الاثنين، 20 مايو 2013

إسلام بحيرى-ملعون من قال إن والدى رسول الله فى النار


◄ حديثان رواهما مسلم بدون مشاركة البخارى لإثبات أن أبوى النبى فى النار خالدين.. لأنهما ماتا على الشرك والكفر

بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم تكاثرت وتناثرت أقواله على لسان أصحابه ثم انتقلت إلى مسامع وألسنة التابعين - الذين رأوا وسمعوا أصحاب النبى بعد وفاته - ثم شاعت واختلطت بعد ذلك أقواله، عليه صلوات الله، على ألسنة الصادقين والكاذبين والمدلسين على السواء، ولما بدأ عصر تدوين الحديث النبوى استحدث علماء الحديث دلائل وقرائن للتحقق من صدق أو كذب الإسناد - رواة الحديث - وهو ما سمى علم (الجرح والتعديل)، والإسناد هو سلسال أسماء الرجال الذين رووا الحديث صعودا حتى الصحابى الذى سمع النبى أو حكى عنه، ورغم نُبل ووجاهة الفكرة نظريا كمحاولة للتأكد من صحة الحديث فإن سلبيات مخيفة ومريعة قد نتجت عنها فيما بعد، حيث تطورت فكرة (الإسناد) تطورا عكسيا فأصبح يمثل قيدا ليس على قبول الحديث، بل على رفضه بمعنى أنه إذا صح السند وكان رواة الحديث ثقات أو أثبات أو عدول (بتقدير البعض) أدى ذلك طواعية وتبعية إلى قبول الحديث واستحالة رفضه ولو كان يناقض صريح القرآن، فتحول السند من كونه قيدا لقبول الحديث إلى قيد ضد رفضه، مما أدى إلى قبول وتدوين أحاديث تناقض وتضاد القرآن بوضوح وصراحة وجرأة، ومع أن المحدثين الأوائل وضعوا أول ضوابط قبول الحديث وهى وجوبية عدم مخالفة الحديث لصريح القرآن، وما اقترفه أهل التراث يتمثل أمامنا فى الكثير من أحاديث الصحيحين ولكننا سنهتم فى المقال بحديثين من هذه النوعية.

الحديثان أخرجهما (مسلم) وهما حول مصير أبوى النبى فى الآخرة:
الحديث الأول: (مسلم) باب «بيان أن من مات على الكفر فهو فى النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين» 203: «حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبى؟ قال: فى النار. فلما قفى دعاه فقال: إن أبى وأباك فى النار».

الحديث الثانى: (مسلم) «باب استئذان النبى ربه عز وجل فى زيارة قبر أمه» 976: «حدثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن عباد (واللفظ ليحيى) قالا: حدثنا مروان بن معاوية عن يزيد (يعنى بن كيسان) عن أبى حازم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: استأذنت ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى».

والمراد فى الحديثين إثبات أن أبوى النبى فى النار خالدين، لأنهما ماتا على الشرك والكفر، ودعونا نستعرض ما شيَّده الشارحون والمفسرون من طوابق شاهقة على هذين الحديثين:
1) زيَّن (مسلم) هكذا باستنتاجه الفطن باب الحديث باسم «بيان أن من مات على الكفر فهو فى النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين« ولا أعلم كيف جزم (مسلم) بهذا الجزم الذى ليس فيه فقط إيذاء لرسول الله فى أهله، ولكن الأعظم هو الافتراء على القرآن كما سنوضح، ورغم أننى على حد علمى لم أعرف أن (مسلما) كان فقيه زمانه لكى يحكم بهذا وحده، هكذا ابتناء على حديث آحاد، لم يشاركه فى إخراجه معلمه وأستاذه (البخارى)، ولكنه الزهو بالنفس أن يخرِّج الرجل حديثا على شرطه هو، مخالفا للقرآن العظيم ومخالفا للأحاديث الصحيحة كما سنبين، ومدعيا على أبوى النبى ادعاءً عظيما كهذا، ثم من كمال الزهو بالذات تأكيده فى عنوان الباب استنتاجه بجرأة ليست عجيبة على القدماء أن أبا النبى فى النار خالدا لا تنفعه شفاعة النبى.

2) قال (النووى) وهو الشارح الأكبر لكتاب (مسلم) فى تعليقه وشرحه على حديث (أبى وأباك فى النار): «فيه أن من مات على الكفر فهو من أهل النار، وفيه أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار. وليس هذا مؤاخذهُ قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء». ولا أعلم أيضا كيف يملك (النووى) هذه الجرأة أولا على أبوى النبى وذلك فى جزمه أنهما ماتا على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فكيف عرف ذلك وكيف تأكد منه وكيف أجاز لنفسه أن يقول «من مات على الكفر« والمعروف دينا ولغة وبداهة أن الكفر إنما هو الكفر بالدعوة فكيف كفر أبواه عليه صلوات الله بدين لم يُدعيا إليه، ثم يمتلك كالعادة أيضا جرأة عظيمة على تحدى آيات القرآن بقوله «فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم» كيف ذلك والقرآن يخاطب النبى الكريم بقول الله :«وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ» سبأ 44.

3) أما كلام (النووى) عن الحديث الثانى (استأذنت ربى) فيقول: «فيه جواز زيارة المشركين فى الحياة وقبورهم بعد الوفاة وفيه النهى عن الاستغفار للكفار» وهنا يكرر (النووى) ذات الجرأة ويجزم أن قبر أم النبى هو من قبور المشركين ولا أعلم من أين أتى بدليل إشراكها إذ إن المعلوم أنه لم يثبت أبدا برواية متيقنة أنها كانت على دين الشرك الجاهلي، بل الثابت عكس ذلك كما سنوضح، ثم يخلط النووى فى نهاية تعليقه خلطاً كبيرا فيقول «وفيه النهى عن الاستغفار للكفار» فيجعل أم النبى تارة مشركة وتارة كافرة، والفرق بينهما كبير، أو أنه إمعان فى الجرأة وتأكيد لهوان ما يكتبه عليه قد جعلها عامدا من عند نفسه تتصف بالوصفين معا فهى مشركة كافرة، ويا للعجب من جرأة كهذه.

4) أما (البيهقى) فيزيد الجرأة إبداعا وشرحا فيقول فى كتابه (دلائل النبوة) (1/192): «وكيف لا يكون أبواه وجده بهذه الصفة فى الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا»، ولا أدرى أيضا بأية طريق استقى (البيهقى) علومه الخاصة التى أكد منها أنهم كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا، فإما أنه رآهم بعينه وهم يعبدون الوثن قبل الإسلام وهذا خيال ومحال، أو لعل ذلك الجزم بعبادتهم الأوثان قد جاءه فى المنام.

5) ثم يأتى دور (ابن كثير) فى تفسيره لكى يضع بصمته فى الأمر فيقول: «وإخباره عن أبويه وجده عبدالمطلب بأنهم من أهل النار لا ينافى الحديث الوارد عنه أن أهل الفترة والأطفال والمجانين يمتحنون فى العرصات يوم القيامة فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب فلا منافاة ولله الحمد والمنة». وما قاله (ابن كثير) هو أعجب العجاب بل هو التعنت بعينه والمغالاة بقبحها فلأنه لا يريد أن يرد أحاديث (مسلم) أن آباء النبى فى النار، ولأنه وجد من طريق أخرى حديثا صحيحا يقول إن أهل الفترة-من ماتوا قبل بعثة النبى - سيمتحنون يوم القيامة بسؤالهم عن الإيمان، ما يعنى أن الحديث يدل على أن آباء النبى ليسا كما زعم (مسلم) من أهل النار، فلم يجد (ابن كثير) مخرجا من الأزمة إلا بجمع بين الحديثين يثير الضحك والبكاء فى آن على ما آلت إليه جرأة القوم على القرآن وعلى النبى، فيقول إن أهل الفترة سيمتحنون ويجيبون يوم القيامة بما يدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار ويكون آباء النبى من جملة الناس الذين لن يجيبوا بتوحيد الله لذلك سيدخلون النار، ووالله لولا المقام لكتبت كلاما قد لا يُحتَمل تعليقا على هذا البؤس الذى استنتجه (ابن كثير).

6) عدد من أهل السلف شبُّوا عن الطوق وردوا أحاديث (مسلم)، الأول هو (جلال الدين السيوطى) الذى ألف ثلاث رسائل فى رد حديثى (مسلم) كان أشهرها رسالة (التعظيم والمنة فى أن أبوى رسول الله فى الجنة)، والثانى هو القاضى (ابن العربى) الذى قال بجرأة لا نستطيعها نحن عندما سُئِل عمن يقول إن أبوى النبى فى النار قال: «ملعون من قال ذلك«.

أما المعاصرون باستثناء القلب الشجاع (محمد الغزالى) فقد استهجنوا الحديثين ولكنهم التجؤوا للتأويل- التأويل صرف المعنى الظاهر إلى معنى آخر إذا عنَّ ما يقتضى ذلك على أن يكون هذا الصرف مقبولا فى اللغة - إيثارا للسلامة من الدخول فى معارك رد حديث بأحد الصحيحين وارتكنوا فى تأويلهم إلى «أن العرب كانت تطلق على العم كلمة الأب، إذن فالمقصود فى الحديث هو (أبوطالب) عم النبى»، لكن الثابت أن العرب فى سياق كلام واضح كهذا لا يقصدون أبدا العم فى كلامهم عن الأب، فالرجل الذى سَأل النبى من البديهى أنه سأل عن أبيه الحقيقى؛ لذا فلا يُتَصور من النبى وهو أفصح العرب أن يعارضه إلا بمساويه فكان مقصد النبى فى الكلام لاريب الأب الصُلبى الحقيقى، حيث لا يتبادر إلى الذهن ولا تقبل اللغة الكلام هنا عن العم، وأيضا ارتكن المتأولون لمعنى الأب على أنه العم أن القرآن ذكر أن نبى الله (إبراهيم) كان يعظ أباه بقوله:«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً» الأنعام 74، وقال المتأولون أن اسم أبيه ليس (آزر) كما فى القرآن ولكن اسمه (تارح) أو (تارخ) لذلك فالمقصود بقول الله «لأبيه« هو عمه (آزر)، وبالطبع إن كانت محاولة التأويل تحمل نوايا طيبة، فإن الارتكان على دليل كهذا هو خطأ يراد به تصليح خطأ لأن ادعاء أن اسم أبيه هو (تارح أو تارخ) هو ادعاء مبنى على كذبة فاحشة من آلاف كذبات الإسرائيليات التى دُسَّت فى تفاسير القرآن عن طريق الراعى الرسمى للإسرائيليات (كعب الأحبار)، لذلك فإن معنى الأب فى آيات النبى إبراهيم ينصرف للأب الحقيقى وليس العم.

نقد الحديث لتعارضه مع صريح القرآن:
1) قول الله عز وجل: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ» القصص 59
والآية لا تحتاج شرحا أن الله لا يعذب أحدا ولا يهلك القرى حتى يبعث الرسل.
2) قول الله عز وجل: « وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ» الشعراء 208
وتلك الآية تحمل نفس المعنى أن الإهلاك مقترن ببعث الرسل المنذرين.
3) قول الله عز وجل: «ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ» الأنعام 131، والغفلة هى عدم إنذارهم برسول.
4) قول الله عز وجل: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا» الإسراء 15، وذلك للتأكيد على المعنى المراد أن شرط العذاب هو إرسال الرسل.
5) قول الله عز وجل: «رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» النساء 165، مما يؤكد أن الحجة لا تقوم إلا بعد إرسال الرسل.

وكل الآيات السابقة تكفينا صراحة ووضوحا لرد ألف حديث وليس حديثا واحدا حيث تؤكد أن أهل الفترة ممن عاشوا قبل الرسل لا يعذبون لعدالة ورحمة الله، وإن لم يعف عنهم فعلى الأقل يكون أمرهم موكلا إلى الله تعالى، فكيف نجزم أنهم فى النار ففى ماذا أذنبوا ليدخلوها، وكيف يتساوون فى العذاب مع من سمع دعوة النبى وبلغه القرآن ثم كفر به فأين عدالة الإله، والله يقول: «إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ» النساء 40

أما زعمهم البغيض أن أبوى النبى سمعا دعوة نبى الله إبراهيم ولذلك عُدُّوا من المشركين فالآيات تنضح بتكذيب دعواهم:
1) قول الله عز وجل:« لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ» يس 6، والحديث موجه للنبى الكريم يقول الله فيه ما لا يحتاج إلى شرح بل هو إقرار إلهى بأن قوم النبى ما أنذر آباؤهم، فأى جرأة وقحة هذه التى امتلكها من يدَّعون أن أبوى النبى فى النار لأنهما قد وصلتهما دعوة النبى إبراهيم. فلعله علم خاص بهم لم يعلم به الله - ونستغفر الله من ذلك-.

2) قول الله عز وجل: «وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ» سبأ 44، نفس المعنى الجلى الواضح أن الله لم يرسل لآباء النبى وقومهم أنبياء.

3) قول الله عز وجل:«لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» السجدة 3، تأكيد على المعنى المراد.

4) قول الله عز وجل:«لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» القصص 46
فما هو المطلوب أكثر من هذه الآيات الصريحات التى تعضد بعضها بعضا مؤكدة أن أهل الفترة لا يعذبون لأنهم لم تقم عليهم حجة الرسل، والآيات الأخرى التى تجزم أن قوم النبى خاصة لم يأتهم نذير قبل النبى؛ وعليه فإن كل ما يقال بخلاف ذلك كلام هابط مرسل واستدلال مضحك وهزلى.

نقد الحديث لتعارضه مع الأحاديث الصحيحة المتفقة مع صريح القرآن:
1) أخرج البخارى (4315) حديثا فى موقعة (حنين) أن النبى لما تولى عنه المسلمون قال: «أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب»، وهنا يتبين أن الرسول يفخر ببنوته لجده (عبدالمطلب) والثابت أن الله أنزل فى كتابه:« وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» التوبة 3، فلو كان جده صلوات الله عليه من المشركين الخالدين فى النار لتبرأ النبى منه تصديقا لنص القرآن، كما تبرأ النبى إبراهيم من أبيه:« وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» التوبة 114، فلا يُتصور أن يفخر النبى بجده المشرك وهو مطالب بالبراءة منه ما يؤكد أنه توفى على التوحيد.

2) أخرج مسلم نفسه (2276) قول النبى: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل. واصطفى قريشا من كنانة. واصطفى من قريش بنى هاشم. واصطفانى من بنى هاشم«. ولا أعلم معنى فى الاصطفاء إلا النسب المتسلسل الطاهر المبرأ من الشرك لأن الله سبحانه قال فى كتابه العزيز« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ « التوبة 28، فلا يمكن أن يصطفى الله النجس ولكن الاصطفاء للموحدين الأطهار وذلك ما يؤكد توحيد آباء النبى كما يؤكد بطلان ووهم حديثى (مسلم).

3) قول الله عز وجل فى كتابه: «وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ» الشعراء 219، جاء عن ابن عباس فى التفسير أن المعنى هو تقلب النبى فى أصلاب أجداده من الساجدين قبل مولده.

نقد السند فى الحديثين:
1) هذان الحديثان من أفراد مسلم أى ما انفرد به عن البخارى ولم يتابعه عليه إلا بعض كتب السنن والمسانيد، وذلك بنظر أهل الحديث يعد نزولا عن درجة الحديث الذى اتفقا عليه البخارى ومسلم مع أن رأينا فى هذه المسألة بخلاف ذلك فمن الجائز أيضا اجتماعهم على حديث به علل كثيرة فالعصمة لله ورسوله ولا لأحد بعدهما.

2) هذان الحديثان (آحاد) وقد قرر الكثير من علماء الحديث قديما وحديثا أن (الآحاد) لا يقام عليه عمل ولا عقيدة، وليس هذا فحسب بل هو مخالف كما أوضحنا لصريح القرآن والنقل.

3) أما الرواة ففى حديث (أبى وأباك) الراوى هو (حماد بن سلمة) وقد وثَّقه بعض العلماء ورده بعضهم، كما أن البخارى نفسه لم يقبل أن يخرج له ولو حديثا واحدا كتقرير منه بضعف روايته لأنه كان يخطئ كثيرا وكان يروى بالمعنى وليس باللفظ، وجاء فى (حماد) عند علماء الجرح والتعديل قول (أبو حاتم) فى الجرح والتعديل (9/66): «حماد ساء حفظه فى آخر عمره»، أما أهم ما قيل فيه فقد قال (الزيلعى) فى نصب الراية (1/285): «لما طعن فى السن ساء حفظه. فالاحتياط أن لا يُحتج به فيما يخالف الثقات«، والكلام معناه مهم وهو أن حديثه إذا خالف الثقات لا يحتج به، وقد خالف القرآن بذاته، فأى مخالفة بعد.

الخلاصة:
هذان الحديثان مردودان لا يصح منهما شىء لمعارضتهما القرآن والأحاديث المتفقة مع ظاهر آياته، لأنه لا يمكن رد النص القرآنى الذى هو قطعى الثبوت وقطعى الدلالة بنص ظنى الثبوت وظنى الدلالة إن تعارضا، فالآيات الكريمات لا تحتمل إلا الثبوت ولا يحتمل معناها معنى آخر غير ظاهرها.

إسلام بحيرى-قصة مقتل النبى «صلى الله عليه وسلم» بالسم على أيدى اليهود باطلة


كان من المفترض ألا تمثل وفاة النبى الكريم أى مبعث لخلاف أو نزاع أو شبهة تحملها كتب التراث بين دفتيها حول الواقعة، فكفى بها مصيبة ورزية حلت على أمة بأكملها فى وفاة إمام المرسلين، ولكن أهل التراث ومخرجى الأحاديث وأصحاب السير أبوا إلا أن يجعلوا هذه الواقعة مادة للطعن على رسول الله.

ولأن العقل الجمعى المسلم لا يمكن بحال أن يتقبل فكرة نقد أحاديث فى كتاب البخارى على أساس أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رغم أن البخارى يبقى مع كل إتقانه بشراً تعتريه الوساوس والأخطاء والأهواء وتظل منتجاته العلمية متاحة أمام النقد العلمى والأكاديمى ولا مطعن ولا مَعيب فى ذلك، فكما يعرف الغالبية من المسلمين أن النبى توفى على أثر وجع شديد وحمى ألمَّت به، إلا أن البخارى وحده فى كتابه دون أى أحد فى العالمين أخرج حديثا أن النبى مات مسموما مقتولا جراء أكله من شاة مسمومة قُدمت له من اليهود فى موقعة خيبر.

ولنعرض الحديث أولا.. أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428 ما يلى:
«وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضى الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم).

وأصل الحكاية أن البخارى ومسلما وكثيرا من أهل السير والتاريخ قد أخرجوا جميعا واقعة تصل إلى حد التواتر عن شاة قُدمت للنبى فى خيبر ولكنه عَلِم كنبى معصوم أنها مسمومة، وهذه الواقعة من المهم استجلاؤها قبل الخوض فى نتيجتها، فماذا عن هذاالاستجلاء؟
أخرج البخارى فى باب «إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم» 343/6-3169، وأخرجه مختصرا فى «باب» الشاة التى سُمَّت للنبى بخيبر»، وأخرج ذات الحديث بطوله فى باب «ما يذكر فى سم النبى صلى الله عليه وسلم» 284/10-5777» وفيه يقول:

حدثنا قتيبة: حدثنا الليث، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة أنه قال: «لما فُتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله (اجمعوا لى من كان ها هنا من اليهود).. ثم قال لهم: (فهل أنتم صادقىَّ عن شىء إن سألتكم عنه)، قالوا: نعم، فقال: (هل جعلتم فى هذه الشاة سماً)، فقالوا: نعم، فقال: (ما حملكم على ذلك). فقالوا: أردنا: إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك».

وأخرج البخارى حديثا شاهدا لذلك الحديث بسند عن أنس بن مالك فى باب «قبول الهدية من المشركين» 272/5-2617، وأخرج «مسلم» 2190، فى كتابه ذات الحديث بسنده إلى أنس بن مالك، ولكن بزيادة هامة عن المرأة اليهودية واضعة السم، فيروى فيها الصحابى أنس بن مالك: فجىء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك، قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» قال: أو قال: «على».

إذن ماذا نستنتج مما سبق:
رواية واقعة تقديم الشاة المسمومة رواية صحيحة متواترة، ولكن يجب التوقف عند بعض نتائجها المتحققة:

الرسول قد أُخبر بالغيب وفى بعض الروايات أُخبر من الشاة نفسها أنها مسمومة، وجاء فى بعض الروايات أنه لم يقربها قط وجاء فى أخرى أنه لاك - مضغ - قطعة منها ثم لفظها، وذلك ما يتفق مع مقام العصمة التى أقرها سبحانه وتعالى فى القرآن.

فى الرواية التى أخرجها البخارى عن أبى هريرة وقع الحوار الطويل بين الرسول واليهود ولكن المهم فيه هو المقطع الأخير، وهو ظن اليهود بما اعتقدوه امتحانا لصدق نبوة محمد صلوات الله عليه، فلما سألهم: «ما حملكم على ذلك»، قالوا: «أردنا إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك»، وهنا نتبين الهدف والغاية من إثبات الرواية الصحيحة، أنهم قالوا ما قالوه، وسكت النبى على قولهم إقراراً لهم أن اختبار النبوة الحقيقى على المحك، فلو كان كذابا أو مدعيا للنبوة لأكل منها وشبع، فاليهود على علم أنه لو كان من أولى العزم، كإبراهيم وموسى لكان محفوظا من إزهاق الروح قتلا، ثم أردفوا ما أقره النبى أيضا أنهم قالوا: «وإن كنت نبياً لم يضرَّك»، وهذه هى النتيجة الأبرز فى الحدث أن ضرر السم لا يمكن أن ينتقل لرسول الله من الأصل فضلا عن أن يميته ذلك السم، وإلا كان على حسب قولهم وعلى حسب إقرار النبى لقولهم ليس نبيا بل كذابا لأن السم قد أضره ولم يُخَبَّر من ربه.

فى الرواية الصحيحة الأخرى من حديث أنس الذى أخرجه البخارى ومسلم، جاءت الزيادة الهامة التى أشرنا إليها عند «مسلم» أن الرسول استدعى من دست السم له فى الشاة وسألها: «فقالت: أردت لأقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» أو قال: «علىَّ»، وهنا نستوضح العصمة بشكل جلى، فلم يكتف النبى بالسكوت عن كلامها إقرارا لها، ولكنه رد عليها ردا لائقا بكمال اليقين فى عصمة ربه له فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، والمعنى لا يحتاج إلى شرح ولا يقبل التأويل، فالرسول قال إن الله لا يسلطك على ذلك أبدا بالسم أو بغيره إذن هذا هو مفهوم الرسول ذاته عن العصمة الربانية له.

ونعود للحديث الأول والذى أخرجه البخارى وابتنى فيه على الروايات السابقة كأصل للقصة أن الرسول مات بعد ثلاث سنوات متأثرا من ذات السم، لنستعرض كم العلل والمعايب التى شابت إخراج البخارى لمثل هذا الحديث سندا ومتنا - نصا، ولنبدأ بذكر ماجاء فى الحديث:
أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428: «وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضى الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت إنقطاع أبهرى من ذلك السم).

ونبدأبنقد سند الحديث:
هذا الحديث معلق، والحديث المعلق ببساطة هو الحديث الذى لا يصرح فيه البخارى بصيغة «حدثنا» لأن هذه الصيغة تعنى ثبوت اللقاء بينه وبين الراوى عنه، ولكن التعليق يعنى أن البخارى أسقط فى أول السند شخصا أو أكثر، لذا فإن فهم هذا المصطلح هام جدا فى نقد هذه الرواية، وهنا ننقل كلاما جامعا لابن حجر فى كتابه «تغليق التعليق» فيقول عن أحاديث البخارى المعلقة وأنواعها: «فقد يكون معبرا بصيغة لا تقتضى التصريح بالسماع مثل قال وروى وزاد.. فإن جزم به فذلك حكم منه بالصحة إلى من علقه عنه، ويكون النظر إذ ذاك فيمن أبرز من رجاله ،فإن كانوا ثقاتا فالسبب فى تعليقه إما لتكراره أو لأنه أسند معناه فى الباب، ولو من طريق أخرى فنبه عليه بالتعليق اختصاراً».

والمعنى أن ابن حجر يقول إن البخارى إذا علق الحديث بصيغة الجزم بمعنى أن يقول فى أول السند: «قال» يكون ذلك بسبب حكمه بالصحة لمن علَّقه عنه ويبقى معرفة رجاله إن كانوا ثقاتا أو مادونهم، أو أنه علقه لأنه مكرر فى مواضع أخرى بتخريجه أو لأنه أسند معناه فى باب آخر فى الكتاب، ولكن بسند متصل فيحمل البخارى السند المعلق على السند المتصل فى الحديث الآخر طالما تشابها فى المعنى وكان السند المعلق رجاله ثقات.

ولكن هل ما قاله ابن حجر من شروط متحققة فى هذا الحديث؟ بالطبع لا.
أولاً: الحديث علقه البخارى عمن لم يره ولم يسمع منه وهو «يونس الأيلى» الذى توفى قبل مولد البخارى بأربعين سنة على الأرجح، وهذا بخلاف معلقات البخارى الأخرى التى يمكن أن تكون عن مشايخه.

ثانياً: معنى هذا أن الحديث به انقطاع ظاهر فى أول السند بين البخارى ويونس، وهو ما دعاه لتعليقه ولكن بشرطه الذى ذكره «ابن حجر».

ثالثاً: وهذا الشرط أنه إذا علَّق البخارى حديثا بصيغة الجزم «قال» كالذى بين أيدينا فيقول «ابن حجر» فإنه ولابد علقه بالجزم لسببين:
1: أنه مكرر فى موضع آخر من الكتاب بذات السند المنقطع هنا فيكون مجرد اختصار للسند فقط لا أكثر، فهل هذا الشرط منطبق على الحديث الذى بين أيدينا؟ بالطبع لا، فالبخارى لم يكرر الحديث فى أى باب من أبواب كتابه مرة أخرى لا بهذا السند موصولا، ولا بسند غيره أبدا، إذن سقط الشرط الأول لقبول معلقات البخارى.

2: يقول «ابن حجر»: إن البخارى قد يعلق الحديث المنقطع سندا لأنه أسند معناه فى الباب، ولو من طريق أخرى للسند، طالما كان رجال السند المعلق ثقاتا، فهل هذا ينطبق على الحديث الذى بين أيدينا؟ أيضا لا، لأن البخارى لم يسند المعنى المقصود من الحديث فى أى حديث آخر فى طول كتابه وعرضه، ولكنه فعل شيئا عجيبا وغريبا، فقد كان يكتب تحت اسم الباب الذى أخرج فيه الأحاديث التى ذكرناها سابقا عن واقعة تقديم الشاة المسمومة للنبى فى خيبر، جملة مقحمة ودخيلة فيقول «رواه عروة عن عائشة»، وكأن البخارى يريد أن يقول إن أحاديث تقديم الشاة المسمومة هى نفس المعنى المراد من الحديث الذى بين أيدينا حول تصريح الرسول بانقطاع أبهره - شريان القلب - من أثر ذلك السم، وما كتبه البخارى يعنى أنه استنتج أن الحديثين بمعنى واحد، أو أن أحدهما نتيجة للآخر، استنتاج لا يمكن قبوله بحال، لأن الأول - الذى ذكرناه عن الشاة- حديث متصل السند والثانى الذى هو لب المشكلة ليس مطابقا لمعنى لأول بأى وسيلة، وبالطبع لا رابط بينهما لكى يصبح الثانى نتيجة للأول، لذا فإن تعليق الحديث الثانى لا ينجبر ولا ينصلح باتصال سند حديث الشاة، وإنى لأعجب من البخارى كيف يتأتَّى له هذا الاصطناع فى أمر جلل كهذا، فالحديث الأول كما بيَّنا سابقا يخص واقعة حدثت وانتهت ساعتها تماما أن النبى قُدمت له فى خيبر شاة، وأُخبر من لدن حكيم عليم أنها مسمومة، وسأل هو اليهود رجالا ونساء لما فعلتم ذلك؟ فردوا بأنه كان اختبارا لنبوته، وأنه إن كان نبيا سيخبر من ربه، أو لن يضره السم، وهذا المعنى لا علاقة له من قريب أو بعيد بحديث السوء الذى يريد البخارى أن يجعله نتيجة للحديث الأول بل إن الحديث الأول والمتصل السند يناقض الثانى كليا، فالحديث الثانى يزعم أن النبى قال إنه يموت من أثر هذا السم، والحديث الأول يخبر فيه الرسول أن موته من السم مستحيل الحدوث، فأى شىء فعله بنا البخارى؟

فسبحان الله، إذا كان الرسول قد قال للمرأة اليهودية صراحة إن قتله بذلك السم لا يتأتى لها أبدا بقوله: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، فكيف يقول البخارى إن الرسول بعد ذلك بسنوات قال عند موته إن أثر السم ذاك هو الذى يميته، كيف استساغ البخارى أن يلصق بالرسول الكريم طعنا كهذا ونقضا لعصمة ربه التى أقرها هو بنفسه فى حديث الشاة، ثم يأتى البخارى بسند منقطع ويعلق الحديث على ادعاء أنه بمعنى الحديث الأول، بل الأمر واضح وجلى أن الحديث الثانى ليس له علاقة بالحديث بالأول.

لذا فإن هذا الاستنتاج يخص البخارى وحده ولا يخص الأمة ولا نبيَّها، ولكن تقديس البخارى هو الذى جعل الشراح والتابعين يقرون هذا الحديث المعلق على أنه الحقيقة ويطعنون فى نبيهم المعصوم ويجعلون اليهود هم الذين قتلوه إلى يوم القيامة، فسبحان الله.

رابعا: ولكن الأهم هنا أن السند المنقطع الذى ذكره البخارى ليس سندا سالما من العلل، فالسند هو: قال يونس عن الزهرى قال عروة، ويونس هو «يونس بن يزيد الأيلى» ورغم أنه يعد الراوى الثانى لحديث الزهرى فإن أهل الجرح والتعديل قد عابوا عليه منكراته عن الزهرى، فيقول ابن حجر فى تهذيب التهذيب ج 11 - 770: «وقال أبو زرعة الدمشقى سمعت أحمد بن حنبل يقول فى حديث يونس عن الزهرى منكرات... وسئل أحمد من أثبت فى الزهرى قال معمر قيل فيونس قال روى أحاديث منكرة»، ثم إن الراوى لم يصرح بالسماع فقال «عن» الزهرى وهذه صيغة دون كلمة «حدثنا» التى تفيد سماعه منه مباشرة.

أما الزهرى فهو ابن شهاب الزهرى، وهو مع جلالته وحفظه وقدره لكن العلماء عدوه من المدلسين، بل إن ابن حجر عده من الطبقة الثالثة من المدلسين المكثرين فى كتابه «طبقات المدلسين»، وكذلك «أبو زرعة»، ولكن يُتَّقى تدليسه يجب أن يصرح بالسماع عمن روى، والغريب أن الزهرى يروى الحديث هذا بصيغة عدم السماع المباشر بقوله: «قال عروة» ما يؤكد أنه لم يسمعه من «عروة» مباشرة وأنه أسقط الواسطة بينهم وهذا هو التدليس، رغم أن «عروة» شيخه.

خامسا: قال ابن حجر فى «تغليق التعليق» عن ذات الحديث ما مضمونه إن الحديث قد وصله - بمعنى وصل السند المنقطع - البزار والإسماعيلى والحاكم ولكن بمراسيل، بانقطاع فى السند.

سادسا: حتى «مسلم» تلميذ البخارى والذى كان شرطه فى إخراج الأحاديث أدنى مرتبة من شرط البخارى، لم يخرج هذا الحديث من أى وجه ولا جاء على ذكر قول كهذا للرسول عند وفاته أبدا.

الاستنتاج:
هذا الحديث آحاد وغريب وشاذ ومنقطع السند ولم يتابع عليه أحد ولم يصل سنده أحد من العلماء إلا بأسنايد مرسلة، لذا فهو حديث ضعيف بكل أوجه الضعف لا يصح الاحتجاج به ولا التعويل عليه.

أما عن نقد متن نص الحديث فنقول: إنه منكر النص ويخالف المعلوم من لب الشرع ومجامع العقل وذلك للآتى:
مخالفته القرآن العظيم فقد قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» المائدة 67 .

ولا أعلم معنى للعصمة من الناس إلا العصمة من الإيذاء ومن القتل وقد أقر أكثر المفسرين أن الرسول لم يتخذ حراسة بعد نزول هذه الآية، وقال ذلك بعض من أهل التراث:
ابن الجوزى زاد المسير - 2 / 397: «فعنه: أنه عصمه من القتل، والأسرِ، وتلفِ الجملة».
الزمخشرى - الكشاف - تفسير آية آل عمران 144: «المراد أنه يعصمه من القتل».
الحافظ ابن حجر - فتح البارى 6 / 82: «وعلى هذا فالمراد: العصمة من الفتن، والإِضلال، أو إزهاق الروح، والله أعلم».

2) قال الله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» الطور 48.
ولا أعلم معنى لعناية الله سبحانه لرسول نبى فضلا عن كونه من أولى العزم إلا أنها عناية يكلؤه بها سبحانه من كل إيذاء يحط من عصمته، وهى عناية مستمرة مستديمة إلى يوم يلقاه.

والمضحك المبكى الذى تقشعر منه الأبدان أن أهل التراث والمعاصرين لم يتلبثوا فى استلهام معانى عصمة النبوة بل ساقوا الحجج المليئة بالسخف والتكلف والتعنت لمحاولة الجمع بين العصمة ورواية البخارى عن الموت بالسم، فمن المعاصرين من يقول مقلدا للتراثيين إن «العصمة» فى الآية هى: العصمة من الفتنة، ومن الضلال، وقد عصمه ربه تعالى من كل ذلك».

وهذا كلام مردود لأن النبى من دون العصمة هو معصوم من الفتنة ومن الضلال وإلا فإن الله اختاره على غير علم - معاذ الله - كما أن سياق الآية لا يحتمل إلا العصمة الحقيقية البدنية - من القتل والتى عصم الله بها كل أولى العزم من الرسل.

ومن المعاصرين أيضا من ذهب أبعد من ذلك كالسلفى حامد العلى الذى قال: «(والله يعصمك من الناس) أى حتى تبلغ رسالتك، أما وإن تم التبيلغ، وأديت الأمانة، فقد يقدر الله على النبى أن يموت بسبب من أعدائه، فليس ثمة تناقض بين الأمرين».
والمعنى الذى يريده أن الله عصمه حتى يبلغ كامل الرسالة ثم بعد ذلك فلا مانع من أن يقتل على يد أعدائه فلا تناقض بين العصمة والقتل.

ووالله لا أجد شيئا أقوله تعليقا على هذا الكلام المتناقض الهابط، وأتركه ليحكم عليه العاقل، فالله يبعث نبيه ولما تنقضى حاجته بتبليغ الرسالة يتركه ليقتل! فسبحان الله العظيم.
3 - وأفتى آخرون بأن الله أبى إلا أن يعطى نبيه الحسنيين النبوة وأن يموت شهيدا، والرد على ذلك بسؤال مواجه لماذا يعطى الله لنبيه ورسوله الشهادة مع أن الشهداء ستكون مكافأتهم الكبرى فى الجنة أن يكونوا فقط مع الأنبياء والدليل قول الله تعالى: «فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا» النساء 69. فأى كرامة بعد النبوة ذاتها.

4 - أخرج البخارى 2753: «أن جابر بن عبد الله أخبر: أنه غزا مع رسول الله قِبَل نجد.. فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابى، فقال: إن هذا اخترط على سيفى وأنا نائم، فاستيقظت وهو فى يده صلتا، فقال: من يمنعك منى؟ فقلت: الله ثلاثا».
فهذا الحديث دليل دامغ وعملى على فهم وتطبيق الرسول بنفسه لعصمته المقررة قرآنا، فقال للأعرابى مجيبا على سؤاله: ما يمنعك منى؟ فقال له النبى «الله» ثلاث مرات فمن الذى عصم الرسول من القتل؟ وما الذى ارتكن إليه الرسول فى رده أنه لن يستطيع قتله؟ إلا أن تكون العصمة.

5 - أخرج عبد الرزاق (9754) وأحمد (27469) وصحح إسناده الحافظ فى الفتح 8/148، من حديث أسماء بنت عميس قالت: «أول ما اشتكى رسول الله.. قالوا: كنا نتهم بك ذات الجنب يا رسول الله، قال: إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفنى به».

وهنا نجد المعنى الذى يقوله الرسول على سرير المرض الأخير، فالرسول واثق متيقن من ربه أنه لا يبتليه بداء «ذات الجنب» أبدا قائلا: «ما كان الله ليقذفنى به»، وهو يجزم بذاك كرامة لرسالته وعصمته، ثم من المفترض أن النبى بعد ذلك بساعات يغير كلامه -معاذ الله- فى عصمة ربه ويقول ويقر بأنه يموت من أثر السم الذى دسوه له بخيبر، أفيحميه الله من الأمراض التى هى من قدَرِه بدون واسطة ولا سبب كرامة لعصمته ثم يتركه -معاذ الله- لليهود تقتله؟ أى قياس باطل منكر هذا؟ بل الرسول أحسن ظنه ويقينه بربه ومات محفوظا مهابا وخُيِّر بين الدنيا والآخرة فاختار الرفيق الأعلى.

6 - كما نود الإشارة إلى نقطة هامة جدا أنه بالرجوع للنصوص المختلفة فى حديث الشاة سنجد أن الروايات فى تلك الواقعة تباينت حول حال المرأة التى وضعت ذلك السم للنبى أَقُتِلت أم عُفِى عنها، وسنجد أن الروايات الأقوى تقول إن الرسول عفى عنها، فإذا ما قلنا إن الرسول وهو الذى لا ينطق عن الهوى أقر أن السم الذى وضعته المرأة هو السبب فى قتله - على زعم البخارى- أفلم يكن هذا يستدعى من الصحابة إقامة القصاص على هذه المرأة اليهودية، ولكن الغريب أن ذلك لم يحدث ولم يكن له ذكر، وذلك لسببين فإما لهوان أمر قتل النبى المصطفى على أصحابه، وهذا من غير المعقول، وإما لأن هذه الرواية الضعيفة المنكرة هى كذب على رسول الله، وهذا هو الحق لأن الرسول لم يقتل بالسم لكى يقتص من قاتله.

7 - ولتأكيد الأوهام فى هذا النص، آن لنا أن نحكم العلم، فقد بحثنا يمينا ويسارا وسألنا الأطباء الحذاق، وتأكدنا من أنه لا وجود لسم فى تاريخ الإنسانية يبدأ عمله فى جسم الإنسان بعد ثلاث سنوات أو حتى يظل أثره المميت لمدة ثلاث سنوات، حيث قدمت الشاة للرسول فى خيبر فى العام السابع الهجرى، فأى سم هذا وأين هو؟ فلن نجد هذا السم إلا فى الأساطير والخرافات، فما قول أهل التراث فى ذلك؟

8 - معارضة هذه الرواية الضعيفة للنصوص الصريحة المتصلة السند التى ذكرناها، فكيف بعد إقرار النبى نفسه بعصمته لنفسه أن السم لا يضره أبدا نأتى برواية ليقول فيها إنه يموت من أثر ذلك السم؟ سبحان الله أى عقل يقبل ذلك؟ فإذا قبلنا الرواية هذه يكون النبى قد أضره السم كما قال له اليهود فيصبح بذاك استنتاجا أنه ليس نبيا البتة، وكذلك يصبح كلامه -معاذ الله- للمرأة اليهودية فى الرواية الثانية باطلا وأن الله سلطها عليه أن تقتله بعد ثلاث سنوات، فإما قبول الروايات الصحيحة ورد الحديث المعلق، وإما رد الروايات الصحيحة بالحديث المعلق الضعيف ولا يمكن الجمع بينهما على الإطلاق.

الاستنتاج:
هذا الحديث المعلق الذى أخرجه البخارى وحده فى أمة الإسلام هو حديث اجتمعت فيه كل المعايب والعلل سندا ومتنا، فهو آحاد غريب وشاذ ومنقطع السند ومنكر المتن ومخالف للقرآن ولعصمة النبوة وللعقل وللعلم، فماذا بقى بعد ذلك لنرد هذا الحديث الضعيف فى «البخارى» انتصارا للحق وللشرع ولعقولنا.

الخلاصة:
ما كان الله ليترك نبيه فريسة لغدر اليهود المتوارث، ولكى نقبل حديث البخارى ولكى يستريح مقدسو التراث يجب أن نزيد - معاذ الله - على آية العصمة لتقول «إن الله يعصمك من الناس» - إلا اليهود -، فكيف نقبل حديثا به كل هذه المعايب لمجرد أن رجلا واحدا مهما علا شأنه قرر أن يخرجه لأنه رآه صحيحا، فهل أصبح عقل البخارى أو تصحيحه وحده بلا متابع هو إجماع الأمة، ويا ليت ذلك فى واقعة عادية بل فى حدث جلل وكبير وقد حذرنا الله فى الكتاب بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» الأحزاب 69، فأى إيذاء للنبى أكبر من أن نطعن فى نبوته بالكلية، والآيات تنضح بعصمته.

إسلام بحيرى-قتل المرتد لمجرد تبديل الدين هو إطلاق خاطئ


قد قُدِّمت عدة قراءات معاصرة لمفهوم الردة تركزت حول اتجاهين، كلاهما صحيح, أولهما تحقيق ضعف سند الحديث الذى أخرجه «البخارى», وثانيهما حول تناقض معنى الحديث مع صريح آيات القرآن الكريم عن حرية العقيدة, إلا أن ثمة قراءة مغايرة نستطيع من خلالها النظر إلى مدلولات أدق لمفهوم الردة فى العهد النبوى من خلال استعمال اللفظ قرآنيا وكذلك من خلال السياقات التاريخية والاجتماعية لذلك المفهوم، لنستوضح ما إذا كان قتل المرتد تشريعاً مطلقاً خارج التاريخ أم حكما مؤطراً بمساقات ملتبسة ومتقاطعة.

الحديث:
أخرج البخارى: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَرَّقَ قَوْمَاً فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لأَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا تُعَذِّبُواْ بِعَذَابِ اللهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
وكما ذكرنا فقد اتجهت أغلب الدراسات المعاصرة لتضعيف الحديث وهم على حق فيما ذهبوا, حيث إن تضعيف السند فى ذلك الحديث لا يتطلب كثير جهد ولا احتمال عناء, فهو حديث آحاد يدور على راو واحد وهو «عكرمة» مولى الصحابى «عبدالله ابن عباس» ويعرف كل باحث ومتخصص أن «عكرمة» راو متهم فى عقيدته أولا ثم فى حفظه وضبطه بالكذب الصراح، وقد نعجز عن نقل الأقوال فى تضعيفه وتوهينه من كثرتها وطولها, حتى إن «على بن عبدالله بن عباس» كان يوثقه فى باب الحش ببيته جزاء له وكان يقول فى ذلك: «إنه يكذب على أبى».

ولكننا رغم ذلك سنتخطى المنطوق اللفظى للحديث حتى نتبين ما تواترت به الأخبار عن النبى إزاء واقعات الردة التى حدثت فى العهد النبوى بمرحلتيه المكية والمدنية, لنستجلى المفهوم التطبيقى للردة ومعناها الحقيقى ليكون ذلك مقيداً لإطلاق النص فى حديث «عكرمة» - على صحة فرضه -.

أولاً:
لم يكن مفهوم الردة فى العهد النبوى يعنى تبديل الدين فحسب, بل كان يعنى بالضرورة التنقل بين معسكرين واضحين لا ثالث لهما ولا لبس فيهما, معسكر الكفر ومعسكر الإيمان, وكانت العداوة والحرب بين المعسكرين بينة سافرة لا تحتاج لدليل, لذا فإن الخطاب القرآنى لم يكن يذكر الاشتقاق اللفظى للردة إلا مع بدايات التنزيل فى المدينة, فقد كان مدلول الردة حينها هو «الرجعة والعودة» المكانية باتجاه مكة والدينية باتجاه الكفر والعسكرية باتجاه الحرب والعداء, ويتبين هذا من خلال استقراء الموضعين اللذين ذكرت فيهما الآيات الحكيمة لفظة الردة بقول الله تعالى: «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ» البقرة 217, وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ» المائدة 54.

ففى آية «البقرة» يحذر القرآن المؤمنين من الردة تبعا لما يريده الكافرون, وفى الآية الثانية «المائدة» يقرر رب العزة حكما معلوما بالضرورة أنه سبحانه فى غنى عن عباده وعبادتهم, ولكن الذى يسترعى الانتباه أن الخطاب القرآنى لم يحدثنا عن عقوبة مفترضة لهؤلاء المرتدين كما فى الآيات, وذلك ما يؤكد بداهة ما بدأنا به أن الخطاب القرآنى لم يؤسس لعقوبة صريحة باعتبارهم ضمنا داخلين فى معسكر الكفر, والمعنى من ذلك يؤكد أن الردة الدينية فى المفهوم القرآنى والعهد النبوى لم تكن ردة محضة تقوم على تفكير عقائدى فقط, بل كانت مصاحبة دوما لظروف تاريخية ودينية تكاد تكون حتمية للمرتد، حيث ينضم لمجتمع الضد الذى يؤوى المرتدين ويعزز قولهم فى رمى القرآن وسب الرسول, لذا فإننا لا نجد ولو حالة واحدة فى عهد النبوة لمرتد عن الإسلام لم يركن لمشركى مكة ولم يهج ُ النبى أو يحاربه, لأن الردة الفكرية المبنية على موقف عقائدى لم تكن لتصلح فى هذه الظروف التاريخية فقد كانت فكرة الضد مسيطرة دينياً وسياسياً وحربياً بما يعنى أن المرتد لو قاربنا المعنى لتكييفه القانونى المعاصر فى دستور الدولة الحديثة لكن جرم الارتداد يماثل جرم الخيانة العظمى للدولة, فقد كانت الردة عسكرية ودينية وحتى جغرافية حيث الاحتماء بمكة من المدينة, لذا فإن إطلاق قتل المرتد بعموم اللفظ لمجرد تبديل الدين هو إطلاق خاطئ, والحق أن الردة عملية ذات توابع سياسية وتاريخية واجتماعية انتهت بشكلها الأول للتطبيق مع فتح النبى منتصراً لمكة فى العام الثامن من الهجرة, ولا شك أن استمرار الإطلاق العام للمعنى فى عصور ما بعد الراشدين الأربعة كان بداية لخدمة السلاطين الأموية التى وجدت فى ذلك مسوغاً ومبرراً لقتل المخالفين والمعارضين قتلا شرعيا, وكان هذا إيذانا ببدء امتطاء النصوص وسيلة للأحكام السلطانية والملك العضوض.

ثانياً:
وقعت حوادث عديدة للردة فى العهد النبوى فى مرحلتيه المكية والمدنية مع اختلاف الأحوال بين العهدين, فقد كانت الردة فى مكة قريبة العهد بالتكذيب والريبة فى الرسالة وعدم تصديق الخوارق كالإسراء والمعراج ولمحبة عدم مفارقة العشيرة والقبيلة, لذا نجد القرآن لم يوجه الخطاب للمؤمنين عن الردة فى مكة بالكلية حيث كان تنقية التوحيد وبناء أصل العقيدة أعم وأهم وأبقى, وكان التأكيد على حرية العقيدة فى المرحلة المكية واضحا فى الخطاب القرآنى: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ, وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ, وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِين», وفى سورة الكهف: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» 29, وذلك الخطاب لم يكن عن ضعف وقلة حيلة كما ذهب أغلب المفسرين القدامى بل كان ذلك تشريعا لأصل من أهم أصول العقيدة, ثم انتقل مجتمع النبوة للعهد المدنى حيث ثبوت قدم الدين والنبوة وشيوع الإيمان وكثرة تعداد المؤمنين, ومع ذلك لم نجد فى التنزيل المدنى إلا زيادة فى التأسيس والتأصيل لمفهوم حرية العقيدة فى قول الله: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ» محمد 25, وقوله:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ« المائدة 54, فلم يغير حال القوة والمنعة لمجتمع النبوة الخطاب القرآنى الهادف لتأصيل الحرية على عكس ما ادعى التراثيون من تغير لغة القرآن فى المدينة عن مكة, وهو ما يؤكد أن القواعد الأساسية فى الدين تؤصل لذلك, ولكن أدعياء التراث المعاصرين تجدهم يقولون بأن الحديث النبوى ينسخ حكم القرآن ورغم أن ذلك القول لا يصح عند عاقل لكن الرد عليه يكون باستجلاء فعل النبى وحكمه فى ردة من ارتدوا حال حياته, وفعل النبى فى ذلك هو المفسر والضابط للمفهوم القرآنى لحرية اختيار العقيدة, وليس النص المنطوق عند البخارى- على فرض صحته -.

ثالثاً:
كان التطبيق النبوى لمفهوم الردة هو التطبيق المبين لدلالة حرية العقيدة فى القرآن, لذا سنحدد النظر فى واقعتين شهيرتين للردة وقعتا فى العهد النبوى وننظر كيف اعتبر النبى المسألة وكيف تعامل معها.

الأول: عبدالله بن أبى السرح:
وكان عبدالله أخا فى الرضاعة لـ«عثمان بن عفان» صاحب رسول الله, وكان قد أسلم بمكة, وهو أحد القلائل من المكيين الذين كانوا يخطون بيمينهم ويعرفون الكتابة فاتخذه النبى كاتبا للوحى, ولكنه بعد فترة أدعى أنه هو الذى كان يلقن النبى الوحى وقال إنه يأتيه مثلما يأتى «محمداً» وعاد أدراجه مرتدا لمعسكر الشرك ولم يكتف بل ظل بعدها طاعنا فى النبوة هازئا بالقرآن.

الثانى: عبدالله بن خطل:
وكان عبدالله له صحبة واستعمله النبى على بعض الصدقة وأصحبه رجلا فى ترحاله يخدمه فلما كان فى أحد أسفاره طلب من خادمه أن يصنع له طعاما ثم استيقظ من نومه ليجد الخادم لم يصنع شيئا, فضربه بالسيف فقتله, وعلم «ابن خطل» أنه لو رجع المدينة سيقتل بالرجل قصاصا فهرب إلى مكة وارتد عن الدين ولم يكتف أيضا, بل أخذ يهجو النبى ويسبه ويعرض به ويسوق لذلك جاريتين عنده لتغنيا هجاء النبى فى طرقات مكة.

إذن نحن أمام حالتين صريحتين ومتماثلتين للردة عن الإسلام المصحوبة بأشد ما يكون من المرتد, ولهذا فإن النبى لما فتح مكة منتصراً كان يعلم بوجودهما فأما الأول «ابن السرح» فقد غيبه أخوه فى الرضاع «عثمان بن عفان» حتى جاء به للنبى ليتوب ويعود للإسلام, وقد سكت النبى عن شفاعة «عثمان» ولم يعقب من شدة جرم «ابن السرح» فى حق النبوة ولو كان النبى قتله لكان حقا لا مراء فيه، لأن ملابسات الارتداد المصاحبة اختلطت كما ذكرنا بسب وطعن فى نزول القرآن, لكن النبى عفا عنه مع تمنيه فى نفسه لو قُتل جزاء بما فعل من قبل شفاعة »عثمان« فيه, أما الثانى »ابن خطل« فقد علم النبى أنه متعلق بأستار الكعبة طالبا الغفران ومبديا الندم إلا أنه أمر بقتله فقتل.

وهنا يتبين الأمر بوضوح، فلو كانت الردة فى ذاتها مصحوبة بعداء أو غير مصحوبة به موجبة للقتل كحد تشريعى لما كان رسول الله سكت عن شفاعة الشافع فى «ابن السرح» لأنه معلوم بالضرورة أنه لا شفاعة فى حد شرعى, ما يؤكد أن الصحابى «عثمان بن عفان» لم يكن ليفعل ذلك إلا بعلمه أنه لا يشفع فى حد من حدود الله, وكانت تلك الواقعة فى فتح مكة فى العام الثامن للهجرة بما يعنى أن فعل النبى كان موافقا للتنزيل القرآنى فى المدينة بلا نسخ ولا تقييد, وقد حاول التراثيون الخروج من هذا المأزق بقولهم إن النبى عفا عن «ابن السرح» فى الحد بالتوبة وفى التعزير بالشفاعة من أخيه, وهو استنتاج مخالف للحقيقة فلو اعتبرنا أن فترة تزيد على التسع سنوات وهى ردة «ابن السرح» تمثل استتابة له فلماذا لم يعف النبى عن «ابن خطل» ويعتبر أن فترة ردته أيضاً - وهى أقل - فترة استتابة, وهذا ما يؤكد أن إمعان النظر فى الحالتين يبين أن العفو عن «ابن السرح» كان لشفاعة من صاحب النبى، وما كانت الشفاعة تقبل فى حد شرعى, وأما الثانى «ابن خطل» فقتله إنما كان قصاصا وليس ردة، بمعنى أن أمر النبى بقتله كان قصاصا منه وجزاء لقتله نفسا مؤمنة بغير حق, وقد كان حينها ما يزال مسلماً, لذا فإن كل الآراء التى أدعت أن قتل «ابن أخطل» كان لردته آراء لم تتمحص الروايات بتؤدة, ما يوضح أن تعامل النبى مع أعتى حالات الردة والطعن فى الدين كان تعاملا عادلا ومباينا ومغايرا للمفهوم المطلق لقتل المرتد لمجرد تبديل الدين.

رابعاً:
ولو نظرنا فى فعل الصحابة لوجدنا فى الحروب التى خاضها الخليفة الأول «أبوبكر الصديق» رضى الله عنه, وعرفت باسم «حروب الردة» لوجدناها حربا قسمت إلى شقين، فالأول هو حرب الخليفة ضد من أنكروا دفع الزكاة الواجبة وهى «حروب مانعى الزكاة», أما الشق الثانى وهم مجموعة مدعى النبوة «مسيلمة الكذاب» و«سجاح التميمية» وهؤلاء لم يكونوا مرتدين فقط بالديانة ولكنهم بدأوا المسلمين بالعداء واستحر قتلهم فى حفاظ القرآن الكريم, ورغم ذلك فإن «سجاح التميمية» قد عادت للإسلام مرة أخرى وظلت كذلك حتى ماتت فى ملك «معاوية» ولم نر من اعتبر أن ردتها وعودتها كانت لفترة استتابة, لذا لم يكن غريبا أن يقرأ الوضع الصحيح من ذلك بعض من أهل التراث.

خامساً:
اختلف الأوائل فى قتل المرأة المرتدة على قولين أحدهما أنها لا تقتل بردتها، وهو قول «ابن عباس» ما يؤكد أنه لو كان قتل المرتد حدا مطلقا لاستحال التمييز فيه بين الرجل والمرأة, لذا فإن بعض الآراء التراثية قد ذهبت باتجاه ما ذهب إليه المعاصرون فى مفهوم الردة فقد قال «ابن القيم»: فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات كالجناية على الأنفس.. وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه وهذه الجناية أولى بالقتل.. فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن فى بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم» إعلام الموقعين (3/339).

وهنا يصرح «ابن القيم» أولاً بفكرة قتل المرتد على خلفية الطعن فى الدين بعد ارتداده ثم بين أن التزام المرتد الصغار بألا يطعن فى الدين، وأن يمتثل لأحكام الدين فإنه لا يرى فى بقائه مرتداً بين أظهر المسلمين أى ضرر, وهو اتجاه يكاد يماثل اتجاه الكثير من المعاصرين الذى أكد على أن الارتداد فى ذاته لا يمثل قضية فى الدين، حيث أسس القرآن لحرية العقيدة ولكن مصاحبات الارتداد من العداء والطعن هى الإشكالية اللاحقة, لذا فإن تشريعات الدولة المصرية على سبيل المثال تنص على عقوبة «ازدراء الأديان» وهى المعادل القانونى لفكرة الطعن فى الدين بوجه عام بحيث لا يصبح امتهان الدين كلأ مباحا, وهذا القانون هو الحاكم فى المسألة تبعا لروح الشرع الإسلامى الذى ينص على حرية اختيار العقيدة دون الحاجة لسن قوانين جديدة حول الردة.

إذن:
نحن أمام تأسيس قرآنى صريح لحرية العقيدة إيماناً وكفراً توضح فيه الآيات القصد والمعنى والدلالة من الردة فى القرآن, والتى لم تقترن بعقاب دنيوى إلا عقاب الآخرة, وأمام تأصيل قرآنى لمعنى الردة المقصود فى العهد النبوى وهى ردة الطاعن المحارب, وأمام أدلة من السنة الفعلية للنبى على تباين الأمر فى التعامل مع المرتد عفوا وقصاصا عادلا تبعا لسياقات حددت الأمر وبينته, وأمام فعل متابع لذلك من الصحابة حتى فى حروب المرتدين ومدعى النبوة حيث أكدت الروايات التى صحت عن السيدة عائشة «ابن أبى شيبة 14/572» أن كثيراً من أحياء العرب إلا مكة والمدينة قد ارتدت بعد وفاة النبى ولكن الحرب لم تكن إلا مع المعادى الذى ابتدر المؤمنين فى ديارهم والحرب ليست قصاصا كما هو معلوم, فلماذا بعد كل هذه الأدلة المتقاطرة والقراءات الواضحة فى القرآن والسنة نأتى اليوم لنطعن فى الشريعة بقول بعضهم إن الإسلام يقبل من الشخص الدخول إليه طائعا وينهاه عن الخروج منه أبداً.

لذا فإن إطلاق اللفظ الذى جاء فى البخارى على فرض صحته - إطلاق يخالف المعلوم القرآنى والمعمول النبوى, كما أننا لو تماشينا مع اللفظ الموجود فى البخارى: «من بدل دينه فاقتلوه», بإطلاقه لكانت الاستتابة التى أقرها الفقهاء القدامى ممتنعة حتى لو لمدة ثلاثة أيام, ولكان القتل- حسب نص الحديث - مترتبا فقط على مجرد تبديل الدين دون النظر لتوبة أو رجعة, وهذا ما يبين أن التراثيين قد قيدوا النص الذى أخرجه البخارى مجبرين، لأن إطلاق القتل جزاء عاما على تبديل الدين يخالف كل ما صح من فعل النبى, لذا فلم يكن أمام التراثيين إلا القول إن الاستتابة لها مدة, وقد كان الأحرى بهم طالما قيدوا النص المنطوق عند البخارى بفعل النبى أن ينظروا أيضاً فى مآلات التطبيق النبوى ودواعيه ودلالته، التى تؤكد أن مفهوم الردة لم يكن فى القرآن ولا السنة الصحيحة يعنى تبديل الدين فحسب, بل هو مفهوم يتخطى ذلك كما بينا, ولكن الأحكام السلطانية فى كثير من عصور تلامذة الفقهاء كانت ضاغطة وحاكمة لاستمرار وتأكيد القول بالفهم المطلق للردة لتكون ذريعة مطاطية لطالما كانت وسيلة نافعة وناجعة لقتل المخالفين, حتى لو كان القتل على المذهب والعمل وليس على الكفر والإيمان.

وأخيرا:
فقد استمعت إلى طرف من المناقشات التى دارت فى الدورة التاسعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامى الدولى الذى اختتم أعماله بالشارقة مؤخراً, وكانت الطروحات المستنيرة المقدمة من وزير الأوقاف المصرى محمود حمدى زقزوق، والدكتور عبدالله النجار تدور حول ضرورة إعادة النظر وفق اجتهادات معاصرة فى وجوب حد الردة بالمفهوم التراثى المطلق, ولكم آسفنى هجوم الوهابيين المعتاد على هذا الطرح فى كلام مبطن واتهامه بالذعر من منظمات حقوق الإنسان, واتهام الشيخ «محمود شلتوت» بالخلط والخطأ لأنه كان يرى أن حديث الردة من أحاديث الآحاد التى لا يقام عليها عقيدة, وقد أحسن الشيخ رحمه الله فى اجتهاده هذا والذى قال به كثير من الأوائل قبل ظهور عصر تقديس كتب البشر وجعلها مصاحف من دون الله فى القرن الرابع الهجرى.

وهكذا كان قدر الإسلام قديما أن تتوارى كثيراً من سماحة شريعته خلف مستنقعات الفهم الفقهى الضيق, وخلف القراءات العاكفة حديثا على النصوص المضافة لنصوص الأصل من فهم التراثيين لتمثل سدا وعائقا على استجلاء روح الشريعة الحقة واستفهام نصوصها من صريح القرآن وصحيح السنة, لذا فإنه لا بديل للإصلاح إلا أن يثابر على تقديم القراءات المعاصرة فى وجه هؤلاء الذين يحبون إثارة الجلبة، طمعا أن يكونوا دوما تحت بقعة الضوء, القراءات التى تنظر للنصوص من خلال السياقات المغايرة والفروق فى توجيه الخطاب بين القرآن والسنة, والنظر من خلال مقاصد الشريعة نحو التجديد الحقيقى لنخطوا ولو خطوة واحدة للأمام أو نصعد ولو قدما واحدة من داخل البئر.

الخميس، 31 يناير 2013

عبد الحكيم الصادق الفيتوري-فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين


هذه من جملة أخبار وقصص أمة التوراة التي حكاها الله سبحانه على أمة القرآن تحذيرا لها من أرتكاب ذات الجرائم،فتصاب بنفس العاهات والعقوبات القدرية والكونية،وإن ذلك سنة ثابتة ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.واللافت للنظر في هذه الآية الكريمة أن أصحاب السبت(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين.فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين)قد إلتزموا ظاهر الأمر الشرعي؛بمعنى أنهم لما نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت لم يصطادوا يوم السبت فعلا،ولكنهم قالوا لو حفرنا لها حياضا وشرعنا إليها جداولا يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها،وهم بذلك ملتزمون ظاهر الأمر الشرعي بعدم الاصطياد يوم السبت،إلا أنهم أهدروا مقاصده ومعانيه.وعلى الرغم من هذا الإلتزم الظاهري للأمر الإلهي إلا أنهم مسخوا قردة(كونوا قردة).جاء في كتب التفسيرأنه يحتمل أن يكون هذا المسخ بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الانساني،وهذا قول الجمهور،ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الانساني،وهذا قول مجاهد. والقول الثاني هو الراجح عندي. 
واللافت للنظر أن القرآن الكريم يصف الذي يتعاطى مع الأمر الإلهي تعاطيا ظاهريا؛ترديدا لحروفه حفظا،أوتلبسا به ممارسة شكلا؛دون فهم لمقاصده ومعانيه ومآلاته،بأنه من قسم البهائم،وليس من أي البهائم بل التي امتازت عن غيرها بامتياز في البلادة والغباوة وعدم القدرة على التفكير والنظر،كالوصف بالحمار(..كمثل الحمار يحمل اسفارا)أو الكلب(فمثله كمثل الكلب)أوالقرد(فقلنا لهم كونوا قردة).ومعلوم أن القرآن الكريم ضرب أمثلة كثيرة بالحشرات والحيوانات؛من بعوضة،وذبابة، وعنكبوتة وغير ذلك من هذه الأجناس، حيث جعلها مثلا في الذلة والضعف والوهن.ومع ذلك لم نره سبحانه وتعالى مسخ أحدا من أعدائه على صورة بعوضة ولا ذبابة ولا عنكبوتة أو على صورة شيء من هذه الأصناف.ولو كان الاستذلال والتحقير والتصغير والتوهين أراد،لكانت البعوضة والذبابة أولى بذلك!! 
لذا نلحظ أن القرآن الكريم وصف الذي يحمله بدون فهم لمراده،أو يلتزم أوامره شكلا ويهدر معانيه ومقاصده بأوصاف الكلب..أو الحمار..أو القرد..ويبدو أن وصفه بهذه الأجناس أراد إدانة عقله وفكره ومن ثم سلوكه غير المتناغم مع قيم النص،ولم يرد إدانة بدنه بالذلة والضعف والوهن.والدليل على ذلك أن الحمار قوي العضلات وله قدرة تحمل فائقة إلا أنه يعتبر في البلادة والغباوة والجهل بمكان،وعلى الرغم من ذلك تراه إذا رفع عليه السوط أسرع.أي أن القياس علّمه أن السوط متى رفع نزل،ومتى نزل اصابه،ومتى أصابه ألم.فهذه المعرفة المكتسبة لديه بالتقليد والتكرار لم تخرجه عن كونه من الأغبياء بامتيار،وقديما قالوا التكرار يعلم الحمار!! 
فإذا كان هذا وصف حال الحمار،فإننا نرى أن القرد يبدو أكثر ذكاء منه،حيث أنه يحاول إلتزام ظاهر النص ويمعن في إهدار باطنه ومقصده،وذلك بتعطيل إدراكه في فهم النص بالتحايل عليه أو إهداره جملة كما فعل أصحاب السبت وأتباعهم.علما بأن العقل هو مناط التكليف،لذا فأن أي محاولة للإعتداء على مدركاته أو تعطيل إمكانية إعمال نظره في النص والواقع فهما وتنزيلا؛فهما باعتبار النص في سياقاته التاريخية والمعرفية والاجتماعية،وتنزيلا بتخريج وتنقيح وتحقيق مناطه في أرض الواقع،تعد إحياء لظاهرة المسخ الجماعي.ولا ريب أن انتشار هذه الظاهرة بين الناس والسكوت عليها يعتبر بمثابة الإعلان الرسمي للإلتزام بالشكل وإهدار المضمون،وتقييد العقل المطلق محل التكليف ومناطه بدلالة الظاهر المقيدة؛أي أن دلالة النص محدودة والوقائع متجددة غير متناهية مما يلزم بالضرورة المنهجية استخدام العقل في فهم الدلالة المتناهية وتعدية مدلولاتها على الوقائع المستجدة غير المتناهية.وأحسب إن هذا الإعلان يؤسس لظاهرة(المسخ الجماعي)الذي يقيم الشكل والمبانى،ويهدر المقاصد والمعاني،ولا يعتبر للنص مقصدا ولا للواقع مكانة في فهم النص إلا قياسا على اقوال الأسلاف،وهذا يطمس إمكانية معرفة أن النص قد يفارقه الواقع،أو الواقع يفارق النص،ناهيك على قدرة ذلك العقل الممسوخ الجمع بين القرائتين في مقاصد النص؛قراءة النص في سياق تاريخه ونسيج اجتماعه وجعله معاصرا لنفسه،ثم قراءة النص ومقاصده في زماننا وجعله معاصرا لنا!!  
الواضح إننا أمام حالة مسخ جماعي لا يعبأ به من قبل السواد الأعظم من الناس،وهذا إيذان بتعطيل قيم القرآن،ومسخ عقل الإنسان،وإحياء عقل الحيوان،يقول ابن عاشور(ومعنى كونهم قردة،أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ،فقد اشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات،فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني،وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه،وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات)!! 
فهل من سبيل للنجاة من سنة مسخ العقول والقلوب،وذلك بفهم مقاصد والوحي والتجادل مع واقعنا بقيمه الكلية،عوضا عن التشبث بالمباني وإهدار المعاني،وأتقان الترديد وإزهاق التقصيد،والعيش في التاريخ والهروب من الحاضر..وإلا فلن نجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا؟!!