قد قُدِّمت عدة قراءات معاصرة لمفهوم الردة تركزت حول اتجاهين، كلاهما صحيح, أولهما تحقيق ضعف سند الحديث الذى أخرجه «البخارى», وثانيهما حول تناقض معنى الحديث مع صريح آيات القرآن الكريم عن حرية العقيدة, إلا أن ثمة قراءة مغايرة نستطيع من خلالها النظر إلى مدلولات أدق لمفهوم الردة فى العهد النبوى من خلال استعمال اللفظ قرآنيا وكذلك من خلال السياقات التاريخية والاجتماعية لذلك المفهوم، لنستوضح ما إذا كان قتل المرتد تشريعاً مطلقاً خارج التاريخ أم حكما مؤطراً بمساقات ملتبسة ومتقاطعة.
الحديث:
أخرج البخارى: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَرَّقَ قَوْمَاً فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لأَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا تُعَذِّبُواْ بِعَذَابِ اللهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
وكما ذكرنا فقد اتجهت أغلب الدراسات المعاصرة لتضعيف الحديث وهم على حق فيما ذهبوا, حيث إن تضعيف السند فى ذلك الحديث لا يتطلب كثير جهد ولا احتمال عناء, فهو حديث آحاد يدور على راو واحد وهو «عكرمة» مولى الصحابى «عبدالله ابن عباس» ويعرف كل باحث ومتخصص أن «عكرمة» راو متهم فى عقيدته أولا ثم فى حفظه وضبطه بالكذب الصراح، وقد نعجز عن نقل الأقوال فى تضعيفه وتوهينه من كثرتها وطولها, حتى إن «على بن عبدالله بن عباس» كان يوثقه فى باب الحش ببيته جزاء له وكان يقول فى ذلك: «إنه يكذب على أبى».
ولكننا رغم ذلك سنتخطى المنطوق اللفظى للحديث حتى نتبين ما تواترت به الأخبار عن النبى إزاء واقعات الردة التى حدثت فى العهد النبوى بمرحلتيه المكية والمدنية, لنستجلى المفهوم التطبيقى للردة ومعناها الحقيقى ليكون ذلك مقيداً لإطلاق النص فى حديث «عكرمة» - على صحة فرضه -.
أولاً:
لم يكن مفهوم الردة فى العهد النبوى يعنى تبديل الدين فحسب, بل كان يعنى بالضرورة التنقل بين معسكرين واضحين لا ثالث لهما ولا لبس فيهما, معسكر الكفر ومعسكر الإيمان, وكانت العداوة والحرب بين المعسكرين بينة سافرة لا تحتاج لدليل, لذا فإن الخطاب القرآنى لم يكن يذكر الاشتقاق اللفظى للردة إلا مع بدايات التنزيل فى المدينة, فقد كان مدلول الردة حينها هو «الرجعة والعودة» المكانية باتجاه مكة والدينية باتجاه الكفر والعسكرية باتجاه الحرب والعداء, ويتبين هذا من خلال استقراء الموضعين اللذين ذكرت فيهما الآيات الحكيمة لفظة الردة بقول الله تعالى: «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ» البقرة 217, وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ» المائدة 54.
ففى آية «البقرة» يحذر القرآن المؤمنين من الردة تبعا لما يريده الكافرون, وفى الآية الثانية «المائدة» يقرر رب العزة حكما معلوما بالضرورة أنه سبحانه فى غنى عن عباده وعبادتهم, ولكن الذى يسترعى الانتباه أن الخطاب القرآنى لم يحدثنا عن عقوبة مفترضة لهؤلاء المرتدين كما فى الآيات, وذلك ما يؤكد بداهة ما بدأنا به أن الخطاب القرآنى لم يؤسس لعقوبة صريحة باعتبارهم ضمنا داخلين فى معسكر الكفر, والمعنى من ذلك يؤكد أن الردة الدينية فى المفهوم القرآنى والعهد النبوى لم تكن ردة محضة تقوم على تفكير عقائدى فقط, بل كانت مصاحبة دوما لظروف تاريخية ودينية تكاد تكون حتمية للمرتد، حيث ينضم لمجتمع الضد الذى يؤوى المرتدين ويعزز قولهم فى رمى القرآن وسب الرسول, لذا فإننا لا نجد ولو حالة واحدة فى عهد النبوة لمرتد عن الإسلام لم يركن لمشركى مكة ولم يهج ُ النبى أو يحاربه, لأن الردة الفكرية المبنية على موقف عقائدى لم تكن لتصلح فى هذه الظروف التاريخية فقد كانت فكرة الضد مسيطرة دينياً وسياسياً وحربياً بما يعنى أن المرتد لو قاربنا المعنى لتكييفه القانونى المعاصر فى دستور الدولة الحديثة لكن جرم الارتداد يماثل جرم الخيانة العظمى للدولة, فقد كانت الردة عسكرية ودينية وحتى جغرافية حيث الاحتماء بمكة من المدينة, لذا فإن إطلاق قتل المرتد بعموم اللفظ لمجرد تبديل الدين هو إطلاق خاطئ, والحق أن الردة عملية ذات توابع سياسية وتاريخية واجتماعية انتهت بشكلها الأول للتطبيق مع فتح النبى منتصراً لمكة فى العام الثامن من الهجرة, ولا شك أن استمرار الإطلاق العام للمعنى فى عصور ما بعد الراشدين الأربعة كان بداية لخدمة السلاطين الأموية التى وجدت فى ذلك مسوغاً ومبرراً لقتل المخالفين والمعارضين قتلا شرعيا, وكان هذا إيذانا ببدء امتطاء النصوص وسيلة للأحكام السلطانية والملك العضوض.
ثانياً:
وقعت حوادث عديدة للردة فى العهد النبوى فى مرحلتيه المكية والمدنية مع اختلاف الأحوال بين العهدين, فقد كانت الردة فى مكة قريبة العهد بالتكذيب والريبة فى الرسالة وعدم تصديق الخوارق كالإسراء والمعراج ولمحبة عدم مفارقة العشيرة والقبيلة, لذا نجد القرآن لم يوجه الخطاب للمؤمنين عن الردة فى مكة بالكلية حيث كان تنقية التوحيد وبناء أصل العقيدة أعم وأهم وأبقى, وكان التأكيد على حرية العقيدة فى المرحلة المكية واضحا فى الخطاب القرآنى: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ, وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ, وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِين», وفى سورة الكهف: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» 29, وذلك الخطاب لم يكن عن ضعف وقلة حيلة كما ذهب أغلب المفسرين القدامى بل كان ذلك تشريعا لأصل من أهم أصول العقيدة, ثم انتقل مجتمع النبوة للعهد المدنى حيث ثبوت قدم الدين والنبوة وشيوع الإيمان وكثرة تعداد المؤمنين, ومع ذلك لم نجد فى التنزيل المدنى إلا زيادة فى التأسيس والتأصيل لمفهوم حرية العقيدة فى قول الله: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ» محمد 25, وقوله:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ« المائدة 54, فلم يغير حال القوة والمنعة لمجتمع النبوة الخطاب القرآنى الهادف لتأصيل الحرية على عكس ما ادعى التراثيون من تغير لغة القرآن فى المدينة عن مكة, وهو ما يؤكد أن القواعد الأساسية فى الدين تؤصل لذلك, ولكن أدعياء التراث المعاصرين تجدهم يقولون بأن الحديث النبوى ينسخ حكم القرآن ورغم أن ذلك القول لا يصح عند عاقل لكن الرد عليه يكون باستجلاء فعل النبى وحكمه فى ردة من ارتدوا حال حياته, وفعل النبى فى ذلك هو المفسر والضابط للمفهوم القرآنى لحرية اختيار العقيدة, وليس النص المنطوق عند البخارى- على فرض صحته -.
ثالثاً:
كان التطبيق النبوى لمفهوم الردة هو التطبيق المبين لدلالة حرية العقيدة فى القرآن, لذا سنحدد النظر فى واقعتين شهيرتين للردة وقعتا فى العهد النبوى وننظر كيف اعتبر النبى المسألة وكيف تعامل معها.
الأول: عبدالله بن أبى السرح:
وكان عبدالله أخا فى الرضاعة لـ«عثمان بن عفان» صاحب رسول الله, وكان قد أسلم بمكة, وهو أحد القلائل من المكيين الذين كانوا يخطون بيمينهم ويعرفون الكتابة فاتخذه النبى كاتبا للوحى, ولكنه بعد فترة أدعى أنه هو الذى كان يلقن النبى الوحى وقال إنه يأتيه مثلما يأتى «محمداً» وعاد أدراجه مرتدا لمعسكر الشرك ولم يكتف بل ظل بعدها طاعنا فى النبوة هازئا بالقرآن.
الثانى: عبدالله بن خطل:
وكان عبدالله له صحبة واستعمله النبى على بعض الصدقة وأصحبه رجلا فى ترحاله يخدمه فلما كان فى أحد أسفاره طلب من خادمه أن يصنع له طعاما ثم استيقظ من نومه ليجد الخادم لم يصنع شيئا, فضربه بالسيف فقتله, وعلم «ابن خطل» أنه لو رجع المدينة سيقتل بالرجل قصاصا فهرب إلى مكة وارتد عن الدين ولم يكتف أيضا, بل أخذ يهجو النبى ويسبه ويعرض به ويسوق لذلك جاريتين عنده لتغنيا هجاء النبى فى طرقات مكة.
إذن نحن أمام حالتين صريحتين ومتماثلتين للردة عن الإسلام المصحوبة بأشد ما يكون من المرتد, ولهذا فإن النبى لما فتح مكة منتصراً كان يعلم بوجودهما فأما الأول «ابن السرح» فقد غيبه أخوه فى الرضاع «عثمان بن عفان» حتى جاء به للنبى ليتوب ويعود للإسلام, وقد سكت النبى عن شفاعة «عثمان» ولم يعقب من شدة جرم «ابن السرح» فى حق النبوة ولو كان النبى قتله لكان حقا لا مراء فيه، لأن ملابسات الارتداد المصاحبة اختلطت كما ذكرنا بسب وطعن فى نزول القرآن, لكن النبى عفا عنه مع تمنيه فى نفسه لو قُتل جزاء بما فعل من قبل شفاعة »عثمان« فيه, أما الثانى »ابن خطل« فقد علم النبى أنه متعلق بأستار الكعبة طالبا الغفران ومبديا الندم إلا أنه أمر بقتله فقتل.
وهنا يتبين الأمر بوضوح، فلو كانت الردة فى ذاتها مصحوبة بعداء أو غير مصحوبة به موجبة للقتل كحد تشريعى لما كان رسول الله سكت عن شفاعة الشافع فى «ابن السرح» لأنه معلوم بالضرورة أنه لا شفاعة فى حد شرعى, ما يؤكد أن الصحابى «عثمان بن عفان» لم يكن ليفعل ذلك إلا بعلمه أنه لا يشفع فى حد من حدود الله, وكانت تلك الواقعة فى فتح مكة فى العام الثامن للهجرة بما يعنى أن فعل النبى كان موافقا للتنزيل القرآنى فى المدينة بلا نسخ ولا تقييد, وقد حاول التراثيون الخروج من هذا المأزق بقولهم إن النبى عفا عن «ابن السرح» فى الحد بالتوبة وفى التعزير بالشفاعة من أخيه, وهو استنتاج مخالف للحقيقة فلو اعتبرنا أن فترة تزيد على التسع سنوات وهى ردة «ابن السرح» تمثل استتابة له فلماذا لم يعف النبى عن «ابن خطل» ويعتبر أن فترة ردته أيضاً - وهى أقل - فترة استتابة, وهذا ما يؤكد أن إمعان النظر فى الحالتين يبين أن العفو عن «ابن السرح» كان لشفاعة من صاحب النبى، وما كانت الشفاعة تقبل فى حد شرعى, وأما الثانى «ابن خطل» فقتله إنما كان قصاصا وليس ردة، بمعنى أن أمر النبى بقتله كان قصاصا منه وجزاء لقتله نفسا مؤمنة بغير حق, وقد كان حينها ما يزال مسلماً, لذا فإن كل الآراء التى أدعت أن قتل «ابن أخطل» كان لردته آراء لم تتمحص الروايات بتؤدة, ما يوضح أن تعامل النبى مع أعتى حالات الردة والطعن فى الدين كان تعاملا عادلا ومباينا ومغايرا للمفهوم المطلق لقتل المرتد لمجرد تبديل الدين.
رابعاً:
ولو نظرنا فى فعل الصحابة لوجدنا فى الحروب التى خاضها الخليفة الأول «أبوبكر الصديق» رضى الله عنه, وعرفت باسم «حروب الردة» لوجدناها حربا قسمت إلى شقين، فالأول هو حرب الخليفة ضد من أنكروا دفع الزكاة الواجبة وهى «حروب مانعى الزكاة», أما الشق الثانى وهم مجموعة مدعى النبوة «مسيلمة الكذاب» و«سجاح التميمية» وهؤلاء لم يكونوا مرتدين فقط بالديانة ولكنهم بدأوا المسلمين بالعداء واستحر قتلهم فى حفاظ القرآن الكريم, ورغم ذلك فإن «سجاح التميمية» قد عادت للإسلام مرة أخرى وظلت كذلك حتى ماتت فى ملك «معاوية» ولم نر من اعتبر أن ردتها وعودتها كانت لفترة استتابة, لذا لم يكن غريبا أن يقرأ الوضع الصحيح من ذلك بعض من أهل التراث.
خامساً:
اختلف الأوائل فى قتل المرأة المرتدة على قولين أحدهما أنها لا تقتل بردتها، وهو قول «ابن عباس» ما يؤكد أنه لو كان قتل المرتد حدا مطلقا لاستحال التمييز فيه بين الرجل والمرأة, لذا فإن بعض الآراء التراثية قد ذهبت باتجاه ما ذهب إليه المعاصرون فى مفهوم الردة فقد قال «ابن القيم»: فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات كالجناية على الأنفس.. وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه وهذه الجناية أولى بالقتل.. فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن فى بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم» إعلام الموقعين (3/339).
وهنا يصرح «ابن القيم» أولاً بفكرة قتل المرتد على خلفية الطعن فى الدين بعد ارتداده ثم بين أن التزام المرتد الصغار بألا يطعن فى الدين، وأن يمتثل لأحكام الدين فإنه لا يرى فى بقائه مرتداً بين أظهر المسلمين أى ضرر, وهو اتجاه يكاد يماثل اتجاه الكثير من المعاصرين الذى أكد على أن الارتداد فى ذاته لا يمثل قضية فى الدين، حيث أسس القرآن لحرية العقيدة ولكن مصاحبات الارتداد من العداء والطعن هى الإشكالية اللاحقة, لذا فإن تشريعات الدولة المصرية على سبيل المثال تنص على عقوبة «ازدراء الأديان» وهى المعادل القانونى لفكرة الطعن فى الدين بوجه عام بحيث لا يصبح امتهان الدين كلأ مباحا, وهذا القانون هو الحاكم فى المسألة تبعا لروح الشرع الإسلامى الذى ينص على حرية اختيار العقيدة دون الحاجة لسن قوانين جديدة حول الردة.
إذن:
نحن أمام تأسيس قرآنى صريح لحرية العقيدة إيماناً وكفراً توضح فيه الآيات القصد والمعنى والدلالة من الردة فى القرآن, والتى لم تقترن بعقاب دنيوى إلا عقاب الآخرة, وأمام تأصيل قرآنى لمعنى الردة المقصود فى العهد النبوى وهى ردة الطاعن المحارب, وأمام أدلة من السنة الفعلية للنبى على تباين الأمر فى التعامل مع المرتد عفوا وقصاصا عادلا تبعا لسياقات حددت الأمر وبينته, وأمام فعل متابع لذلك من الصحابة حتى فى حروب المرتدين ومدعى النبوة حيث أكدت الروايات التى صحت عن السيدة عائشة «ابن أبى شيبة 14/572» أن كثيراً من أحياء العرب إلا مكة والمدينة قد ارتدت بعد وفاة النبى ولكن الحرب لم تكن إلا مع المعادى الذى ابتدر المؤمنين فى ديارهم والحرب ليست قصاصا كما هو معلوم, فلماذا بعد كل هذه الأدلة المتقاطرة والقراءات الواضحة فى القرآن والسنة نأتى اليوم لنطعن فى الشريعة بقول بعضهم إن الإسلام يقبل من الشخص الدخول إليه طائعا وينهاه عن الخروج منه أبداً.
لذا فإن إطلاق اللفظ الذى جاء فى البخارى على فرض صحته - إطلاق يخالف المعلوم القرآنى والمعمول النبوى, كما أننا لو تماشينا مع اللفظ الموجود فى البخارى: «من بدل دينه فاقتلوه», بإطلاقه لكانت الاستتابة التى أقرها الفقهاء القدامى ممتنعة حتى لو لمدة ثلاثة أيام, ولكان القتل- حسب نص الحديث - مترتبا فقط على مجرد تبديل الدين دون النظر لتوبة أو رجعة, وهذا ما يبين أن التراثيين قد قيدوا النص الذى أخرجه البخارى مجبرين، لأن إطلاق القتل جزاء عاما على تبديل الدين يخالف كل ما صح من فعل النبى, لذا فلم يكن أمام التراثيين إلا القول إن الاستتابة لها مدة, وقد كان الأحرى بهم طالما قيدوا النص المنطوق عند البخارى بفعل النبى أن ينظروا أيضاً فى مآلات التطبيق النبوى ودواعيه ودلالته، التى تؤكد أن مفهوم الردة لم يكن فى القرآن ولا السنة الصحيحة يعنى تبديل الدين فحسب, بل هو مفهوم يتخطى ذلك كما بينا, ولكن الأحكام السلطانية فى كثير من عصور تلامذة الفقهاء كانت ضاغطة وحاكمة لاستمرار وتأكيد القول بالفهم المطلق للردة لتكون ذريعة مطاطية لطالما كانت وسيلة نافعة وناجعة لقتل المخالفين, حتى لو كان القتل على المذهب والعمل وليس على الكفر والإيمان.
وأخيرا:
فقد استمعت إلى طرف من المناقشات التى دارت فى الدورة التاسعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامى الدولى الذى اختتم أعماله بالشارقة مؤخراً, وكانت الطروحات المستنيرة المقدمة من وزير الأوقاف المصرى محمود حمدى زقزوق، والدكتور عبدالله النجار تدور حول ضرورة إعادة النظر وفق اجتهادات معاصرة فى وجوب حد الردة بالمفهوم التراثى المطلق, ولكم آسفنى هجوم الوهابيين المعتاد على هذا الطرح فى كلام مبطن واتهامه بالذعر من منظمات حقوق الإنسان, واتهام الشيخ «محمود شلتوت» بالخلط والخطأ لأنه كان يرى أن حديث الردة من أحاديث الآحاد التى لا يقام عليها عقيدة, وقد أحسن الشيخ رحمه الله فى اجتهاده هذا والذى قال به كثير من الأوائل قبل ظهور عصر تقديس كتب البشر وجعلها مصاحف من دون الله فى القرن الرابع الهجرى.
وهكذا كان قدر الإسلام قديما أن تتوارى كثيراً من سماحة شريعته خلف مستنقعات الفهم الفقهى الضيق, وخلف القراءات العاكفة حديثا على النصوص المضافة لنصوص الأصل من فهم التراثيين لتمثل سدا وعائقا على استجلاء روح الشريعة الحقة واستفهام نصوصها من صريح القرآن وصحيح السنة, لذا فإنه لا بديل للإصلاح إلا أن يثابر على تقديم القراءات المعاصرة فى وجه هؤلاء الذين يحبون إثارة الجلبة، طمعا أن يكونوا دوما تحت بقعة الضوء, القراءات التى تنظر للنصوص من خلال السياقات المغايرة والفروق فى توجيه الخطاب بين القرآن والسنة, والنظر من خلال مقاصد الشريعة نحو التجديد الحقيقى لنخطوا ولو خطوة واحدة للأمام أو نصعد ولو قدما واحدة من داخل البئر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق