الخميس، 31 يناير 2013

عبد الحكيم الصادق الفيتوري-فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين


هذه من جملة أخبار وقصص أمة التوراة التي حكاها الله سبحانه على أمة القرآن تحذيرا لها من أرتكاب ذات الجرائم،فتصاب بنفس العاهات والعقوبات القدرية والكونية،وإن ذلك سنة ثابتة ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.واللافت للنظر في هذه الآية الكريمة أن أصحاب السبت(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين.فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين)قد إلتزموا ظاهر الأمر الشرعي؛بمعنى أنهم لما نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت لم يصطادوا يوم السبت فعلا،ولكنهم قالوا لو حفرنا لها حياضا وشرعنا إليها جداولا يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها،وهم بذلك ملتزمون ظاهر الأمر الشرعي بعدم الاصطياد يوم السبت،إلا أنهم أهدروا مقاصده ومعانيه.وعلى الرغم من هذا الإلتزم الظاهري للأمر الإلهي إلا أنهم مسخوا قردة(كونوا قردة).جاء في كتب التفسيرأنه يحتمل أن يكون هذا المسخ بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الانساني،وهذا قول الجمهور،ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الانساني،وهذا قول مجاهد. والقول الثاني هو الراجح عندي. 
واللافت للنظر أن القرآن الكريم يصف الذي يتعاطى مع الأمر الإلهي تعاطيا ظاهريا؛ترديدا لحروفه حفظا،أوتلبسا به ممارسة شكلا؛دون فهم لمقاصده ومعانيه ومآلاته،بأنه من قسم البهائم،وليس من أي البهائم بل التي امتازت عن غيرها بامتياز في البلادة والغباوة وعدم القدرة على التفكير والنظر،كالوصف بالحمار(..كمثل الحمار يحمل اسفارا)أو الكلب(فمثله كمثل الكلب)أوالقرد(فقلنا لهم كونوا قردة).ومعلوم أن القرآن الكريم ضرب أمثلة كثيرة بالحشرات والحيوانات؛من بعوضة،وذبابة، وعنكبوتة وغير ذلك من هذه الأجناس، حيث جعلها مثلا في الذلة والضعف والوهن.ومع ذلك لم نره سبحانه وتعالى مسخ أحدا من أعدائه على صورة بعوضة ولا ذبابة ولا عنكبوتة أو على صورة شيء من هذه الأصناف.ولو كان الاستذلال والتحقير والتصغير والتوهين أراد،لكانت البعوضة والذبابة أولى بذلك!! 
لذا نلحظ أن القرآن الكريم وصف الذي يحمله بدون فهم لمراده،أو يلتزم أوامره شكلا ويهدر معانيه ومقاصده بأوصاف الكلب..أو الحمار..أو القرد..ويبدو أن وصفه بهذه الأجناس أراد إدانة عقله وفكره ومن ثم سلوكه غير المتناغم مع قيم النص،ولم يرد إدانة بدنه بالذلة والضعف والوهن.والدليل على ذلك أن الحمار قوي العضلات وله قدرة تحمل فائقة إلا أنه يعتبر في البلادة والغباوة والجهل بمكان،وعلى الرغم من ذلك تراه إذا رفع عليه السوط أسرع.أي أن القياس علّمه أن السوط متى رفع نزل،ومتى نزل اصابه،ومتى أصابه ألم.فهذه المعرفة المكتسبة لديه بالتقليد والتكرار لم تخرجه عن كونه من الأغبياء بامتيار،وقديما قالوا التكرار يعلم الحمار!! 
فإذا كان هذا وصف حال الحمار،فإننا نرى أن القرد يبدو أكثر ذكاء منه،حيث أنه يحاول إلتزام ظاهر النص ويمعن في إهدار باطنه ومقصده،وذلك بتعطيل إدراكه في فهم النص بالتحايل عليه أو إهداره جملة كما فعل أصحاب السبت وأتباعهم.علما بأن العقل هو مناط التكليف،لذا فأن أي محاولة للإعتداء على مدركاته أو تعطيل إمكانية إعمال نظره في النص والواقع فهما وتنزيلا؛فهما باعتبار النص في سياقاته التاريخية والمعرفية والاجتماعية،وتنزيلا بتخريج وتنقيح وتحقيق مناطه في أرض الواقع،تعد إحياء لظاهرة المسخ الجماعي.ولا ريب أن انتشار هذه الظاهرة بين الناس والسكوت عليها يعتبر بمثابة الإعلان الرسمي للإلتزام بالشكل وإهدار المضمون،وتقييد العقل المطلق محل التكليف ومناطه بدلالة الظاهر المقيدة؛أي أن دلالة النص محدودة والوقائع متجددة غير متناهية مما يلزم بالضرورة المنهجية استخدام العقل في فهم الدلالة المتناهية وتعدية مدلولاتها على الوقائع المستجدة غير المتناهية.وأحسب إن هذا الإعلان يؤسس لظاهرة(المسخ الجماعي)الذي يقيم الشكل والمبانى،ويهدر المقاصد والمعاني،ولا يعتبر للنص مقصدا ولا للواقع مكانة في فهم النص إلا قياسا على اقوال الأسلاف،وهذا يطمس إمكانية معرفة أن النص قد يفارقه الواقع،أو الواقع يفارق النص،ناهيك على قدرة ذلك العقل الممسوخ الجمع بين القرائتين في مقاصد النص؛قراءة النص في سياق تاريخه ونسيج اجتماعه وجعله معاصرا لنفسه،ثم قراءة النص ومقاصده في زماننا وجعله معاصرا لنا!!  
الواضح إننا أمام حالة مسخ جماعي لا يعبأ به من قبل السواد الأعظم من الناس،وهذا إيذان بتعطيل قيم القرآن،ومسخ عقل الإنسان،وإحياء عقل الحيوان،يقول ابن عاشور(ومعنى كونهم قردة،أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ،فقد اشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات،فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني،وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه،وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات)!! 
فهل من سبيل للنجاة من سنة مسخ العقول والقلوب،وذلك بفهم مقاصد والوحي والتجادل مع واقعنا بقيمه الكلية،عوضا عن التشبث بالمباني وإهدار المعاني،وأتقان الترديد وإزهاق التقصيد،والعيش في التاريخ والهروب من الحاضر..وإلا فلن نجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا؟!! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق