الخميس، 31 يناير 2013

عبد الحكيم الصادق الفيتوري-عرض الحديث على القرآن


منهج عرض الرواية على القرآن يبدو أنه منهج معتمد عند فقهاء الصحابة قبل زمن التدوين، فقد كان فريق منهم ينهى عن الأكثار من الرواية عن رسول الله ويحث الناس على الإقلال من الرواية جملة،وهذه القلة من الرواية كانت تعرض على أصول القرآن وقصديته، فما كان منها موافقا للقرآن وقصديته قبلت وإلا رفضت ولم يكن لديهم  حرج في ذلك البتة.ويبدو أن الدافع وراء اعتماد هذا المنهج هو عدم مزاحمة الأصول القرآنية بأي مصدر آخر ولو كان هذا المصدر مما صدر عن رسول الله من قول وفعل في إطار المستوى الجبلي والقيادي، كذلك فهمهم لواقع الناس في زمانهم حيث إختلط فيها الحابل بالنابل،والصدق بالكذب، وتأثرت الرواية بالأوضاع السياسية المتدافعة. ولعل منهم من كان يعتمد على بعض نصوص صدرت من رسول الله تنهى عن كتابة الرواية، وتأمر بعرضها على القرآن الكريم،كما جاء في رواية مسلم:لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه. وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم على الصحابة وهم يكتبون الأحاديث، فقال لهم: ما هذا الذي تكتبون ؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك؟ قال: كتاب غير كتاب الله؟ أتدرون ما ضل الأمم قبلكم إلا بما أكتتبوا من الكتب مع كتاب الله.(انظر:محقق المحصول في علم الأصول، طه العلواني). أما أشارته صلى الله عليه وسلم لهم بعرض ما يصدر عنه على القرآن، فقد جاءت الرواية بذلك حيث قال الرواي عن رسول الله أنه فقال: إذا حدثتم بحديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه، وإلا فردوه. لذا كان أبوبكر الصديق يقول: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيني وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه .(تذكرة الحفاظ)
وكان عمر يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله. بل ذكر أبو زرعة أن  عمر بن الخطاب كان يخطب في الناس ويقول: إن حديثكم شر الحديث، إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدثتم الناس، حتى قيل: قال فلان، وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائماً، فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس، إن كلامكم شر الكلام، وإن حديثكم شر الحديث. كذلك كان أبوأمامة يقول مخاطبا الناس: اعقلوا، ولا أخال العقل إلا قد رفع، لنحن للحديث الذي كنا نسمعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أعقل عليه منا على حديثكم اليوم.(تاريخ أبي زرعة).وكان عمران بن حصين يقول:إني سمعت كما سمعوا، وشاهدت كما شاهدوا،ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم.
ولم يجد هؤلاء الأخيار من حرج في رد الرواية إن كانت تخالف القرآن الكريم وقصديته، فهذا أبو وائل يقول أن رجلا جاء إلى عبدالله ابن مسعود، فسأله عمن لقي، فأخبره أنه لقي كعبا، وأنه حدثه أن السموات تدور حول منكب ملك، وأنه ما صدقه ولا كذبه، فقال له ابن مسعود: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها، كذب كعب، إن الله يقول: إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده. وفي رواية زاد: كفى بها زوالا أن تدور.(تفسير ابن مسعود )
وهذه السيدة عائشة لما بلغها أن أبا هريرة يقول:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأن أقنع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزنى. وأن رسول الله قال: ولد الزنى شر الثلاثة،وإن الميت يعذب ببكاء الحي. فقالت عائشة:رحم الله ابا هريرة أساء سمعا فأساء إجابة.. والله يقول:(ولا تزر وأزرة وزر أخرى) و(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).(الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للبدر الدين الزركشي)
إذن. منهج عرض الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم على النظم القرآني الكريم منهج معتمد عند كوكبة من الأخيار وليس بدعا من المناهج كما يظن الظان.كذلك قبول متن الحديث أو رده من خلال النظم القرآني لا يعني بالضرورة رد كلام رسول الله –حاشا وكلا- وإنما هو رد لكلام الرجال، كما قال ابن عبدالبر:إن أهل الحديث جرحوا بأبي حنيفة لأنه كان يرد كثيرا من أخبار العدول. فكان يذهب إلى عرضها على ما اجتمع لديه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذ عن ذلك رده وسماه شاذا.وكان أبوحنيفة يقول:ردي على رجل يحدث عن رسول الله بخلاف القرآن ليس ردا على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تكذيبا له، ولكنه رد على من يحدث عن رسول الله بالباطل، والتهمة دخلت عليه وليس على نبي الله. ويبدو أن ميزان نقد متن الأحاديث والأخبار وعرضها إلى الأصول القرآنية ومنطق العقل كان يعد من أهم معالم منهج نقد الحديث قبل فترة تدوين المصنفات والمصادر، كما كان يفعل أبو حنيفة وكما جاء في أولى مصنفات فن الحديث الكلاسيكية؛ كالكفاية للخطيب البغدادي الذي صرح بذلك اثناءعرضه لطرق معرفة فساد الخبر،إذ قال:أن يكون مما تدفع العقول صحته بموضوعها والأدلة المنصوصة فيها.ومما يدفعه نص القرآن أو السنة المتواترة.أو أجمعت الأمة على ردها.(الكفاية للبغدادي).ولا غرو فقد جاءت الرواية بتأيد عملية رفض الروايات التي تخالف القرآن ومنطق العقل، إذ قال الراوي عن رسول الله: ما حدثتم عني ما تنكرونه فلا تأخذوا به فإني لا أقول المنكر ولست من أهله.(تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبارالشنيعة الموضوعة، لأبي الحسن علي بن محمد الكناني،انظر مسند أحمد من حديث أبي أسيد الساعدي)
أيضا ذكر أبو زرعة في تاريخه أنه قال: حدثني أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن يحيى بن ميمون حدثه: أن وداعة الحمدي حدثه: أنه كان يحدث مالك بن عبادة، وأبا موسى الغافقي، وعقبة بن عامر يقص: قال النبي صلى الله عليه وسلم،فقال مالك: إن صاحبكم هذا عاقل، أو هالك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا في حجة الوداع فقال: عليكم بالقرآن، وإنكم سترجعون إلى ناس يشتهون الحديث عني، فمن عقل شيئاً، فليحدث به ومن افترى علي فليتبوأ بيتاً، أو مقعداً من جهنم. لا يدري أيتهما قال.
ويبدو أن منهج نقد الرواية سندا ومتنا استمر حتى بعد التدوين وإن كان بصورة ضئيلة جدا،فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة،قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي،فقال:خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يوم الإثنين،وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيه الدواب يوم الخميس،وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة).(مسلم، ومسند أحمد)، فقال ابن تيمية: إن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحي بن معين ومثل البخاري وغيرهما.وذكر البخاري:أن هذا من كلام كعب الأحبار. ثم قال:هذا هو الصواب، لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة. فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد. وهكذا هو عند أهل الكتاب. وعلى ذلك تدل اسماء الأيام، وهذا هو المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر. ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة، لكان قد خلق في الأيام السبعة.هو خلاف ما أخبر به القرآن).(مجموع الفتاوى لابن تيمة) كذلك ذهب ابن القيم في كتابه(المنار المنيف) حيث جعل أهم قواعد رد الحديث مخالفته لصريح القرآن، إذ قال:مخالفة الحديث لصريح القرآن مثل حديث مقدار الدنيا،وأنها سبعة آلاف سنة،ونحن في الألف السابعة.قال:وهذا من أبين الكذب،لأنه لو كان صحيحا لكان كل أحد عالما أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وواحد وخمسون سنة والله تعالى يقول:يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو.وقال:إن الله عنده علم الساعة.(المنار المنيف)
وأحسب أن نقد ابن تيمية هذا يصدق تماما على سند ومتن حديث أبي هريرة القائل بنزول عيسى ابن مريم أخر الزمان،من حيث مخالفته لمحدد من أهم محددات الإيمان الواردة في القرآن الكريم،وأنه يوافق لما عند أهل الكتاب، ومما يرجح أنه من كلام كعب الأحبار وليس من رسول الله وإن جاء به الثقات كما قال الأوزاعي لمنيب، فقد ذكر أبو زرعة في تاريخه قال: حدثني هشام قال: حدثنا الهيثم بن عمران قال: سمعت الأوزاعي، وسأله منيب فقال: أكل ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقبله ؟ فقال: نقبل منه ما صدق كتاب الله عز وجل، فهو منه، وما خالفه فليس منه.قال له منيب: إن الثقات جاؤوا به. قال: فإن كان الثقات حملوه عن غير الثقات ؟!
ويبدو أن بعض الثقات في زمن التدوين إذا استحسن حكمة أو قصة أو ما شاكل ذلك صنع لها إسنادا يتعبد الناس به،كما قال أبو زرعة: وحدثت أحمد بن حنبل ما أخبرني به عبد الرحمن بن إبراهيم عن أبي محمود بن خالد أنه سمع محمد بن سعيد يقول: إني لأسمع الكلمة الحسنة، فلا أرى بأساً أن أنشىء لها إسناداً - فعجب لذلك.وأحسب أن كثرة إمتهان صناعة انتاج الروايات والأحاديث وصلت ذروتها في عهد معاوية مما حمله ذلك إلى التحذير من هذه الظاهرة المتفشية فقال عبد الله بن عامر أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر بدمشق يقول: أيها الناس إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا حديثاً كان يذكر على عهد عمر، فإنه كان يخيف الناس في الله.(تاريخ أبي زرعة)
وهكذا اتضحت معالم المنهج النقدي المعتمد عند الأخيار في قبول رواية الثقات ناهيك عن غير الثقات، وبذلك يمكننا اجمال معالم هذا المنهج النقدي المعتمد عند الأخيار وعندي كذلك من خلال القاعدة التالية(=الإقلال من الرواية،وعدم قبولها إذا كانت مخالفة للقرآن الكريم،ومنطق العقل).فإذا ما أردنا اضطراد هذه القاعدة وتطبيقها على حديث أبي هريرة وغيره مما نسب إلى رسول الله من القول بنزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، فسنجد لا محال بإن متن الحديث يخالف القرآن وقصديته، ويخالف العقل جملة، ناهيك عن اضطراب متنه بصورة غير معقولة. فمثلا مخالفته للقرآن الكريم، فالله سبحانه يقول على لسان عيسى ابن مريم(مبشرا برسول يأتي بعدي اسمه أحمد)والرواية تقول أن عيسى يأتي بعد أحمد عليهما السلام.
كذلك فالقرآن يقول(لا إكراه في الدين)والرواية تقول(...ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ..).قال النووي في شرحه لهذه الرواية:والصواب أن عيسى لا يقبل إلا الإسلام ،ويؤيده من جاء عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة:..وتكون الدعوة واحدة.(شرح مسلم للنووي)،والرواية عند أحمد تقول:... وأنه يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، ويضع الجزية،وإن الله يهلك فى زمانه الملك كلهغير الإسلام.قال ابن كثير:...فلا يقبل إلا الإسلام.(تفسير ابن كثير) علما بأن الله يقول لرسوله الكريم في كتابه المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين)،ويقول في الابقاء على معالم الديانات(...ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع، وبيع،وصلوات،ومساجد، يذكر فيها اسم الله كثيرا..) ويقول في الإيمان(ما كان لنفس إن تؤمن إلا بإذن الله)،ويقول(إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)ويقول (فإن أعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظا)،ويقول(لست عليهم بمسيطر)ويقول(فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين)،ولكن الرواية تقول بالإكراه،والقتل،وإلغاء من لا يؤمن من الوجود، وتهديم معالم الديانات كلها(...ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير،ويضع الجزية،ويقتل القرد..!! وجاءت زيادة في رواية البخاري ومسلم بأنه(...فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه).
واللافت للنظر في متن الرواية رغم مخالفتها لصريح القرآن وقصديته،وللعقل ومنطقيته، فإن متونها مضطربة بصورة مخلة،فمثلا جاء في رواية الصحيحين أن رسول الله قال رأيت عيسى عند الكعبة يطوف(أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم...فسألت من هذا فقيل المسيح ابن مريم..).وفي رواية المعراج قال:(..ثم مررت بعيسى فقال:مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت:من هذا، قال: هذا عيسى..). وفي رواية تصف لون عيسى بأنه آدم،وفي رواية أخر بأنه أبيض، وفي رواية آخر بأنه أحمر!!
وفي روايات أخر بأن الدجال لا يدخل مكة والمدينة بيد أن رواية الصحيحين تقرر دخول الدجال إلى مكة بل طوافه حول الكعبة فقال البخاري ومسلم:(أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم أحسن ما أنت راء من أدم الرجال له لمة أحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها فهي تقطر ماء، متكئا على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت فسألت من هذا فقيل المسيح ابن مريم، وإذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فسألت من هذا؟ فقيل المسيح الدجال، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه)!!وهكذا يبدو الاضطراب بين وواضح في متون روايات نزول عيسى عليه السلام أخر الزمان مما يؤكد أنها لم تصدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من كلام كعب الأحبار لمخالفته لصريح القرآن وقصدته، والعقل ومنطقيته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق