كثير منا من يتصور بأن القصاص في الجروح والأعضاء عملا بقوله تعالى بسورة المائدة: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{45} ؛
فهذا ما عليه فقه الأئمة بكل أسى وأسف، فكانوا يبردون من سن من كسر سن أخيه بذات القدر الذي كسره، وغير ذلك من قطع الأعضاء وغيرها ظنا منهم بأنه قصاص،
ومن بين طقوسهم التي تصورونها عدلا أنهم كانوا يرون القصاص بكل شيء إلا اللسان والقضيب باعتبار أنهما يتمددان وقد لا يعلم مقدار القطع حين يتم القصاص إن كان الامتداد هنا مثل الامتداد هناك أم لا، وكانوا يتصورون هذا هو عين العدل.
وحتى نكون آكدين فهذا ما يتم تدريسه بالأزهر فبكتاب الاختيار لتعليل المختار بالمذهب الحنفي [كتاب الجنايات صفحة 419] حيث ورد به ما يلي
:
• ولا قصاص في اللسان ولا في الذّكَر إلا أن تقطع الحشفة.
• ولا قصاص في عظم إلا السِّن، فإن قلع يُقلع، وإن كسر يبرد بقدره.
• ولا يجري القصاص في الأطراف إلا بين مستوى الدية إذا قطعت من المفصل وتماثلت.
• ولا قصاص في العين إلا أن يذهب ضوءها وهي قائمة بأن يوضع على وجهه قطن رطب وتقابل عينه بالمرآة المحماة حتى يذهب ضوءها.
فهل نقيم شريعة نكثر بها من سواد العاهات، أيكون هذا فهمنا لكتاب ربنا!؟
لكن هذا الفقه يجعل منا يوما أمة من أصحاب العاهات، وهو حكم رفعه الله تخفيفا على البشرية المتحضرة، فالقرءان لم يُشِرْ أبدًا لما فهمه الفقهاء وتصوروه شريعة، بل لقد نسخه الله تماما بنزول شريعة سيدنا محمد، وبالمناسبة فهذا هو النسخ الذي عناه القرءان، يعني نسخ شريعة اليهود بشريعة القرءان؛
وإني لأتعجب من الفقهاء يقولون بالنسخ ولا يرتضون النسخ إلا داخل القرءان فيقومون بإلغاء آيات لحساب أخرى، بينما إذا ما بيّن الله لهم نسخه للشرائع فلا يعتبرون لبيانه سبحانه وتعالى..
ومن يتدبر ويتمعن فسيجد بأن هذا الحكم في التوراة فقط لقوله تعالى: [وكتبنا عليهم فيها....]، فهذا هو ما كتبه الله عليهم، ولم يكتبه علينا، وكان ذلك بكتابهم وليس بكتابنا، ومن يقرأ سورة المائدة يجد بأن الله بعد أن ذكر شريعة موسى بالتوراة ذكر شريعة عيسى بالإنجيل، ثم تناول شريعة محمد بالقرءان فقال سبحانه:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }المائدة48.
فقوله تعالى: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] تعني أن شريعتهم غير شريعتنا وإن كانت العقيدة واحدة لا تتغير، وهي لا إله إلا الله، والعمل الصالح، والإيمان بالبعث، فهذه الثلاثة قواسم مشتركة بكل الرسالات وهي الإسلام الذي عناه الله بقوله تعالى [إن الدين عند الله الإسلام]،
لذلك فالعقيدة واحدة وإن اختلفت الشرائع، فشريعتنا غير شريعتهم، لكن شريعتنا هي المهيمنة، [مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ]؛ بما يعني أن الشريعة الخاتمة هي المهيمنة وهي التي يتوجب نفاذها، فشريعة القصاص في الجروح والأعضاء تم تخفيفها وهي ليست شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنها شريعة تم نسخها، كانت وانقضت لتتواكب مع الحضارة وذلك منذ يوم نزول تلك الآية بالقرءان [المائدة48] وإلى يوم القيامة .
وانظر ما جاء فى إنجيل متى ( العهد الجديد ) (18 : 8 )(قول المسيح فإن أعثرتك ارتكبت بها معصية يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك . خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو اقطع من أن تلقى فى أتون النار الأبدية ولك يدان أو رجلان . وإن أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك . خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تلقى فى جهنم ولك عينان.
والقصاص في الإسلام منحصر في أمرين لا ثالث لهما وهما القتل والحُرُمَات، فأما القصاص في القتلى فقد ورد بقوله تعالى بسورة البقرة:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ{178} وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{179}.
أما القصاص الآخر فيكون بتوقيت القصاص وكذا فيما يتم تعظيمه فقد ورد بقوله سبحانه:
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ{194}؛ فقوله تعالى [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ]؛
تعني بأن الواحد حين يعتدي على الحُرُمات فإن الاعتداء عليه يكون بسلطان الجماعة العامة، وذلك لقوله تعالى [ فاعتدوا ]؛ وليس أن تقوم جماعة ما أو عائلة أو قبيلة بذلك التنفيذ.
وهل انتبه أحدنا لقوله تعالى: [ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ]؛ الواردة بالآية 179 البقرة، فذلكم هو نسخ الشرائع والتخفيف الذي أرادته شريعة محمد التي تتوائم مع تطور البشرية إلى يوم القيامة، وعلى ذلك فلا قصاص في الإسلام إلا بالأمرين فقط [القتلى والحرمات] وفي الجروح يتم الحبس أو الغرامة أو الجلد لكن لا يجرح بعضنا بعضا قصاصا، ثم نتصور بأننا ننفذ شريعة ونسميها شريعة، ونقول بكل فخر :[قال الإمام فلان]ونتصوره يفهم بالإسلام أكثر منا رغما عن أنوف كل الأجيال المسلمة، لكني أفهم إن أردنا فلنسميها شريعة اليهود، لذلك أنصح بضرورة فهم الشريعة قبل المناداة بتطبيقها، ودعكم من إدراك وفقه الأقدمين فلا يمكن أن يصعد لقاماتنا الفكرية والفقهية، وبخاصة من درسوا بالأزهر إن أعملوا عقولهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق