الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-فتح مصر ( ابنُ العاص: أرطيون العرب)7\6


لا يمكن الكلام عن فتح مصر، من دون الوقوف طويلاً أمام شخصية عمرو بن العاص الذى تحيَّر فى وصفه القدماء والمحدثون، وأورد عنه المؤرِّخون ما لا حصر له من أخبار، وأفرد له المؤلفون عدداً من الكتب التى لم تستطع -فيما أرى– أن تحيط بشخصيته الفريدة، المحيِّرة.. ولعل العبارة التى قالها ابنُ العاص فى مرض موته، تُلقى بعضاً من الضوء على تناقضات (الحيوات)، التى عاشها هذا الفاتح البديع، فقد أشار بعباراته إلى أنه مرَّ بمرحلة كان يكره فيها الإسلام ويحقد على النبىِّ، حتى يتمنى قتله لو يستطيع إلى ذلك سبيلاً، وفى مرحلةٍ تالية أسلم فصار فى قلبه حبٌّ عظيم للدين والنبىّ، لا يعدله حبٌّ مماثل.. وفى مرحلةٍ ثالثة دخل فى أمورٍ مدخولة الحق والباطل (حرب علىِّ بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان) فلم يعد يعرف خيرها من شرِّها، لكنه فى المجمل نادمٌ عليها.
لكن هناك مرحلة فى حياة عمرو بن العاص، أسبق من (الحيوات) الثلاث المذكورة، أعنى مرحلة الطفولة والشباب المبكر، وهى الفترة التى تشكلت فيها الملامحُ لشخصية عمرو بن العاص، الذى وصفه معاصروه واللاحقون به بأنه: داهية قريش، أمير الحرب، رجل العالم، أرطيون العرب.. وسوف نتوقف بعد حين، عند هذا الوصف الأخير.
بدأت حياة «عمرو» فى مكة، حيث كانت أمه تعيش فى كنف قريش بين الفقراء، كامرأةٍ من السبايا أو من المعدمين. وكانت تفتح بابها فيغشاها الرجال، ولما ولدته نسبته إلى «العاص بن وائل السهمى» فنشأ فى حضنه وتزوَّج فور بلوغه بابنة عمه «رائطة بنت الحجَّاج بن منبه السهمية» فقضت معه حياتها كلها، وأنجبت له ولده، الذى سماه «عمرو» باسم أبيه «العاص» غير أن النبىَّ غيَّره لاحقاً، وأعطاه الاسم الذى اشتُهر به: عبدالله بن عمرو بن العاص.. وكان الفارق فى السن بين «عمرو» وابنه «عبدالله» فى حدود الاثنتى عشرة سنة فقط!
وكان نبوغ «عمرو» فى مكة، مبكراً، فقد روت المصادر أنه كان صبياً يافعاً حين واجه بكلماته البليغة، رجالَ قريش الذين انتقدوا أباه «العاص بن وائل»، لاعتدائه على الحقوق المالية لواحدٍ من تجار اليمن، وهى الواقعة التى انتهت بتأسيس (حزب الفضول) الذى كان يقوم، من قبل الإسلام، بنُصرة المظلومين.
والغمَّازون اللمَّازون الكارهون لعمرو بن العاص، كثيراً ما يشيرون إلى أمه ظناً منهم أن ذلك يحطُّ من شأنه، لكنه فى واقع الأمر كان قد تجاوز هذه المسألة، منذ فترة مبكرة من حياته. بل كان لا يجد غضاضة فى الإشارة إليها، وهو ما يدل على ثقته الوفيرة بذاته، فعندما مات أخوه «هشام» بكاه بحرقة، وهو آنذاك أميرٌ على جيش المسلمين، فلامه على ذلك كبار قُوَّاده، فقال لهم ما معناه: كيف لا أبكى عليه، وقد كان أفضل منى، وأمه أفضل من أمى.. وفى واقعةٍ تالية، أيامَ كان أميراً لمصر، تراهن بعض الخبثاء مع رجلٍ على مبلغٍ من المال، إذا استطاع أن يسأل «عمرو» يوم الجمعة وهو على المنبر، عن أمِّه! فسأله الرجل، فقال له عمرو بن العاص ببساطةٍ وثقة ما فحواه: كانت امرأةً من فقراء قريش، اسمها كذا.. فاذهبْ وخُذْ من أصحابك المال الذى جعلوه لك.
ويتصل بما سبق، روايات أخرى لا تتعلق بقدرة «عمرو بن العاص» على تجاوز الوقائع القديمة التى لم يكن له يد فيها، فحسب، وإنما تدل أيضاً على قدرته الفائقة على ضبط النفس والثقة المفرطة بذاته. فقد كان أمير الجيش يوم نهر بعض جنوده ليقوموا إلى أعمالهم ويتركوا الطعام، فردَّ عليه أحدهم بقوله «مهلاً» فإنما نحن لحم وعظم، فقال له عمرو بن العاص «بل أنت كلب» فقال الجندى: فأنت أمير الكلاب.. فضحك ومضى عنهم! وكان قد انفعل يوماً حين سبَّه المغيرةُ بن شعبة، فشتم قبيلته قائلاً: «يا آل هصيص، أَيَسُبُّنى ابن شعبة» فقال له ابنه عبدالله: «إنا لله، دعوتَ بدعوى القبائل، وقد نهى النبىُّ عن ذلك».. فاعتذر عمرو، وكفَّر عن ذنبه بأن أعتق ثلاثين عبداً.
ومعروفٌ عن عمرو بن العاص، أنه ساعد معاوية بن أبى سفيان فى نزاعه مع الإمام علىّ بن أبى طالب، وحارب فى صفِّه وجعل له الأمر بالخدعة الشهيرة (التحكيم)، لكنه حين دخل على «معاوية» المجلس، فوجده يحكى من الوقائع ما يُعلى به من شأنه، ويحط من شأن الإمام علىِّ.. صاح فيه عمرو بن العاص: «يا معاوية أحرقت قلبى بقصصك، أترانا خالفنا عليّاً لفضلٍ منَّا عليه، لا والله، إنما هى الدنيا نتكالب عليها، فإما أن تقطع لى من دنياك، أو أنابذنَّك».. فأعطاه مصر!
ومع أن «عمرو» هو القائل، حين انتقدوه لأنه يركب بغلةً كبيرة السن وبائسة، وهو الأمير: لا أملُّ دابتى ما حملتنى، ولا أملُّ زوجتى ما أحسنتْ عشرتى، ولا أملُّ ثوبى ما وسعنى، فإن الملل من سيئ الأخلاق.. فإن «عمرو» ذاته هو القائل حين اجتمع بنو أمية عند كبيرهم «معاوية» ليعاقبوه على تفضيل عمرو بن العاص، فصاح فيهم: أما والله، ما أنا بالوانى ولا الفانى، وإنما أنا الحية الصماء التى لا يسلم سليمها ولا ينام كليمها، وأنا الذى إذا همزتُ كسرتُ، وإذا كويت أنضجت، فمن شاء فليشاور ومَنْ شاء فليؤامر.. وقد علمتم أننى أحسن بلاءً، وأعظم غناءً.
                                   ■ ■ ■
إذن، نحن بإزاء شخصية متعدِّدة الأنحاء، ومحيِّرة، لكن فضلها ثابتٌ بوقائع التاريخ وبصحيح الشهادات النبوية فى حق عمرو بن العاص.. فمن الوقائع الثابتة أنه قاد جيش المسلمين فى حياة النبى، عقب إسلامه، وكان تحت إمرته كبار الصحابة والشيخان أبوبكر وعمر، وقاد الجيوش التى فتحت بلاد الشام وشمال الجزيرة وفلسطين، فأظهر من الشجاعة والحكمة والمهارة ما يثير الإعجاب. وحين صال القائد العسكرى البيزنطى (الرومى) المسمَّى أرطيون، وتكتبه بعض المصادر العربية: أرطبون، وأعجز جيش المسلمين، شكا الناسُ أمرَه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، فقال: نضرب أرطيون الروم بأرطيون العرب.. واستدعى له «عمرو بن العاص» فذهب إليه على رأس جيش، وهزمه، واضطره للفرار بحفنة من جنوده إلى مصر.. ومن الشهادات النبوية فى حق عمرو بن العاص، الحديث: ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام (رواه الإمام أحمد والحاكم وابن سعد وابن عساكر) والحديث: أبوعبد الله عمرو بن العاص من صالحى قريش، نِعْمَ أهل البيت أبو عبدالله وأم عبدالله وعبدالله (أخرجه أحمد والترمذى) والحديث: أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص (قال الذهبى: حديثٌ حَسَنُ الإسناد).
                                   ■ ■ ■
وفيما يتعلق بفتح مصر، هناك حكاية ذات طابع (مسرحى) ترويها المصادر التاريخية الإسلامية، مفادها أن «عمرو بن العاص» ألح على الخليفة «عمر بن الخطاب» فى فتح مصر، فوافقه الخليفة متردداً، وقال له إنه سيرسل له برسالة يحسم فيها أمر الموافقة، فإن وصلته قبل دخول مصر فليرجع عنها، وإن وصلته بعد دخوله فلا يرجع! فلما جاء المرسال، تأخر «عمرو» عن مقابلته واستلام رسالة الخليفة، حتى وصل إلى العريش. فلما وجد الرسالة تقول له لا تدخل مصر، سأل من حوله هل نحن الآن فى مصر؟ فقالوا نعم، فقال: إذن نمضى على بركة الله..وما كانت الأمور تسير على هذا النحو المسرحى، وما كان للخليفة أن يأذن لعمرو بن العاص فى الخروج بالجيش فى الليلة ذاتها، على أساس (بيننا تليفونات)، وما كان المسلمون بغافلين عن خطورة فتح الشام والعراق مع بقاء مصر بيد هرقل، وما كان من الممكن للمسلمين التغافل عن لجوء «أرطيون» وفلول جيشه إلى مصر، واستعدادهم للكرِّ ثانيةً لو سنحت لهم الفرصة لجمع الشتات.. وما كان قواد المسلمين بغافلين عن الوضع المزرى لهرقل وجيوشه، وعن اضطراب الأحوال فى مصر بسبب صراع الكنائس هناك، وعن القوة العربية الهائلة الساكنة فى مصر! ولذلك كله، كان خروج عمرو بن العاص بالجيش إلى مصر، ضرورةً حتمية تعلو فوق هذه الروايات ذات الطابع المسرحىِّ، الهزلىّ.
وهناك رواية شهيرة، أكثر مسرحيةً وهزلية، تقول إن عمرو بن العاص فى شبابه، كان قد أنقذ بفلسطين راهباً كاد يهلك جوعاً، فأعطاه طعاماً وشراباً، وكاد يهلك من لدغة ثعبان، فقتله عمرو بن العاص بسهم! فأخذه الراهب إلى الإسكندرية، ليعطيه جائزة مالية مكافأةً على إنقاذ حياته مرتين.. وفى الإسكندرية، حضر «عمرو» احتفالاً فى (الاستاد) يرمون فيه بكُرةٍ على الناس، فمن وقعت فى حجره يكون بعد حينٍ ملكاً لمصر! فوقعت فى حِجر «عمرو بن العاص» فاستهان الناس بالأمر، لكنهم بعد سنوات وجدوا النبوءة قد تحققت وصار «عمرو» حاكماً لمصر.
وبالطبع، فهذه الرواية الهزلية تصل من السذاجة إلى الحدِّ الذى لا يجوز معه مناقشتها. لا سيما أنه لم يكن من المعروف أن مثل هذه (اللعبة) موجودة آنذاك، وليس معروفاً عن الرهبان ارتياد الملاعب، ولم يكن للعرب من أمثال «عمرو» هذه السذاجة، التى تدعوه للسفر شهوراً كى يأخذ جائزةً مالية من راهب (ومتى كان الرهبان يملكون أموالاً؟!).. فلنترك مثل هذه القصص البلهاء جانباً، وننظر بشىءٍ من الجدية إلى دخول عمرو بن العاص إلى مصر، على رأس جيشٍ خرج من الشام وعدده ثلاثة آلاف وخمسائة، وقيل بل أربعة آلاف ، كلُّهم من قبيلة «عك» اليمنية. ولنجعل الأمر ملخَّصاً فى النقاط التالية:
أولاً: كان المسلمون قد عقدوا اتفاقاً قبل سنوات مع المقوقس، أبرمه «حاطب بن أبى بلتعة» فى خلافة أبى بكر الصديق. فلما لجأ «أرطيون» إلى مصر، وفيها من جند الروم عشرات الآلاف، صار (العهد) السابق قد انتُقض من جهة المقوقس باستقباله أرطيون، أو بعدم قدرته على طرده من البلاد.. ومادام الأمر كذلك، كان لا بد للعرب المسلمين من تعقُّب أرطيون، خشية أن يرتدَّ عليهم وقد ازداد قوةً، خاصة أن الأسطول البيزنطى كان يرابض بشواطئ الإسكندرية، وكان من الممكن أن يعود فيضرب سواحل الشام التى لم تكن آنذاك قد استقرت تماماً بأيدى المسلمين.
ثانياً: نقل لنا المقريزى، وهو من المؤرِّخين الكبار المتأخرين (تُوفى سنة ٨٤٥ هجرية) أن الخليفة «عمر» كتب إلى «عمرو» رسالةً بعد فتح الشام، يقول فيها لعمرو بن العاص: «اندبْ الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خفَّ معك، فِسرْ به»، وبعث الخليفة بالرسالة مع (شريك بن عبدة) فندبهم عمرو، فأسرعوا إلى الخروج معه.
إذن كان العربُ الساكنون قبل عقودٍ بمصر ينضمون لجيش «عمرو» تباعاً، خاصةً قبائل لخم وراشدة والأنباط وسكان سيناء من البدو، فيتزايد مع سير الجيش عدده، بحيث يمكن أن ينتصر العرب المسلمون على الروم فى أول موقعة عسكرية (الفرما = بيلوز= البرمون) ويأسرون منهم ثلاثة آلاف جندى، يرسلهم عمرو بن العاص كأسرى للمدينة (يثرب) فيردُّهم الخليفة «لعهدٍ كان قد سبق لهم»، هو العهد المبرم بين حاطب بن أبى بلتعة والمقوقس، ولم يكن لجند الروم المتحصِّنين فى الفرما (بلدة قريبة من بورسعيد الحالية) ذنب فى انتقاض هذا العهد.. ومن جهةٍ أخرى، يمكن أن نفهم فى ضوء ما سبق، قول المؤرخ المبكر «ابن عبدالحكم» أن عمرو بن العاص خرج بالجيش إلى مصر: فنقض الصلح وفتحها.
ثالثاً: لا يجب أن يغيب عن أذهاننا، خيانة المقوقس لهرقل بعد (العهد)، الذى أبرمه سراً مع المسلمين، ولم تُشِرْ إليه أى وثائق أو مدوَّنات تاريخية بيزنطية. وهو ما يفسر أشياء كثيرة جرت فى ابتداء الأمر، منها أن جيش «عمرو» وجد حدود مصر (العريش) خاليةً من جند الروم، وهو ما لا يستقيم مع حالة الاستنفار المفترضة فى بلدٍ يخضع للإمبراطورية البيزنطية، التى تحارب المسلمين فى الشام.. ومنها المفاوضات الهزلية التى قام بها المقوقس مع المسلمين أثناء حصار القصر (حصن بابليون)، الذى يسمِّيه بعض مؤرِّخينا القدامى: باب إليون. والمفاوضات التالية التى قام بها المقوقس مع عمرو، أيام فتح الإسكندرية، بعد وفاة هرقل حسيراً آسفاً على تداعِى أركان إمبراطوريته. فكان من مطالب المقوقس التى وافق عليها (عمرو) أن يبقى المقوقس فى الإسكندرية، وأن يُدفن بعد وفاته فى كنيسة يوحنا، التى تسمِّيها المصادر العربية المبكرة: كنيسة أبى يُحنَّس.. فقد كان المقوقس قبل سنوات يسعى إلى امتلاك الحكم الدنيوى، فصار بعد حينٍ يفكر فى ختام حياته، وفى القبر الذى يستر جسده ومخازيه.
رابعاً: كان عمرو بن العاص يسير بجيشه فى حواف الدلتا، وفى الجانب الشرقى من مصر، على هدى الأدلاء من العرب العارفين بتلك النواحى. فلما عبر النيل فى موسم التحاريق، حيث ينكشف قاع النهر، سار بجيشه على غير هدى حتى وصل الفيوم فى رحلةٍ ليس تحتها طائل، فوجد هناك قتالاً يدور بين الروم أنفسهم، فعاد وحاصر القصر بعد حين.. فلما اجتمع حوله أشتات العرب (المصريون) وجاءه مددٌ قوامه أربعة آلاف جندى مسلم من خيرة المقاتلين (فيهم: الزبير بن العوام، المقداد بن الأسود، عبادة بن الصامت، مسلمة بن مخلد) استطاع الاستيلاء على الحصن، واتجه إلى الإسكندرية عاصمة البلاد التى لا يستقيم (الفتح) إلا بدخولها، فوقف عند أسوارها الشرقية، حتى تداعى قلب المدينة واضطربت أحوال الناس فيها، فدخلها، ثم ثارت على المسلمين بعد حين، حين أتاها المددُ من بيزنطة.. فعاد إليها «عمرو» بن العاص وفتحها ثانيةً، وهرب الرومُ من أمامه بسفنهم.
خامساً: كان مجىء «عمرو» بن العاص بجيشه إلى مصر، إنما هو فى واقع الأمر لتسلم حكم البلاد، وليس للفتح أو الغزو أو الحرب التى من غير المعقول أن ينهزم فيها عشرات الآلاف من جند الروم المتحصِّنين فى القلاع (عددهم ما بين أربعين ألفاً ومائة ألف) أمام جيش المسلمين، الذى كانت خسائره اثنين وعشرين رجلاً..
وإلى مقالة الأسبوع القادم، حيث نختتم هذه السباعية.

د. يوسف زيدان-فتح مصر (صراعُ الكنائس المصرية)7\5


لا يمكن فهم الواقعة الكبرى المسماة فتح مصر (أو غزو مصر، أو الدخول العربى الإسلامى لمصر) وآثارها الممتدة حتى يومنا هذا، من دون الوقوف عند الجوانب المختلفة والعوامل المتفاعلة، التى أنتجت هذا «النبأ العظيم» بأبعاده التاريخية والمعاصرة.. وقد جاءت المقالات السابقة من هذه السباعية، المتتابعة، متتبعةً لهذه الجوانب والعوامل المتساندة فيما بينها، مع أنها تبدو للوهلة الأولى متباعدة.
ومن تلك الجوانب والعوامل، حالةُ الصراع الكنسى، الذى كان دائراً فى مصر أثناء قدوم الفاتح عمرو بن العاص بجيشه سنة ٢٠ هجرية الموافقة سنة ٦٣٩ ميلادية، بل كان دائراً من قبل ذلك بعشرات السنين.. وفيما يلى ملخَّص بيانه، وعلى القراء تأمله وتبيانه:
فى القرنين الأول والثانى الميلاديين، ظهرت المسيحيةُ فى أنحاء العالم القديم (الهلال الخصيب وحوض البحر المتوسط) كلَهَبٍ سماوىٍّ انتشر فى هشيم المهمَّشين من الناس، يزفُّ إليهم بشرى «الخلاص» الذى كان حُلماً يهودياً قديماً، ظل يراود أجيالاً من اليهود الذين طالما انتظروا «الماشيح»، الذى سيحقق وعد (عهد) الربِّ لإبراهيم، ويصير ملكاً لليهود فى الأرض الممتدة من النهر إلى النهر، أو من النيل إلى الفرات..
وهما الخطان الأزرقان المرسومان اليوم فى العَلَم الأبيض لدولة إسرائيل، وبينهما نجمة «داوود» السُّداسية الشهيرة، التى يقولون إنها كانت شعار (داوود)، الذى هو عند اليهود ملكٌ عظيم، وعند المسلمين نبىٌّ كريم.
وكان للمسيحية، عند ابتداء انتشارها، أشكالٌ كثيرة، ترسم للسيد المسيح صوراً متعددة تتفاوت فيما بينها، فهو عند أولئك فيلسوفٌ غنوصىٌّ يصل بالتطهر إلى الحقائق السماوية، وعند هؤلاء رسولٌ من عند الله، أو هو ابن الله الذى جاء ليفتدى البشر ويخلِّصهم من خطيئة أبيهم آدم الذى عصى الربَّ، وأكل من شجرة (المعرفة) المحرَّمة على الإنسان..
وكاد يأكل من شجرة الخلود، فيصير كالآلهة! وهو ما أشير إليه فى الكتاب المقدس عند اليهود والمسيحيين، حيث قال «سفر التكوين» ما نصُّه: «وقال الربُّ الإله، ها هو الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفاً الخير والشرَّ، والآن لعله يمدُّ يده ويأخذ من شجرة الحيوة أيضاً (شجرة الخلود) ويأكل فيحيا إلى الأبد، فأخرجه الربُّ الإله من جنة عدن، ليعمل فى الأرض التى أخذ منها.
فطرد الإنسان وأقام شرقىَّ جنة عدن، الكروبيم (الملائكة الحرَّاس) ولهيبَ سيفٍ متقلبٍ، لحراسة طريق شجرة الحيوة.. (الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح الثالث، الآيات ٢٢ وما بعدها).
■ ■ ■
ورأى المسيحيون أن «يسوع» هو المسيح المخلِّص من الخطيئة الأولى، فآمنوا به وتناقلوا الأناجيل الكثيرة (إنجيل= بشارة) وراحوا بكل حماس يدعون الناس للإيمان به، وهو ما يُعرف فى المصطلح الكنسى بالكرازة (كرازة = تبشير) لكن اليهود لم يقتنعوا بأنه الماشيح، فحاكموه وسلَّموه إلى الرومان ليقتلوه، فصلبوه، حسبما يعتقد المسيحيون، أو شُبِّه لهم، حسبما يعتقد المسلمون.
وفى القرن الثالث الميلادى، انتشرت بأيدى الناس نسخٌ كثيرة من الأناجيل، منها الأناجيل الأربعة المعروفة اليوم «متى، مرقس، لوقا، يوحنا» وأناجيل أخرى، مثل إنجيل (يهوذا) وإنجيل (المصريين) وإنجيل (الطفولة) وغيرها.. وقد أدى اختلاف هذه النصوص، إلى فهمٍ مختلفٍ ومتباينٍ للديانة التى صار مجموع المؤمنين بها فى الربع الأول من القرن الرابع الميلادى، قرابة عشرة بالمائة من مجموع سكان الإمبراطورية الرومانية الواسعة.
وفى الربع الأول من القرن الرابع الميلادى، انتشرت آراء المفكر الكنسى الشهير «آريوس» الذى وفد إلى الإسكندرية من ليبيا (المدن الخمس الغربية) ثم أذاع أفكاره فى الشام، فآمن بها كثيرون.. وتتلخص أفكاره فى أن المسيح ليس إلهاً، وليس ابناً لله بالمعنى الحقيقى، وإنما بشكل مجازى، وفى إطار نظرية (التبنِّى) التى تطورت بعد ذلك، ولاقت قبولاً عند كثيرين.
وزمجرت كنيسة الإسكندرية اليونانية، ودعا أسقفها «إسكندر» إلى اجتماع دولى لرؤساء الكنائس الكبرى فى العالم، فانعقد المجمع برعاية ورئاسة الإمبراطور الوثنى قسطنطين سنة ٣٢٥ ميلادية ببلدة نيقية الواقعة حالياً بتركيا (تسمى اليوم: أزنيق)، وتم فى الاجتماع طرد آريوس من حظيرة الإيمان، كما تم إقرار الأناجيل الأربعة، وتأكيد أن المسيح يعادل الله وروح القدس، وبالتالى سطعت عقيدة التثليث أو الثالوث المسيحى التى صيغت فى عبارة: الآب والابن وروح القدس إلهٌ واحدٌ، آمين (وليس: آمون).
■ ■ ■
وصارت المسيحية من بعد ذلك «المجمع» فريقين: هراطقةً (كُفَّاراً) من أتباع الآريوسية والمانوية والديصانية، ومؤمنين يسمُّون أنفسهم أتباع الكنيسة الكاثوليكية الأُرثوذكسية (كاثوليكية= جامعة، أرثوذكسية= الإيمان القويم أو العقيدة المستقيمة).. لكن الفريق الأخير انقسم على ذاته فى مرحلة تالية، عندما رفض نسطور (أسقف العاصمة الإمبراطورية بيزنطة) اعتبار القديسة مريم العذراء «أم الإله» أو بحسب اللفظ اليونانى : ثيوتوكس.. وبالمناسبة، فإن كل هذه الاعتقادات والاختلافات العقائدية، كانت آنذاك تُصاغ باللغة اليونانية، وكانت كنيسة الإسكندرية: أيضاً يونانية اللغة والتفكير.
ثم انشقت الكنيسة الكاثوليكية (الجامعة) الأرثوذكسية (القويمة) على نفسها بسبب انتشار أفكار نسطور فى منطقة الشام والعراق، مع أنه طُرد من حظيرة الإيمان فى مجمع إفسوس سنة ٤٣١ ميلادية، فصارت الكنائس كالتالى: هراطقة، نساطرة، أرثوذكس (=كاثوليك).. وبعد الانشطار الذى تم فى مجمع خلقيدونية سنة ٤٥١ ميلادية، بسبب الخلاف حول طبيعة المسيح، وهل هو (من) طبيعة إلهية، أم (عن) طبيعة إلهية؟
وهو الخلاف الذى أدى فى المجمع المذكور إلى ثورة رؤساء الكنائس على رئيس كنيسة الإسكندرية «الأسقف ديسقوروس» وإهانته بشكلٍ لا يجوز أن أذكره هنا بالتفصيل، احتراماً لذكرى هذا الرجل.. صارت الكنيسة الأرثوذكسية (=الكاثوليكية) قسمين متنازعين: أتباع خلقيدونية أو كنيسة اليونان وبيزنطة وروما (= الروم الأرثوذكس) وأتباع ديسقوروس أو كنيسة اليعاقبة نسبةً إلى يعقوب (البرادعى) أو كنيسة الطبيعة الواحدة المسماة «المونوفستية» وهى التى يُشار إليها اليوم، مجازاً، بالكنيسة القبطية.. وكانت هناك، أيضاً، كنيسة أرثوذكسية فى الشام، هى المسماة اليوم كنيسة الأرثوذكس السريان..
وبعد الانشطار الأعظم الذى حدث فى حدود سنة ١٠٥٤ ميلادية اختص أتباع كنيسة روما باسم (الكاثوليك)، وهم الذين انشطر منهم فى القرن السادس عشر الميلادى كنيسة (البروتستانت).. بينما اختص أهل الكنائس المصرية واليونانية والشامية باسم (الأرثوذكس) وتوزَّعوا على ثلاث كنائس: الأرثوذكس السريان، الأرثوذكس الخلقيدونيين (الروم)، الأرثوذكس اليعاقبة (المونوفستيين)..
وبالمناسبة، فإن فى بلادنا اليوم من هذه الكنائس ثلاثاً، أكبرها التى يرأسها حالياً قداسة البابا شنودة الثالث (بطريرك الكرازة المرقسية) تليها من حيث عدد الأتباع كنيسة الإنجيليين، وهم من البروتستانت الذين وصل عددهم إلى قرابة المليون شخص. ويقال إنهم يتزايدون رويداً، بسبب انتقال أتباع الكنيسة الأولى إلى مذهبهم الخالى من تعقيدات الكهنوت وصعوبات الطلاق (لذلك تقيم الكنيسة الأولى، دورياً، ما يسمَّى: مؤتمرات تثبيت العقيدة!)..
أما الكنيسة المصرية الثالثة، فهى المسماة كنيسة الروم الأرثوذكس (الخلقيدونيين) وكان السريان والعرب يسمونها كنيسة الملكانية، ولهم اليوم رئيس روحى يعيش فى الإسكندرية، هو البابا ثيوذوروس الثالث (بابا وبطريرك الإسكندرية وسائر أفريقيا) وقد التقيتُ به مراراً، فوجدته أنموذجاً لما يجب أن يكون عليه رجال الدين.. وبالمناسبة، فهذه الكنيسة الأخيرة، هى الكنيسة المصرية الأكثر عراقةً وامتداداً فى تاريخنا المصرى، وهى التى بيدها اليوم أهم وأقدم دير فى مصر (دير سانت كاترين)، الذى تحتفظ مكتبته بأقدم نسخةٍ كاملة من الأناجيل الأربعة، باللغة العربية (مؤرَّخة بسنة ٢٨٤ هجرية).
■ ■ ■
نعود إلى زمن الفتح (الغزو، الدخول) العربى الإسلامى لمصر، فنرى أن الخريطة الروحية للبلاد، كانت تجمع بين ثلاث كنائس كبرى هى: الملكانية، اليعقوبية، السريان.. وكانت السلطة الدينية والمدنية بين الملكانيين الذين كان رئيسهم فى زمن الفتح قيرس (المقوقس)، الذى رأينا فى المقالة السابقة، كيف كان يبطش بالمخالفين لمذهبه الساذج (المونوثيلية) سواء كانوا من الملكانيين أو اليعاقبة، لكن بطشه باليعاقبة «الأقباط» كان أنكى وأشنع، لأنهم فقراء مساكين.
ولا نستطيع هنا، ولا يستطيع أى شخص، تحديد النسبة العددية لهذه الكنيسة أو تلك .. ولكن يمكن إجمالاً أن نقول، إن فى زمن الفتح كانت الكنيسة الملكانية (الروم الأرثوذكس) هى الأقوى والأغنى، بينما كانت كنيسة اليعاقبة (الأقباط الأُرثوذكس) هى الأكثر عدداً من حيث الأتباع.
وبعد الفتح، تكاثر أتباع الكنيسة الأرثوذكسية اليعقوبية (= الأقباط المرقسيون) بسبب الاستقرار، الذى أتاحه الحكم الإسلامى للبلاد، بينما تناقص عدد الأرثوذكس الروم، بسبب رحيل بعضهم عن الديار إلى اليونان والأناضول، حيث المقر الرئيسى لمذهبهم العقائدى.. لكن الملكانيين لم يختفوا من مصر،
بل كان لهم فى القرون الإسلامية الأولى بمصر، حضورٌ متميزٌ يتمثل فى وقائع كثيرة دالة على أهميتهم فى تاريخنا.. فمن ذلك نبوغ رجال منهم، من أمثال «سعيد بن البطريق» المؤرِّخ، المتوفى سنة ٩٣٩ ميلادية، وكان رئيس كنيستهم فى زمانه، ومن أهل كنيستهم زوجة العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمى، وهى أمُّ «ست الملك» أخت «الحاكم بأمر الله».. ويقال إنها أمُّ (الحاكم) أيضاً.
■ ■ ■
نعود، ثانيةً، إلى زمن الفتح الإسلامى بمصر، فنشير إلى أن العرب الذين كانوا قد استقروا بمصر من قبل الفتح بقرون، كان منهم يهودٌ مسيحيون.. وهؤلاء المسيحيون كان منهم ملكانيون من أمثال الأسقف يوحنا بن رؤبة (حاكم أيلة الذى صالح النبى وفتح أمام المسلمين بوابة سيناء الجنوبية) وكان منهم نساطرة، وهو المذهب المسيحى الأوسع انتشاراً آنذاك فى العراق وأطراف الشام، ومنهم أتباع كنائس أخرى اضمحلَّت مع الوقت وطواها الزمان.
ولا يجب هنا أن يفوتنا المعنى العميق لعبارة الخليفة عُمر بن الخطاب، التى أمر فيها عمرو بن العاص عند خروجه بالجيش العربى الإسلامى لاستلام الحكم فى مصر.. أعنى العبارة التى أمره فيها بأن يستنفر معه القبائل العربية بمصر، كى تؤازره وتشترك معه فى فتح البلاد. وهو الأمر الذى سنعرض له بشىءٍ من التفصيل فى المقال القادم.
فإلى لقاء..

د. يوسف زيدان-فتح مصر ( بشاعةُ المقوقس) 7\4


عرفت مصرُ خلال تاريخها الطويل، ما لا حصر له من أنواع الحكام الذين تعاقبوا على عرشها بالتراضى، فى مراتٍ قليلة، أو خلعَ بعضُهم بعضاً وانتزع العرش فى معظم المرات. وفى تطوافه ببلادنا، مَرَّ التاريخُ على كثيرين من حكام السوء، وعلى بعض الجيِّدين!
فقد حَكَمَنا من قبلُ الإماءُ من النساء (الجوارى) مثل شجرة الدر، وحَكَمتنا الحرائرُ من الملكات البديعات من أمثال كليوباترا وحتشبسوت وزنوبيا (ملكة تدمر العربية التى امتد سلطانها شرقاً، حتى شمل الإسكندرية ودلتا النيل)..
وعرفنا من الحكام الرجال، عقلاء من أمثال المنصور قلاوون، ومهووسين من أمثال الظاهر بيبرس (وكلاهما لم يعرف الناسُ له أباً) وعرفنا مَنْ اشتهر عنهم الولع بالنساء، كالملك فاروق، وعرفنا العازفين عن الزواج وعن المرأة عموماً كالحاكم الشهير «كافور»، الذى كان خَصِيّاً..أو بتعبير عامى: مخصِيّاً.
لكن (العرش) فى بلادنا لم يشهد خلال تاريخه الطويل، فيما أعتقد، رجلاً أسوأ من «المقوقس» ولا أكثر منه بشاعةً ووضاعة.. ودعونا أولاً نتعرف معنى كلمة (مقوقس) لنحسم بذلك خلافاً، طالما اضطرب فيه المؤرِّخون وظنَّ فيه الباحثون الظنون، لأن أحداً منهم لم ينتبه إلى الآتى:
هناك طرقٌ مختلفة للنسبة، فى مختلف اللغات. ففى اللغة العربية، إذا أردنا أن ننسب شخصاً إلى بلدةٍ ما، أو إلى أىِّ شىءٍ آخر نريد أن ننسبه إليه. نأتى بالحرف المسمَّى (ياء النسبة) ونلحقه بآخر المنسوب إليه، فنقول مثلاً: فلان «القاهرىّ» وفلان «السكندرىّ= الإسكندرانىّ» وفلان «الدمشقىّ» أو «الحلبىّ» أو مثل ذلك .. وقد ننسب بهذه الياء إلى جماعة، فنقول: العباسىّ، القرشىّ، الأموىّ، العثمانىّ، أو مثل ذلك.. وقد ننسب بها إلى مذهبٍ فقهىٍّ أو عقائدى، فنقول: الحنبلىّ، الشافعىّ، المالكىّ، الشيعىّ، السنىّ، الإباضىّ.. إلخ.
وفى اللغة التركية، تلحق بالمنسوب إليه لفظةُ (جى) فإذا أرادوا نسبة الرجل إلى عربة (الكارو) قالوا: عربجى. وإذا كان مسؤولاً عن قلعة، فهو قلعجى. وإذا كان يعمل فى بيتٍ للدعارة، فهو كَرَخَانجى (قَرَا خان= المحل الأسود) وإذا كان هذا الشخص يقوم بالحملات ويُلقى البلاء على البسطاء، فهو حَمْلجى (حملة جى) وإذا كان يصنع الحلوى فهو حلوجى.. وقد ينسبون بإلحاق اللام والياء بآخر الكلمة، فيقولون: شربتلى (صانع الشراب) قوَّتلى، غُندقلى.. إلخ.
أما فى اللغة المصرية القديمة، التى تطورت كثيراً حتى وصلت إلى المرحلة التاريخية التى سبقت، وتزامنت، مع (دخول) المسلمين إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص. وهى اللغة المسماة اليوم، بشكل سبهللى غير دقيق: اللغة القبطية (بالمناسبة: سبهللة كلمةٌ عربيةٌ فصيحةٌ)..
فإن النسبة فى هذه اللغة تأتى على نحوٍ خاص، هو إلحاق لفظة «امْ» بأول الكلمة المنسوب إليها. ومن هنا، صار اسم هذا الرجل الذى وفد إلى مصر من الجهة المسماة بالعربية «القوقاز» وهى الجهة التى يُنطق اسمها باليونانية واللاتينية «قَوْقس» صار اسمه فى اللغة الدارجة بمصر آنذاك (امِّقوْقس) ونطقه العرب (المقوقس) أى القوقازى..
ومن لهجات العرب خصوصاً أهل اليمن، التعريف بالألف والميم بدلاً من الألف واللام، وقد خاطب النبىُّ جماعةً من أهل حِمْـيَر، وفدوا عليه وهم صائمون أثناء سفرهم قائلاً: ليس من امْبرِّ امْصيام فى امْسفر (= ليس من البر الصيام فى السفر).. وهو حديثٌ نبوى صحيحٌ.
إذن، المقوقسُ هو النطق العربىُّ للكلمة المصرية القديمة (تجاوزاً: القبطية) التى شاعت فى زمن الدخول الإسلامى مصر، كلقبٍ أو نسبة لهذا الأسقف/ الحاكم الذى هو فى الأصل من بلدة «فاسيس» بالقوقاز. واسمه الأصلى «كيرس» أو «قيُرس» أو «سيروس» وهو اسم كان شائعاً فى العالم المسيحى فى ذاك الزمان.. فما الذى جاء بهذا الرجل ليحكم مصر؟ القصةُ طويلةٌ، ولسوف نوجزها فيما يلى بقدر المستطاع.
■ ■ ■
ما كاد الحكم فى مصر والشام يستقر بيد «هرقل» الذى انتزع عرش الروم من الإمبراطور البيزنطى فوكاس (سنة ٦١٠ ميلادية = سنة ١٣ قبل الهجرة) حتى اجتاح الفرسُ البلاد وانتزعوها من قبضته وسلطانه سنة ٦١٦ ميلادية، الموافقة لسنة ٧ قبل الهجرة. وهو الحدث الجلل الذى أشارت إليه الآيات الأولى من سورة الروم فى القرآن الكريم، حيث قالت (غُلبت الروم. فى أدنى الأرض).
وكان مما يؤلم المسيحيين آنذاك، بالإضافة إلى وقوعهم تحت سلطان الفرس (عَبَدَة النار= أصحاب الأفيال= البابيلون) أن هؤلاء الغزاة بعد استيلائهم على العاصمة الروحية للمسيحيين آنذاك، وهى مدينة إيلياء التى كانت تسمى قديماً «أوروشاليم» وصارت تسمى لاحقاً «القدس»، قاموا بانتزاع الخشبة المسماة فى المصطلح المسيحى القديم: صليب الصلبوت.. وهى قطعةٌ من الخشب، استخرجتها فى بداية القرن الرابع الميلادى من تحت التراب هيلانة، أمُّ الإمبراطور قسطنطين، وهى امرأةٌ قيل إنها كانت فى بداية أمرها تعمل ساقيةً فى ماخورٍ من مواخير مدينة «الرُّها» العراقية،
وهناك أنجبت طفلاً غير شرعى، لم يُعرف له أبٌ. غير أن هذا الطفل (قسطنطين) صار من بعد ذلك رجلاً عسكرياً ماهراً، استطاع أن يقضى على منافسيه من رفقاء السلاح، وأصبح إمبراطوراً. وأصبحت أمُّه بعون الرب «قديسة»، لأنها اكتشفت (الصليب) الذى صُلب عليه السيد المسيح فى اعتقاد أهل الديانة، وأقامت فوقه قُبة كنيسة القيامة التى صارت قبلةً للحج المسيحى، خلال القرون التالية.
ولما انتزع الفرسُ (صليب الصلبوت) انخلعت قلوب أهل الديانة على اختلاف مذاهبهم، وانفطرت حزناً. لكن الروم استطاعوا بقيادة قواد هرقل، أن ينتصروا على الفرس بعد قرابة تسع سنوات على احتلالهم لمصر والشام، وهو الأمر الذى كانت سورة الروم قد تنبَّأتْ به، فى قوله تعالى بعد الآيات السابقة (وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون).
ولما انتصر الروم، أعادوا قطعة الخشب (التى اختفت ثانيةً بعد ذلك بقرون) من عاصمة الفرس «المدائن» وعاد بها هرقل سنة ٦٢٨ ميلادية، إلى إيلياء (القدس= أورشليم) فى حفلٍ مهيبٍ أسال دموع الناس فى أنحاء دولة الروم (المسيحية) على اختلاف مذاهبهم.
واختلاف المذاهب، كان آنذاك سبباً فى اهتراء الدولة. فالمصريون المسيحيون قلوبهم شتى، فيهم الأرثوذكس الروم (الملكانيون) والأرثوذكس السريان (الشوام) والأرثوذكس اليعاقبة (أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة الجامعة بين الله والمسيح)..
وأما سكانُ العراق المسيحيون (أغلبهم من العرب) فكان معظمهم نساطرة، يتبعون هذه الكنيسة الكبيرة التى امتدت فى ذلك الزمان من أطراف الشام إلى قلب آسيا. وأما الشام المسيحى، فكانت مذاهبه العقائدية خليطاً من النسطورية والآريوسية والأرثوذكسية.. وحسبما سنذكر تفصيلاً فى مقالنا القادم، فقد كان لهذا التنازع المذهبى، أثرٌ هائل فى الأحداث الكبرى آنذاك، وفى السِّجال العسكرى بين الفرس والروم.
ولما استقر «صليب الصلبوت» فى مكانه السابق، اجتمع الأساقفةُ فى (أورشليم، إيليا، القدس) حول هرقل الذى سألهم عن مخرجٍ عقائدى، يحلُّ الإشكال القائم بين الكنائس فى مصر، حتى يضمن (مناخ الاستقرار) بالبلاد، فلا يتفرَّق الناسُ بسبب العقيدة، ويلجأ المغلوبون منهم إلى أعداء الدولة، مثلما فعل اليهود.. وبالمناسبة،
فقد أعقبت هذه الزيارة التاريخية لهرقل، مذبحةٌ هائلةٌ لليهود فى أنحاء الأرض، قُتل فيها عشرات الآلاف عقاباً لهم على مساعدتهم للفرس (حسبما قال الأساقفةُ لهرقل) .. وبالمناسبة، أيضاً، فإن رسالة النبى محمد (ص) أو بعثته إلى هرقل، كانت فى تلك الأثناء.
ولذلك انشغل هرقل عن الردِّ على الرسالة التى جاءته من قلب جزيرة العرب، وهو الموضع الذى لم يكن هرقل يهتم به (لكنه سوف يهتم به لاحقاً، وينهزم أمامه) وقد جرى هذا الاتصال الأول، فى حدود سنة ٧ هجرية، أو سنة ثمانية (٦٢٨ أو ٦٢٩ ميلادية) .
ولما استقر الرأىُ على ضرورة توحيد المذاهب المسيحية، اخترع الأساقفة لهرقل مذهباً تلفيقياً سموه (المونوثيلية) أى: مذهب الإرادة الواحدة لله. واقترحوا عليه تعميم المذهب الجديد فى مصر، فلا يختلف أهل الديانة فيما بينهم..
وكان هرقل، بالطبع، يشجِّع اتفاق رعاياه من أهل الديانة على مذهبٍ واحدٍ، فلا تثور بينهم المشكلات وترُاق بسبب العقيدة الدماء، وبالتالى يضمن الولاء من الجميع. خاصةً أنه كان يريد أن يرتاح بعد سنوات من الكفاح، ويسعد بزواجه من (مرتينا) ابنة أخته، وهى فتاة باهرة الجمال أراد خالها هرقل أن ينالها، فاعترض بعضُ الأساقفة ووافق البعض.. وبعد شدٍّ وجذب، تزوَّجها.
ولما كان من المعروف عن المصريين (اليعاقبة) عنادهم، فقد كان من المهم أن يُعهد بتعميم المذهب الجديد، إلى شخصٍ حازمٍ وقوىٍّ بإمكانه تحقيق هذا الأمر، وإلزام المصريين المسيحيين جميعاً، بمذهبٍ عقائدىٍّ واحد. فاقترح البعضُ على هرقل، أن يأتى من بلاد القوقاز (قَوْقس) بأسقف بلدة فاسيس، الواقعة حالياً بجمهورية جورجيا، ليكون لأول مرة (ولآخر مرة) فى تاريخ مصر: الحاكم الدينى والدنيوى، معاً..
وتمت صياغة المذهب (المونوثيلى) على عجل، وعلى عجلٍ استدعى هرقل الأسقف القوقازى، ودرس هذا الرجلُ المذهبَ (المخترَع) وذهب به إلى مصر ليخلف الأسقف جورجيوس بن مينا، الذى يسميه العرب (جريج بن مينا) وليكون أيضاً قائداً عاماً للجيش، وملكاً أو أميراً يحكم مصر لصالح هرقل. وكان وصول هذا الأسقف القوقازى (المقوقس) إلى الإسكندرية عاصمة مصر آنذاك، فى خريف سنة ٦٣١ ميلادية.
وهو الأمر الذى أكَّدته المصادر التاريخية (يمكن مراجعة هذه النقطة المهمة، فى كتاب «ألفريد بتلر» عن فتح مصر).
ولنلاحظ هنا، أن وفاة النبى محمد (ص) كانت فى ربيع سنة ٦٣٢ ميلادية، أى بعد شهورٍ من مجىء المقوقس.
وبالتالى، فلا صحة لما توهَّمه عديدٌ من القراء، الذين ظنوا أن هناك خطأ فى الأحداث التاريخية المذكورة عَرَضاً فى روايتى «النبطى»، خصوصاً فيما يتعلق بمجىء السيدة (مارية القبطية، أم المؤمنين).. فالخطأ التاريخى ليس فى الرواية، وإنما فى أذهاننا.
■ ■ ■
وحين وصل المقوقس إلى مصر، كان للمسيحيين المصريين (الملكانيين) كبيرٌ منهم اسمه الأنبا صفرونيوس، وللمسيحيين المصريين (اليعاقبة) كبيرٌ اسمه الأنبا بنيامين.. وعرض الأسقف/ الأمير «قيرس» الذى سماه المصريون «امِّقَوْقس» المذهب الجديد على الملكانيين، فارتمى صفرونيوس تحت أقدامه، ونزفت عيناه دماً (حسبما يقول ساويرس بن المقفع) وصرخ متألماً، راجياً من الأسقف المقوقس أن يصرف النظر عن هدفه ونيَّته إلزامَ الجميع بالمذهب الجديد.
فأهانه المقوقس، لكنه لم يستطع أن يبالغ فى إيذائه، لأن الملكانيين كانوا آنذاك هم «أصحاب البلد» وكان بأيديهم المال والاقتصاد والتبعية المباشرة لكنيسة العاصمة الإمبراطورية «بيزنطة».. أما الكبيرُ الآخر، الأنبا بنيامين، فإنه لم يذهب إلى المقوقس ليفاوضه، أو يرجوه، أو يتحداه، ساعياً للشهادة. وإنما هرب من الإسكندرية، بعدما أوصى أتباعه بأن يصمدوا.
وقد قبض المقوقس على (مينا) المسكين، الأخ الأصغر للأنبا بنيامين، أملاً فى أن يعود أخوه الأنبا الهارب، فيلزمه المقوقسُ بالمذهب الجديد المخترَع. لكن بنيامين لم يرجع إلى الإسكندرية، واختفى عن الأنظار فى الصعيد، فاكتوى أخوه المسكين (مينا) بنار المقوقس وأتباعه.
فقد تفننوا فى تعذيبه بدنياً، ثم علَّقه المقوقس من ذراعيه وأوقد حوله ناراً حامية أذابت شحم جسمه، ثم أخذه إلى مركب وعلَّق بقدميه أثقالاً، وعرض عليه أن يقبل المذهب الجديد، أو يُلقى به فى البحر.. وآثر «مينا» الموت، فأغرقوه فى البحر، فصار شهيد المذهب اليعقوبى!
وآثر بنيامين البقاء هارباً، ومختفياً، وظل كذلك طيلة الثلاث عشرة سنة التالية، حتى جاءه من قلب الصحراء، الفاتحُ البديع (عمرو بن العاص) فأعاده إلى الإسكندرية بعدما أعطاه (الأمان) الشهير، وأوكل إليه رعاية أهل مِلَّته. حسبما ذكرنا فى مقالةٍ سابقةٍ نشرناها هنا، ضمن سباعية «البرديات».
لم يهدأ المقوقس بعد مقتل مينا، وإنما قام بحسب ما روته المصادر المسيحية، بتهديد الناس وسَلْب الكنائس (اليعقوبية) وإحراقها، وجمع من هؤلاء الناس «اليعاقبة» عشرين ألف شخص فى ميدان بوكاليا بالإسكندرية (محطة الرمل، حالياً) وعرض عليهم المذهب الجديد، فرفضوا قبوله، لأن الأب بنيامين أوصاهم قبل هروبه، بالثبات على العقيدة القويمة، حتى لو دفعوا حياتهم ثمناً لها.. وقد دفعوا بالفعل حياتهم ثمناً لها، فقد قتلهم المقوقس جميعاً، وجرت دماؤهم فى شوارع الإسكندرية كالأنهار.. (راجع فى ذلك: تاريخ البطاركة، لساويرس بن المقفع) .
وتفنَّن المقوقس فى إيذاء الناس بمصر حتى يقبلوا مذهبه، وقام بفظائع يطول ذكرها. حتى إن القَسَّ البريطانى (والباحث المتميز) ألفريد بتلر، جعل فى كتابه عن «فتح مصر» فصلاً بعنوان: الاضطهاد الأعظم للمصريين على يد قيرس (المقوقس)..
فمن أراد معرفة تفاصيل ذلك، أو الاطلاع على المزيد من شناعة المقوقس وبشاعته، فليرجع إلى ذلك الفصل الدامى. وليرجع أيضاً مَنْ أراد ذلك، إلى ما كتبه ساويرس بن المقفع عن الأهوال التى فعلها المقوقس، وذلك فى كتابه الذى اشتهر بعنوان (تاريخ الآباء البطاركة) وإلى ما كتبه حنا النقيوسى الذى كان معاصراً لهذه الفترة، فى كتابه الذى فُقد أصله المكتوب باللغة المصرية، واكتُشف حديثاً نصُّه المترجم إلى اللغة الحبشية، ونُشرت مؤخراً ترجمته العربية تحت عنوان: تاريخ مصر.
■ ■ ■
ولم يفلح المقوقس (قيرس) فى تعميم المذهب. واكتسب عداوة وكراهية المصريين جميعاً، ملكانيين ويعاقبة. وكان هرقل قد انشغل عنه، وعن أمور مصر، بما كان غارقاً فيه من اهتراءٍ وتفسُّخٍ أُسَرِىّ، وصراعٍ بين الزوجات والأبناء والقُوَّاد.. حتى إن هرقل فكَّر فى الهروب من العاصمة، وجهز سفينة لتبحر به إلى ساحل أفريقية (تونس) ليقضى هناك بقية عمره الذى كان قد آل إلى خطِّ الزوال، بعيداً عن صراعات العرش.
فى الوقت ذاته، كان الإسلام ينتشر بقوة ويملأ جزيرة العرب ويهدِّد سلطان الروم والفرس، معاً، فى حوافِّ الشام والعراق. وكان للمسلمين طريقتهم الخاصة فى تسيير الأمور، وفى صدق النية، وفى الصبر على الحرب، وفى الحيلة.. وكان المسلمون فى زمن الخليفة أبى بكر الصديق، قد عاهدوا حاكم اليمن الذى كان تابعاً لدولة الفرس، على أن يكون تابعاً للمسلمين فلا يضطروا لقتاله، فى مقابل أن يتركه المسلمون يحكم البلاد حتى وفاته.
وكان أبو بكر الصديق أثناء خلافته (أى بعد وفاة النبى ـ ص) قد أرسل «حاطب بن أبى بلتعة» إلى المقوقس، فأبرم سراً عهداً مثل ذلك الذى أُبرم مع حاكم اليمن.. ولم يُعلن المقوقس هذا العهد، ولم تُشِر إليه المصادر الإسلامية بشكل واضح. لكننى أدركته من العبارات التى أشرت إليها فى مقالتى السابقة، أعنى تلك التى أوردها «ابن عبدالحكم» حين قال إن عمرو بن العاص ألحَّ على الخليفة عمر بن الخطاب، حتى وافق له على الخروج إلى مصر: «فنقض الصلح وفتحها»..
وقال ابنُ عبدالحكم فى موضعٍ آخر، إن الخليفة عمر (الفاروق) رَدَّ الأسرى المصريين الذين أرسلهم إليه عمرو بن العاص مقيدين بالسلاسل (عددهم ثلاثة آلاف) بعد أول صدامٍ عسكرى! ردَّهم الخليفة العادل: «لعهدٍ كان قد سبق لهم».
وهناك الكثير من تلك «الإشارات» المهمة التى ذكرتها المصادر التاريخية المبكرة، لكن المؤرِّخين لم يتوقفوا أمامها بما يليق بأهميتها، فظلت عالقةً فى فضاء الأوهام والخرافات المتعلقة بالدخول العربى/ الإسلامى لمصر، سواء اسميناه فتحاً أو غزواً.. غير أن إعادة تركيب الصورة فى أذهاننا، فى ضوء ما نطرحه من تصورات (لا تزعم لنفسها اليقين التام) من شأنه تبديد ما فى أذهاننا من توهُّمات، ومن شأنه تحديد صورة الماضى (والحاضر) على نحوٍ أكثر منطقيةً وعقلانية.
■ ■ ■
ولم تتوقف بشاعة المقوقس على الفعال والفظاعات الدموية التى اقترفها فى حق البسطاء من الناس، وفى حق الآباء الكبار، وعلى الوضاعة التى تصرَّف بها حين خرَّب الكنائس وسلب الأوانى المقدسة. ولم تتوقف بشاعته على مخالفته أوامر وتعاليم سيِّدِه المسيح، ليرضى سيده هرقل.. فقد زاد على ذلك كله، خيانته لسيده هرقل باتفاقه مع العرب المسلمين سراً، والدور الهزلى الذى لعبه عند حصار حصن بابليون. حتى إنه طلب من المسلمين مفاوضاً آخر غير عُبادة بن الصامت، لأنه وجد هذا الصحابى الجليل: طويلاً وأسود. فطلب مفاوضاً أفضل منظراً، وهو الطلب الذى رفضه عمرو بن العاص.
وبعد تسليم حصن بابليون للمسلمين، قام جند المقوقس (جيش الروم) بتقطيع أيادى عدة آلافٍ من الرجال المصريين، كانوا يعتقلونهم فى هذا الحصن/ المدينة، كى لا يساعدوا المسلمين فى بناء الجسور لاستكمال الفتح..
ولا أظن أن المقوقس هو الذى أمر بذلك، فقد كان آنذاك أضعف من أن يفعل، لكنه وافق على الأمر وأسرع بالهروب من مصر إلى بيزنطة، كى يقنع هرقل بتسليم البلاد إلى المسلمين.. وبالطبع، رفض هرقل وأهان المقوقس، فظل مهاناً إلى أن مات هرقل، فاستطاع المقوقس أن يقنع خلفاءه بالتسليم.
وعاد إلى مصر ليزفَّ لعمرو بن العاص خبر تسليم مصر، ويطلب منه فى المقابل أن يُبقيه فى الإسكندرية آمناً حتى وفاته. فوافق عمرو بن العاص، فقضى المقوقس بقية أيامه بالمدينة حتى مات بها .. ودُفن.. ولم يُعرف له من بعد ذلك قبرٌ، ولا قَدْر.


د. يوسف زيدان-فتح مصر ( الرسائل المنسوبة إلى النبى )7\3


امتداداً لما أوردناه فى المقالة السابقة (وهى الثالثة من هذه السباعية) فيما يتعلق برسالة النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى المقوقس، وبقية الرسائل الأربع التى تقدح فى صحتها شواهدُ كثيرة .. ننشر اليوم صورةً طبق الأصل من هذه الرسائل (التى كان من المفترض أن تُنشر الأسبوع الماضى)، ومعها نص كل رسالة، كى نترك للقارئ الفرصة لتأمُّلِها والتفرُّس فيها.. وفى مقالة الأسبوع المقبل، نستكمل الكلام بالمقالة الرابعة التى سيكون عنوانها: بشاعة المقوقس.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد عبدالله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنى أدعوكم بدعاية الإسلام أسلمْ تَسلمْ يؤتك الله أجرَك مرتين، فإن تولَّيت فعليك إثم القبط، (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله، فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).
                                     ***
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام أسلِمْ تَسلَمْ يؤتِك الله أجرَك مرتين، فإن تولَّيت فعليك إثم الأرس (الأريسيِّين) و(يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون).
                                     ***
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى النجاشى عظيم الحبشة: سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده. وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عزَّ وجلَّ، وقد بلَّغتُ ونصحتُ فاقبلوا نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى.
                                     ***
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد عبدالله ورسوله إلى كِسرى عظيم فارس: سلامٌ على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيَّاً ويحق القول على الكافرين، أسلِمْ تسلمْ، فإن أبيتَ فإنما عليك إثم المجوس.

د. يوسف زيدان-فتح مصر (رسالةُ النبىِّ إلى المقوقس)7\2


«وأما الأخبارُ التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبعُ فيها غالب الظنِّ، لا العلم المحقَّق».. تلك هى عبارة العلامة ابن النفيس (رئيس أطباء مصر، علاء الدين بن أبى الحرم القَرَشى، المتوفى سنة ٦٨٧ هجرية) التى يعبِّر فيها بوضوحٍ باهر عن حقيقةٍ بسيطة «وخطيرة» تقول إن الأحاديث النبوية والأخبار الشريفة وروايات السيرة، ليست تامة اليقين مهما بلغ علوُّ إسنادها وانتقالها من هذا الراوى إلى ذاك عن طريق ما يعرف باسم (العنعنة) حيث يُروى الحديث والخبر، عن فلان، عن فلان.. وقد أورد ابنُ النفيس، الذى كان من دون شكٍّ عبقرياً، عبارته السابقة فى واحدٍ من مؤلفاته القيمة التى قال عنها: «لو لم أعلم أن تصانيفى تبقى بعدى عشرة آلاف سنة، ما وضعتها..».
والعبارةُ المذكورةُ، تبدأ بها فقرةٌ مهمةٌ فى كتاب العلامة علاء الدين، الذى عنوانه (المختصر فى علم أصول الحديث) وهو الكتاب الذى نشرتُه مُحقَّقاً قبل عشرين عاماً، وأعيدَ طبعُه مؤخراً.. والفقرة، كاملةً، تقول: «وأما الأخبارُ التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبع فيها غالب الظنِّ لا العلم المحقق، خلافاً لقوم. وقال قومٌ (من العلماء) إن جميع ما اتفق عليه مسلم والبخارى، فهو مقطوعٌ به (بصحته) لأن العلماء اتفقوا على صحة هذين الكتابين. والحق أنه ليس كذلك! إذ الاتفاق إنما وقع على جواز العمل بما فيهما، وذلك لا ينافى أن يكون مظنوناً بصحته، فإن الله تعالى لم يكلِّفنا الوقوف عند العلم، ولذلك يجب الحكمُ بموجب البيِّنة، وإن كانت قد أفادت الظن..» .
وقد ينصدم البعضُ من هذه (الحقيقة) وقد يخفِّف من صدمتهم، أن الرأى الذى يقرِّره ابن النفيس يطابق ما قرَّره غيرُ واحدٍ من علماء الحديث النبوى فى تاريخ الإسلام، تعليقاً على ابن الصلاح (المتوفى سنة ٦٤٣ هجرية) الذى يقول فى كتابه «معرفة أنواع علم الحديث» الذى اشتهر عند الناس بعنوان (مقدمة ابن الصلاح) ما نصُّه: «وإذا انتهى الأمرُ فى معرفة الصحيح، إلى ما أخرجه الأئمة.. فهذا القسم (الذى اتفق عليه البخارى ومسلم) مقطوعٌ بصحته، والعلمُ اليقينى النظرى واقع به، خلافاً لقول مَنْ نفى ذلك، محتجاً بأنه لا يفيد إلا الظن..» وقد عَلَّق الحافظ العراقى، المحدِّث الشهير، على قول ابن الصلاح السابق، بما يلى: «إن ما ادَّعاه ابنُ الصلاح من أن ما أخرجه الشيخان (البخارى ومسلم) مقطوعٌ بصحته، قد سبقه إليه الحافظ محمد بن طاهر المقدسى وأبونصر بن يوسف، فقالا إنه مقطوعٌ به. وقد عاب الشيخ عزالدين بن عبدالسلام، على ابن الصلاح، هذا.. وقال الشيخ محيى الدين النووى فى كتابه (التقريب والتيسير): خالف ابنَ الصلاح المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر.. وقد اشتدَّ إنكارُ ابن برهان الإمام، على من قال بما قاله الشيخ (ابن الصلاح) وبالغ فى تغليظه».
                                  ■■■
أرجو من القارئ أن يصبر معى قليلاً.. ولسوف يعرف بعد قليل، أهمية الوقوف عند تلك المسألة.
                                  ■■■
إذن، هناك خلاف بين علماء الحديث النبوى، فى «يقينية» الأخبار والأحاديث الشريفة، مهما بلغت من صحة (السند) أو الرواية عن سابقٍ، عن سابق، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم.. لأن العنصر البشرى يتدخل فى السند والعنعنة، وما دام الأمر كذلك فإن (غالب الظن) لا (اليقين المطلق) هو الأساس الذى يقوم عليه هذا الحديث النبوى أو ذاك، حتى وإن كان قد ورد عند الإمامين البخارى ومسلم، وهو ما يسمى اصطلاحاًً الحديث: المتفق عليه.
ولأن الذين كتبوا تاريخنا الإسلامى كانوا فى الأغلب من المحدِّثين (علماء الحديث) وكانوا فى كثير من الأحيان يؤكدون الطريقة التى يروى بها أهل الحديث الأخبار والأقوال النبوية (السنن القولية، السنن الفعلية) فقد تبادر إلى الأذهان، مع مرور القرون ومع الميل الفطرى إلى تبجيل السابقين، أن الروايات التاريخية والأخبار المروية، لها ذات المصداقية التى لنصوص الأحاديث النبوية.. وكان بعض مشايخنا المعاصرين، مثل أستاذنا الدكتور بشَّار عوَّاد معروف (المحقق الشهير فى التاريخ وعلم الحديث النبوى) يقول بأنه يجب علينا تطبيق قواعد علم الحديث على علم التاريخ! بحيث نظفر بعد تمحيص وضبط السند والرواية، بالصحيح من وقائع التاريخ.. بمعنى أن ننظر مثلاً، فى رواة هذا الخبر التاريخى، وفى اتصالهم الفعلى من عدمه، وفى صحة السند والمتن (الرواية والدراية) أو غير ذلك مما يفعله أهل الحديث، ونطبِّق ذلك على ما يرويه المؤرخون من وقائع، وما يذكرونه من أحداث.
وقبل عامين، وبالتحديد فى منتصف صيف عام ٢٠٠٨، استضفتُ د. بشار عواد معروف ليكون محاضراً فى مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، ضمن برنامج (الباحث المقيم) الذى نُحيى فيه تقاليد مكتبة الإسكندرية القديمة، حيث كان حكام مصر (البطالمة) يستقدمون كبار علماء العالم، للإقامة فى الإسكندرية للتدريس والتفاعل مع زملائهم وطلابهم، من التخصصات كافة.
وخلال فترة إقامته البحثية، نوقشت فى محاضرةٍ مفتوحةٍ فكرة تطبيق قواعد الحديث الشريف على التاريخ، وقال د. بشار عواد معروف بالحرف الواحد: كنا ندعو لذلك، ولكن ظهر لنا أنه خطأ.. فالحديثُ الشريف يختلف عن التاريخ.
                                  ■■■
ورسالة النبى إلى المقوقس، وبقية الرسائل النبوية التى وضعنا هنا صورةً طبق الأصل منها، تقع فى المنطقة الوسطى بين الحديث الشريف والتاريخ. ولسوف نناقش صحة نصِّها ونسختها هذه، بعد قليل، بعد تأكيد ما ذكرناه من قول ابن النفيس فى بداية المقالة، أعنى أن هذه الرسائل سواء كانت تاريخاً أو حديثاً شريفاً، فإنما نتَّبع فيها غالب الظن، لا العلم المحقق! خاصةً أن نصَّها لم يرد أصلاً عند البخارى، ولا عند الإمام مسلم، وبالتالى فهى ليست مما يسمى اصطلاحاً: متفقٌ عليه.
ورد نص رسالة النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى المقوقس، عند عدة مؤرخين، منهم: القزوينى، والمقريزى، والسيوطى، والبيهقى، والقلقشندى (وغيرهم) وليس منهم مؤرخ واحد، عاش فى القرن الأول الهجرى، أو حتى الثانى.. بل إن جميع من كتبوا تاريخ الإسلام، بعامة، لا يرجع واحد منهم إلى هذين القرنين. بعبارة أخرى، بدأت كتابة «تاريخ الإسلام» فى القرن الثالث الهجرى، بعدما استقرت الأمور بأيدى الخلفاء العباسيين، وبالتالى فتاريخ الإسلام كتبه المنتصرون، المستقرون.. ومن عادة المنتصرين، المستقرين، إقرار البدايات التى انطلقوا منها، وتهميش ما قبلها! ولذلك، من العسير علينا أن نجد فى كتب التاريخ (الإسلامى) أخباراً مؤكدة من زمن «الجاهلية» بل إن هذه التسمية ذاتها (الجاهلية) تدل بشكل غير مباشر على الإلغاء الذى تمَّ قديماً، لكل ما هو قبل زمن الإسلام.
وحسبما ذكر محمد حميد الله، فى كتابه المهم (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة) فإن أصل رسالة النبى إلى المقوقس، وهو المنشورة هنا صورته، تم اكتشافه فى كنيسة قرب أخميم بصعيد مصر (محافظة سوهاج) وهى محفوظة اليوم فى متحف توبقابى سراى، باسطنبول.. أما الرسائل الثلاث الأخرى فقد تمَّ اكتشافها وحفظها فى أماكن أخرى، ولا يمكن الكلام على رسالة منها، من دون النظر إلى مجموع هذه الرسائل الأربعة.
والملاحظة الأولى التى تبدو لنا عند النظر فى الرسائل الأربع هى أنها تبدو من حيث الشكل مزوَّرة.. صحيحٌ أن سمات الخط الذى كُتبت به هذه الرسائل تعود إلى فترة مبكرة من تاريخ الإسلام، لكنه خطٌّ مختلف ما بين رسالة وأخرى. وقد يقول قائل، إن ذلك يرجع إلى اختلاف الكاتبين، لأن رسول الله لم يكتب الرسائل بيده. ولم يكن له كاتب واحد.. فإذا قبلنا هذه الحجة، قامت شكوكٌ أخرى لا توجد حجة لدفعها، منها أن (الختم النبوى) مختلف من رسالة إلى أخرى، والمفترض أن هذه الرسائل كُتبت جميعاً فى وقت واحد، والمفترض أن (الأختام) نبويةً كانت أم غير نبوية، لا يجوز أن تكون أكثر من ختم واحد، لخطورة وأهمية الختم فى الزمن القديم، بل فى كل زمان.. وإلا فهل يمكن أن نتخيل وجود أكثر من شكل، لما نسميه اليوم: ختم النسر؟ وهل يمكن قبول اختلافٍ فى استدارة إطاره أو هيئة حروفه؟
                                  ■■■
ومن حيث النصوص الواردة فى الرسائل الأربع، فإن فيها رسالتين يُخاطب فيهما المرسل إليه بصفته (كسرى، النجاشى) ورسالتين لشخص المرسل إليه (هرقل، المقوقس) ولكن الرسائل الأربع تصف المرسلة إليهم بصفة «العظيم» أى الحاكم أو الملك أو الإمبراطور.. فهرقل (عظيم الروم) وكسرى (عظيم فارس) والنجاشى (عظيم الحبشة) والمقوقس (عظيم مصر). مع أن المقوقس تابعٌ لهرقل، ومصر تابعة لبيزنطة، وليس للمقوقس أن يقطع بأمرٍ من دون الرجوع إلى هرقل، وليس يخفى على النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) مثل هذا الأمر، وقد عرفنا من سيرته ومن القرآن الكريم أنه كان يتابع ما يجرى على الساحة الدولية فى زمانه، وقد تعرضت سورة «الروم» لهزيمة الروم على يد الفرس، وتنبأت بأن الروم (جيش هرقل) سوف يعيدون الكرَّة، ويغلبون الفرس (جيش كسرى).. فكيف خوطب المقوقس باعتباره حاكماً مستقلاً، وهو غير مستقل؟
ورعايا العظماء الأربعة تصفهم الرسائل بأنهم: المجوس (الفرس) القبط (المصريون) الأرس (البيزنطيون– الروم) وهو أمرٌ غير دقيق تاريخياً، وهناك اختلاف حول دلالته. فالفرس لم يكونوا كلهم من المجوس، وكان حولهم مسيحيون كثيرون من كنيسةٍ عظيمة الاتساع فى العراق، هى الكنيسة النسطورية التى كان بعض أتباعها فى العراق يُعرفون باسم (العباديين) وكان رئيسهم الدينى يسمى الجاثليق، وهو ما يعادل فى الكنائس الأخرى ما يسمى الأسقف العام أو البطرك أو البابا (وهى تسمية معاصرة كانت تطلق فى البدء على أسقف روما، ثم صارت من بعد ذلك مشاعاً لكل الكنائس).
والرسالة إلى المقوقس تصف رعاياه بغير صفة الدين، فهم (القبط) أى المصريين، أيًّا كانت ديانتهم. بينما تخص رسالة هرقل رعاياه باسم (الأرس) التى رجَّح البعض أنها تعنى أتباع «آريوس» وبالتالى، فهم مذهب معين من مذاهب المسيحية.. لكن هرقل لم يكن (عظيم) الآريوسيين، وإنما كان يمثل الدولة المسيحية الأرثوذكسية، بحسب المذهب الخلقيدونى، أو مذهب (الملكانيين) الذين تسموا بذلك نسبة إلى (الملك) وهى نسبة على غير قياس، وإلا كان اسمهم (الملكيين) وليس الملكانيين.
أما الآريوسية، فهى مذهب قديم ظهر فى بداية القرن الرابع الميلادى، انطلاقاً من فكرة آريوس المستقاة من فكرة رجال الدين بالشام، المستقاة من التصوُّر (العربى) للمسيح على أنه رسول الله، وليس الإله، وأنه يوصف بابن الإله نظراً لصيغة أو مبدأ (التبنى) الذى لا يجعل المسيح معادلاً لله تعالى.
إذن، صفة الحكام والمحكومين فى هذه الرسائل الأربع، مجتمعة، غير دقيقة.. وقد اجتهد بعض المؤرخين المتأخرين، وبعض اللغويين العرب، فى تأويل كلمة «الأرس» فقالوا إن المقصود بها (المزارعون) وهو تأويل يصعب قبوله، لأن الروم لم يكن العمل بالزراعة يميزهم عن الفرس وعن المصريين.
                                  ■■■
وقد تمادى بعض الرواة وقالوا إن المقوقس ردَّ على النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) برسالةٍ جاء نصها كالتالى: «لمحمد بن عبدالله من المقوقس، سلام، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقى، وكنتُ أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمتُ رسلك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوةٍ، وأهديتُ إليك بغلة لتركبها».
وحسبما يحصر حميدُ الله، فقد جاء نص (رد المقوقس) عند جماعة من المؤرخين، منهم: القلقشندى، والقزوينى، والزيلعى، وابن الجوزى (وغيرهم).. بينما جاء نص رسالة النبى للمقوقس، عند: الواقدى، وابن حديدة (وغيرهما) على النحو التالى: «من محمد رسول الله، إلى صاحب مصر والإسكندرية، أما بعد، فإن الله تعالى أرسلنى رسولاً، وأنزل علىَّ قرآناً، وأمرنى بالإعذار والإنذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بدينى ، ويدخل الناس فى ملَّتى، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى، فإن فعلتَ سعدتَ ، وإن أبيتَ شقيت».
فكان رد المقوقس، حسبما جاء فى كتاب (فتوح مصر) للواقدى، وكتاب (صبح الأعشى فى صناعة الإنشا) للقلقشندى، على النحو التالى: «باسمك اللهم، من المقوقس إلى محمد. أما بعد، فقد بلغنى كتابك، وقرأته وفهمتُ ما فيه، أنت تقول إن الله تعالى أرسلك رسولاً، وفضَّلك تفضيلاً، وأنزل عليك قُرآناً مُبيناً، فكشفنا يا محمد فى عِلْمنا عن خبرك، فوجدناك أقربَ داعٍ إلى الله، وأصدق مَنْ تكلَّم بالصدق، ولولا أنى ملكتُ ملكاً عظيماً، لكنتُ أول مَنْ سار إليك، لعلمى أنك خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وإمام المتقين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته إلى يوم الدين..».
                                  ■■■
وبعد .. فإن الرأى عندى، وقد أكون مخطئاً، أن رسالة النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى المقوقس، التى هى إحدى الوثائق المهمة المتعلقة بالفتح العربى/ الإسلامى لمصر، إنما هى مثل بقية الرسائل الأربع، قد جاءت إلينا من باب الاختلاق (الفبركة) والروايات المتأخرة التى أعادت بناء الوقائع المبكرة فى تاريخ الإسلام، بعدما صار المسلمون هم أصحاب الأمر والنهى. وسواءٌ كان الأمر يتعلَّق بالرسائل نفسها (المرفقة صورتها) أو يتعلَّق بنصِّها المذكور بصيغ مختلفة فى مصادرنا التاريخية، فإن القولَ فيها هو ما قاله العلامة ابن النفيس: «وأما الأخبار التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبع فيها غالب الظن، لا العلم المحقَّق..».
                                  ■■■
وهكذا.. تتجلَّى لنا (الأوهام) الكثيرة، المتعلقة بفتح مصر والمرتبطة بالصورة الكلية لهذا الحدث العظيم الذى هم فيه مختلفون. ولسوف نرى فى المقالات القادمة مزيداً من هذه الأوهام، ونرى فى الوقت ذاته صورةً أخرى لهذا الحدث تتوافق مع ما أوصانا به ابن خلدون حين قال: ينبغى علينا إعمال العقل فى الخبر.

د. يوسف زيدان- فتح مصر (حكاياتُ حاطب ) 7\1


من أوائل الشخصيات التى ارتبطت أسماؤها بعملية (دخول) العرب المسلمين إلى مصر، قبل عمرو بن العاص بسنواتٍ طوال، شخصيةُ حاطب بن أبى بلتعة، الذى نروى فى هذه المقالة حكاياته، ونتأملها. وأولى حكايات حاطب، أو أشهرها، تلك الحكايةُ العجيبةُ التى تناقلتها كتبُ التاريخ القديمة والمعاصرة، من دون أن يتروَّى أحد من المؤرخين ويفكر فيها بشكل منطقى. فحسبما قالوا، فإن «حاطب» كان مبعوث النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى المقوقس، حاكم مصر، سنة (ستٍّ) من الهجرة، وهى السنة الموافقة للعام ٦٢٧ الميلادى.. وحسبما قالوا، فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث معه برسالة إلى المقوقس، سوف نورد فى مقالةٍ قادمةٍ نصَّها، ونورد ما يقدح فى صحتها وصحة بقية هذه الرسائل النبوية المزعومة..
وحسبما قالوا، فإن «حاطب» قد تحادث مع المقوقس حديثاً طويلاً، ثم عاد من عنده بهديةٍ إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) عبارة عن جاريتين وبغلة، الجارية الأولى هى (مارية القبطية) التى تزوَّج بها النبى وأنجبت له «إبراهيم»، الذى مات بعدما بلغ عامين، وبكاه النبى. والجارية الأخرى، هى أختها الصغرى التى قيل إن النبى أهداها لواحدٍ من صحابته، من المرجَّح أنه «حسَّان بن ثابت» الشاعر، وقيل إنها أنجبت منه.. وحسبما قالوا، فإن لحاطب بن أبى بلتعة (حكايات) أخرى، سوف نورد بعضها أولاً، ثم نتوقَّف من بعدها عند حكايته المرتبطة بمصر.
                                   ■ ■ ■
من حكايات حاطب، التى رواها المؤرِّخون، أنه حين بدأ النبى (صلى الله عليه وسلم) التجهيز العسكرى لاقتحام مكة، وهو الأمر الذى سوف يُعرف لاحقاً بفتح مكة، أرسل «حاطب» إلى أهل مكة تحذيراً مكتوباً، بعث به مع امرأة خرجت سراً من المدينة (يثرب) إلى مكة، غير أن النبى أدرك الأمر وطلب من الإمام علىّ بن أبى طالب والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام، أن يخرجوا إلى الصحراء بحثاً عن تلك (الإخبارية) المرسَلة سراً، فخرجوا حتى أدركوا المرأة (الجاسوسة) بموضعٍ فى الصحراء، اسمه «روضة خاخ»، وهدَّدوها حتى انتزعوا منها الرسالة التحذيرية، وعادوا بها إلى النبى فاستدعى (حاطب) وقام فى حضور جمعٍ من الصحابة بمواجهته بالأمر، فلم ينكر حاطب فعلته، واعتذر بأن له أقارب فى مكة، فأراد أن يكسب مودة الناس هناك بتحذيرهم، خشيةً منه على أهله الذين يعيشون بينهم.
وبالطبع، ومثلما هو معتاد فى مثل تلك الوقائع، فقد أراد «عمر بن الخطاب» أن يقتل حاطب بن أبى بلتعة، بعدما اعترف، ولكن النبى (صلى الله عليه وسلم) منعه من ذلك، لأن «حاطب» شهد موقعة بدر، وأهل بدر لهم مكانة خاصة عبَّر عنها الحديث النبوى: «لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فإنى غافر لكم» (حديث صحيح، أورده البخارى ومسلم وغيرهما)، ثم نزلت آية قرآنية بسبب هذه الواقعة، تشهد لحاطب بالإيمان، هى قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء..».
وفى تلك الحكاية أمورٌ لافتة للنظر، مع أن معظم المصادر التاريخية (التراثية) وكتب السيرة تذكرها.. فمن ذلك، أن المسافة بين مكة والمدينة طويلة جداً، تعد بمئات الكيلومترات، فكيف لامرأةٍ أن تخرج منفردةً لتقطع وحدها هذا الطريق الموحش، الذى لا يخلو من وحوش الليل وهجير النهار؟ ومن ذلك أن المسالك من المدينة إلى مكة متعدِّدة، وليس من المنطقى أن يخرج ثلاثة من الرجال، معاً، للبحث عن أمر مهم فى هذه الصحراوات الشاسعة. ومن ذلك أن (حاطب) ليس قرشياً أصلاً، حتى يكون له بمكة أقارب أو أولاد، فهو فى الأصل من أهل اليمن، وتحالف مع الزبير بن العوَّام (وقيل: بل كان عبداً لرجلٍ من قريش، ثم نال حريته)، وقد هاجر حاطب مع النبى إلى يثرب وهجر مكة، فكان من أوائل المهاجرين الذين رحلوا عنها، من قبل بدر.. وما بين موقعة بدر وفتح مكة سنواتٌ طوال، فكيف بقى أقاربه هناك طيلة هذه السنوات، وهل كانوا كُفاراً مثل أهل مكة، وبالتالى فلا يوجد أى داعٍ للخوف عليهم من بطش قريش لو استعصت مكة على الفتح؟ أم كانوا مسلمين، وبالتالى فقد سنحت الفرص مراراً لخروجهم من مكة، من قبل (الفتح) بفترة طويلة؟
                                   ■ ■ ■
ومن حكايات «حاطب» ما يفيد بأنه كان قاسياً على عبيده، مع أنه كان فى الأصل عبداً أو مولى، لبعض رجال قريش.. وهناك واقعتان تتعلقان بقسوته على العبيد، الأولى أن واحداً من عبيد حاطب، اشتكى للنبى (صلى الله عليه وسلم) من قسوته، وأنهى شكواه بأن قال «يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار» فردَّ عليه النبى: «كذبت، لا يدخل النار رجلٌ شَهِدَ بدراً والحديبية».. والواقعة الأخرى جرت بعد وفاة النبى بسنوات، ففى خلافة عمر بن الخطاب سرق عبيدُ «حاطب» ناقة رجل من قبيلة مزينة، وذبحوها ليأكلوا، فانكشف الأمر فاستدعاه الخليفة وعاقبه لأنه يجوِّع عبيده، بأن ألزمه بدفع ضعف ثمن الناقة (ثمانمائة درهم) لصاحبها. وهو على كل حال، ثمنٌ مبالغٌ فيه، بحسب المعمول فى ذاك الزمان. لكن المراد هنا، تبيان أن «حاطب» الذى صار فيما يبدو من الأغنياء (لأنه كان يتاجر فى القمح) اشتهر بشدته على العبيد، وهو الأمر الذى دعا الدين الإسلامى إلى نقيضه.
                                   ■ ■ ■
ومن حكايات حاطب المرتبطة بمصر حكايتان، الأولى مشهورة وعندى عليها شكوك، والأخرى مهملة مع أننى أراها مهمة.. الحكايةُ الأولى ملخصها أن (حاطب) جاء للمقوقس برسالة من النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعوه فيها للإسلام، فأقام حاطب أياماً بالإسكندرية حتى عرف أن المقوقس يجلس فى شرفة مطلة على البحر، فركب حاطب سفينة واقترب بها من مجلس المقوقس، وراح يلوِّح له بالرسالة حتى انتبه إليه، ودعاه إليه وقد اجتمع حوله البطاركة (الآباء) وبعدما قرأ المقوقس الرسالة، جرى الحوار التالى الذى ذكرته معظم المصادر التاريخية، أو بالأحرى تناقلته عن بعضها البعض:
المقوقس: أخبرنى عن صاحبك، أليس هو نبياً؟
حاطب: بلى، هو رسول الله.
المقوقس: فلماذا لم يدعُ على قومه ليهلكهم الله، لأنهم أخرجوه من بلدته إلى غيرها؟
حاطب: وعيسى ابن مريم، أتشهد أنت أنه رسول الله؟
المقوقس: بلى.
حاطب: فما باله حين أخذه قومه وأرادوا صلبه، لا يدعو عليهم بأن يهلكهم الله، حتى رفعه الله إليه؟
المقوقس: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، جاريتان وبغلة ليركبها.
وهكذا، حسبما قالوا، عاد حاطب من عند المقوقس محملاً بالهدايا والعطايا. ولكننا إذا طبَّقنا القاعدة البديعة، التى وضعها ابن خلدون حين قال «ينبغى علينا إعمال العقل فى الخبر» ونظرنا بروية فى هذه الحكاية، فسوف يظهر لنا عدة أمورٌ. أولها أن البعثات السياسية فى ذلك الزمان، وفى كل الأزمنة، لم تكن تجرى على هذا النحو المسرحى (الفكاهى)، الذى يجعل المبعوث يلوِّح بالرسالة من مركبٍ يعوم فى البحر، حتى يراه المقصود بالرسالة أو لا يراه.. وثانيها أن المقوقس كان «أرثوذكسى» المذهب، أى أنه كان يعتقد بأن المسيح «إله» وليس رسولاً من الله، مثلما يعتقد المسلمون. وبالتالى، فلا معنى للحجة التى ساقها حاطب وأفحمت المقوقس..
وثالثها أن المقوقس لا يعرف (عيسى ابن مريم)، الذى أخبرنا به القرآن الكريم، وإنما المسيح بحسب معتقده الأرثوذكسى (الملكانى) هو الله، وأمه مريم هى «ثيوتوكوس»، أى والدة الإله. وهو لم يُرفع إلى السماء حسبما يعتقد المسلمون، وإنما تعذَّب وصُلب ومات وعاد إلى الحياة، ثم ذهب عند أبيه (الله) حسبما يعتقد المسيحيون الأرثوذكس..
ورابعها أن المقوقس كان أسقفاً، ولم يكن حوله (بطاركة) ولم يكن من تقاليد الحكام المسيحيين آنذاك إرسال هدايا من الجوارى (الإماء)، ولم تكن الإسكندرية موطناً للبغال، حتى يهدى المقوقس للنبى بغلةً من هناك، تظل سائرة فى الصحراء هذه المسافة الطويلة (جداً) وكان بالإمكان، إذا صَحَّ الخبر، أن يهدى إليه شيئاً مما اشتهرت به الإسكندرية (مدينة الله العظمى) فى ذاك الزمان..
وخامسها أن المقوقس لم يكن، بالضرورة، متابعاً لما يجرى فى قلب الجزيرة العربية، لأن أموراً كبرى كانت تجرى فى العالم (المتقدم) آنذاك، وكانت أهم عنده بكثير، مما يجرى فى قلب صحراء العرب. ولو كان المقوقس، افتراضاً، يعرف بما يجرى هناك. وكان حسبما جاء فى الحكاية السابقة، قد اقتنع بأن نبى الإسلام (حكيم) ورسوله حاطب (حكيم جاء من عند حكيم) لكان المقوقس كافراً بالمسيحية، وهو الأسقف، لأن إنجيله يقول: «سيأتى بعدى أنبياء كذبة!.. والأهم من ذلك كله، أن المقوقس لم يكن قد وصل أصلاً إلى مصر، سنة «ستٍّ» من الهجرة، وإنما كان آنذاك، لا يزال أسقفاً فى بلدته القوقازية: فاسيس.. (وهو ما سوف نتحدث عنه فى مقالةٍ قادمة من هذه السباعية، سيكون عنوانها: بشاعة المقوقس).
■ ■ ■
والحكاية الأخرى، المهملة مع أنها الأهم، تأتى موجزة فى مصادرنا التاريخية القديمة، ونصُّها ما يلى: «فى خلافة أبى بكر الصديق، بعد وفاة النبى، بعث حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس بمصر، فمرَّ على ناحية الشرقية فهادنهم وأعطوه، فلم يزالوا على ذلك حتى دخلها عمرو بن العاص..»
إذن، كانت هناك عهود سرية بين المسلمين فى زمن خلافة أبى بكر، والمقوقس. وهو الأمر الذى يفسِّر قول ابن عبدالحكم، إن «عمرو بن العاص» ظل يلح على الخليفة «عمر بن الخطاب» فى دخول مصر: «فأذن له ، فخرج إليها بثلاثة آلاف وخمسمائة، كلهم من عَكّ، فنقض الصلح وفتحها».. وقوله فى موضعٍ آخر إن الخليفة عمر بن الخطاب، حين أرسل له عمرو بن العاص بثلاثة آلاف أسير من مصر، ردَّهم الخليفة إلى بلادهم: «لعهدٍ كان قد سبق لهم».. فتأمل.
■ ■ ■
وبعد، فقد علَّق بعض القراء على مقالتى السابقة، طالبين منى أن أورد المصادر التاريخية التى أعتمد عليها، وهو أمر عسيرٌ فى مثل هذه المقالات، وعلى أى حال، فسوف أذكر فيما يلى على سبيل الاستثناء، بعض المصادر التى أخذتُ منها المعلومات الواردة فيما سبق. فمن ذلك:
ابن عبدالحكم (فتوح مصر) ابن سعد (الطبقات) الذهبى (سير أعلام النبلاء) الذهبى (تاريخ الإسلام) ابن الأثير (أسد الغابة فى معرفة الصحابة) ابن حجر (الإصابة فى تمييز الصحابة) المقريزى (المقفى الكبير) ابن العماد الحنبلى (شذرات الذهب فى أخبار من ذهب).
وإلى المقال القادم، الذى سيكون عنوانه: رسائل النبى!