقامة فى الإسكندرية للتدريس والتفاعل مع زملائهم وطلابهم، من التخصصات كافة.
وخلال فترة إقامته البحثية، نوقشت فى محاضرةٍ مفتوحةٍ فكرة تطبيق قواعد الحديث الشريف على التاريخ، وقال د. بشار عواد معروف بالحرف الواحد: كنا ندعو لذلك، ولكن ظهر لنا أنه خطأ.. فالحديثُ الشريف يختلف عن التاريخ.
                                  ■■■
ورسالة النبى إلى المقوقس، وبقية الرسائل النبوية التى وضعنا هنا صورةً طبق الأصل منها، تقع فى المنطقة الوسطى بين الحديث الشريف والتاريخ. ولسوف نناقش صحة نصِّها ونسختها هذه، بعد قليل، بعد تأكيد ما ذكرناه من قول ابن النفيس فى بداية المقالة، أعنى أن هذه الرسائل سواء كانت تاريخاً أو حديثاً شريفاً، فإنما نتَّبع فيها غالب الظن، لا العلم المحقق! خاصةً أن نصَّها لم يرد أصلاً عند البخارى، ولا عند الإمام مسلم، وبالتالى فهى ليست مما يسمى اصطلاحاً: متفقٌ عليه.
ورد نص رسالة النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى المقوقس، عند عدة مؤرخين، منهم: القزوينى، والمقريزى، والسيوطى، والبيهقى، والقلقشندى (وغيرهم) وليس منهم مؤرخ واحد، عاش فى القرن الأول الهجرى، أو حتى الثانى.. بل إن جميع من كتبوا تاريخ الإسلام، بعامة، لا يرجع واحد منهم إلى هذين القرنين. بعبارة أخرى، بدأت كتابة «تاريخ الإسلام» فى القرن الثالث الهجرى، بعدما استقرت الأمور بأيدى الخلفاء العباسيين، وبالتالى فتاريخ الإسلام كتبه المنتصرون، المستقرون.. ومن عادة المنتصرين، المستقرين، إقرار البدايات التى انطلقوا منها، وتهميش ما قبلها! ولذلك، من العسير علينا أن نجد فى كتب التاريخ (الإسلامى) أخباراً مؤكدة من زمن «الجاهلية» بل إن هذه التسمية ذاتها (الجاهلية) تدل بشكل غير مباشر على الإلغاء الذى تمَّ قديماً، لكل ما هو قبل زمن الإسلام.
وحسبما ذكر محمد حميد الله، فى كتابه المهم (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة) فإن أصل رسالة النبى إلى المقوقس، وهو المنشورة هنا صورته، تم اكتشافه فى كنيسة قرب أخميم بصعيد مصر (محافظة سوهاج) وهى محفوظة اليوم فى متحف توبقابى سراى، باسطنبول.. أما الرسائل الثلاث الأخرى فقد تمَّ اكتشافها وحفظها فى أماكن أخرى، ولا يمكن الكلام على رسالة منها، من دون النظر إلى مجموع هذه الرسائل الأربعة.
والملاحظة الأولى التى تبدو لنا عند النظر فى الرسائل الأربع هى أنها تبدو من حيث الشكل مزوَّرة.. صحيحٌ أن سمات الخط الذى كُتبت به هذه الرسائل تعود إلى فترة مبكرة من تاريخ الإسلام، لكنه خطٌّ مختلف ما بين رسالة وأخرى. وقد يقول قائل، إن ذلك يرجع إلى اختلاف الكاتبين، لأن رسول الله لم يكتب الرسائل بيده. ولم يكن له كاتب واحد.. فإذا قبلنا هذه الحجة، قامت شكوكٌ أخرى لا توجد حجة لدفعها، منها أن (الختم النبوى) مختلف من رسالة إلى أخرى، والمفترض أن هذه الرسائل كُتبت جميعاً فى وقت واحد، والمفترض أن (الأختام) نبويةً كانت أم غير نبوية، لا يجوز أن تكون أكثر من ختم واحد، لخطورة وأهمية الختم فى الزمن القديم، بل فى كل زمان.. وإلا فهل يمكن أن نتخيل وجود أكثر من شكل، لما نسميه اليوم: ختم النسر؟ وهل يمكن قبول اختلافٍ فى استدارة إطاره أو هيئة حروفه؟
                                  ■■■
ومن حيث النصوص الواردة فى الرسائل الأربع، فإن فيها رسالتين يُخاطب فيهما المرسل إليه بصفته (كسرى، النجاشى) ورسالتين لشخص المرسل إليه (هرقل، المقوقس) ولكن الرسائل الأربع تصف المرسلة إليهم بصفة «العظيم» أى الحاكم أو الملك أو الإمبراطور.. فهرقل (عظيم الروم) وكسرى (عظيم فارس) والنجاشى (عظيم الحبشة) والمقوقس (عظيم مصر). مع أن المقوقس تابعٌ لهرقل، ومصر تابعة لبيزنطة، وليس للمقوقس أن يقطع بأمرٍ من دون الرجوع إلى هرقل، وليس يخفى على النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) مثل هذا الأمر، وقد عرفنا من سيرته ومن القرآن الكريم أنه كان يتابع ما يجرى على الساحة الدولية فى زمانه، وقد تعرضت سورة «الروم» لهزيمة الروم على يد الفرس، وتنبأت بأن الروم (جيش هرقل) سوف يعيدون الكرَّة، ويغلبون الفرس (جيش كسرى).. فكيف خوطب المقوقس باعتباره حاكماً مستقلاً، وهو غير مستقل؟
ورعايا العظماء الأربعة تصفهم الرسائل بأنهم: المجوس (الفرس) القبط (المصريون) الأرس (البيزنطيون– الروم) وهو أمرٌ غير دقيق تاريخياً، وهناك اختلاف حول دلالته. فالفرس لم يكونوا كلهم من المجوس، وكان حولهم مسيحيون كثيرون من كنيسةٍ عظيمة الاتساع فى العراق، هى الكنيسة النسطورية التى كان بعض أتباعها فى العراق يُعرفون باسم (العباديين) وكان رئيسهم الدينى يسمى الجاثليق، وهو ما يعادل فى الكنائس الأخرى ما يسمى الأسقف العام أو البطرك أو البابا (وهى تسمية معاصرة كانت تطلق فى البدء على أسقف روما، ثم صارت من بعد ذلك مشاعاً لكل الكنائس).
والرسالة إلى المقوقس تصف رعاياه بغير صفة الدين، فهم (القبط) أى المصريين، أيًّا كانت ديانتهم. بينما تخص رسالة هرقل رعاياه باسم (الأرس) التى رجَّح البعض أنها تعنى أتباع «آريوس» وبالتالى، فهم مذهب معين من مذاهب المسيحية.. لكن هرقل لم يكن (عظيم) الآريوسيين، وإنما كان يمثل الدولة المسيحية الأرثوذكسية، بحسب المذهب الخلقيدونى، أو مذهب (الملكانيين) الذين تسموا بذلك نسبة إلى (الملك) وهى نسبة على غير قياس، وإلا كان اسمهم (الملكيين) وليس الملكانيين.
أما الآريوسية، فهى مذهب قديم ظهر فى بداية القرن الرابع الميلادى، انطلاقاً من فكرة آريوس المستقاة من فكرة رجال الدين بالشام، المستقاة من التصوُّر (العربى) للمسيح على أنه رسول الله، وليس الإله، وأنه يوصف بابن الإله نظراً لصيغة أو مبدأ (التبنى) الذى لا يجعل المسيح معادلاً لله تعالى.
إذن، صفة الحكام والمحكومين فى هذه الرسائل الأربع، مجتمعة، غير دقيقة.. وقد اجتهد بعض المؤرخين المتأخرين، وبعض اللغويين العرب، فى تأويل كلمة «الأرس» فقالوا إن المقصود بها (المزارعون) وهو تأويل يصعب قبوله، لأن الروم لم يكن العمل بالزراعة يميزهم عن الفرس وعن المصريين.
                                  ■■■
وقد تمادى بعض الرواة وقالوا إن المقوقس ردَّ على النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) برسالةٍ جاء نصها كالتالى: «لمحمد بن عبدالله من المقوقس، سلام، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقى، وكنتُ أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمتُ رسلك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوةٍ، وأهديتُ إليك بغلة لتركبها».
وحسبما يحصر حميدُ الله، فقد جاء نص (رد المقوقس) عند جماعة من المؤرخين، منهم: القلقشندى، والقزوينى، والزيلعى، وابن الجوزى (وغيرهم).. بينما جاء نص رسالة النبى للمقوقس، عند: الواقدى، وابن حديدة (وغيرهما) على النحو التالى: «من محمد رسول الله، إلى صاحب مصر والإسكندرية، أما بعد، فإن الله تعالى أرسلنى رسولاً، وأنزل علىَّ قرآناً، وأمرنى بالإعذار والإنذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بدينى ، ويدخل الناس فى ملَّتى، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى، فإن فعلتَ سعدتَ ، وإن أبيتَ شقيت».
فكان رد المقوقس، حسبما جاء فى كتاب (فتوح مصر) للواقدى، وكتاب (صبح الأعشى فى صناعة الإنشا) للقلقشندى، على النحو التالى: «باسمك اللهم، من المقوقس إلى محمد. أما بعد، فقد بلغنى كتابك، وقرأته وفهمتُ ما فيه، أنت تقول إن الله تعالى أرسلك رسولاً، وفضَّلك تفضيلاً، وأنزل عليك قُرآناً مُبيناً، فكشفنا يا محمد فى عِلْمنا عن خبرك، فوجدناك أقربَ داعٍ إلى الله، وأصدق مَنْ تكلَّم بالصدق، ولولا أنى ملكتُ ملكاً عظيماً، لكنتُ أول مَنْ سار إليك، لعلمى أنك خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وإمام المتقين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته إلى يوم الدين..».
                                  ■■■
وبعد .. فإن الرأى عندى، وقد أكون مخطئاً، أن رسالة النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى المقوقس، التى هى إحدى الوثائق المهمة المتعلقة بالفتح العربى/ الإسلامى لمصر، إنما هى مثل بقية الرسائل الأربع، قد جاءت إلينا من باب الاختلاق (الفبركة) والروايات المتأخرة التى أعادت بناء الوقائع المبكرة فى تاريخ الإسلام، بعدما صار المسلمون هم أصحاب الأمر والنهى. وسواءٌ كان الأمر يتعلَّق بالرسائل نفسها (المرفقة صورتها) أو يتعلَّق بنصِّها المذكور بصيغ مختلفة فى مصادرنا التاريخية، فإن القولَ فيها هو ما قاله العلامة ابن النفيس: «وأما الأخبار التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبع فيها غالب الظن، لا العلم المحقَّق..».
                                  ■■■
وهكذا.. تتجلَّى لنا (الأوهام) الكثيرة، المتعلقة بفتح مصر والمرتبطة بالصورة الكلية لهذا الحدث العظيم الذى هم فيه مختلفون. ولسوف نرى فى المقالات القادمة مزيداً من هذه الأوهام، ونرى فى الوقت ذاته صورةً أخرى لهذا الحدث تتوافق مع ما أوصانا به ابن خلدون حين قال: ينبغى علينا إعمال العقل فى الخبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق