الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-الحسبة على الأفكار والأفئدة (أَصْلُ الحِسْبة وسِرُّ المِحْنة )7\1


تمرُّ بى هذه الأيام واحدةٌ من المحن الطواحن التى تحرق الفؤاد وتحيِّر الروح، غير أننى أحتملها بصمت راضياً، ليقينى بأنها ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة! فهى محضُ محنةٍ ونازلةٍ من تلك النوازل التى طالما ابتلى بها الناسُ الناسَ، وطالما اصطدم الأئمةُ والأفاضلُ بأمثالها فما جزعوا ولا استغاثوا، وإنما صبروا وأوصونا من بعدهم بالصبر، خاصةً عند بدء نزول المحن، وَفْقما قال الإمامُ عبدالقادر الجيلانى: الصبر عند الصدمة الأولى.
والمحنةُ المارَّة بى حالياً، حلَّقتْ أصلاً فى سمائى من مكمن (الحسبة) وانطلقتْ من منصَّتها العجيبة المفجعة، التى طالما أطلقتْ السهام الفاتكة فى زماننا القديم وفى واقعنا المعاصر، فقضتْ على كثيرين ممن نزلت على رؤوسهم الصواعقُ الصادمات، قبلما يُنذرهم بها نذيرٌ.
ومن هنا، رأيتُ أن تكون هذه السباعية مخصَّصة لمسألة (الحسبة) التى يتوهَّم كثيرٌ من الناس أنها مفهومٌ إسلامىٌّ شرعىٌّ، وشرطٌ لازمٌ من شروط الإيمان القويم. من دون انتباه إلى أصل الحسبة، وتطوُّر جذورها التاريخية السابقة على الإسلام. وهو ما نعرض له فى مقالة اليوم.
وفى المقالات التاليات نعرض لبعض المحن التى عصفتْ من خلالها (الحسبة) بأعلام الرجال فى كل مذهب، فلم تقتصر هذه المحن الطاحنات على فرقةٍ أو جماعة معينة، وإنما اكتوى بنارها فقهاء وصوفيةٌ وعلماء وأدباء ..
حتى إذا مرت الأسابيع الستة القادمة، ذكرتُ فى المقالة السابعة المحنة التى أمرُّ بها، عساها أن تكون آنذاك قد مرَّت، وانزاحت بهمومها. فلنبدأ الكلام فيما يلى، على أصل الحسبة وجذورها، وعلى تبيان منافعها الأولى، ثم مخاطرها المهدِّدة للأفراد والجماعات.
■ ■ ■
من حيث المعنى اللغوى المبكر، فإن لفظ «الحسبة» مقصودٌ به فى اللغة العربية أشياءُ كثيرةٌ متباعدةٌ فى دلالاتها. ففى واحد من أقدم المعاجم العربية، هو (معجم مقاييس اللغة) الذى وضعه اللغوى الشهير «ابن فارس» المتوفى سنة ٣٩٥ هجرية، نقرأ من معانيها: «العَدُّ والإحصاء.. والحسبةُ هى التدبيرُ، يُقال فلان حَسَنُ الحسبة إذا كان حسن التدبير. ويقال احتسب الشىء، إذا عدَّه فى الأشياء المذخورة له عند الله. وأحسبتُ فلاناً، إذا أعطيته ما يرضيه».
ثم يخرج ابن منظور، المتوفى سنة ٧١١ هجرية، فى كتابه الشهير (لسان العرب) بمعنى الحسبة إلى آفاق دلالية أرحب، فيذكر كثيراً من المعانى اللغوية للكلمة، ثم يقول: «احتسبتُ فلاناً، أى اختبرتُ ما عنده! والنساءُ يحتسبن ما عند الرجال لهن، أى يختبرن. وذهب فلان يحتسب الأخبار أى يتجسَّسها ويتحسَّسها. واحتسب فلان على فلان ، أى أنكر عليه قبيح عمله».. وهنا نرى (الحسبة) وقد اقتربت قليلاً من مفهومها الفقهى والشرعى.
ثم يتطور المعنى وتزداد دلالة (الحسبة) ارتباطاً بمفهومها الدينى، فى القاموس العربى الشهير الذى وضعه الفيروزآبادى، المتوفى سنة ٨١٧ هجرية، وجعله بعنوان طويل عجيب هو: القاموس المحيط والقابوس الوسيط الجامع لما ذهب من كلام العرب شماميط!
وفيه يقول ما نصُّه: «الحسبة هى الأجر، وهى دفن الميت فى الحجارة أو مكنَّفاً. واحتسب عليه أى أنكر، ومنه جاء اسم المحتسب».. وهنا نرى ظهور لفظ القائم بالحسبة (المحتسب) لأول مرة فى معاجم اللغة العربية.
وفى آخر القواميس والمعاجم العربية الكبرى (تاج العروس) لمرتضى الزبيدى، المتوفى سنة ١٢٠٥ هجرية، نرى ما يؤكد الصلة بين الحسبة والمحاسبة الشرعية، وهو ما يظهر من قوله: «الحسبان جمع حساب» وقوله «والله سريع الحساب» أى حسابه واقع لا محالة، وكل واقع فهو سريع، وسرعة حساب الله أنه لا يشغله حساب واحد من البشر عن محاسبة الآخر.. وقولهم حسيبك الله وحَسْبك الله، أى انتقمَ الله منك. والحسبان جمع الحساب، ومعناه كما فى قوله تعالى (يرسل عليهم حُسباناً من السماء) أى عذاباً..
وهكذا اقترب المعنى اللغوى للحسبة شيئاً فشيئاً، من معناها الاصطلاحى الذى ذكره المؤلف العثمانى الشهير طاشكبرى حيث زاده فى كتابه «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» حين جعل الحسبة والاحتساب علماً، فقال ما نصه: «علم الاحتساب، هو النظر فى أمور أهل المدينة، بإجراء ما رُسم فى الرياسة أو بتنفيذ ما تقرَّر فى الشرع من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والمواظبة على هذه الأمور ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، إذ السلطان بمنـزلة الرأس من البدن وهو منبع الرأى والتدبير، والوزير بمنـزلة اللسان الذى هو المعبر والسفير، والمحتسب بمنـزلة الأيدى والأقدام أو المماليك والخُدَّام..»
■ ■ ■
ومن الناحية التاريخية، لم يكن الاحتساب معروفاً فى الصدر الأول للإسلام، ولا نعرف إشارةً له أو قائماً فى الزمن الأموى. حتى كان عصر الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، وفيه يظهر الاحتساب ببغداد كأمر تنظيمى ذى صبغة اجتماعية/ سياسية، وصارت لوظيفة المحتسب أهمية كبرى. وقد كان الاحتساب والحسبة آنذاك، يرادفان ما نعرفه اليوم بلفظ (الرقابة، حماية المستهلك، الأيزو.. إلخ) فكانت من المهام الحكومية «الحسبة على الأسواق» بمعنى مراقبة الأسعار ومكافحة الاحتكار والغش التجارى.
و«الحسبة على الأطباء والصيادلة» بمعنى الرقابة على الممارسات العلاجية والتأكد من صلاحية القائمين بها من الأطباء، ومراقبة ما يحتفظ به العطارون والصيادلة من المواد الدوائية الصالحة، وفقاً لما هو معروف من خواص الأدوية وأعمار العقاقير.
ولكن وظيفة المحتسب ظلت فى الزمن العباسى المتأخر، والمملوكى والعثمانى من بعد، غير محددة المعالم! فكان هناك الفقيه الذى يستخرج الأحكام الشرعية، والقاضى الذى يحكم وفقاً للشريعة، والشرطى الذى ينفذ الأحكام. وهذه صورةٌ مبكرة من (نظرية فصل السلطات) التى ظهرت فى أوروبا الحديثة على يد مونتسيكيو وجان جاك روسو، لتكون مع (نظرية العقد الاجتماعى) أساساً للنظام السياسى فى الدول الحديثة.
غير أن هذا «التطور» لم يحدث فى تاريخ الثقافة الإسلامية، لعدة أسباب، منها عدم وضوح مهام المحتسب وحدود صلاحياته. فقد كان القائم بالاحتساب يرى أمراً مُنكراً، فيردعه من فوره دون الرجوع إلى سلطة أخرى. وفى حالات كثيرة، كان المحتسب يمارس سلطته على القاضى الذى يصدر أحكاماً يراها المحتسب خاطئة، أو الشرطى الذى يراه منحرفاً.
ثم صارت وظيفة المحتسب مع الأيام، مرتبطة على نحو وثيق بالجانب الأمنى السرى. وصار للمحتسب أعوانٌ وجهازٌ أقرب ما يكون إلى ما نعرفه اليوم باسم (جهاز المخابرات) وقد نبغ فى هذه المهام المخابراتية عددٌ من المحتسبين الذين صار اسمهم مثيراً للفزع فى نفوس أهل زمانهم، منهم المحتسب المملوكى الشهير «الزينى بركات بن موسى» الذى كان شخصية فعلية استلهمها الصديق جمال الغيطانى فى روايته المبكرة: الزينى بركات.
ولقرون طوال، ظل المحتسب يقوم بدور (المراقب/ المعاقب) استناداً إلى السلطة الممنوحة له من الحاكم .. ولأن الحاكم الأعلى من كل حاكم، هو الله تعالى، فقد استندت «الحسبة» إلى الأصل الدينى الشرعى، وتناست مع الأيام دورها الاجتماعى المبكر (مراقبة السوق، حماية المستهلكين، إقرار الحقوق البديهية للناس .. إلخ) وصارت بمثابة المعيار الدينى الحاكم على سلوك الأفراد!
أى أن أفراداً من المجتمع، صاروا يحاكمون أفراداً آخرين، بحسب مايرونه «الدين القويم» وبحسب ما يرون أنه «معلوم من الدين بالضرورة» وبحسب فهمهم هم لحدود الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ولما انهارت دولة الخلافة الإسلامية، صارت الحسبة فى بلادنا حقاً لكل فرد. بمعنى أنه يجوز قانوناً أن يقيم أى شخص دعوى قضائية ضد أى شخص آخر، إذا ما وجده يخالف أمراً شرعياً .. حتى كان ما كان من وقائع قضية الدكتور نصر حامد أبوزيد، الذى التقط بعضُهم بعضاً مما كتبه فى أعماله التى تقدَّم بها للترقية لدرجة الأستاذية، وخرج بها إلى ساحة المحكمة وأقام دعوى «حسبة» لإثبات أن هذه البحوث الأكاديمية المتخصصة، فيها ما يشبه الكُفر، وصاحبها مرتدٌ عن الإسلام!
وعلى ذلك، فلا يجوز لهذا الباحث الأكاديمى أن يتزوج مسلمة، ما دام قد ارتد عن الإسلام. وحكمت المحكمة بالتفريق بين الدكتور نصر أبوزيد وزوجته، فما كان منه إلا أن فارق بلادنا وأقام فى أوروبا.
■ ■ ■
الحسبة إذن، صارت مرتبطة بمفهوم (الردة) ذات الأحكام القاسية فى الشريعة الإسلامية. ولن أخوض الآن فى مسألة الردة (الشائكة) فربما أعود إليها فى سباعية قادمة. لكننى هنا أودُّ الإشارة إلى أن الحسبة صارت مؤخراً، تنطلق أساساً من «الدفاع عن الإيمان القويم» ومن ثم فهى عمل جهادى، ومقدس.
وبعد قضية الدكتور نصر أبوزيد التى أزرتْ بنا أمام العالم، رأت الحكومة المصرية أن تُعدِّل قانون الحسبة تعديلاً (سياسياً) يسحب حق إقامة دعاوى الحسبة من الأفراد، ويجعله مقصوراً على الجهات الرسمية وعلى النيابة العامة.. وكأن ذلك حسبما ظنوا، يُتفادى به الوقوع فى (مطب) آخر، كهذا الذى جرى ضد نصر أبوزيد، الذى لا يزال يقيم خارج مصر..
وبالمناسبة، فإن الدكتور أبوزيد لا يزال يوالى بحوثه ودراساته فى مجال تخصصه (علوم القرآن) من دون أن يخدش حياء المؤمنين المحتسبين المحاسبين الحسَّابين.
وقد شهدت بذلك سلسلة محاضراته الأخيرة فى الإسكندرية، التى حضرها كثيرون من العلمانيين والسلفيين والمعتدلين والمتطرفين يميناً ويساراً. ولم ينـزعج أحدهم مما قاله، حتى إن بعضهم تساءل: كيف يكون هذا الرجل مرتداً عن نطاق الدين؟
■ ■ ■
نطاق الدين.. الدين القويم.. محاسبة الآخرين على التقصير فى أمور الدين.. حماية الإيمان! مَنْ الذى يحدِّد هذه الأمور؟ ومَنْ الذى يجوز له أن يحتسب على الناس؟ وكيف يمكن لشخص أن يرى فى نفسه أفضلية دينية على الآخرين، فيحكم عليهم دينياً ويحاسبهم ويحتسب عليهم؟.. وما الأصل فى هذه المسألة وما جذورها التاريخية المبكرة؟
الذى أراه، وقد أكون مخطئاً، أن مسار (الحسبة) وتطورها فى تراثنا، وصولاً إلى واقعنا المعاصر. هو المصدِّق للحديث الشريف الذى ورد فيه أن النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، قال لمن حوله: «ستتبعون سنن من جاء قبلكم شبراً فشبراً، وذراعاً فذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضبٍّ دخلتموه! قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟»
فى اليهودية، ظهر نظام دينى جديد لم تكن الإنسانية تعرفه أيام العبادات المتنوعة والديانات المسماة بالوثنية. ففى هذه العبادات والديانات، كان هناك معبد أو هيكل يذهب إليه المؤمنون لإقامة فروض الدين. وكان أرباب الدين من الكهنة والكاهنات، يعتصمون داخل جدران المعبد أو الهيكل الذى نذروا أنفسهم له، ولا يخالطون الناس.. ولكن، خرج (رجل الدين) إلى الناس، مع اليهودية، فصار الأنبياء والدعاة والربيون، يقفون على رؤوس الناس مبشرين بقرب ظهور الماشيح (المسيح) ومنذرين المفرِّطين فى أمر الدين.
من هنا كانت البداية.. وللحديث بقية .. فإلى الأسبوع القادم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق