الأسباب الحقيقية للثورة على عثمان بن عفان
فلم يكن لابن سبأ أي دور في إثارة الفتنة في تلك الحقبة من الزمن ولا كان هو السبب من وراء نقمة المسلمين على عثمان وهيجانهم عليه، ولا البطر أو حلم عثمان وتسامحه وعفوه وكراهة بعض القبائل لرئاسة قريش هي بالأسباب الحقيقية لهذه الثورة، وإنما سبب ذلك بعض أفعال عثمان وأفعال ولاته المخالفة للشريعة الإسلامية، فعلى من يريد معرفة حقيقة هذا الأمر وصحة ما نقوله عليه بم
فلم يكن لابن سبأ أي دور في إثارة الفتنة في تلك الحقبة من الزمن ولا كان هو السبب من وراء نقمة المسلمين على عثمان وهيجانهم عليه، ولا البطر أو حلم عثمان وتسامحه وعفوه وكراهة بعض القبائل لرئاسة قريش هي بالأسباب الحقيقية لهذه الثورة، وإنما سبب ذلك بعض أفعال عثمان وأفعال ولاته المخالفة للشريعة الإسلامية، فعلى من يريد معرفة حقيقة هذا الأمر وصحة ما نقوله عليه بم
راجعة كتب التاريخ عند أهل السنة، فهذا أبو الفداء يقول في تاريخه:
(ثم دخلت سنة أربع وثلاثين فيها قدم سعيد إِلى عثمان، وأخبره بما فعله أهل الكوفة، وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري فولى عثمان أبا موسى الكوفة، فخطبهم أبو موسى وأمرهم بطاعة عثمان، فأجابوا إِلى ذلك، وتكاتب نفر من الصحابة بعضهم إِلى بعض، أن أقدموا فالجهاد عندنا، ونال الناس من عثمان، وليس أحد من الصحابة ينهي عن ذلك، ولا يذب إِلا نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، ومما نقم الناس عليه رده الحكم بن العاص، طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريد أبي بكر وعمر أيضاً، وإعطاء مروان بن الحكم خمس غنائم إِفريقية، وهو خمس مائة ألف دينار... ) (2) .
وفيه أيضاً: ( وأقطع مروان فدكاً وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي طلبتها فاطمة،فروى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة "، ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه، إِلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله، وردها صدقة ) (3) .
وقال الشهرستاني: (ووقعت فى زمانه اختلافات كثيرة وأخذوا عليه أحداثا كلها محالة على بنى أمية.
منها: رده الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله وبعد أن تشفع إلى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا.
ومنها: نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم بنته وتسليمه خمس غنائم أفريقية له وقد بلغت مائتى ألف دينار.
ومنها: إيواؤه عبد الله بن سعد بن أبى سرح وكان رضيعه بعد أن أهدر النبى عليه الصلاة والسلام دمه وتوليته إياه مصر بأعمالها وتوليته عبد الله بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث إلى غير ذلك مما نقموا عليه وكان أمراء جنوده معاوية ابن أبى سفيان عامل الشام وسعد بن أبى وقاص عامل الكوفة وبعده الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر عامل البصرة وعبد الله بن سعد بن أبى سرح عامل مصر وكلهم خذلوه ورفضوه حتى أتى قدره عليه ) (4) .
ونقل البلاذري في أنساب الأشراف أنساب الأشراف عن سعيد بن المسيب قال: (لما ولي عثمان كره ولايته نفرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة حجة وكان كثيراً ما يولي من بني أمية من لم يكن له مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبه، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلما كان في الست الأواخر استأثر ببني عمه فولاهم وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر فمكث عليهم سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه، وقد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر، فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها من غضب لأبي ذر ما فيها، وحنقت بنو مخزوم لحال عمار بن ياسر... ) (5) .
وذكر الذهبي أنّ الزهري قال: (ولي عثمان، فعمل ست سنين لا ينقم عليه الناس شيئاً، وإنه لأحب إليهم من عمر، لأن عمر كان شديداً عليهم، فلما وليهم عثمان لان ولهم ووصلهم، ثم إنه توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر ، وكتب لمروان بخمس مصر أو بخمس إفريقية ، وآثر أقرباءه بالمال ، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها . واتخذ الأموال ، واستسلف من بيت المال ، وقال : إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما ، وإني أخذته فقسمته في أقربائي ، فأنكر الناس عليه ذلك ) (6).
وقال الذهبي : (ومما نقموا عليه – أي على عثمان - أنه عزل عمير بن سعد عن حمص، وكان صالحاً زاهداً، وجمع الشام لمعاوية، ونزع عمرو بن العاص عن مصر، وأمر ابن أبي سرح عليها، ونزع أبا موسى الأشعري عن البصرة، وأمر عليها عبد الله ن عامر، ونزع المغيرة بن شعبة عن الكوفة وأمر عليها سعيد بن العاص) (7) .
وفي كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري أنّ أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اجتمعوا ( فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله وسنة صاحبيه وما كان من هبته خمس أفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة دارا لنائلة ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته وبنيان مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربع ركعات ثم قال لهم إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم وتعطيله إقامة الحد عليه وتأخيره ذلك عنه وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم واستغنى برأيه عن رأيهم وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة والسلام ثم لا يغزون ولا يذبون وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران.
ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان وكان ممن حصر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمار جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال له أنت كتبت هذا الكتاب قال نعم قال ومن كان معك قال كان معي نفر تفرقوا فرقا منك قال من هم قال لا أخبرك بهم .
قال فلم اجترأت علي من بينهم فقال مروان يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود يعني عمارا قد جرأ عليك الناس وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه قال عثمان أضربوه فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشى عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار فأمرت به أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام فأدخل منزلها وغضب فيه بنو المغيرة وكأن حليفهم فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة فقال أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني أمية فقال عثمان لست هناك ) (8) .
وقال المقدسي: (وكان سبب ذلك – أي سبب حصار عثمان ومقتله - أن الناس نقموا عليه أشياء فمن ذلك كفله بأقاربه كما قاله عمر رضي الله عنه، فآوى الحكم بن أبي العاص بن أمية طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سيره إلى بطن وج ،ولأنه كان يفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلع الناس عليه.
ومنها: أنه أقطع الحارث بن الحكم مهرقته موضع شرقي المدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى المدينة ووصل إلى ذلك الموضع ضرب برجله وقال: هذا مصلانا ومستمطرنا ومخرجنا لأضحانا وفطرنا فلا تنقضوها ولا تأخذوا عليها كرى، لعن الله من نقض من بعض سوقنا شيئا.
ومنها: أنه أقطع مروان بن الحكم فدك قرية صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه خمس الغنائم من إفريقية ...
ومنها: أنه أعطى عبد الله بن خالد بن أسيد بن رافع أربعمائة ألف درهم وأعطى الحكم بن أبي العاص مائة ألف درهم .
ومنها: أن عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان بأبيه عمر وقتل ابنين لأبي لؤلؤة عليه اللعنة فلم يقده.
ومنها: أنه عزل عمال عمر وولى بني أمية وانتزع عمرو بن العاص عن مصر واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وانتزع سعد بن أبي وقاص عن الكوفة واستعمل الفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخوه لأمه فوقع في الخمر فشربها ويصلي الصلاة لغير وقتها، فصلى بالناس يوما الفجر أربعاً وهو ثمل فلما انصرف، قال: أزيدكم فإني نشيط ؟! فشغب الناس وحصبوه ... فلما شكاه الناس عزله واستعمل عليهم شرا منه سعيد بن العاص فقدم رجل عظيم الكبر شديد العجب وهو أول من وضع العشور على الجسور والقناطر.
ومنها: أن ابن أبي سرح قتل سبعمائة رجل بدم واحد فأمر بعزله ولم ينكر عليه.
ومنها: أنه جعل الحروف كلها حرفا واحدا وأكره الناس على مصحفه.
ومنها: أنه سير عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام لتنزهه عن أعماله وسير أبا ذر الغفاري إلى الربذة وذلك أن معاوية شكاه أنه يطعن عليه فدعاه واستعتبه ولم يعتب فسيره إلى الربذة وبها مات رحمه الله.
ومنها: أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فأعطاها مائة ألف من بيت المال وأخذ سفطا فيه حلى فأعطاه بعض نسائه واستسلف من بيت المال خمسة آلاف درهم وكان اشترط عليه عند البيعة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وبسيرة الشيخين رضي الله عنهما فسار بها ست سنين ثم تغير كما ذكر ....
ومنها: أنه لما ولي صعد المنبر فتسنم ذروته حيث كان يقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر ينزل عنه درجة تعظيما لقدر النبي صلى الله عليه وسلم فلما ولي عمر نزل عن مقعد أبي بكر بدرجة فصارت رجلاه في الأرض لأن المنبر درجتان فتكلم الناس في ذلك وأظهروا الطعن فخطب عثمان وقال هذا مال الله أعطيه من أشاء وأمتعه من أشاء فأرغم الله أنف من رغم أنفه فقام عمار بن ياسر فقال أنا أول من رغم أنفه من ذلك فقال له عثمان لقد اجترأت علي يا ابن سمية فوثبوا بنو أمية على عمار فضربوه حتى غشي عليه فقال ما هذا بأول ما أوذيت في الله وضرب عبد الله بن مسعود في مخالفته قرأته) (9).
فهذه هي الأساب وغيرها هي التي كانت السبب في ثورة الناس من صحابة وتابعين على عثمان بن عفان والتي انتهت بقتله، فالقول أنّ عبد الله بن سبأ هو الذي أجج نار الفتنة ضد عثمان وجعل أولئك المسلمين يثورون عليه قول لا يمكن للعقل قبوله إذ كيف يستطيع شخص مثل ابن سبأ أن يخدعهم فيشعلوا نار الفتنة ويجهزوا على خليفتهم.
قال الشيخ حسن بن فرحان المالكي: (بعض الدراسات المعاصرة ترجع أسباب الفتنة لعبد الله بن سبأ، وهذا باطل لأنّ عبد الله بن سبأ إنّما افترى دوره أخباري كذّاب اسمه سيف بن عمر، وقد خالفه كل من كتب عن الفتنة من المحدثين والمؤرخين من الثقات والضعفاء قبل سيف وبعده ) (10) .
وقال الشيخ المذكور في كتابه " مع الشيخ عبد الله السعد في الصحبة والصحابة " : ( وجود ابن سبأ أو عدم وجوده لا يهمّنا من قريب ولا من بعيد وإنّما يهمّنا الإجابة على سؤال هو: هل هو سبب الفتنة أو أحد أسبابها أم لا؟ فإنّ كانت الإجابة بـ"نعم" فأين الأسانيد في ذلك من غير طريق سيف الكذاب؟ وإن كان سبب الفتنة هو المال وولاة عثمان كما هو متواتر الأحاديث والمرويات وإجماع الأمة في القرون الثلاثة الأولى فلا يجوز أن نقرّ الأكاذيب بدعوى أنّ هذا يخدم السنة ضد الشيعة! فالسنة ليست إلاّ الصدق والعدل والعلم، وهم يعرفون أنّ قصة ابن سبأ ليس فيها نصرة ضد الشيعة وإنّما فيها نصرة للطلقاء على السابقين ) (11) .
دور الصحابة في الثورة على عثمان بن عفان
لقد كان للصحابة دور كبير في الثورة على عثمان بن عفان، فمنهم من ثار عليه وشارك بعضهم في الإجهاز عليه وقتله، ومنهم من خذله ولم ينصره، ففي تاريخ الطبري : (لما رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي إلى من بالآفاق منهم وكانوا قد تفرقوا في الثغور إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل تطلبون دين محمد فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك فهلمّوا فأقيموا دين محمد فأقبلوا من كل أفق حتى قتلوه ) (12) .
وفيه: (كتب أصحاب رسول الله بعضهم إلى بعض أن اقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب إلا نفير منهم زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت ... ) (13).
وفي كتاب أخبار الوافدين من الرجال للعباس بن بكار الضبي وتاريخ دمشق لابن عساكر: (دخل أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني(14) على معاوية فقال له معاوية: يا أبا الطفيل، قال: نعم، قال: ألست من قتلة عثمان؟! قال: لا، ولكني ممن حضره فلم ينصره، قال: ما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار ... ) (15) .
وفي تاريخ ابن عساكر وغيره: ( كان المصريون الذين حضروا عثمان ستمائة رأسهم عبد الرحمن بن عديس البلوي،(16) وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي(17)، والذين قدموا من الكوفة مائتين رأسهم مالك الأشتر النخعي، والذين قدموا من البصرة مائة رجل، رأسهم حكيم بن جبلة العبدي) (18).
وفي تاريخ المدينة لابن شبة عن ابن دأب أن الحارث بن خليف قال: (سألت سعدا عن قتل عثمان رضي الله عنه فقال قتل بسيف سلته عائشة رضي الله عنها وشحذه طلحة رضي الله عنه وسمه ابن أبي طالب رضي الله عنه، قلت: فالزبير؟ قال: فسكت وأشار بيده وأمسكنا ولو شئنا لرفعنا ولكن عثمان رضي الله عنه تغير وتغير وأساء وأحسن ولم يجد متقدما فإن كنا أحسنا فقد أحسنا وإن كنا أسأنا فنستغفر الله ... ) (19) .
وقد دلّت الأخبار من جهة أهل السنة على أنّ معاوية بن أبي سفيان والي عثمان على الشام قد خذله أيضاً، ففي تاريخ الطبري (فلما رأى عثمان ما قد نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول، فلما جاء معاوية الكتاب تربص به وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله وقد علم اجتماعهم ... ) (20) .
ويوقفك هذا النص أيضاً على أنّ أهل المدينة بما فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كلهم قد خلعوا طاعة عثمان وردّوا بيعته وتمرّدوا عليه,
وفي تاريخ الطبري عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: (دخلت على عثمان رضي الله عنه فتحدثت عنده ساعة فقال يا ابن عياش تعال فأخذ بيدي فأسمعني كلام من علي باب عثمان فسمعنا كلاما منهم من يقول ما تنتظرون به ومنهم من يقول انظروا عسى أن يراجع فبينا أنا وهو واقفان إذ مر طلحة بن عبيد الله فوقف فقال أين ابن عديس فقيل ها هو ذا قال فجاءه ابن عديس فناجاه بشيء ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه لا تتركوا أحدا يدخل على هذا الرجل ولا يخرج من عنده قال فقال لي عثمان هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله ثم قال عثمان اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا، وأن يسفك دمه إنه انتهك مني ما لا يحل له ... ) (21) .
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد : (أن محمد بن أبي بكر تسور على عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة بن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف سورة البقرة فتقدمهم محمد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال قد أخزاك الله يا نعثل فقال عثمان لست بنعثل ولكن عبد الله وأمير المؤمنين فقال محمد ما أغنى عنك معاوية وفلان فقال عثمان يا بن أخي دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه فقال محمد ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك فقال عثمان أستنصر الله عليك وأستعين به ثم طعن جبينه بمشقص في يده ورفع كنانة بن بشر بن عتاب مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه ثم علاه بالسيف حتى قتله قال عبد الرحمن بن عبد العزيز فسمعت بن أبي عون يقول ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخر لجنبه وضربه سودان بن حمران المرادي بعدما خر لجنبه فقتله وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال أما ثلاث منهن فإني طعنتهن لله وأما ست فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه ) (22).
وفي تاريخ المدينة للنميري عن صالح بن كيسان قال: (دخل عليه – على عثمان - محمد بن أبي بكر بشريان كان معه فضربه في حشائه حتى وقعت في أوداجه فخر وضرب كنانة بن بشر جبهته بعمود وضربه أسودان بن حمران بالسيف وقعد عمرو بن الحمق على صدره فطعنه تسع طعنات، وقال علمت أنه مات في الثالثة فطعنته ستا لما كان في قلبي عليه ) (23) .
وفي تاريخ الطبري: ( مر عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي(24) وهو بفناء داره ومعه جامعة، فقال يا نعثل، والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار، ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه ) (25) .
وفيه أيضاً عن عامر بن سعد قال: (كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو جالس في ندي قومه وفي يد جبلة بن عمرو جامعة فلما مر عثمان سلم فرد القوم فقال جبلة لم تردون على رجل فعل كذا وكذا قال ثم أقبل على عثمان فقال والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه قال عثمان أي بطانة فوالله إني لأتخير الناس فقال مروان تخيرته ومعاوية تخيرته وعبدالله بن عامر بن كريز تخيرته وعبدالله بن سعد تخيرته منهم من نزل القرآن بدمه وأباح رسول الله دمه ... ) (26) .
وفي تاريخ الطبري : (خطب—عثمان—الناس فقام إليه جهجاه الغفاري (27) فصاح يا عثمان ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة فانزل فلندرعك العباءة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان فقال عثمان قبحك الله وقبح ما جئت به... ) (28) .
ونقل المؤرخون أن الصحابي جهجاه هذا قام إلى عثمان وهو يخطب على المنبر فقال له: (قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى ... ) (29).
ويذكر المؤرخون أنّ عثمان بن عفان ترك بعد مقتله ثلاثة أيام لم يدفن، ولمّا أرادوا دفنه شارك بعض الصحابة في المنع من دفنه في البقيع، قال ابن حجر العسقلاني في ترجمة الصحابي أسلم بن بجرة: ( وقال ابن عبد البر هو أحد من منع من دفن عثمان بالبقيع) (30) .
وروى ابن شبة النميري عن عروة بن الزبير أنّه قال : ( منعهم من دفن عثمان بالبقيع أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، قال: فانطلقوا به إلى حش كوكب فصلّى عليه حكيم بن حزام ، وأدخل بنو أمية حش كوكب بالبقيع ) (31) .
ومن كل ما أوردناه يظهر أنّه لم يكن لابن سبأ أي دور في نقمة الناس على عثمان ومقته والثورة عليه، وإنما سبب ذلك أفعاله وأفعال ولاته المخالفة للشريعة الغراء، وأن الصحابة من كان منهم في المدينة أو خارجها هم الذين كانوا على رأس الثائرين والناقمين عليه، ومنهم من شارك في قتله والمنع من دفنه في مقابر المسلمين، فدعوى الخميس أن السبب الرئيسي في ذلك هو ابن سبأ والأسباب الأخرى التي ذكرها دعوى كاذبة لا أساس لها من الصحة أبدا.
الرّد عليه حول محاولته الخلط بين الشخصية الحقيقة لابن سبأ والمختلقة
قال عثمان الخميس أثناء حديثه عن عبد الله بن سبأ الذي زعم أنّه السبب الرئيسي في إثارة الفتنة والثورة على عثمان بن عفان : ( وقد تسالم المتقدمون على إثبات هذه الشخصية، بل نسبوا إليها معتقدات خاصة بها، ولكّنها لا تخرج عن دائرة التشيّع، والذي تولّى كبر هذه المسألة رجل يقال له مرتضى العسكري في كتاب له أسماه " عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى " وممن أنكر ابن سبأ أيضاً طه حسين في كتابه " علي وبنوه " وغيرهما ... ) (32) .
أقول: إنّ من أنكر من المحققين والكتاب شخصية ابن سبأ، إنما أنكر تلك الشخصية التي اختلقها سيف بن عمر التميمي(33)، والتي أعطاها أدواراً بطولية وحاك حولها العديد من القصص والأساطير والمشاغبات، وجلها السبب من وراء حدوث الفتنة أيام عثمان بن عفان، يقول الدكتور عبد العزيز الهلابي – وهو استاذ في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض- : ( والذي نخلص إليه في بحثنا هذا أنّ ابن سبأ شخصية وهمية لم يكن لها وجود، فإن وجد شخص بهذا الإسم فمن المؤكد أنّه لم يقم بالدّور الذي أسنده إليه سيف وأصحاب كتب الفرق لا من الناحية السياسية ولا من ناحية العقيدة) (34) .
نعم هناك شخصية تحمل اسم عبد الله بن سبأ تعرضت لها الروايات الشيعية ولم تذكر عنها شيئاً مما نسبه سيف بن عمر التميمي لشخصية ابن سبأ المختلقة سوى أنّه غالى في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فادّعى له الربوبية، ولنفسه النبوّة فعرض عليه أمير المؤمنين التوبة فلم يفعل، فأحرقه بالنار وانتهى أمره، روى ذلك الكشي في رجاله بسنده عن هشام بن سالم أنّه قال: ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول وهو يحدّث أصحابه بحديث ابن سبأ وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال عليه السلام: إنّه لما ادّعى ذلك استتابه أمير المؤمنين عليه السلام فلم يتب فأبى أن يتوب فأحرقه بالنّار) (35) .
ولا يبعد أن يكون سيف بن عمر التميمي قد سمع بابن سبأ هذا وغلوّه في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فاختلق شخصية أخرى من خياله تحمل نفس الإسم ونسب إليها ما نسبه من قصص وأساطير مما ذكره عنه الطبري وغيره، وأعطاها دوراً بطوليّاً هائلاً في خلق الفتنة وإثارة الأحداث في تلك الحقبة من الزمن وجعلها من وراء كل الأسباب التي أدّت إلى الثورة على عثمان بن عفان، وذلك تغطية على الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى ثورة المسلمين من صحابة وتابعين عليه ومقتله.
وابن سبأ الذي وردت الإشارة إليه في روايات الشيعة لا علاقة له بالشيعة الإمامية الإثني عشرية، بل هو غال ملعون عندهم حكموا بكفره والبراءة منه، قال العلامة الحلي رحمه الله : (عبد الله بن سبأ غال ملعون، حرقه أمير المؤمنين عليه السلام بالنّار، وكان يزعم أنّ عليّاً عليه السلام إله، وأنّه نبي، لعنه الله ) (36) .
ومثل قول العلامة الحلي هذا قال الشيخ حسن بن زين الدين في التحرير الطاووسي (صفحة 346) والعلامة الأردبيلي في جامع الرّواة (2/485) والسيد البروجردي في طرائف المقال (2/96) وقال الأخير: ( ونعم ما قاله في المنتهى عبد الله بن سبأ ألعن من أن يذكر) .
وقال السيد الخوئي عليه الرّحمة بعد أن نقل بعض الروايات عن بعض الأئمة الطاهرين عليهم السلام المصرّحة بكفر ابن سبأ ولعنهم له: ( فهذه الروايات تدل على أنّه كفر وادّعى الإلوهية في علي عليه السلام لا أنّه قائل بفرض إمامته عليه السلام، مضافاً إلى أنّ أسطورة عبد الله بن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة مختلقة، اختلقها سيف بن عمر الوضّاع الكذاب، ولا يسعنا المقام الإطالة في ذلك والتدليل عليه، وقد أغنانا العلامة الجليل والباحث المحقق السيد مرتضى العسكري في ما قدّم من دراسات عميقة دقيقة عن هذه القصص الخرافية، وعن سيف وموضوعاته في مجلدين طبعا باسم " عبد الله بن سبأ " وفي كتابه الآخر " خمسون ومائة صحابي مختلق" ) (37) .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين.
(ثم دخلت سنة أربع وثلاثين فيها قدم سعيد إِلى عثمان، وأخبره بما فعله أهل الكوفة، وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري فولى عثمان أبا موسى الكوفة، فخطبهم أبو موسى وأمرهم بطاعة عثمان، فأجابوا إِلى ذلك، وتكاتب نفر من الصحابة بعضهم إِلى بعض، أن أقدموا فالجهاد عندنا، ونال الناس من عثمان، وليس أحد من الصحابة ينهي عن ذلك، ولا يذب إِلا نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، ومما نقم الناس عليه رده الحكم بن العاص، طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريد أبي بكر وعمر أيضاً، وإعطاء مروان بن الحكم خمس غنائم إِفريقية، وهو خمس مائة ألف دينار... ) (2) .
وفيه أيضاً: ( وأقطع مروان فدكاً وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي طلبتها فاطمة،فروى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة "، ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه، إِلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله، وردها صدقة ) (3) .
وقال الشهرستاني: (ووقعت فى زمانه اختلافات كثيرة وأخذوا عليه أحداثا كلها محالة على بنى أمية.
منها: رده الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله وبعد أن تشفع إلى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا.
ومنها: نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم بنته وتسليمه خمس غنائم أفريقية له وقد بلغت مائتى ألف دينار.
ومنها: إيواؤه عبد الله بن سعد بن أبى سرح وكان رضيعه بعد أن أهدر النبى عليه الصلاة والسلام دمه وتوليته إياه مصر بأعمالها وتوليته عبد الله بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث إلى غير ذلك مما نقموا عليه وكان أمراء جنوده معاوية ابن أبى سفيان عامل الشام وسعد بن أبى وقاص عامل الكوفة وبعده الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر عامل البصرة وعبد الله بن سعد بن أبى سرح عامل مصر وكلهم خذلوه ورفضوه حتى أتى قدره عليه ) (4) .
ونقل البلاذري في أنساب الأشراف أنساب الأشراف عن سعيد بن المسيب قال: (لما ولي عثمان كره ولايته نفرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة حجة وكان كثيراً ما يولي من بني أمية من لم يكن له مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبه، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلما كان في الست الأواخر استأثر ببني عمه فولاهم وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر فمكث عليهم سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه، وقد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر، فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها من غضب لأبي ذر ما فيها، وحنقت بنو مخزوم لحال عمار بن ياسر... ) (5) .
وذكر الذهبي أنّ الزهري قال: (ولي عثمان، فعمل ست سنين لا ينقم عليه الناس شيئاً، وإنه لأحب إليهم من عمر، لأن عمر كان شديداً عليهم، فلما وليهم عثمان لان ولهم ووصلهم، ثم إنه توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر ، وكتب لمروان بخمس مصر أو بخمس إفريقية ، وآثر أقرباءه بالمال ، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها . واتخذ الأموال ، واستسلف من بيت المال ، وقال : إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما ، وإني أخذته فقسمته في أقربائي ، فأنكر الناس عليه ذلك ) (6).
وقال الذهبي : (ومما نقموا عليه – أي على عثمان - أنه عزل عمير بن سعد عن حمص، وكان صالحاً زاهداً، وجمع الشام لمعاوية، ونزع عمرو بن العاص عن مصر، وأمر ابن أبي سرح عليها، ونزع أبا موسى الأشعري عن البصرة، وأمر عليها عبد الله ن عامر، ونزع المغيرة بن شعبة عن الكوفة وأمر عليها سعيد بن العاص) (7) .
وفي كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري أنّ أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اجتمعوا ( فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله وسنة صاحبيه وما كان من هبته خمس أفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة دارا لنائلة ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته وبنيان مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربع ركعات ثم قال لهم إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم وتعطيله إقامة الحد عليه وتأخيره ذلك عنه وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم واستغنى برأيه عن رأيهم وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة والسلام ثم لا يغزون ولا يذبون وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران.
ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان وكان ممن حصر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمار جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال له أنت كتبت هذا الكتاب قال نعم قال ومن كان معك قال كان معي نفر تفرقوا فرقا منك قال من هم قال لا أخبرك بهم .
قال فلم اجترأت علي من بينهم فقال مروان يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود يعني عمارا قد جرأ عليك الناس وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه قال عثمان أضربوه فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشى عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار فأمرت به أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام فأدخل منزلها وغضب فيه بنو المغيرة وكأن حليفهم فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة فقال أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني أمية فقال عثمان لست هناك ) (8) .
وقال المقدسي: (وكان سبب ذلك – أي سبب حصار عثمان ومقتله - أن الناس نقموا عليه أشياء فمن ذلك كفله بأقاربه كما قاله عمر رضي الله عنه، فآوى الحكم بن أبي العاص بن أمية طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سيره إلى بطن وج ،ولأنه كان يفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلع الناس عليه.
ومنها: أنه أقطع الحارث بن الحكم مهرقته موضع شرقي المدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى المدينة ووصل إلى ذلك الموضع ضرب برجله وقال: هذا مصلانا ومستمطرنا ومخرجنا لأضحانا وفطرنا فلا تنقضوها ولا تأخذوا عليها كرى، لعن الله من نقض من بعض سوقنا شيئا.
ومنها: أنه أقطع مروان بن الحكم فدك قرية صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه خمس الغنائم من إفريقية ...
ومنها: أنه أعطى عبد الله بن خالد بن أسيد بن رافع أربعمائة ألف درهم وأعطى الحكم بن أبي العاص مائة ألف درهم .
ومنها: أن عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان بأبيه عمر وقتل ابنين لأبي لؤلؤة عليه اللعنة فلم يقده.
ومنها: أنه عزل عمال عمر وولى بني أمية وانتزع عمرو بن العاص عن مصر واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وانتزع سعد بن أبي وقاص عن الكوفة واستعمل الفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخوه لأمه فوقع في الخمر فشربها ويصلي الصلاة لغير وقتها، فصلى بالناس يوما الفجر أربعاً وهو ثمل فلما انصرف، قال: أزيدكم فإني نشيط ؟! فشغب الناس وحصبوه ... فلما شكاه الناس عزله واستعمل عليهم شرا منه سعيد بن العاص فقدم رجل عظيم الكبر شديد العجب وهو أول من وضع العشور على الجسور والقناطر.
ومنها: أن ابن أبي سرح قتل سبعمائة رجل بدم واحد فأمر بعزله ولم ينكر عليه.
ومنها: أنه جعل الحروف كلها حرفا واحدا وأكره الناس على مصحفه.
ومنها: أنه سير عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام لتنزهه عن أعماله وسير أبا ذر الغفاري إلى الربذة وذلك أن معاوية شكاه أنه يطعن عليه فدعاه واستعتبه ولم يعتب فسيره إلى الربذة وبها مات رحمه الله.
ومنها: أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فأعطاها مائة ألف من بيت المال وأخذ سفطا فيه حلى فأعطاه بعض نسائه واستسلف من بيت المال خمسة آلاف درهم وكان اشترط عليه عند البيعة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وبسيرة الشيخين رضي الله عنهما فسار بها ست سنين ثم تغير كما ذكر ....
ومنها: أنه لما ولي صعد المنبر فتسنم ذروته حيث كان يقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر ينزل عنه درجة تعظيما لقدر النبي صلى الله عليه وسلم فلما ولي عمر نزل عن مقعد أبي بكر بدرجة فصارت رجلاه في الأرض لأن المنبر درجتان فتكلم الناس في ذلك وأظهروا الطعن فخطب عثمان وقال هذا مال الله أعطيه من أشاء وأمتعه من أشاء فأرغم الله أنف من رغم أنفه فقام عمار بن ياسر فقال أنا أول من رغم أنفه من ذلك فقال له عثمان لقد اجترأت علي يا ابن سمية فوثبوا بنو أمية على عمار فضربوه حتى غشي عليه فقال ما هذا بأول ما أوذيت في الله وضرب عبد الله بن مسعود في مخالفته قرأته) (9).
فهذه هي الأساب وغيرها هي التي كانت السبب في ثورة الناس من صحابة وتابعين على عثمان بن عفان والتي انتهت بقتله، فالقول أنّ عبد الله بن سبأ هو الذي أجج نار الفتنة ضد عثمان وجعل أولئك المسلمين يثورون عليه قول لا يمكن للعقل قبوله إذ كيف يستطيع شخص مثل ابن سبأ أن يخدعهم فيشعلوا نار الفتنة ويجهزوا على خليفتهم.
قال الشيخ حسن بن فرحان المالكي: (بعض الدراسات المعاصرة ترجع أسباب الفتنة لعبد الله بن سبأ، وهذا باطل لأنّ عبد الله بن سبأ إنّما افترى دوره أخباري كذّاب اسمه سيف بن عمر، وقد خالفه كل من كتب عن الفتنة من المحدثين والمؤرخين من الثقات والضعفاء قبل سيف وبعده ) (10) .
وقال الشيخ المذكور في كتابه " مع الشيخ عبد الله السعد في الصحبة والصحابة " : ( وجود ابن سبأ أو عدم وجوده لا يهمّنا من قريب ولا من بعيد وإنّما يهمّنا الإجابة على سؤال هو: هل هو سبب الفتنة أو أحد أسبابها أم لا؟ فإنّ كانت الإجابة بـ"نعم" فأين الأسانيد في ذلك من غير طريق سيف الكذاب؟ وإن كان سبب الفتنة هو المال وولاة عثمان كما هو متواتر الأحاديث والمرويات وإجماع الأمة في القرون الثلاثة الأولى فلا يجوز أن نقرّ الأكاذيب بدعوى أنّ هذا يخدم السنة ضد الشيعة! فالسنة ليست إلاّ الصدق والعدل والعلم، وهم يعرفون أنّ قصة ابن سبأ ليس فيها نصرة ضد الشيعة وإنّما فيها نصرة للطلقاء على السابقين ) (11) .
دور الصحابة في الثورة على عثمان بن عفان
لقد كان للصحابة دور كبير في الثورة على عثمان بن عفان، فمنهم من ثار عليه وشارك بعضهم في الإجهاز عليه وقتله، ومنهم من خذله ولم ينصره، ففي تاريخ الطبري : (لما رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي إلى من بالآفاق منهم وكانوا قد تفرقوا في الثغور إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل تطلبون دين محمد فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك فهلمّوا فأقيموا دين محمد فأقبلوا من كل أفق حتى قتلوه ) (12) .
وفيه: (كتب أصحاب رسول الله بعضهم إلى بعض أن اقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب إلا نفير منهم زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت ... ) (13).
وفي كتاب أخبار الوافدين من الرجال للعباس بن بكار الضبي وتاريخ دمشق لابن عساكر: (دخل أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني(14) على معاوية فقال له معاوية: يا أبا الطفيل، قال: نعم، قال: ألست من قتلة عثمان؟! قال: لا، ولكني ممن حضره فلم ينصره، قال: ما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار ... ) (15) .
وفي تاريخ ابن عساكر وغيره: ( كان المصريون الذين حضروا عثمان ستمائة رأسهم عبد الرحمن بن عديس البلوي،(16) وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي(17)، والذين قدموا من الكوفة مائتين رأسهم مالك الأشتر النخعي، والذين قدموا من البصرة مائة رجل، رأسهم حكيم بن جبلة العبدي) (18).
وفي تاريخ المدينة لابن شبة عن ابن دأب أن الحارث بن خليف قال: (سألت سعدا عن قتل عثمان رضي الله عنه فقال قتل بسيف سلته عائشة رضي الله عنها وشحذه طلحة رضي الله عنه وسمه ابن أبي طالب رضي الله عنه، قلت: فالزبير؟ قال: فسكت وأشار بيده وأمسكنا ولو شئنا لرفعنا ولكن عثمان رضي الله عنه تغير وتغير وأساء وأحسن ولم يجد متقدما فإن كنا أحسنا فقد أحسنا وإن كنا أسأنا فنستغفر الله ... ) (19) .
وقد دلّت الأخبار من جهة أهل السنة على أنّ معاوية بن أبي سفيان والي عثمان على الشام قد خذله أيضاً، ففي تاريخ الطبري (فلما رأى عثمان ما قد نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول، فلما جاء معاوية الكتاب تربص به وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله وقد علم اجتماعهم ... ) (20) .
ويوقفك هذا النص أيضاً على أنّ أهل المدينة بما فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كلهم قد خلعوا طاعة عثمان وردّوا بيعته وتمرّدوا عليه,
وفي تاريخ الطبري عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: (دخلت على عثمان رضي الله عنه فتحدثت عنده ساعة فقال يا ابن عياش تعال فأخذ بيدي فأسمعني كلام من علي باب عثمان فسمعنا كلاما منهم من يقول ما تنتظرون به ومنهم من يقول انظروا عسى أن يراجع فبينا أنا وهو واقفان إذ مر طلحة بن عبيد الله فوقف فقال أين ابن عديس فقيل ها هو ذا قال فجاءه ابن عديس فناجاه بشيء ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه لا تتركوا أحدا يدخل على هذا الرجل ولا يخرج من عنده قال فقال لي عثمان هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله ثم قال عثمان اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا، وأن يسفك دمه إنه انتهك مني ما لا يحل له ... ) (21) .
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد : (أن محمد بن أبي بكر تسور على عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة بن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف سورة البقرة فتقدمهم محمد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال قد أخزاك الله يا نعثل فقال عثمان لست بنعثل ولكن عبد الله وأمير المؤمنين فقال محمد ما أغنى عنك معاوية وفلان فقال عثمان يا بن أخي دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه فقال محمد ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك فقال عثمان أستنصر الله عليك وأستعين به ثم طعن جبينه بمشقص في يده ورفع كنانة بن بشر بن عتاب مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه ثم علاه بالسيف حتى قتله قال عبد الرحمن بن عبد العزيز فسمعت بن أبي عون يقول ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخر لجنبه وضربه سودان بن حمران المرادي بعدما خر لجنبه فقتله وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال أما ثلاث منهن فإني طعنتهن لله وأما ست فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه ) (22).
وفي تاريخ المدينة للنميري عن صالح بن كيسان قال: (دخل عليه – على عثمان - محمد بن أبي بكر بشريان كان معه فضربه في حشائه حتى وقعت في أوداجه فخر وضرب كنانة بن بشر جبهته بعمود وضربه أسودان بن حمران بالسيف وقعد عمرو بن الحمق على صدره فطعنه تسع طعنات، وقال علمت أنه مات في الثالثة فطعنته ستا لما كان في قلبي عليه ) (23) .
وفي تاريخ الطبري: ( مر عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي(24) وهو بفناء داره ومعه جامعة، فقال يا نعثل، والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار، ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه ) (25) .
وفيه أيضاً عن عامر بن سعد قال: (كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو جالس في ندي قومه وفي يد جبلة بن عمرو جامعة فلما مر عثمان سلم فرد القوم فقال جبلة لم تردون على رجل فعل كذا وكذا قال ثم أقبل على عثمان فقال والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه قال عثمان أي بطانة فوالله إني لأتخير الناس فقال مروان تخيرته ومعاوية تخيرته وعبدالله بن عامر بن كريز تخيرته وعبدالله بن سعد تخيرته منهم من نزل القرآن بدمه وأباح رسول الله دمه ... ) (26) .
وفي تاريخ الطبري : (خطب—عثمان—الناس فقام إليه جهجاه الغفاري (27) فصاح يا عثمان ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة فانزل فلندرعك العباءة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان فقال عثمان قبحك الله وقبح ما جئت به... ) (28) .
ونقل المؤرخون أن الصحابي جهجاه هذا قام إلى عثمان وهو يخطب على المنبر فقال له: (قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى ... ) (29).
ويذكر المؤرخون أنّ عثمان بن عفان ترك بعد مقتله ثلاثة أيام لم يدفن، ولمّا أرادوا دفنه شارك بعض الصحابة في المنع من دفنه في البقيع، قال ابن حجر العسقلاني في ترجمة الصحابي أسلم بن بجرة: ( وقال ابن عبد البر هو أحد من منع من دفن عثمان بالبقيع) (30) .
وروى ابن شبة النميري عن عروة بن الزبير أنّه قال : ( منعهم من دفن عثمان بالبقيع أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، قال: فانطلقوا به إلى حش كوكب فصلّى عليه حكيم بن حزام ، وأدخل بنو أمية حش كوكب بالبقيع ) (31) .
ومن كل ما أوردناه يظهر أنّه لم يكن لابن سبأ أي دور في نقمة الناس على عثمان ومقته والثورة عليه، وإنما سبب ذلك أفعاله وأفعال ولاته المخالفة للشريعة الغراء، وأن الصحابة من كان منهم في المدينة أو خارجها هم الذين كانوا على رأس الثائرين والناقمين عليه، ومنهم من شارك في قتله والمنع من دفنه في مقابر المسلمين، فدعوى الخميس أن السبب الرئيسي في ذلك هو ابن سبأ والأسباب الأخرى التي ذكرها دعوى كاذبة لا أساس لها من الصحة أبدا.
الرّد عليه حول محاولته الخلط بين الشخصية الحقيقة لابن سبأ والمختلقة
قال عثمان الخميس أثناء حديثه عن عبد الله بن سبأ الذي زعم أنّه السبب الرئيسي في إثارة الفتنة والثورة على عثمان بن عفان : ( وقد تسالم المتقدمون على إثبات هذه الشخصية، بل نسبوا إليها معتقدات خاصة بها، ولكّنها لا تخرج عن دائرة التشيّع، والذي تولّى كبر هذه المسألة رجل يقال له مرتضى العسكري في كتاب له أسماه " عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى " وممن أنكر ابن سبأ أيضاً طه حسين في كتابه " علي وبنوه " وغيرهما ... ) (32) .
أقول: إنّ من أنكر من المحققين والكتاب شخصية ابن سبأ، إنما أنكر تلك الشخصية التي اختلقها سيف بن عمر التميمي(33)، والتي أعطاها أدواراً بطولية وحاك حولها العديد من القصص والأساطير والمشاغبات، وجلها السبب من وراء حدوث الفتنة أيام عثمان بن عفان، يقول الدكتور عبد العزيز الهلابي – وهو استاذ في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض- : ( والذي نخلص إليه في بحثنا هذا أنّ ابن سبأ شخصية وهمية لم يكن لها وجود، فإن وجد شخص بهذا الإسم فمن المؤكد أنّه لم يقم بالدّور الذي أسنده إليه سيف وأصحاب كتب الفرق لا من الناحية السياسية ولا من ناحية العقيدة) (34) .
نعم هناك شخصية تحمل اسم عبد الله بن سبأ تعرضت لها الروايات الشيعية ولم تذكر عنها شيئاً مما نسبه سيف بن عمر التميمي لشخصية ابن سبأ المختلقة سوى أنّه غالى في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فادّعى له الربوبية، ولنفسه النبوّة فعرض عليه أمير المؤمنين التوبة فلم يفعل، فأحرقه بالنار وانتهى أمره، روى ذلك الكشي في رجاله بسنده عن هشام بن سالم أنّه قال: ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول وهو يحدّث أصحابه بحديث ابن سبأ وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال عليه السلام: إنّه لما ادّعى ذلك استتابه أمير المؤمنين عليه السلام فلم يتب فأبى أن يتوب فأحرقه بالنّار) (35) .
ولا يبعد أن يكون سيف بن عمر التميمي قد سمع بابن سبأ هذا وغلوّه في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فاختلق شخصية أخرى من خياله تحمل نفس الإسم ونسب إليها ما نسبه من قصص وأساطير مما ذكره عنه الطبري وغيره، وأعطاها دوراً بطوليّاً هائلاً في خلق الفتنة وإثارة الأحداث في تلك الحقبة من الزمن وجعلها من وراء كل الأسباب التي أدّت إلى الثورة على عثمان بن عفان، وذلك تغطية على الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى ثورة المسلمين من صحابة وتابعين عليه ومقتله.
وابن سبأ الذي وردت الإشارة إليه في روايات الشيعة لا علاقة له بالشيعة الإمامية الإثني عشرية، بل هو غال ملعون عندهم حكموا بكفره والبراءة منه، قال العلامة الحلي رحمه الله : (عبد الله بن سبأ غال ملعون، حرقه أمير المؤمنين عليه السلام بالنّار، وكان يزعم أنّ عليّاً عليه السلام إله، وأنّه نبي، لعنه الله ) (36) .
ومثل قول العلامة الحلي هذا قال الشيخ حسن بن زين الدين في التحرير الطاووسي (صفحة 346) والعلامة الأردبيلي في جامع الرّواة (2/485) والسيد البروجردي في طرائف المقال (2/96) وقال الأخير: ( ونعم ما قاله في المنتهى عبد الله بن سبأ ألعن من أن يذكر) .
وقال السيد الخوئي عليه الرّحمة بعد أن نقل بعض الروايات عن بعض الأئمة الطاهرين عليهم السلام المصرّحة بكفر ابن سبأ ولعنهم له: ( فهذه الروايات تدل على أنّه كفر وادّعى الإلوهية في علي عليه السلام لا أنّه قائل بفرض إمامته عليه السلام، مضافاً إلى أنّ أسطورة عبد الله بن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة مختلقة، اختلقها سيف بن عمر الوضّاع الكذاب، ولا يسعنا المقام الإطالة في ذلك والتدليل عليه، وقد أغنانا العلامة الجليل والباحث المحقق السيد مرتضى العسكري في ما قدّم من دراسات عميقة دقيقة عن هذه القصص الخرافية، وعن سيف وموضوعاته في مجلدين طبعا باسم " عبد الله بن سبأ " وفي كتابه الآخر " خمسون ومائة صحابي مختلق" ) (37) .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق