الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-الحسبة على الأفكار والأفئدة ( مأساةُ ابن حنبل )7\2


ذكرتُ فى خاتمة المقالة السابقة، أن الديانات والعقائد السابقة على اليهودية، كانت تتخذ للديانة مكاناً مخصوصاً هو المعبد أو الهيكل الذى يذهب إليه المؤمنون بهذه الديانة أو تلك العقيدة، فيتلقَّاهم هناك الكهنةُ أو الكاهنات المستعصمون بجدران دار العبادة، الذين يذهب الناس إليهم، لكنهم لا يخرجون إلى أحد.. غير أن التدين اليهودى خرج بالدين والعقيدة من المعبد (الهيكل) إلى الأسواق والقرى، فكان الأنبياء اليهود الذين يشبهون ما نسميهم اليوم (الدعاة) ينتشرون فى أنحاء فلسطين، منذرين الناس بالمزيد من عقاب الربِّ، ومبشِّرين بقرب ظهور المخلِّص (الماشيح)، الذى سوف يعيد لليهود (أبناء الرب) مكانتهم التوراتية كأسيادٍ لبقية الناس.
وفى أسفار الأنبياء الصغار، الواردة فى الجزء الأخير من «العهد القديم» نجد العبارات المنذرة، اللاهبة كالسياط، التى يتوعَّد بها الأنبياءُ الناسَ جميعهم، لأن الناس فرطوا فى حقوق الربِّ. وهو ما يظهر بوضوح فى أسفار «حبقوق» و«ميخا»، و«ملاخى»، وغيرها. وفى حياة يوحنا المعمدان المسمى عند المسلمين بالنبى يحيى بن زكريا، الذى كان بمنـزلة (الوصلة) بين اليهودية والمسيحية، نجد تلك النـزعة المنذرة باسم الربِّ، ونجد تعريفه لنفسه بأنه: صوتٌ صارخٌ فى البرية.
فلما جاء المسيح (الماشيح، يسوع، عيسى) لم يصرخ فى الناس كسابقيه، وإنما بدأ دعوته أو «بشارته» بأن تحدَّث للناس فى المحبة، فى أولى العظات التى ألقاها (موعظة الجبل)، فانصرف معظم السامعين، لأنهم لم يكونوا قد اعتادوا من أنبياء اليهود، هذه النغمة الحالمة.. ولما أنقذ المسيح المرأة العاهرة من الموت رجماً بالحجارة، على أساس مقولته المربكة للراجمين: من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر! كان ذلك، مرةً أخرى، خروجاً عن المعتاد والمتوقع من أنبياء اليهود. ولما ذهب السيد المسيح إلى الهيكل (الذى انهدم بعد مولده بسبعين سنة) وجد «بيت الرب»، محاطاً بسوق يرتع فيها الصيارفة والمستثمرون فى الدين بالتجارة، فقلب عليهم الموائد، وصرخ فيهم باسم الرب لكى يكفُّوا عن تدنيس الموضع المقدس.
* * *
ومع أن المسيح كان فى أول الأمر يقول إنه «لم يُرسل إلا لخراف بنى إسرائيل الضالة» يعنى اليهود، إلا أنه عاد فى نهاية حياته، بحسب ما جاء فى الإنجيل، وقال لتلاميذه (الرسل، الحواريين) ما نصُّه: اذهبوا وبشِّروا جميع الأمم .. إذن، لم يعد «الدين» مرتبطاً بمكان محدد لممارسة العبادة، ولم يعد «رجال الدين» يُشدُّ إليهم الرحال، وإنما صاروا هم الذين يشدُّون الرحال إلى الناس. وصاروا من بعدُ، هم المعبِّرين بلسان الله (الرب) والمتحدثين باسمه، الحُماة لدينه والحاكمين على عباده بالإيمان أو الكفر.
وفى تاريخ المسيحية المبكر، ظهرت مشكلة كبيرة ملخصها الآتى: كان كثير من المسيحيين قد ارتدوا عن الديانة لأسباب سياسية واجتماعية، ثم أرادوا الرجوع إلى حظيرة الدين.. فتصادمت فيهم آراء رجال الدين، ما بين متساهل مع هؤلاء وذريتهم من بعدهم، ومتشدِّد رافض لعودتهم من الردة التى قاموا بها أو قام بها آباؤهم! وهكذا صارت مراتب الناس فى الوعى المسيحى خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين، كالآتى: المؤمنين، الموعوظين الكبار، الموعوظين الصغار، الكفار. والمقصود بالموعوظين، الذين عادوا إلى الكنيسة أو أرادوا الدخول فى الديانة، لكنهم بَعْدُ (تحت الاختبار)، فالذى تم اختباره لسنوات هو الموعوظ الكبير، والذى ابتدأ البرنامج (الاختبار) موعوظ صغير.. والقساوسة هم الذين يقررون ترقية الشخص من كافر إلى موعوظ صغير ثم موعوظ كبير ثم مؤمن! أى صار القساوسة هم المراقبين .. المقرِّرين . المحتسبين.
ثم راح الأساقفة يرنون بأبصارهم إلى خارج حدود أسقفياتهم وبلادهم، فيحكمون على بعضهم البعض بالهرطقة والكُفر وعدم الاعتراف بالإيمان القويم.. حتى انشطرت الكنائس وتفرَّق أهل الديانة بين مذاهب وطوائف وجماعات لا تكاد تقع تحت الحصر.
وفى لحظة مبكرة من تاريخ الإسلام، رأى جماعة من الناس، سوف يسميهم الناس «الخوارج» أنهم أعرف المسلمين بالدين، وأن (لا حكم إلا لله) فقاموا بهذا المنطق الاحتسابى، بمحاسبة الناس باسم الدين. فصار مرتكب الكبيرة عندهم كافراً، وصار الأئمة مرتدين! وبحكم الردة، قتل الخوارجُ الإمامَ علىَّ بن أبى طالب، وطعنوا معاوية فأفقدوه خصيته، وفشلوا فى قتل أبى موسى الأشعرى وعمرو بن العاص.. ثم قتلوا من بعد ذلك كثيرين، وقتلت (الحكومة) منهم كثيرين باعتبارهم جماعة إسلامية متطرفة تنشر الإرهاب فى المجتمع. أما هم، فكانوا يرون فى أنفسهم القائمين بأمر الله، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.. أى أنهم المراقبون المعاقبون (المحتسبون) بمقتضى الحق الإلهى، والإيمان القويم الذى حافظوا عليه وابتعد عنه بقية المسلمين.
* * *
وفى مواجهة الخوارج، قامت فى بداية القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) فرقة من المعتزلة على أُسس عقلانية، فقرَّر مؤسِّس المذهب «واصل بن عطاء» أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً، وليس مؤمناً أيضاً، لكنه مسلمٌ فى (منـزلة بين المنـزلتين: الكفر والإيمان) ولا يجوز بالتالى قتله وإنما يجوز تزوُّجه من مسلمةٍ، ودفنه بعد موته فى جبانة المسلمين.. ثم تطور مذهب المعتزلة، وقرَّر آراءً وأصولاً عقائدية كثيرة، من بينها الرأى القائل إن القرآن مخلوق. بمعنى أن القرآن نزل باللغة العربية، وهى لغة مستحدثة، والله وحده القديم، وبالتالى فكلام الله (القرآن) ليس قديماً، وإنما هو حادثٌ أو مخلوق.
ولم يقتنع بعض أئمة السلف برأى المعتزلة، وقرَّروا أن القرآن قديم (أزلى) لأنه كلام الله القديم (الأزلى، الأبدى) وقد وصف القرآن نفسه: (إنه لقرآن كريم فى كتابٍ مكنون) أى أنه موجود منذ الأزل. فصار لدينا رأيان، رأى المعتزلة (خلق القرآن) ورأى السلف (قِدم القرآن) وقد توسَّط بينهما الأشاعرة وقرَّروا أن المعانى القرآنية قديمة أزلية، بينما الحروف والأصوات حادثةٌ مخلوقة. وبالتالى ففى القرآن الكريم الجانبان: القديم والحادث، أو الأزلى والمخلوق. وقد نال هذا الرأى المتوسِّط وغيره من الآراء الأشعرية (الوسطية) رضا الأغلبية من المسلمين، فصارت الأشعرية هى مذهب الغالبية من مسلمى أهل السنة الذين هم غالبية المسلمين، وانطوى تاريخياً هذا الخلافُ العقائدى، بعدما كان قد أدى لويلات منها مأساة الإمام الشهير أحمد بن حنبل.
* * *
ابن حنبل واحدٌ من أئمة المسلمين بإجماع العامة والفقهاء، حتى أولئك الذين لا يتبعون مذهبه الفقهى، الحنبلى، يرونه واحداً من أئمة المذاهب الفقهية التى كانت ستة عشر، ثم صارت منذ ألف عام أربعة فقط: الشافعية، المالكية، الحنفية، الحنبلية.
وكان مولد الإمام عبدالله أحمد بن حنبل سنة ١٦٤ هجرية ببلدة «مرو» الفارسية، وذهبت به أمه إلى بغداد وهو بَعْدُ رضيع، بعدما مات والده. وفى بغداد نبغ ابن حنبل حتى صار إماماً فى علم الحديث النبوى، والفقه، وألَّف كتابه الشهير (المسند) واشتهر بين معاصريه بالفضل والابتعاد عن التكسُّب بالدين.. يصفه الإمام شمس الدين الذهبى فى كتابه (سِير أعلام النبلاء) فيقول: أحمد بن حنبل هو الإمام حقاً، وشيخ الإسلام صدقاً.
وسوف نرى فيما يلى، ما جرى مع الإمام.. شيخ الإسلام.
* * *
كان بعض المعتزلة قد استطاع إقناع الخلفاء العباسيين بأن القرآن مخلوق، وأن ذلك أصل من أصول الدين القويم، ومن يعتقد أو يفكر فى أن القرآن قديم، فهو يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة، حتى وإن كان هذا الشخص لا يصرِّح بذلك .. وفى لحظةٍ فاجعةٍ من تاريخنا، مُورِسَتْ الحسبة على الأفكار والأفئدة، ودعا الخليفة المأمون بن هارون الرشيد العلماء ليمتحنهم بأن يسألهم: هل القرآن قديم، أم مخلوق حادث؟! فكان بعض العلماء والفقهاء يهرب من (المحنة) وبعضهم يتوارى عن الأعين، وبعضهم يستعمل مبدأ «التَّقيَّة» فيقول للحاكم ما يريد أن يسمعه منه، فينجو.
غير أن بعض العلماء والفقهاء، صرَّحوا بأن لهم رأياً يخالف ما يعتقده المعتزلة والخلفاء، فأصابتهم الويلات.. وكان من هؤلاء الذين ابتلاهم زمانهم بهذه المحنة وتلك الحسبة، ابن حنبل، الذى كان قد بلغ من العمر خمسا وخمسين سنة، ومن الشهرة ما لم ينله شخص آخر من معاصريه. وفى (كتاب المحن) يحكى لنا محمد بن تميم (المتوفى ٣٣٣ هجرية) مأساة الإمام أحمد، التى هى واحدة من أشهر مآسى الحسبة على الأفكار فى تاريخنا.. فيقول ما مفاده:
كان الإمام أحمد ببلدة طرسوس، فأرسل إليه المأمون كتاباً (وثيقة) فيها أن عليه الاعتراف بالإيمان بخلق القرآن، أو تقطع يداه ورجلاه. فلما قرأوا الكتاب على الإمام ابن حنبل ، قال: القرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق.
هَمَّ عسكر المأمون بتنفيذ الحكم، فثار عليهم الناس يقودهم محمد بن الطبَّاع وأخوه إسحاق. فأخذ الجند الإمام ابن حنبل وهو مقيد بالسلاسل، وذهبوا به إلى بغداد (تبعد عن طرسوس بمئات الكيلومترات) فألقوه فى الحبس، فى غرفة ضيقة جداً، وكانوا يرفضون أن ينـزعوا عنه القيود كى يؤدى صلواته، فكان يصلى بالناس فى السجن وهو مقيَّد.. ثم أرسلوا إليه فى سجنه من يدعوه للإقرار بأن القرآن مخلوق، فرفض، فزادوا عليه القيود حتى أحكموا قدمه بأربع سلاسل حتى لا يمكنه الحركة.
وظل الإمام فى حبسه حتى تولى الخلافة «المعتصم» فاستمر فى ممارسة الحسبة، وفى اختبار أفكار الناس عبر ما يعرف باسم (المحنة) .. وقد بعث الخليفة إلى الإمام ابن حنبل يهدِّده إما بالاعتراف العلنى بإيمانه بخلق القرآن، أو بقتله «فى موضع لا يرى فيه شمس ولا قمر» . فرفض الإمام، فحملوه فى قيوده إلى الخليفة الذى كان قد جهَّز له ستين جلاَّداً، كى يرهبه ويغصبه على الاعتراف بالإيمان! فقال الإمام أحمد بن حنبل: الإيمان هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
فقام إليه المعتصم وقال : ويحَك يا أحمد، ما تقول فى القرآن؟ قال الإمام: يا أمير المؤمنين ما أعرف هذا الكلام، إنما طلبت أمر دينى وصلاتى، وأعلِّم الناس.. أمر الخليفة الجلادين، فعلَّقوا الإمام بين السماء والأرض ، وراح كل جلاد يضربه بكل ما أوتى من قوة .
وفقهاء السلطان حول الخليفة يزعقون: يا أمير المؤمنين، هو كافرٌ حلال الدم، فاضرب عنقه وذنبه فى رقبتنا.. وهنا، قال رجل من الجلادين للخليفة: يا أمير المؤمنين، إن أردتَ ضربتُه سوطين أقتله فيهما. فوافق الخليفة، فضربه الجلاد سوطين هائلين، قال المؤرخون إنهما قطعا جلد بطنه فتدلت منها أمعاؤه.
ثم ألقوا الإمام، شيخ الإسلام، على الأرض وشدُّوا على بطنه بثوب. وصاحوا «مات أحمد» فصخب الناس عليهم فى بغداد، ونقم المسلمون فى أنحاء الأرض لهذه المحنة.. فأطلق الخليفةُ الإمامَ أحمد، ليظل بعدها أكثر من عشرين سنة عليلاً، مختفياً فى بيته، مخلوع الكتفين، حتى وفاته سنة ٢٤١ هجرية.. رحمه الله، ورحمنا من بعده.
وتبقى هنا إشارتان، الأولى أننى أوجزت فى حكاية الفظائع التى وقعت مع الإمام ابن حنبل، إشفاقاً على القُرَّاء.. والأخرى، أن أئمةً آخرين، نالت منهم هذه المحنة وتلك الحسبة، وتم التفريق بسببها بينهم وبين زوجاتهم! منهم الإمام فضل الأنماطى، والإمام أبوصالح.

د. يوسف زيدان-الحسبة على الأفكار والأفئدة (أَصْلُ الحِسْبة وسِرُّ المِحْنة )7\1


تمرُّ بى هذه الأيام واحدةٌ من المحن الطواحن التى تحرق الفؤاد وتحيِّر الروح، غير أننى أحتملها بصمت راضياً، ليقينى بأنها ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة! فهى محضُ محنةٍ ونازلةٍ من تلك النوازل التى طالما ابتلى بها الناسُ الناسَ، وطالما اصطدم الأئمةُ والأفاضلُ بأمثالها فما جزعوا ولا استغاثوا، وإنما صبروا وأوصونا من بعدهم بالصبر، خاصةً عند بدء نزول المحن، وَفْقما قال الإمامُ عبدالقادر الجيلانى: الصبر عند الصدمة الأولى.
والمحنةُ المارَّة بى حالياً، حلَّقتْ أصلاً فى سمائى من مكمن (الحسبة) وانطلقتْ من منصَّتها العجيبة المفجعة، التى طالما أطلقتْ السهام الفاتكة فى زماننا القديم وفى واقعنا المعاصر، فقضتْ على كثيرين ممن نزلت على رؤوسهم الصواعقُ الصادمات، قبلما يُنذرهم بها نذيرٌ.
ومن هنا، رأيتُ أن تكون هذه السباعية مخصَّصة لمسألة (الحسبة) التى يتوهَّم كثيرٌ من الناس أنها مفهومٌ إسلامىٌّ شرعىٌّ، وشرطٌ لازمٌ من شروط الإيمان القويم. من دون انتباه إلى أصل الحسبة، وتطوُّر جذورها التاريخية السابقة على الإسلام. وهو ما نعرض له فى مقالة اليوم.
وفى المقالات التاليات نعرض لبعض المحن التى عصفتْ من خلالها (الحسبة) بأعلام الرجال فى كل مذهب، فلم تقتصر هذه المحن الطاحنات على فرقةٍ أو جماعة معينة، وإنما اكتوى بنارها فقهاء وصوفيةٌ وعلماء وأدباء ..
حتى إذا مرت الأسابيع الستة القادمة، ذكرتُ فى المقالة السابعة المحنة التى أمرُّ بها، عساها أن تكون آنذاك قد مرَّت، وانزاحت بهمومها. فلنبدأ الكلام فيما يلى، على أصل الحسبة وجذورها، وعلى تبيان منافعها الأولى، ثم مخاطرها المهدِّدة للأفراد والجماعات.
■ ■ ■
من حيث المعنى اللغوى المبكر، فإن لفظ «الحسبة» مقصودٌ به فى اللغة العربية أشياءُ كثيرةٌ متباعدةٌ فى دلالاتها. ففى واحد من أقدم المعاجم العربية، هو (معجم مقاييس اللغة) الذى وضعه اللغوى الشهير «ابن فارس» المتوفى سنة ٣٩٥ هجرية، نقرأ من معانيها: «العَدُّ والإحصاء.. والحسبةُ هى التدبيرُ، يُقال فلان حَسَنُ الحسبة إذا كان حسن التدبير. ويقال احتسب الشىء، إذا عدَّه فى الأشياء المذخورة له عند الله. وأحسبتُ فلاناً، إذا أعطيته ما يرضيه».
ثم يخرج ابن منظور، المتوفى سنة ٧١١ هجرية، فى كتابه الشهير (لسان العرب) بمعنى الحسبة إلى آفاق دلالية أرحب، فيذكر كثيراً من المعانى اللغوية للكلمة، ثم يقول: «احتسبتُ فلاناً، أى اختبرتُ ما عنده! والنساءُ يحتسبن ما عند الرجال لهن، أى يختبرن. وذهب فلان يحتسب الأخبار أى يتجسَّسها ويتحسَّسها. واحتسب فلان على فلان ، أى أنكر عليه قبيح عمله».. وهنا نرى (الحسبة) وقد اقتربت قليلاً من مفهومها الفقهى والشرعى.
ثم يتطور المعنى وتزداد دلالة (الحسبة) ارتباطاً بمفهومها الدينى، فى القاموس العربى الشهير الذى وضعه الفيروزآبادى، المتوفى سنة ٨١٧ هجرية، وجعله بعنوان طويل عجيب هو: القاموس المحيط والقابوس الوسيط الجامع لما ذهب من كلام العرب شماميط!
وفيه يقول ما نصُّه: «الحسبة هى الأجر، وهى دفن الميت فى الحجارة أو مكنَّفاً. واحتسب عليه أى أنكر، ومنه جاء اسم المحتسب».. وهنا نرى ظهور لفظ القائم بالحسبة (المحتسب) لأول مرة فى معاجم اللغة العربية.
وفى آخر القواميس والمعاجم العربية الكبرى (تاج العروس) لمرتضى الزبيدى، المتوفى سنة ١٢٠٥ هجرية، نرى ما يؤكد الصلة بين الحسبة والمحاسبة الشرعية، وهو ما يظهر من قوله: «الحسبان جمع حساب» وقوله «والله سريع الحساب» أى حسابه واقع لا محالة، وكل واقع فهو سريع، وسرعة حساب الله أنه لا يشغله حساب واحد من البشر عن محاسبة الآخر.. وقولهم حسيبك الله وحَسْبك الله، أى انتقمَ الله منك. والحسبان جمع الحساب، ومعناه كما فى قوله تعالى (يرسل عليهم حُسباناً من السماء) أى عذاباً..
وهكذا اقترب المعنى اللغوى للحسبة شيئاً فشيئاً، من معناها الاصطلاحى الذى ذكره المؤلف العثمانى الشهير طاشكبرى حيث زاده فى كتابه «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» حين جعل الحسبة والاحتساب علماً، فقال ما نصه: «علم الاحتساب، هو النظر فى أمور أهل المدينة، بإجراء ما رُسم فى الرياسة أو بتنفيذ ما تقرَّر فى الشرع من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والمواظبة على هذه الأمور ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، إذ السلطان بمنـزلة الرأس من البدن وهو منبع الرأى والتدبير، والوزير بمنـزلة اللسان الذى هو المعبر والسفير، والمحتسب بمنـزلة الأيدى والأقدام أو المماليك والخُدَّام..»
■ ■ ■
ومن الناحية التاريخية، لم يكن الاحتساب معروفاً فى الصدر الأول للإسلام، ولا نعرف إشارةً له أو قائماً فى الزمن الأموى. حتى كان عصر الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، وفيه يظهر الاحتساب ببغداد كأمر تنظيمى ذى صبغة اجتماعية/ سياسية، وصارت لوظيفة المحتسب أهمية كبرى. وقد كان الاحتساب والحسبة آنذاك، يرادفان ما نعرفه اليوم بلفظ (الرقابة، حماية المستهلك، الأيزو.. إلخ) فكانت من المهام الحكومية «الحسبة على الأسواق» بمعنى مراقبة الأسعار ومكافحة الاحتكار والغش التجارى.
و«الحسبة على الأطباء والصيادلة» بمعنى الرقابة على الممارسات العلاجية والتأكد من صلاحية القائمين بها من الأطباء، ومراقبة ما يحتفظ به العطارون والصيادلة من المواد الدوائية الصالحة، وفقاً لما هو معروف من خواص الأدوية وأعمار العقاقير.
ولكن وظيفة المحتسب ظلت فى الزمن العباسى المتأخر، والمملوكى والعثمانى من بعد، غير محددة المعالم! فكان هناك الفقيه الذى يستخرج الأحكام الشرعية، والقاضى الذى يحكم وفقاً للشريعة، والشرطى الذى ينفذ الأحكام. وهذه صورةٌ مبكرة من (نظرية فصل السلطات) التى ظهرت فى أوروبا الحديثة على يد مونتسيكيو وجان جاك روسو، لتكون مع (نظرية العقد الاجتماعى) أساساً للنظام السياسى فى الدول الحديثة.
غير أن هذا «التطور» لم يحدث فى تاريخ الثقافة الإسلامية، لعدة أسباب، منها عدم وضوح مهام المحتسب وحدود صلاحياته. فقد كان القائم بالاحتساب يرى أمراً مُنكراً، فيردعه من فوره دون الرجوع إلى سلطة أخرى. وفى حالات كثيرة، كان المحتسب يمارس سلطته على القاضى الذى يصدر أحكاماً يراها المحتسب خاطئة، أو الشرطى الذى يراه منحرفاً.
ثم صارت وظيفة المحتسب مع الأيام، مرتبطة على نحو وثيق بالجانب الأمنى السرى. وصار للمحتسب أعوانٌ وجهازٌ أقرب ما يكون إلى ما نعرفه اليوم باسم (جهاز المخابرات) وقد نبغ فى هذه المهام المخابراتية عددٌ من المحتسبين الذين صار اسمهم مثيراً للفزع فى نفوس أهل زمانهم، منهم المحتسب المملوكى الشهير «الزينى بركات بن موسى» الذى كان شخصية فعلية استلهمها الصديق جمال الغيطانى فى روايته المبكرة: الزينى بركات.
ولقرون طوال، ظل المحتسب يقوم بدور (المراقب/ المعاقب) استناداً إلى السلطة الممنوحة له من الحاكم .. ولأن الحاكم الأعلى من كل حاكم، هو الله تعالى، فقد استندت «الحسبة» إلى الأصل الدينى الشرعى، وتناست مع الأيام دورها الاجتماعى المبكر (مراقبة السوق، حماية المستهلكين، إقرار الحقوق البديهية للناس .. إلخ) وصارت بمثابة المعيار الدينى الحاكم على سلوك الأفراد!
أى أن أفراداً من المجتمع، صاروا يحاكمون أفراداً آخرين، بحسب مايرونه «الدين القويم» وبحسب ما يرون أنه «معلوم من الدين بالضرورة» وبحسب فهمهم هم لحدود الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ولما انهارت دولة الخلافة الإسلامية، صارت الحسبة فى بلادنا حقاً لكل فرد. بمعنى أنه يجوز قانوناً أن يقيم أى شخص دعوى قضائية ضد أى شخص آخر، إذا ما وجده يخالف أمراً شرعياً .. حتى كان ما كان من وقائع قضية الدكتور نصر حامد أبوزيد، الذى التقط بعضُهم بعضاً مما كتبه فى أعماله التى تقدَّم بها للترقية لدرجة الأستاذية، وخرج بها إلى ساحة المحكمة وأقام دعوى «حسبة» لإثبات أن هذه البحوث الأكاديمية المتخصصة، فيها ما يشبه الكُفر، وصاحبها مرتدٌ عن الإسلام!
وعلى ذلك، فلا يجوز لهذا الباحث الأكاديمى أن يتزوج مسلمة، ما دام قد ارتد عن الإسلام. وحكمت المحكمة بالتفريق بين الدكتور نصر أبوزيد وزوجته، فما كان منه إلا أن فارق بلادنا وأقام فى أوروبا.
■ ■ ■
الحسبة إذن، صارت مرتبطة بمفهوم (الردة) ذات الأحكام القاسية فى الشريعة الإسلامية. ولن أخوض الآن فى مسألة الردة (الشائكة) فربما أعود إليها فى سباعية قادمة. لكننى هنا أودُّ الإشارة إلى أن الحسبة صارت مؤخراً، تنطلق أساساً من «الدفاع عن الإيمان القويم» ومن ثم فهى عمل جهادى، ومقدس.
وبعد قضية الدكتور نصر أبوزيد التى أزرتْ بنا أمام العالم، رأت الحكومة المصرية أن تُعدِّل قانون الحسبة تعديلاً (سياسياً) يسحب حق إقامة دعاوى الحسبة من الأفراد، ويجعله مقصوراً على الجهات الرسمية وعلى النيابة العامة.. وكأن ذلك حسبما ظنوا، يُتفادى به الوقوع فى (مطب) آخر، كهذا الذى جرى ضد نصر أبوزيد، الذى لا يزال يقيم خارج مصر..
وبالمناسبة، فإن الدكتور أبوزيد لا يزال يوالى بحوثه ودراساته فى مجال تخصصه (علوم القرآن) من دون أن يخدش حياء المؤمنين المحتسبين المحاسبين الحسَّابين.
وقد شهدت بذلك سلسلة محاضراته الأخيرة فى الإسكندرية، التى حضرها كثيرون من العلمانيين والسلفيين والمعتدلين والمتطرفين يميناً ويساراً. ولم ينـزعج أحدهم مما قاله، حتى إن بعضهم تساءل: كيف يكون هذا الرجل مرتداً عن نطاق الدين؟
■ ■ ■
نطاق الدين.. الدين القويم.. محاسبة الآخرين على التقصير فى أمور الدين.. حماية الإيمان! مَنْ الذى يحدِّد هذه الأمور؟ ومَنْ الذى يجوز له أن يحتسب على الناس؟ وكيف يمكن لشخص أن يرى فى نفسه أفضلية دينية على الآخرين، فيحكم عليهم دينياً ويحاسبهم ويحتسب عليهم؟.. وما الأصل فى هذه المسألة وما جذورها التاريخية المبكرة؟
الذى أراه، وقد أكون مخطئاً، أن مسار (الحسبة) وتطورها فى تراثنا، وصولاً إلى واقعنا المعاصر. هو المصدِّق للحديث الشريف الذى ورد فيه أن النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، قال لمن حوله: «ستتبعون سنن من جاء قبلكم شبراً فشبراً، وذراعاً فذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضبٍّ دخلتموه! قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟»
فى اليهودية، ظهر نظام دينى جديد لم تكن الإنسانية تعرفه أيام العبادات المتنوعة والديانات المسماة بالوثنية. ففى هذه العبادات والديانات، كان هناك معبد أو هيكل يذهب إليه المؤمنون لإقامة فروض الدين. وكان أرباب الدين من الكهنة والكاهنات، يعتصمون داخل جدران المعبد أو الهيكل الذى نذروا أنفسهم له، ولا يخالطون الناس.. ولكن، خرج (رجل الدين) إلى الناس، مع اليهودية، فصار الأنبياء والدعاة والربيون، يقفون على رؤوس الناس مبشرين بقرب ظهور الماشيح (المسيح) ومنذرين المفرِّطين فى أمر الدين.
من هنا كانت البداية.. وللحديث بقية .. فإلى الأسبوع القادم.

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى ( البدائعُ الأندلسية)7\7


كنتُ قد اعتدت فى زمن التلمذة، أن أتردَّد بانتظام مع أقرانى على سينما (الهمبرا) بالإسكندرية، لمشاهدة الأفلام الهوليودية التى تعرض هذه السينما مزيداً منها كل أسبوع، فنهرب بذلك من سطوة الأفلام العربية الطافحة تفاهةً فى تلك الأيام، أعنى فى زمن الانفتاح المصرى والانفساح القيمى بعد كامب ديفيد.. وقد عرفتُ أيامها، أن عديداً من دور السينما والملاهى فى المدن العربية، كانت تحمل أيضاً اسم «الهمبرا»، لكننى لم أدرك أن هذا الاسم هو النطق الأوروبى، للكلمة العربية التى سُمِّى بها القصر العربى الشهير بالأندلس: الحمراء.
وفى المرة الأولى التى زرتُ فيها قصر الحمراء، بإسبانيا المعاصرة، كان معى العَلاَّمة الدكتور محمود على مكى (أطال الله عمره) الذى جلس عند البوابة الخارجية، وهو يقول لى إنه سينتظرنى هناك، لأنه حسبما قال: زار القصر عشرات المرات، ويحفظ أنحاءه شبراً شبراً.. استغربت كلامه، لكننى بعد الزيارة التى استغرقت ساعات، عرفتُ كم تكون هذه الجولة مجهدةً، وممتعةً فى الآن ذاته. وهذه المنطقة الفسيحة، تضم مع القصر (العربى/ الإسلامى) آثاراً أخرى ومبانى (قوطية/ مسيحية) ولكن شتَّان ما بين أناقة الأولى ورصانتها الزخرفية، وضخامة الأخرى وقبح طرازها المعمارى.
وقد ظننتُ يومها أن قصر الحمراء «الهمبرا» هو أجمل ما تم بناؤه بأيدى العرب والمسلمين فى هذه الأرض الأوروبية، ثم ظهر لى أن هذا القصر البديع الزاخر بالزخارف وهندسة (مضاعفة المنظر) عبر انعكاس المبانى على صفحة الماء بالأحواض الساحرة، هو محض واحد من البدائع الأندلسية الكثيرة فى ميدان البناء. وأن المبانى الأخرى (العربية/ الإسلامية) لا تقل عنه رونقاً وبهاءً، سواء الباقية منها إلى اليوم، أو التى اندثرت وحدَّثنا عنها المؤرِّخون.
■ ■ ■
سارت خُطى الحضارة والعمارة والإبداع فى الأندلس، متوازيةً مع دقات طبول الحرب وتدفق أنهار الدم هناك، ولكن بمعدَّل عكسى! فكلما كانت الممالك تستقر وتهدأ، كانت آيات الإبداع تتواتر وتزداد. والدليل على ذلك، والمثال عليه، نراه فى (مسجد قرطبة)، الذى بدأ بناءه مؤسسُ الدولة الأموية هناك، عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش (وهو السفَّاح الذى ذكرتُ بعض أخباره فى المقالة السابقة) فجعله على سبعة أبهاء، ثم زاد عليه بهوين آخرين، حفيدُه الحكم بن هشام الذى قتل فى موقعة واحدة ثلاثمائة ألف مسيحى، وقتل من المسلمين المعارضين له بقرطبة أربعين ألف إنسان (منهم أربعة آلاف من علماء الدين) ومن المسلمين المعارضين له بطليطلة «توليدو» قرابة خمسة آلاف.. ثم زاد عبدالرحمن بن الحكم (الذى بنى جامعَ وسور إشبيليَّة) بهوين آخرين، ثم زاد المنصورُ بنُ أبى عامر ثمانيَة أبهاء، فصار مسجدُ قرطبة مع هذه الاتساعات آيةً من آياتِ الفنِّ الإسلامىِّ الخالدة.
ولم تقتصر عمائرُ الإسلام فى الأندلس، على المساجد البديعة التى لا تزال آثارُها الباقية تشهد بجلالِ القرونِ الخالية. وإنما ملأ المسلمون أرجاءَ الأندلسِ ببدائع العمائر: القصور، القناطر، أسوارِ المدن، النافورات. وبنوا مدناً كاملة (٤٤ مدينةً)، لايزال بعضُها قائماً إلى اليوم، وبعضُها الآخر قد اندثر . ومما اندثر من مدن الإسلام هناك، مدينةُ «الزهراء» التى بناها «الناصرُ عبدُالرحمنِ بن محمد» فى اثنتى عَشْرةَ سنةً، بألف بَـنَّاءٍ (مهندس) فى اليوم، مع كلِّ بَنَّاءٍ اثنا عشر عاملاً. وساق إليها أنهاراً، ونقب لها الجبل ..
يقول المؤرخ شمس الدين الذهبى فى كتابه (سير أعلام النبلاء) عن مدينة الناصر البائدة هذه: «كانت مُدوَّرَةً، وعِدَّة أبراجِها ثلاثمائة برج، وشرفاتها من حجرٍ واحد، وقسَّمها أثلاثاً: فالثُّلُث المسند إلى الجبل قصوره (محلّ سكناه) والثُّلُث الثانى دُور المماليك والخدم وكانوا اثنى عَشرَ ألفاً بمناطق الذهب يركبون لركوبه (يخرجون فى موكبه) والثُّلُث الثالث بساتينُ تحت القصور. وعمل مجلساً مُشرِفاً على البساتين، صَفَّحَ عُمُده بالذهب ورصَّعَه بالياقوت والزمرد واللؤلؤ، وفَرَشه بمنقوشِ الرخامِ، ووضع قُدَّامه بحيرةً مستديرة ملأها زئبقاً، فكان النور ينعكس منها إلى المجلس» .. (وهو تطبيق آخر لتقنية المضاعفة الهندسية للمكان، بانعكاس صورته على أحواض الماء أو الزئبق).
■ ■ ■
وفيما يخصُّ العلومَ والمعارفَ، اعتنى المسلمون فى الأندلس بالعلماء، حتى برع منهم كثيرون فى كلِّ المجالاتِ المعرفيَّة، وأسَّسوا المدارسَ وأوقفوا عليها الأوقافَ. ومن ثَمَّ، امتلأت الأندلس بالمخطوطاتِ العربيَّةِ من كلِّ فنٍّ، ومن كلِّ علمٍ وأدب، حتى إنَّ مكتباتِ قرطبة وحدَها، بلغت السبعين مكتبةً، عدا خزائن الكتب الخاصة ومكتبات المساجد.
ومن هنا، لا يمكن التأريخُ لجوانب الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، فى الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى العاشرِ الهجرى، دون الوقوف عند إسهامات الأندلسيين فى هذه الجوانب كافةً. ففى تاريخ الفلسفة الإسلاميَّةِ، تقابلنا فى الأندلس شوامخُ مثل: ابنِ باجة، ابنِ طفيل، ابنِ رشد. وفى تاريخ العلم العربىِّ، لا بد من التلبُّثِ طويلاً عند علماءَ أندلسيِّين مثل: ابن زُهر، ابن البيطار، موسى بن ميمون.. وضمن تاريخ التصوف الإسلامى، تلمع فى سماء الأندلس أسماءُ صوفيةٍ عاشوا بنواحى الأندلس أو وفدوا منها، مثل: ابنِ قَسِّى، ابن سبعين، ابن عربى.
ونظراً لضخامة هذا التراث الأندلسىِّ، تزخر المكتبةُ العربيَّةُ بموسوعاتٍ تؤرِّخ لعلماءِ الأندلس (والمغرب)، وفقاً لأزمنتهم أو نوع مشاركتهم فى صياغة العقلية العربيَّة الإسلامية على مَرِّ القرون. منها الكتب التاريخية (المطوَّلة) التالية:
قُضَاةُ قُرْطُبَةَ وعَلَمَاءُ إفرِيقيَّةَ، للقيروانىِّ (أبى عبدالله، محمد بن حارث بن أسد الخشنىِّ، المتوفَّى ٣٦١ هجريَّة ) تاريخُ العلماءِ والرواةِ للعلم بالأندلس، لابن الفرضى (أبى الوليد، عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدى، المتوفَّى ٤٠٣ هجريَّة) جَذْوَةُ المقْتَبِس فى ذِكْرِ وُلاَةِ الأَنْدَلُسِ، للحميدى (أبى عبدالله، محمد بن فتوح بن عب الله المتوفَّى ٤٨٨ هجريَّة) المغرِبُ فى أَخْبَارِ المغرِبِ، لعبدِالملك بن سعيد، (المتوفَّى ٥٦٢ هجريَّة) كتابُ الصِّلةِ، لابنِ بشكوال (أبى القاسم، خلف بن عبد الملك بن مسعود، المتوفَّى ٥٧٨ هجريَّة) بُغْيَةُ الملْتَمِسِ فى تَاريخِ رِجِالِ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ، للضَّبِّى (أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة، المتوفَّى ٥٩٩ هجريَّة ) التَّكْملَةُ لِكتَابِ الصِّلَةِ، لابن الأبَّار (أبى عبدالله، محمد بن عبدالله بن أبى بكر القضاعى، المتوفَّى ٦٥٨ هجريَّة) نَفْحُ الطِّيبِ مِنْ غُصْنِ الأَنْدَلُسِ الرَّطِيبِ وذِكْرُ وَزِيرِهَا لِسَانِ الدِّين بنِ الخطيبِ، للمقَّرى (أحمد بن محمد التلمسانى، المتوفَّى ١٠٤١ هجريَّة).
ولم تقتصر الإسهاماتُ العلميَّة الأندلسيَّة، على السجل الحافلِ لعلمائهم المذكورين فى المصادر السابقة، ذلك أنَّ علماءَ أندلسيين فى الفروع كافةً، انتقلوا من الأندلسِ إلى مصر والشامِ، وصاروا يُحسبون على علماء المشرق - لا المغرب والأندلس - ومن ثَمَّ، خلت هذه المصادرُ الأندلسيَّة من تراجمهم. فضلاً عن الأثرِ، الذى أحدثه الأندلسيُّون، فى مسار الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، بل الإنسانيَّة .
■ ■ ■
ومع امتداد العطاءِ العلمىِّ الأندلسىِّ قروناً طوالاً، ومع الموقع الجغرافى الخاص (الواصل/ الفاصل) للأندلس، كانت للأفق الأندلسى تجليات مزدوجة، حيث سطعت الأنوار الحضاريَّة فى سماء الحضارتين العربيَّة الإسلاميَّة والأوروبيَّة، على السواء.. ولا يمكن الحديث بإسهابٍ عن الأثر الأندلسىِّ المزودج، فهو من الاتساع والتعدُّد بحيث لايمكننا إلاَّ الإلماح إليه بهذه الإلماحات الموجزة. ولنبدأ بالأثر الأندلسى فى الثقافة والحضارة العربيَّة الإسلاميَّة .
ذكرنا قبل قليلٍ، أنَّ علماءَ أندلسيين وفدوا من الأندلس إلى قلب العالم الإسلامى، فكان لهم أعمقُ الأثر. منهم على سبيل المثال الشيخ الأكبر: محيى الدين بن عربى، المتوفَّى ٦٣٨ هجريَّة (١٢٤٠ ميلاديَّة) الذى استكمل تعليمه وبدأ حياته الروحيَّة بالأندلس، والتقى هناك بابن رشد. ثم تجلَّت أعماله الصوفية فى مصر والشام والحجاز، وهى الأعمال التى جعلت منه بحقٍّ: شيخ الصوفية الأكبر، وأكبر مؤلِّف صوفىٍّ فى تاريخ الإسلام، وأشهر صوفيَّةِ الإسلام على الإطلاق.
وعلى منوال ابن عربى، جاء من الأندلس الفيلسوف الصوفى العظيم: محمد بن عبدالحقِّ الملقَّبُ بابن سبعين (المتوفَّى ٦٦٩ هجريَّة = ١٢٧٠ ميلادية) وهو صاحب المعالجة الفلسفيَّة العميقة لقضايا الفكر الصوفى ذى النـزعة الإنسانية عاليةِ المستوى، وصاحب الرسالة البديعة المعروفة بعنوان «الكلامُ على المسائل الصِّقليَّة» وهى التى أجاب فيها عن الأسئلة الفلسفيَّة التى أرسلها فريدريك الثانى إمبراطور صِقليَّة لعلماء المسلمين فى المشرق والمغرب، وسخر فيها من الإمبراطور وأسئلته الفلسفية التقليدية، البائسة.. ولو كان المقام يسمح هنا، لذكرتُ القصة الطريفة لهذه (الأسئلة) والأسلوب البديع الذى رَدَّ به ابن سبعين عليها.
وعلى ذات المنوال السابق، وفَد من المغرب والأندلس إلى مصر، مؤسِّسو الطريقة الشاذليَّة: أبوالحسن الشاذلى (نسبة إلى «شاذُلة» مع أنه ليس منها!) وأبوالعباس المرسىُّ (نسبةً إلى مُرْسِيَةَ الأندلسيَّةِ) .. فصارت طريقتُهم بعد سنواتٍ، واحدةً من أوسع الطرق الصوفيَّة انتشاراً بمصر والعالم الإسلامى .
وفى ميدان الفلسفة والطبِّ، يحتل موسى بنُ ميمون مكانةً خاصة، وكان قد وفد إلى مصر من الأندلس، وترقَّى فى المكانة العلميَّة والمهارة الطبيَّة، حتى صار طبيباً خاصاً لصلاحِ الدين الأيوبىِّ.. وقريبٌ منه ابنُ البيطارِ المالقىُّ، الذى يُعَدُّ أشهر عَشَّابٍ (صيدلانى) فى تاريخ الإسلام، وكان قد وفد هو الآخر من الأندلس إلى مصر والشام، وأقام هناك زمناً تعدَّدت فيه إسهاماتُه العلمَّية فى مجال الصيدلة، مثل كتابه الأشهر «المغنى فى الأدوية المفردة». الذى ظل المرجعَ الصيدلانىَّ الأولَ لزمنٍ طويل، وتُرجم إلى اللغات الأوروبيَّة منذ زمنٍ مبكِّر.
ومن علماءِ الأندلس، مَنْ وصلت أعمالُهم إلى أرجاءِ العالم الإسلامى وهم مُكُوثٌ فى الأندلس، فأثرَّت أعمالُهم فى مسار العلم أثراً كبيراً. منهم الجراح الأشهر: أبوالقاسمِ الزهراوىُّ الذى يُعَدُّ كتابُه «التصريفُ لمن عجز عن التأليف» أهمَّ مصدرٍ جراحىٍّ فى القرون الممتدة من الأول حتى السابع الهجرىِّ (القرن السابع إلى الثالث عشر الميلادى).. ومنهم المؤرِّخ الشهير: ابنُ جُلْجُل صاحبُ كتاب «طبقات الأطبَّاء» الذى يُعَدُّ أهم المصادر التاريخيَّة لترجمات نوابغ الأندلس فى الطبِّ والصيدلة.. ومنهم الفقيه الشهير، صاحبُ المذهب (الظاهرىِّ) فى الفقه: ابنُ حَزْمٍ الذى كتب فى الفقه وعلوم الدين كُتباً كثيرة، وكتب فى الحب: طوق الحمامة فى الأُلفة والأُلاَّف!
وبالإضافة إلى إسهامات العلماء، كان للأفقِ الأندلسىِّ تجليَّاتٌ فى سماء الأدب العربىِّ، الذى حفل بنوعٍ أدبىٍّ خاصٍ، هو إبداعٌ أندلسىٌ خالصٌ: الموشَّحات. بل إِن شعراءَ الأندلسِ ابتكروا بحوراً عروضيَّةً، غيرَ تلك البحورِ الستةَ عَشَرَ المعروفةِ فى الشعرِ العربىِّ، منها بحر (السلسلة)، الذى أبدع الأندلسيُّون على قاعدته أشعاراً وموشَّحاتٍ كثيرة.
وحتى فى الشعر العربىِّ التقليدىِّ، فهناك إبداعاتٌ أندلسيَّة لا يمكن لدارسِ الأدبِ العربىِّ أن يمرَّ عليها مرورَ الكرام. إذ لا بدَّ لمن يدرس الأدبَ العربىَّ، من الوقوف طويلاً أمام: ابن زيدون (صاحب القصيدة النونيَّة) وابن عبدون الإشبيلىِّ (صاحب قصيدة: الدهر يفجع بعد العين بالأثر) وابن فرح الإشبيلى (صاحب القصيدة الشهيرة فى أصول الحديث).
وبالطبع، فما هذه إلا إلماحاتٌ إلى النقوش الأندلسيَّة، فى نسيج الحضارة العربيَّةِ الإسلاميَّةِ .. وعلاوة على ذلك، تأتى مع الآثار الأندلسيَّة، الإسهامات المهمة للأندلس فى تطوير الحضارةِ الأوروبيَّةِ. وهذه بعضُ الإلماحاتِ إلى تلك الإسهامات:
كانت الأندلسُ واحدةً من أهمِّ (المعابر) التى انتقل منها العلم العربىُّ الإسلامىُّ إلى أوروبا فى فجر النهضة الحديثة (الرينسانس) ففى مدن الأندلس، وعلى يدِ جماعةٍ من التراجمةِ (اليهود خصوصاً) تمت ترجمةُ المتونِ العربيَّةِ إلى اللغة اللاتينيَّةِ، لتكونَ فى مطلع الرينسانس، أهمَّ المراجِع العلميَّةِ فى الجامعات الأوروبيَّة .
وعلى ذِكْر التراجمة اليهود، تجدر الإشارة إلى أن المسلمين فى الأندلس، كانوا قد خلَّصوا اليهود من العنت الذى تعرضوا له على يد القوط، بل واستعان بهم المسلمون فى إدارة المدن الكبرى، حتى صار بعض اليهود مثل «حسداى بن شبروط»، وزيراً .. ونبغ من يهود الأندلس كثيرون: يوسف بن حسداى، ابن جبيرول، موسى بن ميمون (موسى الثانى، صاحب: دلالة الحائرين).
وقام اليهود الأندلسيون بترجمة التراث العربى إلى اللغة اللاتينية، واشتهر منهم جماعة مترجمين، مثل: يوسف قمحى، إبراهام بن حسداى، يهوذا الحريرى.. كما قام المسيحيون، أيضاً، بترجمة عددٍ وافر من النصوص العربيَّة التى ما لبثت أن انسربت إلى اللغات الأوروبيَّة المختلفة.
ومن الأندلس إلى أوروبا، عبرت مؤلفات أرسطو محمولةً على أجنحة ابن رشد، وبحسب شروحاته على كتب أرسطو، التى كان الأصل اليونانى لها قد فُقد منذ زمن طويل، ولم تعد بأيدى الناس إلا الترجمةُ العربيَّة لها. وقد أثَّر ابن رشد أثراً بارزاً فى الفكر الأوروبى من خلال تلاميذه اللاتين الذين تبنَّوْا أفكاره ونشروها (واضطُهِدوا بسببها) من أوروبا كلها.. ومن العجيب، أن الفيلسوف العربى ابن رشد (المتوفَّى ٥٩٥ هجريَّة = ١١٩٩ ميلاديَّة) قد أثَّرت أعماله فى أوروبا، بأكثر مما أثَّرت فى الثقافة العربيَّة خلال القرون التالية له.
ولم تؤِّثر الأندلس فى أوروبا علمياً وفلسفياً فحسب، وإنما تردَّد الصَّدى الأندلسى فى سماوات الأدب الأوروبى، مع انتقال الموشَّحات الأندلسيَّة من إسبانيا إلى فرنسا، ومن ثم إلى أوروبا كلها، مع الشعراء الجوالين الذين عُرفوا باسم: التروبادور .. كما تردَّد الصَّدى الأدبى مع احتذاء الأوروبيين لقصة حَىّ بن يقظان التى كتبها بالعربية ابن سينا وابن طفيل والسُّهروردى وابن النفيس، ثم ترجمت إلى اللغات الأوروبيَّة، فظهرت ثانيةً فى قصص أوروبية شهيرة مثل: روبنسون كروزو .
وعن طريق الأندلس، عرف الأدب الغربى (ألف ليلة وليلة) التى تُرجمت إلى اللغات الأوروبيَّة عِدَّةَ ترجماتٍ، وأثَّرت عِدَّةَ تأثيرات لا تزال ممتدةً إلى اليوم، مرفرفةً بين جنبات أدب اللغة الإسبانية المعروف بالواقعية السحريَّة، حيث تتجلَّى (ألف ليلة) إلى اليوم فى نصوص فى أعمال الروائيين المعاصرين الذين يكتبون بالإسبانية والبرتغالية، من أمثال: بورخيس، جابرييل جارثيا ماركيز، أمادو.. أمريكا اللاتينية: خورخى لويس بورخيس .
وشيئاً فشيئاً، صارت الأندلس معيناً ينهل منه الأوروبيون العلم العربى، مع اهتمام مراكز علميَّة متخصصة.. ففى «طليطلة» أنشأ رايموندو الأول رئيس الأساقفة، سنة ١١٣٠ ميلاديَّة (٥٢٤ هجريَّة) قسماً خاصاً للمترجمين من العربيَّة، فتُرجمت أعمال كبرى، مثل: مؤلفات أرسطو بشروح الكندى والفارابى وابن سينا، مؤلفات أبقراط وأقليدس وبطليموس وجالينوس بشروحها العربيَّة التى لا تكاد تقع تحت الحصر.
■ ■ ■
وبعد حينٍ من الدهر، آذنت شمس الأندلس بالمغيب. فبدأ (الغروب) الأندلسى مع عصر ملوك الطوائف الذين حكموا بقاع الدولة الإسلامية هناك، واقتتلوا فيما بينهم طمعاً فى وراثة الدولة الأمويَّة المتشظية. وقد امتد نزاعهم فى أول الأمر، حتى كاد يُذهبُ بريحهم وريحِ المسلمين فى الأندلس. لولا أَنْ عبر إليهم سلطان المرابطين يوسف بن تاشفين من ساحل المغرب سنة ٤٧٩ هجريَّة (١٠٨٦ ميلاديَّة) وأحيا الوجودَ الإسلامىَّ من جديد، وأقام دولته التى ورثها بعد ضعف المرابطين ملوكُ الموحِّدين، الذين تغلَّبوا على المرابطين فى عِدَّةِ مواقعَ عسكريَّةٍ بمدن الساحل الأفريقى (من سنة ١١٥٢ إلى سنة ١١٦٠ ميلادية) ثم عبروا إلى الأندلس وورثوا دولة الإسلام هناك، بعد انتصارهم على ألفونسو الثامن فى موقعة الأرك، سنة ٥٩١ هجريَّة (١١٩٥ ميلاديَّة).
وبعدما توالت دولُ الإسلام على حكم بقاع الأندلس، أَفِلَتْ شمسُ العرب المسلمين هناك، وضعف الـحُكَّام وتفرَّقت بهم السُّبُلُ.. وما إن تزوَّجَ الملك فرديناندو الخامس بالملكة إيزابيلا واتحدا ضد المسلمين، حتى أخرجوا العربَ من الأندلس، وكان خروج الإسلام من هناك، خاتمةَ قرونٍ حافلةٍ بوقائع الزمان، وجدليَّةِ النصر والهزيمة. ففى سنة ١٤٩٢ ميلاديَّة، سقطت «غرناطة» آخر معقل للمسلمين، فى يد فردنياندو ملك قشتالة (وإيزابيلا)، بعدما تخلَّف المماليكُ فى مصر والعثمانيون فى البلقان والحفصيون فى تونس، عن إغاثة غرناطة.. وسدُّوا آذانهم عن استغاثاتها الأخيرة..
وخرج آخر الحكام المسلمين (أبو عبدالله الصغير) من آخر مدينة مسلمة فى الأندلس (غرناطة) سنة ٨٩٧ هجريَّة = ١٤٩٢ ميلاديَّة .. وعند صخرة مشرفة على غرناطة، بكى طويلاً، ثم مضى بعدما تنهَّد تلك التنهيدة الحرَّى التى عُرفت فى التاريخ باسم: زفرة العربىِّ الأخيرة.
■ ■ ■
.. وبعد، فها هى سباعية (الأندلس) قد انتهت اليوم، وبقى أن نشرع فى «سباعيةٍ جديدةٍ» مازلت متردِّداً فى موضوعها بين أمرين، كلاهما يجمع بين التراث القديم والمجريات المعاصرة فى مصر. ولسوف أتريثُ حتى أتعرَّف إلى رأى القراء عبر صفحة «المصرى اليوم» على الإنترنت، أو صفحتى على الفيس بوك: هل أكتب عن مبادئ الفعل الثورى، سباعية (أصول الفقه الثورى) أم ألقى الضوء ضمناً على الخلاف الحالى بين السلفيين والمتصوفة من أهل (الطرق) من خلال سباعية تعرِّف بأهم هذه «الطرق الصوفية المصرية» وبيان اختلافها واتفاقها مع الروح الصوفى العام الذى عرضت له العام الماضى فى سباعية: الرؤية الصوفية للعالم؟

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى (صقرُ قريش السَّفَّاح الثانى) 7\6


يرى كثيرٌ من المؤرِّخين أن الدولة الأموية التى فتحتْ الأرض شرقاً وغرباً، باسم الإسلام، قد سقطت فى أوج قوتها (فجأة) سنة ١٣٢ هجرية، بعد عقود من الزمان، حافلة، امتدت بهذه الدولة من بعد قيامها على يد معاوية بن أبى سفيان، السلطوىِّ الماهر الماكر (صاحب مقولة: لو كان بينى وبين الناس شعرةٌ، ما قطعتها) وتحويلها للحكم إلى «مُلْكٍ عَضُوض» يتوارثه بنو أمية دون غيرهم، ثم انهيارها فى السنة المذكورة، واستيلاء العباسيين على ممتلكاتها.. وقد يرى كثيرٌ من المعاصرين، أيضاً، أن دولة الرئيس السابق «مبارك» قد سقطت مؤخراً (فجأة) فى أوج قوتها واستقرارها واستعدادها لتوريث الحكم، ليكون مُلكاً عضوضاً ضمن إطارٍ سياسىٍّ لا هو بالملكى ولا بالجمهورى.
وفى واقع الأمر، فإن وقائع التاريخ والزمن المعاصر لا تعرف هذا الحدوث (المفاجئ) ولا تعترف بوهم وقوع الحدث (فجأة)، لأن الأحداث مهما صغرت أو كبرت، فلا بد من اجتماع عدة عناصر لوقوعها. وكلما كان الحدث أكبر، كانت مسبباته ودواعى وقوعه، أكثر.. غير أن كثيراً من الناس ينظرون للوقائع على نحوٍ (قَدَرىٍّ) يرتضى بالاندهاش وتقليب الأَكُفِّ وترديد عبارات من مثل: سبحان من له الدوام، ما طار طيرٌ وارتفع إلا كما طار وقع، الدنيا فانية .. إلى آخر هذه الأقاويل التى تُعفى الأذهان من الغوص وراء أسباب وقوع الحوادث الكبرى.
وبالطبع، فلن نخوض هنا فى بحث الانهيار (المفاجئ) لدولة الرئيس مبارك، لبيان أنه لم يكن مفاجئاً ولا قَدَريّاً. أو بالأحرى، سوف نؤجل الخوض فى ذلك إلى «السباعية» التى ستأتى بعد (الأفق الأندلسى) وسيكون عنوانها العام: مبادئ الفقه الثورى.. أما الآن، فإن الأهمَّ هو بيان الأسباب التى اجتمعت، فأسقطت الدولة الأموية فى دمشق (عاصمة الخلافة) وانبعاث فرع منها، مرة أخرى، فى الأندلس. وفى ذلك نقول:
نعرف أن معاوية بن أبى سفيان (بن حرب بن أمية) كان قد أسَّس دولة بنى أمية بعدما انتصر على الإمام علىّ بن أبى طالب، بالخديعة الشهيرة «رفع المصاحف فوق أَسِنَّة الرماح» ثم كان ما كان من (التحكيم) الذى راوغ فيه عمرو بن العاص، لصالح معاوية، فانتهت مقاليد الحكم الإسلامى إلى معاوية الذى أورث ابنه (يزيد) ومن بعدهما صارت الخلافة متداولة بين بنى أمية، دون غيرهم.
ونعرف أن دولة الأمويين شهدت خلال عقود حُكمها أفعالاً لا يرضى عنها عموم المسلمين، منها: التنكيلُ بآل بيت النبوة وقتل كثيرين منهم، كالإمام الحسين الذى قتلوه فى كربلاء سنة ٦١ هجرية.. والاستخفافُ بحرمة مكة والمدينة، ومعاقبة الساكنين هناك على عدم طاعتهم للأمويين، بإرسال جيشٍ عاث فساداً فى المدينة المنورة (يثرب) واستباح الحرم النبوى، وبعدها قصف الكعبة وبيوت مكة بقذائف المنجنيق (الأحجار المشتعلة) وجرت أمور لا يمكن وصفها بأقل من الكفر والفسوق والعصيان.
ونعرف مما قاله ابن خلدون، من بعد، أن الانغماس السلطوى فى التَّرف والملذَّات والفساد المستهتر برأى الناس المحكومين، هو مقدمة لإسقاط الحاكمين وتفكك دولتهم. وقد شهد الزمن الأموى كثيراً من هذه المقدمات المنذرة بالسقوط، عبر كثير من ألوان الترف والفسق والفساد التى اصطبغ بها كثير من الخلفاء الأمويين والأمراء الذين ارتبطوا معهم برابطة القرابة.. وحتى الاستثناء الوحيد (عمر بن عبد العزيز) لم يكن إلا استثناءً عابراً، سرعان ما اتخذ الأمويون التدابير المؤدية إلى إزاحته عن الحكم، وعن الحياة كلها، ليعودوا من بعده سيرتهم الأولى التى يستقبحها عموم المسلمين.
ونعرف أن آل بيت النبوة وأقارب النبى، صلى الله عليه وسلم، خصوصاً أبناء عمه (العباس بن عبد المطلب) كانوا قد هربوا من الجزيرة والشام والعراق، إلى النواحى الشرقية (الفارسية) فاجتمع حولهم مشايعو الإمام علىٍّ، الذين سيعرفون باسم: الشيعة، وصار منهم أئمة يلتفُّ الناسُ حولهم ويلتفُّ الأمويون عليهم لقطع شأفتهم؛ تارةً بأن يدسُّوا عليهم مَنْ يدسُّ لهم السُّمَّ، مثلما حدث مع «أبى هاشم» الذى مات مسموماً بتحريض الخليفة الأموى سليمان بن عبدالملك. وتارةً بحرب من خَرَج منهم طالباً العرش، مثلما حدث مع «إبراهيم الإمام» الذى زجَّ به الخليفة الأموى مروان الحمار (حمار الجزيرة) إلى السجن حتى مات فيه سنة ١٣٢ هجرية.
وفى السنة المذكورة، دعا أبو مسلم الخراسانى للإمام أبى العباس عبد الله بن محمد، العلوى الطالبى، الملقَّب بالسفاح. وجمع جيشاً بلغ قوامه عشرين ألفاً، غلب به جيش الأمويين البالغ مائةً وعشرين ألفاً! لأن جيش الشيعة العباسيين كان أكثر إقداماً وجرأةً وحماسةً، من جيش الأمويين الذى يدافع عن دولة الترف والرخاوة والفساد.. وانتزع العباسيون الخلافة من الأمويين، ودخلوا عاصمتهم «دمشق» ثم جعلوا لأنفسهم، لاحقاً، عاصمةً أخرى هى بغداد.
والعجيب أن العباسيين، الذين يُفترض فيهم التُّقى والصلاح (على الأقل من حيث انتسابهم لبيت النبوة) مارسوا عنفاً أفظع بكثير من العنف الذى اقترفه الأمويون وتراكمت آثاره فى النفوس حتى سقطت دولة بنى أمية. فقد سار الخلفاء العباسيون الأوائل على النهج الذى رأوه مناسباً لاحتفاظهم بالعرش .. فكان أول هؤلاء الخلفاء (أبوالعباس السفاح) جديراً بالفعل بلقب السفاح، فقد سفح دماء الأمويين الذين وقعوا فى يده، وراح يفتش عن أقاربهم فى كل مكان، والسيف فى يده جاهزٌ للذبح، فقضى على معظم المنتسبين للبيت الأموى، بمن فيهم الأطفال والنساء. وبلغ به الإمعان فى القتل والتشنيع أنه أعطى أماناً للأمويين، فظهروا، فذبحهم وألقى بجثثهم إلى الكلاب! وأنه أخرج رفات الخلفاء الأمويين السابقين من المقابر، ومزَّقها وشنَّع بها.. لكنَّ شاباً من بنى أمية، استطاع أن يفرَّ إلى بلاد المغرب والأندلس.
                                 ■ ■ ■
قبل الحديث عن الشاب الأموى الذى استطاع الفرار من (السفاح العباسى) ليصير بدوره سفاحاً أموياً فى الأندلس، لابد أولاً من الإشارة إلى أن البطل الذى قاد جيش العباسيين ودخل بهم إلى دمشق «أبومسلم الخراسانى» كان جزاؤه القتل على يد العباسيين أنفسهم، فقد قتله الخليفة أبوجعفر المنصور (أخو أبى العباس السفاح، ووريثه) سنة ١٣٧ هجرية.. مثلما كان مصير الأبطال الفاتحين للأندلس، على يد الأمويين، هو التجريد والتشريد لموسى بن نصير، والحجب والإخفاء التام لطارق بن زياد، والاغتيال وحَزُّ الرأس لعبدالعزيز بن موسى بن نصير! وقد أشرنا فى المقالة السابقة، إلى الطبيعة السلطوية التى تدعو الحكام والخلفاء والرؤساء إلى إطفاء (النجوم) التى تلمع فى دولتهم، خشية المزاحمة على العرش .. فما أنت أيها العرشْ.
أتُراك أبقى من أى فرشْ،
أو أنت أطهرْ؟
أم هى المخايلة،
ومُخاتلةُ المظهرْ ؟
وما ذاك الكرسىُّ الذى،
من حوله الدماءُ تُرشّ؟
أهو ذهبىٌّ حقاً،
أم هو طلاءٌ فوق قَشّ؟
أليس «كرسى» و«سكير»
مرسومان بالحروف ذاتها،
مع اختلاف الترتيب عند النقش؟
وما الذى يبقى من بعد صاحبه،
العملُ العادل والقول الفاضل،
أم السفكُ والسوطُ
والصوتُ الأجشّ؟
                                 ■ ■ ■
فى سنة ١٣٨ سنة هجرية، دخل الأندلسَ (عبدالرحمن الداخل) الأمير الأموى الملقَّب بصقر قريش، وهو الذى يستحق (فيما أرى) لقباً أكثر انطباقاً عليه، هو: السفاح الثانى.. قياساً على (السفاح) العباسى الأول أبى العباس.
وكان (الداخل) قد تجرَّع طيلة السنوات السابقة على دخوله الأندلس، مراراتٍ طافحةً، ثم ما لبث أن جرَّع مثلها للناس. فقد فرَّ فى أول الأمر، وهو فى العشرين من عمره، من بلدته التى فتش فيها العباسيون السفَّاكون عن أى «أُموى» فلجأ مع أخيه الأصغر إلى بلدة على نهر الفرات. فدهمهم العباسيون، فألقى الأخوان نفسيهما فى ماء النهر، وسبحا على أمل الوصول إلى الشاطئ المقابل، بينما العباسيون يدعونهما إلى العودة والعفو والنجاة. وانخدع الأخُ الأصغر، وأشفق على نفسه من عبور النهر، فعاد إلى الذين وعدوه بالحسنى، فلم يجد منهم إلا الذبح وحزَّ الرأس.. بينما أخوه «عبدالرحمن» ينظر من وسط النهر الهادر به.
وخرج «عبدالرحمن» من الشام والعراق، فارّاً، متخفياً، مملوءاً بالمرارة. فلجأ إلى أخواله (البربر) الساكنين بإفريقية، المسماة اليوم: تونس، فوجد العباسيين هناك يطاردون (فلول) الأمويين، ويقتلون مَنْ يمسكونه منهم. لكن «عبدالرحمن» نجا بعد مغامرات كثيرة، ولاحت له الأندلس مستقَراً آمناً، فأوفد إليها أحد أعوانه ليستميل أقاربه القدامى الذين سكنوا الأندلس من قبل انهيار دولة الأمويين.. ولما وجد منهم قبولاً، عبر إليهم وجمع حوله الرجال، وأسال الدماء من جديد.
كانت الجماعات العربية فى الأندلس تعيش فى ظل توابع الزلزال السياسى (انهيار الأمويين وترؤس العباسيين) وكانت بينهم منازعات متأججة ولمعان سيوف.. فدخل عبدالرحمن الداخل، فى قلب هذه المعمعة، وسَلَّ سيفه على كل من يعترضه.
                                 ■ ■ ■
قضى عبدالرحمن الداخل السنوات الأربع والثلاثين، الممتدة من دخوله الأندلس سنة ١٣٨ هجرية حتى وفاته سنة ١٧٢ ميلادية، فى حروب ونزاعات مسلَّحة وكَرٍّ وفرٍّ، وفى مؤامرات وإخماد ثورات وقتالٍ مرير، مع آل بيت النبوة (الفاطميين) ومع أتباع الخلفاء الجدد (العباسيين) ومع كل راغب فى الإمارة والحكم من العرب والبربر والمولَّدين والقوط والمسلمين والمسيحيين، فكانت حصيلة معاركه هناك: عشرات الآلاف من القتلى، ومئات الآلاف من الجرحى..
ولم يتوقف تدفق أنهار الدم، لإعلاء العرش، بوفاة السفاح الثانى «عبدالرحمن الداخل، صقر قريش» وإنما استمر فيضان الدم، فصار بحاراً، على يد أولاده وأحفاده.. فقد قتل حفيدُه «الحكم بن هشام بن عبدالرحمن» فى موقعة واحدة ثلاثمائة ألف مسيحى، وقتل من المسلمين المعارضين له بقرطبة، أربعين ألفاً (من بينهم أربعة آلاف من علماء الدين) وقتل من المسلمين المعارضين له بطليطلة، قرابة خمسة آلاف رجل.
ولجأ المهزومون والمهدَّدون بالهزيمة، من العرب والمسلمين (خصوصاً: الخوارج) إلى الاستعانة بالقوات الأجنبية، فجاءت إلى الأندلس قوات التحالف بين الإمبراطور الشهير (شارلمان) والبابا (هادريان) رأس الكنيسة فى أوروبا.. فسار إلى الأندلس جيشٌ جرار بقيادة شارلمان، آملاً فى ضمها إلى مملكته، وفى قطع شأفة المسلمين من هناك. لكن ما كان يتوقعه شارلمان من انضمام «الخوارج» إليه، لم يحدث، مع أنهم كانوا الدَّاعين له. وحدث بدلاً من ذلك، ما لم يتوقعه شارلمان، وهو ثورة «السكسون» عليه.. مما اضطره للرجوع بجيشه الجرار، الذى لحق به عند جبال البرنيه (شمال الأندلس، جنوب فرنسا) جيشُ المسلمين الذين قطعوا مؤخرة الجيش، وقتلوا الجنود، وسلبوا مغانم كثيرة.. وقد فعل المسلمون ذلك بالتعاون مع جماعات مسيحية كانت تعرف باسم (البشكنس).
والمؤرخون يستغربون من موقف «شارلمان» الذى لم يرجع للانتقام ممن أبادوا مؤخرة جيشه، وقنع بالفاجعة التى حلَّت به، واستمر فى سيره شمالاً حتى خرج من الأندلس.. فبقيت النواحى الأندلسية نهباً بين القوى المتعارضة والمتصارعة: العرب، البربر، المولَّدين، المسيحيين، المسلمين الموالين للعباسيين، المسلمين الموالين للفاطميين، كبار رجال القبائل الطامعين فى السلطة..
وتوالت الحروب، فخاض منها «عبدالرحمن بن الحكم بن هشام بن عبدالملك» المعروف بعبدالرحمن الثانى، وقائع عسكرية كثيرة، استمر فيها من بعده ابنه «محمد» الذى يقال إنه قتل فى موقعة واحدة، فقط، ثلاثمائة ألف إنسان.
                                 ■ ■ ■
وبينما الدولة العباسية فى المشرق، منهمكة فى ملاحقة أئمة آل البيت الذين خرجوا عليها ثائرين. والدولة الأموية (الثانية) التى قامت فى الأندلس، منهمكة فى حروب المنشقين والثائرين والطامعين فى العرش ومثيرى الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين.. بدت فى غمرة المشهد الدموى، ويا للعجب، بدايات البدائع الحضارية للدولتين: العباسية (فى العراق وعاصمتها بغداد) والأموية (فى الأندلس وعاصمتها قرطبة) ويوماً من بعد يوم، هدأت الحروب وجفت أنهار الدم التى سالت وتدفقت، وقامت منارات العلم والفن والفكر فى الأندلس، وفى بقية أنحاء العالم الإسلامى.
ومع الآثار الباقية عن القرون الخالية (بدائع الزمن الإسلامى فى الأندلس) سنتوقف الأسبوع القادم، مع المقالة السابعة الأخيرة من هذه السباعية.. فإلى لقاء.

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى (حركاتُ الحكام.. وزمانُ الوصل بالأندلسِ)7\5


حين زحف المسلمون نحو الأندلس، فاتحين أرضاً لم يعرفوها، اتجهوا إلى هناك فى موجاتٍ عاتية مزلزلة، تشبه ما نسمِّيه اليوم «تسونامى».. وقد كانت الموجة الأولى، تضم السبعة آلاف مقاتل الذين عبروا (بقيادة طارق بن زياد) المضيق، الذى سوف يسمَّى باسمه لاحقاً، وكان يقال له من قبل: أعمدة هرقل. ثم كانت الموجة الثانية مؤلَّفة من خمسة آلاف مقاتل، دعم بهم «موسى بن نصير» الجيشَ الذى يقوده طارق بن زياد ويقترب به من النصر. ثم كانت الموجة الثالثة الأخيرة، حين عبر موسى بن نصير إلى الأندلس على رأس جيش إسلامى قوامه عشرة آلاف مقاتل.. وما بين هذه الموجات العسكرية الثلاث، كانت جماعاتٌ مسلحة من المسلمين تعبر إلى العالم الجديد، للمشاركة فى الفتوح وتحصيل ما يمكن نواله من فىء وغنائم ونساء حسان، خاصةً أن المسلمين كانوا يذهبون إلى هناك، من دون أن يصطحبوا معهم زوجاتهم، وهى مسألة سوف نعود إليها بعد قليل. ولكن هناك مسألة أخرى لا بد من الإشارة إليها الآن، وهى جديرة بالنظر والاعتبار، مفادها أن المسلمين حين ذهبوا إلى الأندلس وفتحوها ونزعوا عنها سلطان القوط، فى فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ تدعو للدهشة (عامٍ واحد وشهرين، فقط) كانوا فى مبتدأ الأمر يفعلون ذلك بدعوةٍ من الأمير القوطى «يوليان»، المتنازع مع الملك القوطى رودريك (لزريق).. فكانت النتيجة أن أزاح المسلمون القوط كلهم، وملكوا البلاد بدلاً منهم. وحسبما يخبرنا التاريخ، فإن ذلك هو مصيرُ الذين يستعينون على بعضهم، بغيرهم.. فتأملوا!
■ ■ ■
وكما أشرنا فى آخر المقالة السابقة، فإن موسى بن نصير كان يريد أن يعبر بجيشه إلى بقية بلاد «النصرانية» المطلة على البحر (المتوسط)، حتى يجعل هذا البحر بحيرة إسلامية، تشرف على شواطئها (دولة الإسلام) من الجهات كافة. لكن الخليفة لم يوافق، واستدعى الفاتح «موسى» إلى دمشق وجرَّده مما يملك، ونكَّل به، ودسَّ على ابنه «عبدالعزيز» جماعة قاموا باغتياله.. وقد أشار العلامة المصرى المعروف د. محمد عبدالله عنان فى كتابه (دولة الإسلام فى الأندلس) إلى مشروع موسى بن نصير، بقوله:
فكَّر القائد الجرىء فى أن يخترق بجيشه جميع أوروبا، وأن يصل إلى الشام من طريق القسطنطينية (بيزنطة، إستانبول) وأن يفتح فى طريقه أُمم النصرانية والفرنجة كلها، وهو ما يجمله ابن خلدون فى تلك العبارة القوية: «وجمع (نَوَى) أن يأتى المشرق على القسطنطينية، ويتجاوز إلى الشام ودروب الأندلس، ويخوض ما بينها من بلاد الأعاجم مجاهداً، مستلحماً لهم، إلى أن يلحق بدار الخلافة فى دمشق». وكان موسى يقدر على تنفيذ مشروعه العظيم، بجيش ضخم يقتحم البرنيه (شمال إسبانيا) يؤيِّده من البحر أسطولٌ قوىٌّ، فيبدأ بافتتاح مملكة الفرنج ثم يقصد إلى مملكة اللومبارد فى شمالى إيطاليا، فيخترقها فاتحاً إلى روما قاعدة النصرانية، فيفتتحها ويقضى فيها على كرسى النصرانية، ويتابع سيره بعدئذٍ شرقاً إلى سهول الدانوب مثخناً فى القبائل الجرمانية التى تسيطر على ضفافه، ثم يخترق الدولة البيزنطية حتى قسطنطينية فيستولى عليها، ثم يعبر آسيا الصغرى (الأناضول ، تركيا) قاصداً إلى دمشق. فيصل بذلك أملاك الخلافة الإسلامية فيما بين المشرق والمغرب من طريق الشمال، كما اتصلت من طريق الجنوب. ولم يكن هناك، ما يحول دون تنفيذ هذا المشروع الضخم.
■ ■ ■
وبعدما أوضح وجاهة هذا (المشروع) والدلائل المؤكِّدة لإمكان نجاحه، اكتفى د. محمد عبدالله عنان بقوله إن: «سياسة الإحجام والتردُّد التى اتبعها بلاط دمشق، أودت بذلك المشروع البديع، إذ كتب الوليد بن عبدالملك إلى موسى بن نصير يحذِّره من التوغل بالمسلمين فى دروب مجهولة، ويأمره بالعودة، فارتدَّ موسى مرغماً آسفاً».. وهذا الرأى يقرره أيضاً معظم المؤرخين، ويكررونه فى كتبهم. وكانوا يعلِّمونه لنا فى المدارس، على اعتبار أنه إحدى حقائق التاريخ. ومع ذلك، فإننا إذا طبَّقنا عليه مقولة ابن خلدون «ينبغى علينا إعمال العقل فى الخبر» لظهر لنا وجهٌ آخر للأمر.. على النحو التالى:
إذا كان الخليفة الأموى قد (تردَّد) فى فتح بقية البلاد الأوروبية، فلماذا لم (يتردَّد) فى البطش بالفاتح «موسى بن نصير» وفى إزاحة الفاتح «طارق بن زياد» عن المشهد العام، وفى اغتيال الفاتح «عبدالعزيز بن موسى بن نصير».. فكيف وهو المتردِّد، أن يصرَّ على الفتك بهؤلاء الأبطال الفاتحين؟
وربما قال البعض، لعلَّ الخليفة قد أراد تأجيل المواجهة مع العالم المسيحى، ولم يتسرَّع فى القضاء على العاصمة الدينية «بيزنطة» مراعاةً لمشاعر المسيحيين الذين يعيشون فى ظل الدولة الإسلامية الجديدة .. وربما يقول البعض الآخر: بل هى من حكمة الخليفة الأموى، الذى قدَّر الأمور تقديراً صحيحاً، ولم يشأ أن يدخل بالجيش الإسلامى فى مغامرة غير مأمونة العواقب، وقد تُودى بحياة الآلاف من الأبطال.
وفى الردِّ على هذه الأقوال، نقول: أما «المغامرة» فقد ارتضى الخليفة بها حين وافق على عبور المسلمين إلى الأندلس، لمعاونة الأمير يوليان فى حربه (القوطية / القوطية) أملاً فى الحصول على نصيب من المغانم. فلا معنى، بعدما سيطر المسلمون على الأندلس، للإحجام عن مغامرة أقل خطراً، خصوصاً أن المسلمين كانوا آنذاك، يمتلكون أسطولاً بحرياً قوياً، بإمكانه أن يدعم حركة الفتوح للنواحى الأوروبية.
■ ■ ■
وأما الحجة الزاعمة بأن إحجام الحاكم العام (الخليفة الأموى) عن الموافقة على مشروع موسى بن نصير، لأنه يتضمَّن إسقاط عاصمة المسيحية فى العالم آنذاك (بيزنطة)، وهو ما سوف يثير المسيحيين الذين يعيشون بين جنبات دولة الإسلام. فهى حجة ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها، لأن غالبية المسيحيين فى العراق وشرق الشام كانوا نساطرة، وغالبية المسيحيين فى مصر كانوا يعاقبة. وأولئك وهؤلاء، بينهم وبين الكنيسة (الملكانية) فى بيزنطة، خلافات عميقة ومنازعات طويلة تحول بهم عن التعاطف مع الكنيسة المخالفة لهم فى المذهب العقائدى، بل كانوا يتمنون زوالها.. بالإضافة إلى أن سقوط العاصمة الدينية / السياسية (بيزنطة) لا يعنى إسقاط الديانة ذاتها، بل كانت العاصمة الدينية الحقة للمسيحية (إيلياء، أورشليم، بيت المقدس) بيد المسلمين من قبل ذلك بقرابة قرنٍ من الزمان، ولم يثر هذا الأمر حفيظة أهل الديانة المسيحية. وقد سعت الدولة الأموية لإسقاط القسطنطينية، مرتين، من جهة الشرق فلم تفلح. كانت المرة الأُولى سنة ٤٩ هجرية، فى عهد معاوية بن أبى سفيان، والمرة الأخرى سنة ٩٨ هجرية فى عهد سليمان بن عبدالملك.. وقد ظل النـزاع السياسى/ الدينى قائماً، ولم تكفَّ محاولات الاقتحام المسيحى (الحروب الصليبية) ومحاولات السيطرة الإسلامية (الجهاد) حتى انتهى الكرُّ والفرُّ بعد قرون، حين أسقط العثمانيون الذين جاءوا بعد الأمويين بقرون طوال، العاصمة الدينية / السياسية (القسطنطينية، بيزنطة، إستانبول) وحوَّلوا أكبر كنيسة فى العالم «آيا صوفيا» إلى مسجد يصلى فيه المسلمون.. ومع ذلك لم تسقط الديانة المسيحية، ولم نعرف أن المسيحيين فى العراق ومصر والشام، قد اكترثوا كثيراً لسقوط (عاصمة الديانة) بيد المسلمين. فقد استقر فى الوعى الدينى المسيحى منذ زمنٍ طويل، سابقٍ بكثير على ظهور الإسلام، أن «مدينة الله» فى السماء وليست على الأرض. وهو المعنى الذى صاغه ببراعة، فى بدايات القرن الخامس الميلادى، القديس «أوغسطين» الذى كتب إثر سقوط روما أمام هجمات الوندال (البرابرة، الوثنيين) كتابه الشهير الذى صار مرجعاً أساسياً من مراجع المسيحية، وكان عنوانه : مدينة الله.
نخرج مما سبق، بأن ما يقال عن «تردُّد» الخليفة الأموى هو محض زعم لا دليل عليه، ولا احتجاج به. خصوصاً أن الخليفة لم يوافق على المشروع ثم يرفضه، مثلما كان الحال مثلاً عند فتح مصر، حيث وافق الخليفة «عمر بن الخطاب» على مشروع «عمرو بن العاص» ثم عاد وأشفق منه وكاد يتراجع، لولا أن سبق السيف العزل وكان من حيلة «عمرو» ما كان. فإذن، لا وجود لهذا (التردُّد) المزعوم.. فما السر فى رفض الخليفة الأموى، خُطَّة الفتح الطموحة؟
■ ■ ■
إن استقراء الوقائع القديمة، والمعاصرة، يدلُّ على أن الحكام كانت لهم (حركات) تضمن لهم البقاء متفردين، وتطفئ سطوع غيرهم. حتى لا يكون ذلك مقدمة لإزاحتهم من فوق (الكرسى) أو تهديد استقرارهم فى السلطة. وقد كان للفاتحين الكبار صورة زاهية فى أذهان الناس، وهو ما يؤهلهم للطمع فى الحكم باعتبارهم (نجوماً) يتمتعون بالشعبية والقبول بين الناس، على أساس (أعمالهم العظيمة) وليس على الأساس الوراثى الذى يحكم الخلفاء وفقاً له..
ومن هنا، طمس الخليفة الأموى (نجومية) موسى بن نصير بالإذلال، وقطع سيرة ابنه عبدالعزيز بالاغتيال، وحجب سطوع طارق بن زياد بالإزاحة عن المشهد العام.. وهذه الغايات السلطوية (الحركات) حسبما أرى، أهمُّ عند الخليفة من إسقاط عاصمة المسيحية فى العالم، ومن دخول المسلمين عاصمة الدولة البيزنطية.
إذ الأهمُّ عنده فى واقع الأمر، هو بقاؤه على رأس الدولة، وضمان عدم المنازعة أو الاستقلال عنه بالسلطة. وهو الأمر الذى حدث بالفعل بعد ذلك فى مصر، وفى الأندلس، وفى وسط آسيا؛ عندما حظيت هذه البلاد برجال أقوياء (نجوم) كانوا من القوة بحيث استقلوا بالبلاد عن سلطان الخليفة.. وإذا أمعنا النظر فى زماننا الحالى، لوجدنا كثيراً من الصفات (الحركات) التى تجمع الحكام العرب الذين يتساقطون اليوم تباعاً، ومن أهم هذه الصفات أنهم ما كانوا خلال عقود حكمهم، يسمحون بسطوع نجوم سياسية أو عسكرية أو فكرية فى بلدانهم، كى يبقى الحاكم منهم متفرِّداً باستحقاقه للكرسى. فكأن (الكرسى) أهمُّ من إسقاط إسرائيل، أو بيزنطة، أو غيرها من عواصم «الأعداء» الذين يلعب وجودهم، فى واقع الأمر، دوراً حيوياً فى إبقاء كراسى الحكم سالمة لأصحابها، ولأولادهم من بعدهم.
■ ■ ■
ومن جملة (حركات) الخلافة الأموية فى الأندلس، الحرص على تبديل الولاة الذين يحكمون هناك باسم الخليفة الأموى. حتى إن عدد الولاة الذين أرسلتهم الدولة الأموية لحكم الأندلس باسم «الخليفة الأموى» بلغ فى السنوات الخمس والأربعين الأولى من حياة الإسلام فى الأندلس، خمسة وعشرين والياً. أى أن متوسط حكم الوالى منهم، كان يقل فى المتوسط العام عن عامين! مع أن تأسيس الحكم واستقرار أوضاع (الأرض الجديدة) كان يتطلب بقاء الوالى لفترة كافية حتى يتمكن من إرساء قواعد الدولة. لكن حرص الخليفة على عدم استقلال الولاة بالأندلس، كان أهمَّ عنده من استقرار هذه النواحى البعيدة، وبقائها فى حدود دولة الإسلام.. ولذلك، فقد التهم «عبدالرحمن الداخل» بلاد الأندلس، حسبما سنذكر فى مقالنا القادم، لأن هذه البلاد كانت تفتقر لأنظمة حكم مستقرة وموحَّدة، بسبب السياسات الأموية التى وضعت مهمة الحفاظ على سلطانها ببلاد الأندلس، فى مرتبةٍ أعلى من المهام المؤدية إلى استقرار هذه النواحى وضمان سلامتها.
■ ■ ■
غير أن تأسيس دولة الإسلام فى الأندلس، وإن كان قد افتقر إلى رعاية الخلفاء ودعمهم، إلا أنه نجح بفضل أفعال الأفراد من المسلمين الذين مَدُّوا جسور التعايش مع أهل البلاد، وأمَّنوهم، وغرسوا بذور الوصل فى أرض الأندلس.. فهؤلاء الذين عبروا إلى الأندلس، اختاروا البقاء فيها كفاتحين، لا غزاة، وهو الأمر الذى تجلَّى مبكراً فى معاهدة الصلح (العادلة) التى أبرمها عبدالعزيز بن موسى بن نصير، مع الملك القوطى (تيودمير) الذى يسمِّيه العرب «تُدمير» وكان نصها كالتالى:
«نسخة كتاب الصلح الذى كتبه عبدالعزيز بن موسى لـ«تدمير».. أنه نزل على الصلح، وأن له عهد الله وذمته بأن لا ينـزع عنه ملكه، ولا أحد من النصارى عن أملاكه. وأنهم لا يُقتلون ولا يُسْبَوْنَ، أولادهم ولا نساؤهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا تحترق كنائسهم.. وأن الذى اشتُرط عليه، أنه صَالَحَ على سبع مدائن.. وأنه لا يأوى لنا عدواً، ولا يخون لنا أمناً، ولا يكتم خبراً علمه. وأنه عليه وعلى أصحابه ديناراً كل سنة، وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير .. كُتب فى رجب سنة أربع وتسعين من الهجرة».
ولم تكن هذه المواثيق والاتفاقيات، وحدها، هى القاعدة الوحيدة التى قام عليها (الوصل) فى دولة الإسلام بالأندلس. إذ دعمت ذلك قواعد أخرى وسلوكيات إنسانية (طيبة) من جهة الفاتحين المسلمين، إلى سكَّان الأندلس من المسيحيين واليهود. وقد مَرَّ بنا فى بداية المقالة أن أفراد الجيش الإسلامى، كانوا قد عبروا إلى الأندلس من دون زوجاتهم السابقات (الصحراويات) فلما وجدوا نساء الأرض الخضراء الجديدة، جميلات، لم يفكروا فى قضاء الوطر منهن باعتبارهنَّ سبايا أو غنائم حرب. بل تزوَّجوا منهن، فأنجبوا جيلاً جديداً: إسبانى الأمومة، إسلامى الأبوة والديانة.
وكان «عبدالعزيز بن موسى بن نصير» هو أول مَنْ تزوج هناك. فقد اقترن بالملكة «إيجلونا» أرملة الملك رودريك، وشجَّع المسلمين على الزواج من الأندلسيات، فتشجَّعوا. ولو كان الدين الإسلامى يسمح للنساء المسلمات بالزواج من غير المسلمين، لكان معدَّل التزاوج الذى تم فى الأندلس، قد صار أعلى. وقد أشار كثيرٌ من المؤرخين إلى المعدَّل العالى لزواج الرجال المسلمين بالنساء الأندلسيات، المسيحيات، عقب الفتح وطيلة «زمان الوصل بالأندلس».
■ ■ ■
ومن بعد فتح الأندلس بأربعين سنة، أو نحو ذلك، كانت الحياة هناك قد صارت أفضل للجميع، يهوداً ومسيحيين ومسلمين .. فجيش الإسلام يحمى البلاد ويحصل على الضريبة (الجزية) فى مقابل ذلك، والجيل الجديد من المولَّدين (أبناء المسلمين والمسيحيات) ينتشر فى المدن والنواحى، ويمارس الأنشطة العامة بلا حساسية دينية. واليهود الذين كانوا مقموعين صاروا آمنين فى ظل الحكم الإسلامى، الذى لا يرى فرقاً بين المسيحيين واليهود، وينظر إليهما معاً على اعتبار أنهما أهل ذمة.. وازدهر النشاط التجارى والزراعى كثمرة للاستقرار، بعد عقود من تطاحن أمراء القوط وفتكهم ببعضهم، وبعموم الناس.. وكاد الأمر يستقيم، فيصنع مع الوقت زمناً أندلسياً بديعاً (أجمل مما نعرفه)، لولا جاء الأمير الفاتك السفاحُ المسمَّى «عبدالرحمن الداخل» الملقَّب بصقر قريش.