لايمكن تناول المفاهيم الدينية وفهم مستويات دلالاتها إلا من خلال السياق التأسيسي والمساق الاستعمالي، وهذا لا يعني تقديس تلك السياقات والمساقات ومحاكمة الحاضر بالماضي، ولكن الأمر يتعلق في حقيقته بتحرير حاضرنا من سلطة الماضي الذي ما فتيء من تدخله السافر في حاضرنا في كل كبيرة وصغيرة في الشأن الخاص والعام. فمن هذه المفاهيم التي ينبغي تحليل مستويات دلالاتها ومضامينها مفهوم الكفارة ومفهوم الفدية، بغية تقديم إضاءات عن إشكالية الخلط بينهما في قضية إفطار رمضان بالنسبة لغير المسافر والمريض كما جاء في قوله تعالى ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين).
الاستعمال اللغوي لمفهوم الكفارة والفدية وقت التنزيل يشير بما يكفى إلى أن كل المفهومين ينتمي إلى عائلة لغوية تختلف تماما عن الأخرى، فإذا كان مصطلح الفدية بمشتقاته يحمل مضامين ودلالات الحرية، والخلاص، والانقاذ، والانتقال من وضع عسير إلى آخر يسير،كما جاء في لسان العرب، والمعجم الوسيط في مادة ( فدي). وأكد صاحب القاموس الفقهي على تلك المعاني بقوله: فدى الأسير : فدي، وفدى، وفداء: استنقذه بمال، أو غيره، فخلصه مما كان فيه. فدي المرأة نفسها من زوجها: أعطته مالا حتى تخلصت منه بالطلاق. افتدى فلان: قدم الفدية عن نفسه. الفداء : ما يقدم من مال، ونحوه، لتخليص الأسير.(انظر: القاموس الفقهي لغة واصطلاحا، لسعدي أبو جيب، بتصرف)
بينما مفهوم الكفارة ينتمي إلى عائلة لغوية مغايرة لمفهوم الفدية ومضامينها ودلالتها، فإذا كان مفهوم الفدية يفيد الحرية والخلاص والانتقال، فإن مفهوم الكفارة الذي ينتمي إلى جذر( كفر) يدل على معاني الستر، والإخفاء، والغطاء، كما جاء في معاجم اللغة مادة (كفر)، وقد جمعها صاحب القاموس الفقهي في حرف ( الكاف) حيث ذكر معاني الكفر فقال: كفر بالشيء: غطاه، وستره. وكفر الله عن الذنب: غفره. وكفر عن يمينه: أعطى الكفارة. الكافر، كوافر: الكافر: الليل. الكافر: السحاب المظلم. الكافر: البحر. الكافر: الوادي العظيم. الكافر من الأرض: ما بعد عن الناس، لا يكاد ينزله، أو يمر به أحد. والكافر: المقيم المختبىء بالمكان. الكافر: من لا يؤمن بالله. والكافر: الجاحد. والكفارة: ما يستغفر به الآثم من صدقة ، وصوم، ونحو ذلك. ( المرجع السابق، بتصرف)
يبدو أن هذا الوضوح في انتماء المفهومين( الكفارة، والفدية) إلى حقلين مختلفين من الناحية اللغوية غير ذي بال عند الفقهاء والمفسرين باعتبار محدودية الامتياز بينهما من حيث الدال والمدلول، ولهذا السبب غصت كتب الفقه والتفسير من كل المذاهب الاسلامية بتأويل آيات القرآن الكريم التي وردت فيها الكفارة أو الفدية بذات المعنى، وتأسس على هذا الإلغاء بين الحقلين أحكاما تشريعية تحاصر المكلف وتحرمه التنعم برخص الله التي كان يتمتع بها جيل ما قبل تدوين المدونات، ناهيك عن الاعتداء الصارخ على النص القرآني كما تم ذلك في قوله تعالى: ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين). ومن هنا يجدبر بنا في نطاق البحث عن حقيقة المفهومين الرجوع إلى الاستعمال القرآني لسياقات ذينك المفهومين .
أولا: مفهوم الفدية في القرآن:
في سورة الصافات وهي مكية وردت مفردة الفدية بمعنى الانقاذ والانتقال من وضع ضيق إلى موسع وذلك في فداء اسماعيل عليه السلام بكبش عظيم، وانتقال إبراهيم عليه السلام من طاعة ذبح ابنه إلى طاعة نحر الكبش. فقال تعالى: وفديناه بذبح عظيم. ولم يقل تبارك وتعالى وكفرنا عنه بذبح عظيم ، لأن إبراهيم لم يرتكب ذنبا في الوضع الأول ولا في الثاني. وفي سورة محمد وردت لفظة الفدية بمعنى طلب الحرية والخروج من الاسر مقابل مبلغ مالي محدد، كما في قوله تعالى: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها..
وفي سورة البقرة جاءت مفردة الفدية بمعنى الانتقال من حال سيئ إلى حال أحسن منه مقابل قيمة نقدية أو عينية تدفعها المرأة المتزوجة لزوجها الذي استحال العيش معه في العش الزوجي (= الخلع)، قال تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله.( سورة البقرة) لاحظ الخطاب القرآني حين استعمل مفردة ( الفدية= افتدت) ولم يستعمل مفردة ( الكفارة) لأنه لم يكن ثمة ذنوب بين الزوجين وإنما استحالة العيش الهني سويا.
أيضا وردت كلمة الفدية في سياق أخر من سورة البقرة،بمعنى الانتقال من نسك إلى نسك أكثر تيسيرا من الأول، باعتبار القصد الكلي القرآني ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، ومن باب المشقة تجلب التيسير، وذلك حين تحدث القرآن عن شهر الصيام شهر رمضان، فقد ذكر قصدية الصوم وهي التقوى والشعور بالمسكين، ثم حدد وقته، والمكلف بذلك، وميز اصحاب الاعذار من هذا التكليف فذكر المرضى والمسافرين، ثم ذكر صنف ثالث ليس من ذوي الاعذار الأولى، وهو الذي يقدر أن يتلبس بتكليف الصيام ولكنه يسبب له إزعاج ويعكر صفو حياته ويعطل معاشه ويضيع عليه المقاصد التي من أجلها شرع الصوم ( لعلكم تتقون)، فحيئذ شرع له الانتقال من عبادة الامساك عن الطعام إلى عبادة انفاق المال على الفقراء والمساكين، فقال تعالى : أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين.
ويبدو أن استخدام النص القرآني لمفردة ( فدية طعام) وعدم استعماله لكلمة ( كفارة طعام) يعد بمثابة النص في محل النزاع، وهذه اشارة دقيقة للغاية لمن كان له عقل سليم، بمعنى أن المكلف لم يرتكب ذنبا كما هو مقرر في الخطاب الفقهي، ولكنه انتقل من عبادة الامساك والشعور المعنوي بمعانة المسكين إلى شريعة الانفاق على المساكين وهي من خصال أهل التقوى والاحسان. ولو كان مرتكبا ذنبا بتركه للصيام لكان من المنطق حسب العرف القرآني أن يستعمل القرآن مفردة كفارة عوضا عن الفدية، وهكذا يتجلى الخلط بين مفهوم الكفارة ومفهوم الفدية في الفكر الديني وهو بمثابة انحراف ذي مصدر إنساني أو على الاقل كان غريبا عن فلسفة خطاب النص القرآني.
كذلك وردت في سورة البقرة مفردة ( الفدية) بذات المعنى، معنى الانتقال من نسك إلى أخر، وذلك في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى، ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك.. ايضا وردت مفردة ( الفدية ) في حوارات يوم القيامة بمعاني الحرية والخلاص كما في قوله تعالى: ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جمعيا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب... كذلك قوله: إن الذين كفروا وماتوا وهو كفار فلن تقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به ..... كذلك قوله: فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا .....
ثانيا: مفهوم الكفارة في القرآن:
بطريقة الاستقراء نجد أن مفردة الكفارة في القرآن قد وردت في سياقات مختلفة، منها كفارة حنت اليمين، وقتل الصيد بالنسبة للمحرم، والظهار، والقتل الخطأ، ففي سورة المائدة قال تعالى عن كفارة حنت اليمين: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون. وفي كفارة قتل المحرم للصيد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ، يحكم به ذوا عدل منكم ؛ هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره ، عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ؛ والله عزيز ذو انتقام .
كذلك وردت مفردة ( الكفارة) في مدونات الأحاديث بهذا النحو حيث بينت تفاصيل كفارة القتل الخطأ، وكفارة الظهار، وزدت كفارة الجماع في نهار رمضان،ويمين الإيلاء، والنذر، ووطء الحائض وغير ذلك. والملاحظ أن جل هذه المفردات حسب سياقها القرآني تأتي بعد إرتكاب المكلف ذنبا معينا فيشرع له إتيان الكفارة المقدرة من أجل التكفير عن ذلك الذنب ومحوه، وبالتالي تأتي مفردة (الكفارة) في السياق القرآن عادة مقرونة بإرتكاب ذنب، عكس مفردة( الفدية) في السياق القرآني حيث أنها غالبا ما تكون عنوان طلب الحرية والانتقال من ضيق حال إلى حال أرحب منه، سواء أكان هذا الحال عسكريا؛ متمثل في الاسير (فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها). أو اجتماعيا؛ متمثل في الحياة الزوجية (فلا جناح عليهما فيما افتدت به). أو طقوسيا؛ متمثل في مناسك الحج أو عبادة الصوم ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين).
وهكذا يكشف المحيط اللغوي والسياق القرآني لمفهومي الكفارة والفدية عن عدم وجود تماثلات أو ترادفات في الشكل والمضمون رغم زعم المؤسسة الدينية الكلاسيكية، وقد يكون لجوء الفقهاء والمفسرين المطرد إلى الجمع والخلط بين المفاهيم ونزع النص القرآني من سياقاته سببه مرحلة مأسسة الاسلام من خلال الحلف المنعقد بين رجال الدين ورجال السلطة عبر التاريخ الاسلامي، حيث تحول الاسلام بعد هذا الحلف إلى مؤسسة قائمة على خيارات فقهية وعقدية تحت شعار سياسديني ( أهل السنة والجماعة) أو ( أهل البيت) وصار نقد هذه المؤسسة (=الحلف بين القلم والسيف) بمثابة نقد ثوابت الوحي والخروج من الاسلام جملة. فهل آن الأوان للتمرد على تلك المؤسسة التي فارقها الزمان والمكان والانسان، وإبداع مفاهيم قانونية جديدة في إطار قصدية القرآن وسهميته يعتبر فيها حال المكلف وتطور زمانه؟!!