الخميس، 31 يناير 2013

عبد الحكيم الصادق الفيتوري-عليكم بسنة الخلفاء الراشدين ... وإشكالية الفهم


قال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب.فقال رجل:إن هذه موعظة مودّعٍ، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال:أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبد حبشي تأمر عليكم،فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور،فإن كل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ.قال أبو عيسى الترمذي:هذا حديث حسن صحيح . 
وأحسب أن إشكالية فهم هذا الحديث تكمن في نقاط عدة ،أبرزها مخالفته الصريحة لمقاصد الكلية السياسية في القرآن الكريم، وعدم توافق سلوك الخلفاء الراشدين لفحوى الحديث ،ومناقضة أعمال جمع غفير من الصحابة لدلالته الإلزامية في الاستدلال ،والممارسة التطبيقية في السياسة !!وإذا ما أردنا تحليل هذا الإشكال وفكه وإعادة تركيبيه وفق كلية القرآن والهدى النبوي ينبغي علينا قراءته من خلال النقاط التالية.
أولا: مقاصد الكلية السياسية في القرآن(*):
لقد تمهد السبيل في كلية القرأن السياسية التأكيد على أن الأمة هي محل التكليف الشرعي وموضع الخطاب الإلهي،فكان خطابه سبحانه لها بصيغة الجمع(يا أيها الذين آمنوا ...)ثم حملها حق ممارسة وتطبيق هذا التكليف بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)،وحقها في اختيار الحاكم المناسب الذي يتحمل المسؤولية الجمعية لإقامة المعروف وإزالة المنكر(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)،وحقها في دفع ظلم الحاكم وجوره إن حاد عن مهامه المنوطة به(وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ..فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم).ثم توجه الخطاب القرآني للحاكم المنتخب من قبل الأمة وأوجب عليه وجوبا عينيا إقامة العدل والقسط بين الناس وأن يسوسهم  بالقانون لا بالهوى(يا دواد إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ،إن الله نعما يعظكم به).
 فكان ذلك كذلك فإن سياسة النبي الكريم وهديه العملي الذي تجلت فيه قيم القرآن العدلية ، بل شدد على الأمة محل التكليف الشرعي أن تمارس حقها الكامل بالكامل فقال فداه أبي وأمي (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) وحرج عليها في ممارسة حقها في الحسبة والأمر بالمعروف فقال:(والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر وليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)!! بل جعل حقها في ممارسة إقامة مفاهيم العدل والمساواة بين الناس ، وعدم السكوت على الظلم والجور والحيف من  أصول الإيمان،فقال( من رأى منكرا فلينكره بيده ، ومن لم يستطع فبلسانه ، ومن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) !!
ويتضح من هذا العرض الموجز لمعاني الكلية السياسية في القرآن والهدي البياني للنبي صلى الله عليه وسلم بأنها تتعارض مع  معاني حديث العرباض والأحاديث المماثلة له ،حيث قلبت القضية وجعلت الحاكم هو الفاعل وصاحب الحق الأصيل ، والأمة مفعولة بها تابعة منقادة له ، فكان أمر السمع والطاعة ملزما لها وإن ضرب ظهرها ،وأخذ مالها ،وهتك عرضها ، واستلب حقها!!...أوصيكم بالسمع والطاعة...فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين،عضوا عليها بالنواجد ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما إنقيد إنقاد ... من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله !! ولا يخفى أن هذا تقنين صريح للظلم يصادر الأمة حقها الشرعي يخالف مقاصد الرسالة جملة وتفصيلا . 
ثانيا: مخالفة الخلفاء لمتن الحديث:
بعيدا عن اختلاف الناس في تأويل لفظة الخلفاء الواردة في الحديث بين مقيد لها بالخلفاء الأربع ،وبين مطلق لها لتشمل سائر خلفاء إسلام التاريخ إلى فترة الملك العاض والجبري !! كذلك بعيدا عن تحديد نسبة حجم وقوع المخالفات والمناكفات وماهيتها بين أولئك الخلفاء على مر التاريخ الطويل حيث لا يهمني الوقوف عند تفاصيل لكونها تخرجنا عن مجال الدراسة ،ولكن الذي يهمني في هذا المقال الوقوف عند دلالة الحديث العرباض ومدى موافقته للكلي القرآني من عدمه ...وقد تأكد لنا فيما سبق بأنه مخالف للكلى القرآني والهدي النبوي .
ولكي تتضح لك صورة مخالفة حديث العرباض ومزاحمته للكلي القرآني والهدي النبوي أزيدك من الشعر بيتا،فأقول:إذا كانت الفتن الرهيبة في تاريخ المسلمين بكل خسائرها المادية ودمائها البشرية المهدورة ظلما وعدوانا ،مردوها إلى التنازع حول السلطة والثروة ،وقد كانت هذه الفتن مكشوفة للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا التفصيل(**)، فهل يتصور بعد ذلك أن يسكت النبي فداه أبي وأمي عن معالجة قضية السلطة الحساسة والتي كانت محور الفتن وموطن الفوضى في تاريخ الأمة ؟!وهل يتصور ألا يتطرق النص في علاجها إلا إلى نداء واحد موجه إلى الطرف الضعيف(الأمة)الذي أقصيى وهميش من لعبة السلطة والثروة جملة وتفصيلا ، بأن يسمع ويطيع ..ويصبر..ولا يحدث بدعا كالخروج عليه..و..و..و، دونما أن يشير النص بنداء مماثل إلى الحاكم المستبد أن يمتنع عن ظلم الأمة صاحبة الحق الأصيل ويكف جوره وحيفه عليها ؟!!  
ثالثا: فهم الحديث في السياق التاريخي :
- لا يخفى أن الحديث رواه راو واحد فلم يروه أحد غير العرباض على الرغم من أن الحديث قيل في المسجد بعد صلاة فرض مما يتحتم أن يرويه جمع من المصلين !!
- اللافت للنظر أن صيغ الحديث وألفاظه مسبوكة سبكة وعظية تحمل بصمة الأيدي والألسن التي عاشت زمن الفتنة وفي كنف السلطة ، فمن ذلك وعظنا موعظة مودع ... بعد صلاة الغداة موعظة بليغة... ذرفت منها العيون ...وجلت منها القلوب ... أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ... وإياكم ومحدثات الأمور ...عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ...عضوا عليها بالنواجد !!
- زد على ذلك فإن التحديث بهذا الحديث كان في سياق الخصومة التاريخية وأجواء الفتنة بين سلطة الشام(معاوية)وخلافة العراق(علي)، علما بأن جل رواته من أهل الشام فهي رواية حمصي عن حمصي ، مما يجعل التنصيص السياسي واضح، والغرض التوظيف بين ،ورائحة الصنعة عالية، وبصمة الفقه ثابتة،  بحيث يعد نص تدجيني ، يؤسس مشروعية تدجين الأمة بقلم أظافرها وطمس مقومات أهليتها وبشريتها،لصالح السلطة والسلطان !!
والغريب في الأمر أن تستميت المنظومة الكلاسيكية في الدفاع عن فكرة التدجين..تدجين الأمة وذلك عن طريق توظيف دلالات هذه الأحاديث من أجل المحافظة على السلطة السياسية الغاشمة المستبدة ،والتلويح الدائم بخطر فتنة الإنكار على هذه السلطة الجبرية العاضة ،وكأن الفتنة لا تأتي إلا بالافتئات على حق الحكام المستبدين،متجاهلين حق الأمة باعتبارها الطرف الرئيسي في عملية الحكم برمتها صاحبة التكليف الشرعي !!  يقول ابن بطال:قد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه،وإن طاعته خير من الخروج عليه ، لما في ذلك من حقن الدماء ،وتسكين الدهماء ..!!
وبعد.. فلعل أهم ما نبه إليه في هذه المقال هو خطورة إغفال عملية فرز (إسلام النص)من(إسلام التاريخ)، وإهمال التفريق بين ما حقه الإطلاق والتقييد،وتحديد دوائر السنة التشريعية والقيادية والجبلية،والتمييز بين النصوص الناقلة للتكاليف،والروايات الناقلة للأخبار ...كذلك فأن عدم قراءة هذه العناوين بتعقل ومحاولة ممارسة عملية الفرز وفك الإشتباك بين تلك العناوين يعني بالضرورة التضحية بقيم ومباديء(إسلام النص)وسمعته من أجل المحافظة على القراءة التمجيدية لتاريخ السلطة وسلطةالتاريخ(إسلام التاريخ)!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق