الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى ( البدائعُ الأندلسية)7\7


كنتُ قد اعتدت فى زمن التلمذة، أن أتردَّد بانتظام مع أقرانى على سينما (الهمبرا) بالإسكندرية، لمشاهدة الأفلام الهوليودية التى تعرض هذه السينما مزيداً منها كل أسبوع، فنهرب بذلك من سطوة الأفلام العربية الطافحة تفاهةً فى تلك الأيام، أعنى فى زمن الانفتاح المصرى والانفساح القيمى بعد كامب ديفيد.. وقد عرفتُ أيامها، أن عديداً من دور السينما والملاهى فى المدن العربية، كانت تحمل أيضاً اسم «الهمبرا»، لكننى لم أدرك أن هذا الاسم هو النطق الأوروبى، للكلمة العربية التى سُمِّى بها القصر العربى الشهير بالأندلس: الحمراء.
وفى المرة الأولى التى زرتُ فيها قصر الحمراء، بإسبانيا المعاصرة، كان معى العَلاَّمة الدكتور محمود على مكى (أطال الله عمره) الذى جلس عند البوابة الخارجية، وهو يقول لى إنه سينتظرنى هناك، لأنه حسبما قال: زار القصر عشرات المرات، ويحفظ أنحاءه شبراً شبراً.. استغربت كلامه، لكننى بعد الزيارة التى استغرقت ساعات، عرفتُ كم تكون هذه الجولة مجهدةً، وممتعةً فى الآن ذاته. وهذه المنطقة الفسيحة، تضم مع القصر (العربى/ الإسلامى) آثاراً أخرى ومبانى (قوطية/ مسيحية) ولكن شتَّان ما بين أناقة الأولى ورصانتها الزخرفية، وضخامة الأخرى وقبح طرازها المعمارى.
وقد ظننتُ يومها أن قصر الحمراء «الهمبرا» هو أجمل ما تم بناؤه بأيدى العرب والمسلمين فى هذه الأرض الأوروبية، ثم ظهر لى أن هذا القصر البديع الزاخر بالزخارف وهندسة (مضاعفة المنظر) عبر انعكاس المبانى على صفحة الماء بالأحواض الساحرة، هو محض واحد من البدائع الأندلسية الكثيرة فى ميدان البناء. وأن المبانى الأخرى (العربية/ الإسلامية) لا تقل عنه رونقاً وبهاءً، سواء الباقية منها إلى اليوم، أو التى اندثرت وحدَّثنا عنها المؤرِّخون.
■ ■ ■
سارت خُطى الحضارة والعمارة والإبداع فى الأندلس، متوازيةً مع دقات طبول الحرب وتدفق أنهار الدم هناك، ولكن بمعدَّل عكسى! فكلما كانت الممالك تستقر وتهدأ، كانت آيات الإبداع تتواتر وتزداد. والدليل على ذلك، والمثال عليه، نراه فى (مسجد قرطبة)، الذى بدأ بناءه مؤسسُ الدولة الأموية هناك، عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش (وهو السفَّاح الذى ذكرتُ بعض أخباره فى المقالة السابقة) فجعله على سبعة أبهاء، ثم زاد عليه بهوين آخرين، حفيدُه الحكم بن هشام الذى قتل فى موقعة واحدة ثلاثمائة ألف مسيحى، وقتل من المسلمين المعارضين له بقرطبة أربعين ألف إنسان (منهم أربعة آلاف من علماء الدين) ومن المسلمين المعارضين له بطليطلة «توليدو» قرابة خمسة آلاف.. ثم زاد عبدالرحمن بن الحكم (الذى بنى جامعَ وسور إشبيليَّة) بهوين آخرين، ثم زاد المنصورُ بنُ أبى عامر ثمانيَة أبهاء، فصار مسجدُ قرطبة مع هذه الاتساعات آيةً من آياتِ الفنِّ الإسلامىِّ الخالدة.
ولم تقتصر عمائرُ الإسلام فى الأندلس، على المساجد البديعة التى لا تزال آثارُها الباقية تشهد بجلالِ القرونِ الخالية. وإنما ملأ المسلمون أرجاءَ الأندلسِ ببدائع العمائر: القصور، القناطر، أسوارِ المدن، النافورات. وبنوا مدناً كاملة (٤٤ مدينةً)، لايزال بعضُها قائماً إلى اليوم، وبعضُها الآخر قد اندثر . ومما اندثر من مدن الإسلام هناك، مدينةُ «الزهراء» التى بناها «الناصرُ عبدُالرحمنِ بن محمد» فى اثنتى عَشْرةَ سنةً، بألف بَـنَّاءٍ (مهندس) فى اليوم، مع كلِّ بَنَّاءٍ اثنا عشر عاملاً. وساق إليها أنهاراً، ونقب لها الجبل ..
يقول المؤرخ شمس الدين الذهبى فى كتابه (سير أعلام النبلاء) عن مدينة الناصر البائدة هذه: «كانت مُدوَّرَةً، وعِدَّة أبراجِها ثلاثمائة برج، وشرفاتها من حجرٍ واحد، وقسَّمها أثلاثاً: فالثُّلُث المسند إلى الجبل قصوره (محلّ سكناه) والثُّلُث الثانى دُور المماليك والخدم وكانوا اثنى عَشرَ ألفاً بمناطق الذهب يركبون لركوبه (يخرجون فى موكبه) والثُّلُث الثالث بساتينُ تحت القصور. وعمل مجلساً مُشرِفاً على البساتين، صَفَّحَ عُمُده بالذهب ورصَّعَه بالياقوت والزمرد واللؤلؤ، وفَرَشه بمنقوشِ الرخامِ، ووضع قُدَّامه بحيرةً مستديرة ملأها زئبقاً، فكان النور ينعكس منها إلى المجلس» .. (وهو تطبيق آخر لتقنية المضاعفة الهندسية للمكان، بانعكاس صورته على أحواض الماء أو الزئبق).
■ ■ ■
وفيما يخصُّ العلومَ والمعارفَ، اعتنى المسلمون فى الأندلس بالعلماء، حتى برع منهم كثيرون فى كلِّ المجالاتِ المعرفيَّة، وأسَّسوا المدارسَ وأوقفوا عليها الأوقافَ. ومن ثَمَّ، امتلأت الأندلس بالمخطوطاتِ العربيَّةِ من كلِّ فنٍّ، ومن كلِّ علمٍ وأدب، حتى إنَّ مكتباتِ قرطبة وحدَها، بلغت السبعين مكتبةً، عدا خزائن الكتب الخاصة ومكتبات المساجد.
ومن هنا، لا يمكن التأريخُ لجوانب الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، فى الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى العاشرِ الهجرى، دون الوقوف عند إسهامات الأندلسيين فى هذه الجوانب كافةً. ففى تاريخ الفلسفة الإسلاميَّةِ، تقابلنا فى الأندلس شوامخُ مثل: ابنِ باجة، ابنِ طفيل، ابنِ رشد. وفى تاريخ العلم العربىِّ، لا بد من التلبُّثِ طويلاً عند علماءَ أندلسيِّين مثل: ابن زُهر، ابن البيطار، موسى بن ميمون.. وضمن تاريخ التصوف الإسلامى، تلمع فى سماء الأندلس أسماءُ صوفيةٍ عاشوا بنواحى الأندلس أو وفدوا منها، مثل: ابنِ قَسِّى، ابن سبعين، ابن عربى.
ونظراً لضخامة هذا التراث الأندلسىِّ، تزخر المكتبةُ العربيَّةُ بموسوعاتٍ تؤرِّخ لعلماءِ الأندلس (والمغرب)، وفقاً لأزمنتهم أو نوع مشاركتهم فى صياغة العقلية العربيَّة الإسلامية على مَرِّ القرون. منها الكتب التاريخية (المطوَّلة) التالية:
قُضَاةُ قُرْطُبَةَ وعَلَمَاءُ إفرِيقيَّةَ، للقيروانىِّ (أبى عبدالله، محمد بن حارث بن أسد الخشنىِّ، المتوفَّى ٣٦١ هجريَّة ) تاريخُ العلماءِ والرواةِ للعلم بالأندلس، لابن الفرضى (أبى الوليد، عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدى، المتوفَّى ٤٠٣ هجريَّة) جَذْوَةُ المقْتَبِس فى ذِكْرِ وُلاَةِ الأَنْدَلُسِ، للحميدى (أبى عبدالله، محمد بن فتوح بن عب الله المتوفَّى ٤٨٨ هجريَّة) المغرِبُ فى أَخْبَارِ المغرِبِ، لعبدِالملك بن سعيد، (المتوفَّى ٥٦٢ هجريَّة) كتابُ الصِّلةِ، لابنِ بشكوال (أبى القاسم، خلف بن عبد الملك بن مسعود، المتوفَّى ٥٧٨ هجريَّة) بُغْيَةُ الملْتَمِسِ فى تَاريخِ رِجِالِ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ، للضَّبِّى (أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة، المتوفَّى ٥٩٩ هجريَّة ) التَّكْملَةُ لِكتَابِ الصِّلَةِ، لابن الأبَّار (أبى عبدالله، محمد بن عبدالله بن أبى بكر القضاعى، المتوفَّى ٦٥٨ هجريَّة) نَفْحُ الطِّيبِ مِنْ غُصْنِ الأَنْدَلُسِ الرَّطِيبِ وذِكْرُ وَزِيرِهَا لِسَانِ الدِّين بنِ الخطيبِ، للمقَّرى (أحمد بن محمد التلمسانى، المتوفَّى ١٠٤١ هجريَّة).
ولم تقتصر الإسهاماتُ العلميَّة الأندلسيَّة، على السجل الحافلِ لعلمائهم المذكورين فى المصادر السابقة، ذلك أنَّ علماءَ أندلسيين فى الفروع كافةً، انتقلوا من الأندلسِ إلى مصر والشامِ، وصاروا يُحسبون على علماء المشرق - لا المغرب والأندلس - ومن ثَمَّ، خلت هذه المصادرُ الأندلسيَّة من تراجمهم. فضلاً عن الأثرِ، الذى أحدثه الأندلسيُّون، فى مسار الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، بل الإنسانيَّة .
■ ■ ■
ومع امتداد العطاءِ العلمىِّ الأندلسىِّ قروناً طوالاً، ومع الموقع الجغرافى الخاص (الواصل/ الفاصل) للأندلس، كانت للأفق الأندلسى تجليات مزدوجة، حيث سطعت الأنوار الحضاريَّة فى سماء الحضارتين العربيَّة الإسلاميَّة والأوروبيَّة، على السواء.. ولا يمكن الحديث بإسهابٍ عن الأثر الأندلسىِّ المزودج، فهو من الاتساع والتعدُّد بحيث لايمكننا إلاَّ الإلماح إليه بهذه الإلماحات الموجزة. ولنبدأ بالأثر الأندلسى فى الثقافة والحضارة العربيَّة الإسلاميَّة .
ذكرنا قبل قليلٍ، أنَّ علماءَ أندلسيين وفدوا من الأندلس إلى قلب العالم الإسلامى، فكان لهم أعمقُ الأثر. منهم على سبيل المثال الشيخ الأكبر: محيى الدين بن عربى، المتوفَّى ٦٣٨ هجريَّة (١٢٤٠ ميلاديَّة) الذى استكمل تعليمه وبدأ حياته الروحيَّة بالأندلس، والتقى هناك بابن رشد. ثم تجلَّت أعماله الصوفية فى مصر والشام والحجاز، وهى الأعمال التى جعلت منه بحقٍّ: شيخ الصوفية الأكبر، وأكبر مؤلِّف صوفىٍّ فى تاريخ الإسلام، وأشهر صوفيَّةِ الإسلام على الإطلاق.
وعلى منوال ابن عربى، جاء من الأندلس الفيلسوف الصوفى العظيم: محمد بن عبدالحقِّ الملقَّبُ بابن سبعين (المتوفَّى ٦٦٩ هجريَّة = ١٢٧٠ ميلادية) وهو صاحب المعالجة الفلسفيَّة العميقة لقضايا الفكر الصوفى ذى النـزعة الإنسانية عاليةِ المستوى، وصاحب الرسالة البديعة المعروفة بعنوان «الكلامُ على المسائل الصِّقليَّة» وهى التى أجاب فيها عن الأسئلة الفلسفيَّة التى أرسلها فريدريك الثانى إمبراطور صِقليَّة لعلماء المسلمين فى المشرق والمغرب، وسخر فيها من الإمبراطور وأسئلته الفلسفية التقليدية، البائسة.. ولو كان المقام يسمح هنا، لذكرتُ القصة الطريفة لهذه (الأسئلة) والأسلوب البديع الذى رَدَّ به ابن سبعين عليها.
وعلى ذات المنوال السابق، وفَد من المغرب والأندلس إلى مصر، مؤسِّسو الطريقة الشاذليَّة: أبوالحسن الشاذلى (نسبة إلى «شاذُلة» مع أنه ليس منها!) وأبوالعباس المرسىُّ (نسبةً إلى مُرْسِيَةَ الأندلسيَّةِ) .. فصارت طريقتُهم بعد سنواتٍ، واحدةً من أوسع الطرق الصوفيَّة انتشاراً بمصر والعالم الإسلامى .
وفى ميدان الفلسفة والطبِّ، يحتل موسى بنُ ميمون مكانةً خاصة، وكان قد وفد إلى مصر من الأندلس، وترقَّى فى المكانة العلميَّة والمهارة الطبيَّة، حتى صار طبيباً خاصاً لصلاحِ الدين الأيوبىِّ.. وقريبٌ منه ابنُ البيطارِ المالقىُّ، الذى يُعَدُّ أشهر عَشَّابٍ (صيدلانى) فى تاريخ الإسلام، وكان قد وفد هو الآخر من الأندلس إلى مصر والشام، وأقام هناك زمناً تعدَّدت فيه إسهاماتُه العلمَّية فى مجال الصيدلة، مثل كتابه الأشهر «المغنى فى الأدوية المفردة». الذى ظل المرجعَ الصيدلانىَّ الأولَ لزمنٍ طويل، وتُرجم إلى اللغات الأوروبيَّة منذ زمنٍ مبكِّر.
ومن علماءِ الأندلس، مَنْ وصلت أعمالُهم إلى أرجاءِ العالم الإسلامى وهم مُكُوثٌ فى الأندلس، فأثرَّت أعمالُهم فى مسار العلم أثراً كبيراً. منهم الجراح الأشهر: أبوالقاسمِ الزهراوىُّ الذى يُعَدُّ كتابُه «التصريفُ لمن عجز عن التأليف» أهمَّ مصدرٍ جراحىٍّ فى القرون الممتدة من الأول حتى السابع الهجرىِّ (القرن السابع إلى الثالث عشر الميلادى).. ومنهم المؤرِّخ الشهير: ابنُ جُلْجُل صاحبُ كتاب «طبقات الأطبَّاء» الذى يُعَدُّ أهم المصادر التاريخيَّة لترجمات نوابغ الأندلس فى الطبِّ والصيدلة.. ومنهم الفقيه الشهير، صاحبُ المذهب (الظاهرىِّ) فى الفقه: ابنُ حَزْمٍ الذى كتب فى الفقه وعلوم الدين كُتباً كثيرة، وكتب فى الحب: طوق الحمامة فى الأُلفة والأُلاَّف!
وبالإضافة إلى إسهامات العلماء، كان للأفقِ الأندلسىِّ تجليَّاتٌ فى سماء الأدب العربىِّ، الذى حفل بنوعٍ أدبىٍّ خاصٍ، هو إبداعٌ أندلسىٌ خالصٌ: الموشَّحات. بل إِن شعراءَ الأندلسِ ابتكروا بحوراً عروضيَّةً، غيرَ تلك البحورِ الستةَ عَشَرَ المعروفةِ فى الشعرِ العربىِّ، منها بحر (السلسلة)، الذى أبدع الأندلسيُّون على قاعدته أشعاراً وموشَّحاتٍ كثيرة.
وحتى فى الشعر العربىِّ التقليدىِّ، فهناك إبداعاتٌ أندلسيَّة لا يمكن لدارسِ الأدبِ العربىِّ أن يمرَّ عليها مرورَ الكرام. إذ لا بدَّ لمن يدرس الأدبَ العربىَّ، من الوقوف طويلاً أمام: ابن زيدون (صاحب القصيدة النونيَّة) وابن عبدون الإشبيلىِّ (صاحب قصيدة: الدهر يفجع بعد العين بالأثر) وابن فرح الإشبيلى (صاحب القصيدة الشهيرة فى أصول الحديث).
وبالطبع، فما هذه إلا إلماحاتٌ إلى النقوش الأندلسيَّة، فى نسيج الحضارة العربيَّةِ الإسلاميَّةِ .. وعلاوة على ذلك، تأتى مع الآثار الأندلسيَّة، الإسهامات المهمة للأندلس فى تطوير الحضارةِ الأوروبيَّةِ. وهذه بعضُ الإلماحاتِ إلى تلك الإسهامات:
كانت الأندلسُ واحدةً من أهمِّ (المعابر) التى انتقل منها العلم العربىُّ الإسلامىُّ إلى أوروبا فى فجر النهضة الحديثة (الرينسانس) ففى مدن الأندلس، وعلى يدِ جماعةٍ من التراجمةِ (اليهود خصوصاً) تمت ترجمةُ المتونِ العربيَّةِ إلى اللغة اللاتينيَّةِ، لتكونَ فى مطلع الرينسانس، أهمَّ المراجِع العلميَّةِ فى الجامعات الأوروبيَّة .
وعلى ذِكْر التراجمة اليهود، تجدر الإشارة إلى أن المسلمين فى الأندلس، كانوا قد خلَّصوا اليهود من العنت الذى تعرضوا له على يد القوط، بل واستعان بهم المسلمون فى إدارة المدن الكبرى، حتى صار بعض اليهود مثل «حسداى بن شبروط»، وزيراً .. ونبغ من يهود الأندلس كثيرون: يوسف بن حسداى، ابن جبيرول، موسى بن ميمون (موسى الثانى، صاحب: دلالة الحائرين).
وقام اليهود الأندلسيون بترجمة التراث العربى إلى اللغة اللاتينية، واشتهر منهم جماعة مترجمين، مثل: يوسف قمحى، إبراهام بن حسداى، يهوذا الحريرى.. كما قام المسيحيون، أيضاً، بترجمة عددٍ وافر من النصوص العربيَّة التى ما لبثت أن انسربت إلى اللغات الأوروبيَّة المختلفة.
ومن الأندلس إلى أوروبا، عبرت مؤلفات أرسطو محمولةً على أجنحة ابن رشد، وبحسب شروحاته على كتب أرسطو، التى كان الأصل اليونانى لها قد فُقد منذ زمن طويل، ولم تعد بأيدى الناس إلا الترجمةُ العربيَّة لها. وقد أثَّر ابن رشد أثراً بارزاً فى الفكر الأوروبى من خلال تلاميذه اللاتين الذين تبنَّوْا أفكاره ونشروها (واضطُهِدوا بسببها) من أوروبا كلها.. ومن العجيب، أن الفيلسوف العربى ابن رشد (المتوفَّى ٥٩٥ هجريَّة = ١١٩٩ ميلاديَّة) قد أثَّرت أعماله فى أوروبا، بأكثر مما أثَّرت فى الثقافة العربيَّة خلال القرون التالية له.
ولم تؤِّثر الأندلس فى أوروبا علمياً وفلسفياً فحسب، وإنما تردَّد الصَّدى الأندلسى فى سماوات الأدب الأوروبى، مع انتقال الموشَّحات الأندلسيَّة من إسبانيا إلى فرنسا، ومن ثم إلى أوروبا كلها، مع الشعراء الجوالين الذين عُرفوا باسم: التروبادور .. كما تردَّد الصَّدى الأدبى مع احتذاء الأوروبيين لقصة حَىّ بن يقظان التى كتبها بالعربية ابن سينا وابن طفيل والسُّهروردى وابن النفيس، ثم ترجمت إلى اللغات الأوروبيَّة، فظهرت ثانيةً فى قصص أوروبية شهيرة مثل: روبنسون كروزو .
وعن طريق الأندلس، عرف الأدب الغربى (ألف ليلة وليلة) التى تُرجمت إلى اللغات الأوروبيَّة عِدَّةَ ترجماتٍ، وأثَّرت عِدَّةَ تأثيرات لا تزال ممتدةً إلى اليوم، مرفرفةً بين جنبات أدب اللغة الإسبانية المعروف بالواقعية السحريَّة، حيث تتجلَّى (ألف ليلة) إلى اليوم فى نصوص فى أعمال الروائيين المعاصرين الذين يكتبون بالإسبانية والبرتغالية، من أمثال: بورخيس، جابرييل جارثيا ماركيز، أمادو.. أمريكا اللاتينية: خورخى لويس بورخيس .
وشيئاً فشيئاً، صارت الأندلس معيناً ينهل منه الأوروبيون العلم العربى، مع اهتمام مراكز علميَّة متخصصة.. ففى «طليطلة» أنشأ رايموندو الأول رئيس الأساقفة، سنة ١١٣٠ ميلاديَّة (٥٢٤ هجريَّة) قسماً خاصاً للمترجمين من العربيَّة، فتُرجمت أعمال كبرى، مثل: مؤلفات أرسطو بشروح الكندى والفارابى وابن سينا، مؤلفات أبقراط وأقليدس وبطليموس وجالينوس بشروحها العربيَّة التى لا تكاد تقع تحت الحصر.
■ ■ ■
وبعد حينٍ من الدهر، آذنت شمس الأندلس بالمغيب. فبدأ (الغروب) الأندلسى مع عصر ملوك الطوائف الذين حكموا بقاع الدولة الإسلامية هناك، واقتتلوا فيما بينهم طمعاً فى وراثة الدولة الأمويَّة المتشظية. وقد امتد نزاعهم فى أول الأمر، حتى كاد يُذهبُ بريحهم وريحِ المسلمين فى الأندلس. لولا أَنْ عبر إليهم سلطان المرابطين يوسف بن تاشفين من ساحل المغرب سنة ٤٧٩ هجريَّة (١٠٨٦ ميلاديَّة) وأحيا الوجودَ الإسلامىَّ من جديد، وأقام دولته التى ورثها بعد ضعف المرابطين ملوكُ الموحِّدين، الذين تغلَّبوا على المرابطين فى عِدَّةِ مواقعَ عسكريَّةٍ بمدن الساحل الأفريقى (من سنة ١١٥٢ إلى سنة ١١٦٠ ميلادية) ثم عبروا إلى الأندلس وورثوا دولة الإسلام هناك، بعد انتصارهم على ألفونسو الثامن فى موقعة الأرك، سنة ٥٩١ هجريَّة (١١٩٥ ميلاديَّة).
وبعدما توالت دولُ الإسلام على حكم بقاع الأندلس، أَفِلَتْ شمسُ العرب المسلمين هناك، وضعف الـحُكَّام وتفرَّقت بهم السُّبُلُ.. وما إن تزوَّجَ الملك فرديناندو الخامس بالملكة إيزابيلا واتحدا ضد المسلمين، حتى أخرجوا العربَ من الأندلس، وكان خروج الإسلام من هناك، خاتمةَ قرونٍ حافلةٍ بوقائع الزمان، وجدليَّةِ النصر والهزيمة. ففى سنة ١٤٩٢ ميلاديَّة، سقطت «غرناطة» آخر معقل للمسلمين، فى يد فردنياندو ملك قشتالة (وإيزابيلا)، بعدما تخلَّف المماليكُ فى مصر والعثمانيون فى البلقان والحفصيون فى تونس، عن إغاثة غرناطة.. وسدُّوا آذانهم عن استغاثاتها الأخيرة..
وخرج آخر الحكام المسلمين (أبو عبدالله الصغير) من آخر مدينة مسلمة فى الأندلس (غرناطة) سنة ٨٩٧ هجريَّة = ١٤٩٢ ميلاديَّة .. وعند صخرة مشرفة على غرناطة، بكى طويلاً، ثم مضى بعدما تنهَّد تلك التنهيدة الحرَّى التى عُرفت فى التاريخ باسم: زفرة العربىِّ الأخيرة.
■ ■ ■
.. وبعد، فها هى سباعية (الأندلس) قد انتهت اليوم، وبقى أن نشرع فى «سباعيةٍ جديدةٍ» مازلت متردِّداً فى موضوعها بين أمرين، كلاهما يجمع بين التراث القديم والمجريات المعاصرة فى مصر. ولسوف أتريثُ حتى أتعرَّف إلى رأى القراء عبر صفحة «المصرى اليوم» على الإنترنت، أو صفحتى على الفيس بوك: هل أكتب عن مبادئ الفعل الثورى، سباعية (أصول الفقه الثورى) أم ألقى الضوء ضمناً على الخلاف الحالى بين السلفيين والمتصوفة من أهل (الطرق) من خلال سباعية تعرِّف بأهم هذه «الطرق الصوفية المصرية» وبيان اختلافها واتفاقها مع الروح الصوفى العام الذى عرضت له العام الماضى فى سباعية: الرؤية الصوفية للعالم؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق