أحدثت سياسة عثمان المالية والاقتصادية الخاطئة انقلاباً هائلاً في وضع المجتمع العربي آنذاك،
فبرزت قطع من نسيجه وانخفضت قطع أخرى، ففقد وحدة الإنتماء الإقتصادي وطابع المساواة
الذي تركه عليه رسول الله، وظهرت الطبقات بمعالمها واضحة
(وبلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب، فوجدت طبقة الارستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع،
ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض، ويقومون ع
فبرزت قطع من نسيجه وانخفضت قطع أخرى، ففقد وحدة الإنتماء الإقتصادي وطابع المساواة
الذي تركه عليه رسول الله، وظهرت الطبقات بمعالمها واضحة
(وبلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب، فوجدت طبقة الارستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع،
ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض، ويقومون ع
لى مرافق هؤلاء السادة،
ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب الذين كانوا يقيمون في الأمصار،
ويغيرون على العدو ويحمون الثغور، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء،
وهذه الطبقة المتوسطة التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعا وأحزاباً (الفتنة الكبرى ص109)
فمواقف رجال مجلس الشورى أثناء بيعة عثمان لا يمكن فصلها عن مشاعر البشر،
والمكاسب التي حققوها في ظل سياسة اقتصادية معينة،
فكانت المفاضلة بين عثمان وعلي لا على أساس الأكفأ والأحق،
بل على أساس الحفاظ على الوضع الراهن والسياسة المفيدة،
ومن هنا نفهم الإصرار على ضرورة اتباع سيرة أبي بكر وعمر،
ثم الميل من بعد الى من يرجى منه عدم المساس بالمكاسب المادية والإجتماعية التي نالوها فيما سبق.
نقل ابن خلدون في مقدمته عن المسعودي قوله: (في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال، فكان
لعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار، وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة،
وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف ألف فرس وألف أمة،
وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك،
وكان على مربط عبدالرحمن بن عوف ألف فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم. وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً،
وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما يكسر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار.
وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية،
وكذلك بني طلحة داره بالكوفة، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج.
وبني سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، ورفع سمكها وأوسع فضاءها، وجعل على أعلاها شرفات)(المقدمة: ص204ـ 205)
هكذا كان وضع أكثر أعضاء مجلس الشورى وما حققوه من مكاسب اجتماعية وسياسية،
لا يمكن إغفال دورها في صياغة الأحداث عند تقييمنا لوقائع تاريخنا السياسية الهامة.
ثم إن ابن سعد روى نصاً غريباً خلاصته أن سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده في الأرض ليوسع داره
فوعده الخليفة بعد صلاة الغداة وذهب معه حينئذ الى داره، يقول سعيد:
(فزادني وخط لي برجليه، فقلت يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل،
فقال: حسبك، واختبيء عندك (يعني اجعل الكلام في سرك) أنه سيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك، ويقضي حاجتك.
قال فمكثت خلافة عمر بن الخطاب حتى استخلف عثمان وأخذها عن شورى ورضا،
فوصلني وأحسن، وقضى حاجتي، وأشركني في أمانته) (طبقات ابن سعد:5|31)
فإن صحت هذه الرواية جاز لنا أن نتساءل كيف عرف عمر (رض) أن عثمان سيلي الأمر بعده؟
أكان ذلك ضرباً من الكشف أم أمراً آخر؟ وإن كان كشفاً فلماذا يأمره بأن يجعل الكلام في سره ولا يبوح به لأحد؟
وهناك رواية أخرى تقول:
(إن عمرو بن العاص كان قد لقي علياً في ليالي الشورى
فقال إن عبد الرحمن رجل مجتهد، وأنه متى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك،
ولكن الجهد والطاقة، فإنه أرغب له فيك.
ثم لقي عثمان فقال إن عبدالرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فاقبل) (الطبري:3|302)
أي أن عمرو بن العاص خدع علياً وقال له إن عبدالرحمن إذا سألك أتبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر،
فقل له بل جهدي من ذلك وطاقتي، لأن هذا يعجب عبدالرحمن.
ثم قال لعثمان أن يقول نعم، لأن ذلك سيجعله فيك أرغب.
ومع أنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية لأن شخصية الإمام علي (ع) لم تكن بهذا الضعف،
كما لم تكن شخصية انتهازية ترضى بسلوك أي وسيلة لتصل الى غايتها، وتجلس في السلطة،
وهو الزاهد الذي كان يرى الدنيا بأسرها أهون من عفطة عنز،
إلا أن الرواية، بافتراض صحتها، تشير الى أن الأمر لم يخل من خداع.
وسواء كانت لعبة الشورى، أم مشورة عمرو،
فالقرار الذي أصدره الإمام علي (ع) بشأن كل ما حدث في تولية عثمان أنه (خدعة وأيما خدعة) (الطبري:3|302)
أما معاوية فقال عن شورى عمر فيما بعد
(لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر الى ستة نفر) (العقد الفريد:4|281)
ولأنها كانت كذلك ولم تكن صافية بلا شوائب، أدت الى ما نعرفه من حوادث،
وكما ندم أبو بكر(رض) على تقمصها ندم عبدالرحمن بن عوف على فعله حتى قال لعلي(ع):
(إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفي فإنه خالف ما أعطاني وروي كذلك أنه قال لبعض الصحابة في المرض الذي مات فيه:
(عاجلوه قبل أن يطغى ملكه)(الفتنة الكبرى: ص172)
وعاش عبدالرحمن بن عوف لم يكلم عثمان أبداً حتى مات (العقد الفريد: 4|280)
خلافة عثمان ولادة الدولة الأموية
وهكذا أصبح عثمان بن عفان الخليفة الثالث، يذكر المؤرخون أن أبا سفيان قال لابن عشيرته عثمان بن عفان بعد انعقاد البيعة له:
(يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة)(المسعودي، مروج الذهب 2/230).
وأبو سفيان الذي لا يريد أن يصرح بحلفه باللات والعزى يعبر بقوله هذا عن طبيعة التفكير القبلي والجاهلي الذي تطبع على أساسه وشاب.
والخليفة عثمان -على كل حال- لم يخيب ظنه، حيث بدأ فور تسلمه الخلافة بعزل جميع الولاة الذين عينهم سلفه عمر
باستثناء ابن عمه معاوية، واستبدلهم بأقاربه من بني أمية.
ومن ذلك تعيين عثمان لابن عمه مروان بن الحكم معاوناً له، وهو بمثابة منصب وزير الدولة الأول،
وعزل سعد بن أبي وقاص من ولاية الكوفة وتوليته عليها بدلاً منه أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط
ثم توليته عليها فيما بعد سعيد بن العاص وهو أحد أقاربه أيضاً وكذلك عزل أبا موسى الأشعري عن ولاية البصرة
وعين مكانه ابن خاله عبد الله بن عامر،
وعزل أيضاً عمرو بن العاص من حكومة مصر وولاها لأخيه بالرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وكان معاوية في خلافة عمر قد عُهد إليه ولاية دمشق وحدها أو حسب روايات أخرى بعض أعمالها،
وعندما جاء عثمان جمع له ولاية بلاد الشام كلها، حيث كانت هذه المنطقة من الناحية العسكرية أهم مناطق الدولة الإسلامية،
لأنها كانت بمثابة السد العازل، بمقدور حاكمها أن يعزل الولايات الشرقية عن الغربية،
وقد تربع معاوية على سدتها مدة طويلة حتى استقرت جذوره فيها لدرجة جعلته يشعر أن بمقدوره الاستقلال عن العاصمة المركزية،
بل ومحاربتها كما حصل فعلاً زمان خلافة علي.
وبهذه التعيينات يكون عثمان قد وضع البذور لدولة أموية،
أو كما وصف العلامة أبو الأعلى المودودي بأن عهد عثمان كان بداية التحول من الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض،
وأنه لم تكن هناك حجة كافية لأن تخضع الدولة كلها من خراسان شرقاً إلى شمال إفريقيا غرباً لحكام من بيت واحد (المودودي، الخلافة والملك، ص 65).
وفي شرحه لتركيبة العائلة الأموية، يقول المودودي: (إن أفراد هذه العائلة الذين ارتقوا في عهد عثمان كانوا جميعاً من الطلقاء.
والمراد بالطلقاء تلك البيوت المكية التي ظلت إلى آخر وقت معادية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللدولة الإسلامية،
فعفا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنهم بعد فتح مكة ودخلوا في الإسلام.
ومعاوية، والوليد بن عقبة، ومروان بن الحكم كانوا من تلك البيوت التي أعطيت الأمان وعفا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنهم.
أما عبد الله بن أبي سرح فقد ارتد بعد إسلامه،
وكان واحداً من الذين أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم حتى ولو وجدوا تحت أستار الكعبة.
وبالطبع ما من أحد يقبل أن يعزل السابقون الأولون الذين خاطروا بأرواحهم في سبيل رفعة الإسلام
فارتفع لواء الدين بتضحياتهم، وأن يحكم الأمة بدلاً منهم مثل هؤلاء الناس الذين لم يكونوا يصلحون لتولي زعامة المسلمين...
وهم يقفون في آخر صفوف الصحابة والتابعين لا في أولها) (المودودي، الخلافة والملك، ص 65-66).
عثمان وسيرة الشيخين في الحكم
من الواضح أن الخليفة عثمان قد حاد عن سيرة الشيخين
والتي عقدت له الخلافة على أساس تعهده بالعمل بها،
وذلك بإعطائه لأقاربه المناصب الكبرى،
وبإغداقه عليهم الأموال من بيت مال المسلمين،
وبخصهم بامتيازات أخرى اعترض الناس عليها.
ويضرب المودودي مثالاً لفداحة ما صنعه عثمان في هذا الأمر:
(ولنأخذ وضع مروان بن الحكم مثالاً:
فقد أسلم أبوه الحكم بن العاص عم سيدنا عثمان (رض) في فتح مكة،
ثم قدم المدينة واستقر بها، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
أخرجه منها - بعد أن بدت منه بعض الأمور - وأمره بالإقامة في الطائف.
وقد ذكر ابن عبد البر في الإستيعاب أن من أسباب ذلك أن الحكم بن العاص
كان يفشي المشاورات التي كانت تتم سراً بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وأكابر الصحابة والتي كان يسمعها بطريقة أو بأخرى وثاني الأسباب
أنه كان يقلد الرسول حتى رآه ذات مرة وهو يفعل ذلك.
وعلى أي حال، فلا بد أنه ارتكب ذنباً كبيراً أصدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
على أساسه أمراً بإخراجه من المدينة،
وكان مروان وقتئذ في الثامنة من عمره فسكن الطائف مع أبيه،
ولما تولى الخلافة كل من أبي بكر وعمر كان يلتمس في كل مرة منهما السماح بالعودة إلى المدينة ورفضا.
ولما تولى عثمان (رض) الخلافة أعاده المدينة...
فكان صعباً على الناس أن يصدقوا أن ابن هذا الشخص
الذي أخطأ في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يكون أهلاً لأن يصبح معاون الخليفة من دون أكابر الصحابة (رضوان الله عليهم)،
خاصة إذا كان الوالد المذنب على قيد الحياة وله قدر من النفوذ على أمور الدولة عن طريق ابنه) (المودودي، الخلافة والملك، ص 66-67).
وبقي الحكم بن العاص حياً حتى آخر عهد عثمان وتوفي سنة 32 هجرية.
وهكذا كان، فقد استغل مروان بن الحكم منصبه كمعاون للخليفة ومستشاره الأول
في ارتكاب الأعمال الفاسدة، واختلاس الأموال، وتهديد الصحابة الكبار بكلمات لم يكن يتحمل سماعها من لسان الطلقاء،
حتى أن نائلة نصحت الخليفة (وهي زوجته) قائلة:
(فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة)
(تاريخ الطبري ج 3 ص 296، البداية والنهاية ج 7 ص 172).
إلا أن الخليفة عثمان أصغى إلى نصيحتها هذه على ما يبدو بإعطائه لمروان (500 خمسمئة ألف دينار)،
وهي قيمة خمس غنائم إفريقيا !
إيذاء خيرة الصحابة
لم تكن اعتراضات الناس ونقمتهم على الخليفة لمجرد إسناده أهم مناصب الدولة لأقاربه،
والإغداق عليهم من بيت مال المسلمين،
وإنما أيضاً للانتهاكات الخطيرة في تعاليم الإسلام وآدابه،
والمظالم التي ارتكبت بحق خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
لا سيما أبي ذر الغفاري، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وإليك قصة ما حدث لكل واحد منهم:
1 - أبو ذر الغفاري وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر)،
ولكنه لاقى النفي إلى الشام لاعتراضه على الخليفة عثمان في مسألة توزيع الأموال وتبذيرها على أقاربه،
ثم لاقى النفي مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى البادية في قرية تدعى (الربذة) خارج المدينة
عقاباً له من الخليفة لاعتراضه على والي الشام معاوية بن أبي سفيان لاكتنازه الأموال وتبذيرها على حساب بيت مال المسلمين.
ويروي زيد بن وهبة هذه الحادثة قائلاً:
(مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر الغفاري (رض) فقلت له: ما أنزلك منزلك هكذا؟
قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في الآية
(والذين يكنزون الذهب والفضة وينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) [التوبة/34].
قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم.
فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان: أن أقدم المدينة فقدمتها)
(صحيح البخاري، كتاب الزكاة، ج 2 ص 278).
وكانت شكوى معاوية إلى الخليفة أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام،
حتى تعالت كلماته على لسان الناس في البيوت والطرقات:
(بشر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة) (خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، ص 79).
2 - عبد الله بن مسعود وهو الذي كان صاحب بيت المال في الكوفة،
وقد كان يعترض على والي الخليفة عثمان الوليد بن عقبة - وهو أخوه لأمه -
بسبب عدم إرجاعه المال الذي يستدينه من بيت مال المسلمين، ولكثرة إدمانه الخمر،
حتى أنه صلى الصبح بالناس أربع ركعات وهو سكران، ثم التفت إلى الناس وقال: أزيدكم؟
ولكن عبد الله بن مسعود هو الذي عوقب أولاً من الخليفة لاعتراضه على الوليد
حيث قال له عثمان: (إنما أنت خازن لنا) (تاريخ الطبري ج 5 ص 134)
ثم أمر غلمانه بضربه حتى لاقى كسراً في أضلاعه.
وبعد كثرة تذمر الناس من تصرف الخليفة هذا، أمر بإقامة الحد على الوليد
(صحيح مسلم، باب حد الخمر. وأيضاً الخلافة والملك للمودودي ص 67- 68).
ومما يجدر ذكره أن الوليد بن عقبة كان من الذين أسلموا بعد فتح مكة،
وكلفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مرة بجباية صدقات بني المصطلق،
إلا أنه بعد أن وصل حدود المنطقة التي تسكنها هذه القبيلة خاف لسبب ما ورجع إلى المدينة،
وكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول أن بني المصطلق رفضوا دفع الزكاة وأرادوا قتله،
فغضب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأرسل إليهم جيشاً لقتالهم،
وكادت أن تقع واقعة كبرى لولا أن رؤساء بني المصطلق علموا بالأمر
وجاءوا إلى المدينة ليخبروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يأتهم أحد لجباية الزكاة،
فنزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)[الحجرات/6]،
عندما أصبح عثمان خليفة، عزل عن ولاية الكوفة سعد بن أبي وقاص بطل القادسية، وعين بدلاً منه هذا الفاسق.
3 - عمار بن ياسر وهو الذي قام بالصلاة على عبد الله بن مسعود ودفنه دون إعلام الخليفة بذلك بناء على وصية من ابن مسعود حتى لا يصلي عليه لما لقيه منه من أذى (تاريخ اليعقوبي، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد).
وكان هذا العمل مما أغضب الخليفة، إلا أن تصرف عمار الذي أثار حفيظة عثمان ضده وجعله يعاقبه عليه أشد العقاب هو - كما يروي ابن قتيبة - تجرؤه بحمل كتاب احتجاج ضد الخليفة وأقاربه كتبه عشرة من الصحابة من ضمنهم المقداد، وذكروا فيه مخالفات عثمان لسنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم وسنة صاحبيه (أبي بكر وعمر) وما كان من هبته لخمس خراج إفريقيا لمروان وفيه حق الله ورسوله، ومنهم ذوو القرابة واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان، حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة لأهله وبناته، وبنيان مروان القصور، وما كان من الوليد في الكوفة إذ صلى بالناس الصبح أربعة وهو سكران وتعطيله ثم تأخيره الحد عليه، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شئ ولا يستشيرهم، وضربه ظهور الناس بالسياط وغير ذلك مما كتب في ذلك الكتاب الاحتجاجي والذي قام عمار بتقديمه إلى الخليفة. فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من ورائه.
فقال عثمان لغلمانه: اضربوه! فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه وغشي عليه، فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأدخل منزلها، وغضب له بنو المغيرة وكان حليفهم، وغضب له أيضاً علي عليه السلام وكبار الصحابة، حتى أن علياً قال لعثمان: (... فأنا أقول كما قال العبد الصالح (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) [يوسف/18].. إلى آخر الرواية) (ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة ج 1 ص 50 - 51).
وغضبت له عائشة أيضاً، فكانت تحمل قميص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: (هذا قميص النبي لم يبل وقد أبليت سنته) إلى أن قالت: (اقتلوا نعثلاً فقد كفر) (تاريخ الطبري ج 5 ص 172، تاريخ ابن الأثير، ابن سعد: الطبقات الكبرى3/66).
كيف كان مقتل الخليفة؟
مع كل تلك الممارسات التي قام بها عثمان وأقاربه بانتهاك كل الشرائع والسنن، فقد كان فضلاء الصحابة يحاولون نصح الخليفة، ولكن دون جدوى، وكانت تأتيه الوفود من الأقاليم تحمل معها رسائل احتجاج ومطالبات معينة، فكانت ترفض بشدة في كل مرة، ولا يعطي الخليفة لها أية قيمة أو انتباه. فلم يكن مستغرباً بعد كل ذلك أن تثور ثورة الثائرين، والذين تزعم حركتهم أناس من مصر، والكوفة، والبصرة، حيث تبادلوا الاتصالات فيما بينهم سراً، حتى توجهوا بعدد يزيد على الألفين، وحاصروا الخليفة لمدة أربعين يوما، وطالبوا بعزله. إلا أن عثمان رفض التفاوض معهم. وعند اشتداد الحصار عليه، قام باستشارة عبد الله بن عمر بالأمر (وكأن فكرة التنازل قد بدأت تراوح في ذهنه) فأشار عليه ابن عمر بالبقاء في الحكم قائلاً: (لا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام، كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه) (ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 3 ص 66).
وبعد ذلك اقتحم الثوار القصر وقتلوا الخليفة، وبقي جسده مسجى على الأرض لثلاثة أيام دون أن يدفن.
ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب الذين كانوا يقيمون في الأمصار،
ويغيرون على العدو ويحمون الثغور، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء،
وهذه الطبقة المتوسطة التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعا وأحزاباً (الفتنة الكبرى ص109)
فمواقف رجال مجلس الشورى أثناء بيعة عثمان لا يمكن فصلها عن مشاعر البشر،
والمكاسب التي حققوها في ظل سياسة اقتصادية معينة،
فكانت المفاضلة بين عثمان وعلي لا على أساس الأكفأ والأحق،
بل على أساس الحفاظ على الوضع الراهن والسياسة المفيدة،
ومن هنا نفهم الإصرار على ضرورة اتباع سيرة أبي بكر وعمر،
ثم الميل من بعد الى من يرجى منه عدم المساس بالمكاسب المادية والإجتماعية التي نالوها فيما سبق.
نقل ابن خلدون في مقدمته عن المسعودي قوله: (في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال، فكان
لعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار، وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة،
وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف ألف فرس وألف أمة،
وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك،
وكان على مربط عبدالرحمن بن عوف ألف فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم. وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً،
وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما يكسر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار.
وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية،
وكذلك بني طلحة داره بالكوفة، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج.
وبني سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، ورفع سمكها وأوسع فضاءها، وجعل على أعلاها شرفات)(المقدمة: ص204ـ 205)
هكذا كان وضع أكثر أعضاء مجلس الشورى وما حققوه من مكاسب اجتماعية وسياسية،
لا يمكن إغفال دورها في صياغة الأحداث عند تقييمنا لوقائع تاريخنا السياسية الهامة.
ثم إن ابن سعد روى نصاً غريباً خلاصته أن سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده في الأرض ليوسع داره
فوعده الخليفة بعد صلاة الغداة وذهب معه حينئذ الى داره، يقول سعيد:
(فزادني وخط لي برجليه، فقلت يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل،
فقال: حسبك، واختبيء عندك (يعني اجعل الكلام في سرك) أنه سيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك، ويقضي حاجتك.
قال فمكثت خلافة عمر بن الخطاب حتى استخلف عثمان وأخذها عن شورى ورضا،
فوصلني وأحسن، وقضى حاجتي، وأشركني في أمانته) (طبقات ابن سعد:5|31)
فإن صحت هذه الرواية جاز لنا أن نتساءل كيف عرف عمر (رض) أن عثمان سيلي الأمر بعده؟
أكان ذلك ضرباً من الكشف أم أمراً آخر؟ وإن كان كشفاً فلماذا يأمره بأن يجعل الكلام في سره ولا يبوح به لأحد؟
وهناك رواية أخرى تقول:
(إن عمرو بن العاص كان قد لقي علياً في ليالي الشورى
فقال إن عبد الرحمن رجل مجتهد، وأنه متى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك،
ولكن الجهد والطاقة، فإنه أرغب له فيك.
ثم لقي عثمان فقال إن عبدالرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فاقبل) (الطبري:3|302)
أي أن عمرو بن العاص خدع علياً وقال له إن عبدالرحمن إذا سألك أتبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر،
فقل له بل جهدي من ذلك وطاقتي، لأن هذا يعجب عبدالرحمن.
ثم قال لعثمان أن يقول نعم، لأن ذلك سيجعله فيك أرغب.
ومع أنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية لأن شخصية الإمام علي (ع) لم تكن بهذا الضعف،
كما لم تكن شخصية انتهازية ترضى بسلوك أي وسيلة لتصل الى غايتها، وتجلس في السلطة،
وهو الزاهد الذي كان يرى الدنيا بأسرها أهون من عفطة عنز،
إلا أن الرواية، بافتراض صحتها، تشير الى أن الأمر لم يخل من خداع.
وسواء كانت لعبة الشورى، أم مشورة عمرو،
فالقرار الذي أصدره الإمام علي (ع) بشأن كل ما حدث في تولية عثمان أنه (خدعة وأيما خدعة) (الطبري:3|302)
أما معاوية فقال عن شورى عمر فيما بعد
(لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر الى ستة نفر) (العقد الفريد:4|281)
ولأنها كانت كذلك ولم تكن صافية بلا شوائب، أدت الى ما نعرفه من حوادث،
وكما ندم أبو بكر(رض) على تقمصها ندم عبدالرحمن بن عوف على فعله حتى قال لعلي(ع):
(إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفي فإنه خالف ما أعطاني وروي كذلك أنه قال لبعض الصحابة في المرض الذي مات فيه:
(عاجلوه قبل أن يطغى ملكه)(الفتنة الكبرى: ص172)
وعاش عبدالرحمن بن عوف لم يكلم عثمان أبداً حتى مات (العقد الفريد: 4|280)
خلافة عثمان ولادة الدولة الأموية
وهكذا أصبح عثمان بن عفان الخليفة الثالث، يذكر المؤرخون أن أبا سفيان قال لابن عشيرته عثمان بن عفان بعد انعقاد البيعة له:
(يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة)(المسعودي، مروج الذهب 2/230).
وأبو سفيان الذي لا يريد أن يصرح بحلفه باللات والعزى يعبر بقوله هذا عن طبيعة التفكير القبلي والجاهلي الذي تطبع على أساسه وشاب.
والخليفة عثمان -على كل حال- لم يخيب ظنه، حيث بدأ فور تسلمه الخلافة بعزل جميع الولاة الذين عينهم سلفه عمر
باستثناء ابن عمه معاوية، واستبدلهم بأقاربه من بني أمية.
ومن ذلك تعيين عثمان لابن عمه مروان بن الحكم معاوناً له، وهو بمثابة منصب وزير الدولة الأول،
وعزل سعد بن أبي وقاص من ولاية الكوفة وتوليته عليها بدلاً منه أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط
ثم توليته عليها فيما بعد سعيد بن العاص وهو أحد أقاربه أيضاً وكذلك عزل أبا موسى الأشعري عن ولاية البصرة
وعين مكانه ابن خاله عبد الله بن عامر،
وعزل أيضاً عمرو بن العاص من حكومة مصر وولاها لأخيه بالرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وكان معاوية في خلافة عمر قد عُهد إليه ولاية دمشق وحدها أو حسب روايات أخرى بعض أعمالها،
وعندما جاء عثمان جمع له ولاية بلاد الشام كلها، حيث كانت هذه المنطقة من الناحية العسكرية أهم مناطق الدولة الإسلامية،
لأنها كانت بمثابة السد العازل، بمقدور حاكمها أن يعزل الولايات الشرقية عن الغربية،
وقد تربع معاوية على سدتها مدة طويلة حتى استقرت جذوره فيها لدرجة جعلته يشعر أن بمقدوره الاستقلال عن العاصمة المركزية،
بل ومحاربتها كما حصل فعلاً زمان خلافة علي.
وبهذه التعيينات يكون عثمان قد وضع البذور لدولة أموية،
أو كما وصف العلامة أبو الأعلى المودودي بأن عهد عثمان كان بداية التحول من الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض،
وأنه لم تكن هناك حجة كافية لأن تخضع الدولة كلها من خراسان شرقاً إلى شمال إفريقيا غرباً لحكام من بيت واحد (المودودي، الخلافة والملك، ص 65).
وفي شرحه لتركيبة العائلة الأموية، يقول المودودي: (إن أفراد هذه العائلة الذين ارتقوا في عهد عثمان كانوا جميعاً من الطلقاء.
والمراد بالطلقاء تلك البيوت المكية التي ظلت إلى آخر وقت معادية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللدولة الإسلامية،
فعفا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنهم بعد فتح مكة ودخلوا في الإسلام.
ومعاوية، والوليد بن عقبة، ومروان بن الحكم كانوا من تلك البيوت التي أعطيت الأمان وعفا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنهم.
أما عبد الله بن أبي سرح فقد ارتد بعد إسلامه،
وكان واحداً من الذين أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم حتى ولو وجدوا تحت أستار الكعبة.
وبالطبع ما من أحد يقبل أن يعزل السابقون الأولون الذين خاطروا بأرواحهم في سبيل رفعة الإسلام
فارتفع لواء الدين بتضحياتهم، وأن يحكم الأمة بدلاً منهم مثل هؤلاء الناس الذين لم يكونوا يصلحون لتولي زعامة المسلمين...
وهم يقفون في آخر صفوف الصحابة والتابعين لا في أولها) (المودودي، الخلافة والملك، ص 65-66).
عثمان وسيرة الشيخين في الحكم
من الواضح أن الخليفة عثمان قد حاد عن سيرة الشيخين
والتي عقدت له الخلافة على أساس تعهده بالعمل بها،
وذلك بإعطائه لأقاربه المناصب الكبرى،
وبإغداقه عليهم الأموال من بيت مال المسلمين،
وبخصهم بامتيازات أخرى اعترض الناس عليها.
ويضرب المودودي مثالاً لفداحة ما صنعه عثمان في هذا الأمر:
(ولنأخذ وضع مروان بن الحكم مثالاً:
فقد أسلم أبوه الحكم بن العاص عم سيدنا عثمان (رض) في فتح مكة،
ثم قدم المدينة واستقر بها، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
أخرجه منها - بعد أن بدت منه بعض الأمور - وأمره بالإقامة في الطائف.
وقد ذكر ابن عبد البر في الإستيعاب أن من أسباب ذلك أن الحكم بن العاص
كان يفشي المشاورات التي كانت تتم سراً بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وأكابر الصحابة والتي كان يسمعها بطريقة أو بأخرى وثاني الأسباب
أنه كان يقلد الرسول حتى رآه ذات مرة وهو يفعل ذلك.
وعلى أي حال، فلا بد أنه ارتكب ذنباً كبيراً أصدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
على أساسه أمراً بإخراجه من المدينة،
وكان مروان وقتئذ في الثامنة من عمره فسكن الطائف مع أبيه،
ولما تولى الخلافة كل من أبي بكر وعمر كان يلتمس في كل مرة منهما السماح بالعودة إلى المدينة ورفضا.
ولما تولى عثمان (رض) الخلافة أعاده المدينة...
فكان صعباً على الناس أن يصدقوا أن ابن هذا الشخص
الذي أخطأ في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يكون أهلاً لأن يصبح معاون الخليفة من دون أكابر الصحابة (رضوان الله عليهم)،
خاصة إذا كان الوالد المذنب على قيد الحياة وله قدر من النفوذ على أمور الدولة عن طريق ابنه) (المودودي، الخلافة والملك، ص 66-67).
وبقي الحكم بن العاص حياً حتى آخر عهد عثمان وتوفي سنة 32 هجرية.
وهكذا كان، فقد استغل مروان بن الحكم منصبه كمعاون للخليفة ومستشاره الأول
في ارتكاب الأعمال الفاسدة، واختلاس الأموال، وتهديد الصحابة الكبار بكلمات لم يكن يتحمل سماعها من لسان الطلقاء،
حتى أن نائلة نصحت الخليفة (وهي زوجته) قائلة:
(فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة)
(تاريخ الطبري ج 3 ص 296، البداية والنهاية ج 7 ص 172).
إلا أن الخليفة عثمان أصغى إلى نصيحتها هذه على ما يبدو بإعطائه لمروان (500 خمسمئة ألف دينار)،
وهي قيمة خمس غنائم إفريقيا !
إيذاء خيرة الصحابة
لم تكن اعتراضات الناس ونقمتهم على الخليفة لمجرد إسناده أهم مناصب الدولة لأقاربه،
والإغداق عليهم من بيت مال المسلمين،
وإنما أيضاً للانتهاكات الخطيرة في تعاليم الإسلام وآدابه،
والمظالم التي ارتكبت بحق خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
لا سيما أبي ذر الغفاري، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وإليك قصة ما حدث لكل واحد منهم:
1 - أبو ذر الغفاري وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر)،
ولكنه لاقى النفي إلى الشام لاعتراضه على الخليفة عثمان في مسألة توزيع الأموال وتبذيرها على أقاربه،
ثم لاقى النفي مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى البادية في قرية تدعى (الربذة) خارج المدينة
عقاباً له من الخليفة لاعتراضه على والي الشام معاوية بن أبي سفيان لاكتنازه الأموال وتبذيرها على حساب بيت مال المسلمين.
ويروي زيد بن وهبة هذه الحادثة قائلاً:
(مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر الغفاري (رض) فقلت له: ما أنزلك منزلك هكذا؟
قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في الآية
(والذين يكنزون الذهب والفضة وينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) [التوبة/34].
قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم.
فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان: أن أقدم المدينة فقدمتها)
(صحيح البخاري، كتاب الزكاة، ج 2 ص 278).
وكانت شكوى معاوية إلى الخليفة أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام،
حتى تعالت كلماته على لسان الناس في البيوت والطرقات:
(بشر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة) (خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، ص 79).
2 - عبد الله بن مسعود وهو الذي كان صاحب بيت المال في الكوفة،
وقد كان يعترض على والي الخليفة عثمان الوليد بن عقبة - وهو أخوه لأمه -
بسبب عدم إرجاعه المال الذي يستدينه من بيت مال المسلمين، ولكثرة إدمانه الخمر،
حتى أنه صلى الصبح بالناس أربع ركعات وهو سكران، ثم التفت إلى الناس وقال: أزيدكم؟
ولكن عبد الله بن مسعود هو الذي عوقب أولاً من الخليفة لاعتراضه على الوليد
حيث قال له عثمان: (إنما أنت خازن لنا) (تاريخ الطبري ج 5 ص 134)
ثم أمر غلمانه بضربه حتى لاقى كسراً في أضلاعه.
وبعد كثرة تذمر الناس من تصرف الخليفة هذا، أمر بإقامة الحد على الوليد
(صحيح مسلم، باب حد الخمر. وأيضاً الخلافة والملك للمودودي ص 67- 68).
ومما يجدر ذكره أن الوليد بن عقبة كان من الذين أسلموا بعد فتح مكة،
وكلفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مرة بجباية صدقات بني المصطلق،
إلا أنه بعد أن وصل حدود المنطقة التي تسكنها هذه القبيلة خاف لسبب ما ورجع إلى المدينة،
وكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول أن بني المصطلق رفضوا دفع الزكاة وأرادوا قتله،
فغضب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأرسل إليهم جيشاً لقتالهم،
وكادت أن تقع واقعة كبرى لولا أن رؤساء بني المصطلق علموا بالأمر
وجاءوا إلى المدينة ليخبروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يأتهم أحد لجباية الزكاة،
فنزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)[الحجرات/6]،
عندما أصبح عثمان خليفة، عزل عن ولاية الكوفة سعد بن أبي وقاص بطل القادسية، وعين بدلاً منه هذا الفاسق.
3 - عمار بن ياسر وهو الذي قام بالصلاة على عبد الله بن مسعود ودفنه دون إعلام الخليفة بذلك بناء على وصية من ابن مسعود حتى لا يصلي عليه لما لقيه منه من أذى (تاريخ اليعقوبي، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد).
وكان هذا العمل مما أغضب الخليفة، إلا أن تصرف عمار الذي أثار حفيظة عثمان ضده وجعله يعاقبه عليه أشد العقاب هو - كما يروي ابن قتيبة - تجرؤه بحمل كتاب احتجاج ضد الخليفة وأقاربه كتبه عشرة من الصحابة من ضمنهم المقداد، وذكروا فيه مخالفات عثمان لسنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم وسنة صاحبيه (أبي بكر وعمر) وما كان من هبته لخمس خراج إفريقيا لمروان وفيه حق الله ورسوله، ومنهم ذوو القرابة واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان، حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة لأهله وبناته، وبنيان مروان القصور، وما كان من الوليد في الكوفة إذ صلى بالناس الصبح أربعة وهو سكران وتعطيله ثم تأخيره الحد عليه، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شئ ولا يستشيرهم، وضربه ظهور الناس بالسياط وغير ذلك مما كتب في ذلك الكتاب الاحتجاجي والذي قام عمار بتقديمه إلى الخليفة. فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من ورائه.
فقال عثمان لغلمانه: اضربوه! فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه وغشي عليه، فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأدخل منزلها، وغضب له بنو المغيرة وكان حليفهم، وغضب له أيضاً علي عليه السلام وكبار الصحابة، حتى أن علياً قال لعثمان: (... فأنا أقول كما قال العبد الصالح (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) [يوسف/18].. إلى آخر الرواية) (ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة ج 1 ص 50 - 51).
وغضبت له عائشة أيضاً، فكانت تحمل قميص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: (هذا قميص النبي لم يبل وقد أبليت سنته) إلى أن قالت: (اقتلوا نعثلاً فقد كفر) (تاريخ الطبري ج 5 ص 172، تاريخ ابن الأثير، ابن سعد: الطبقات الكبرى3/66).
كيف كان مقتل الخليفة؟
مع كل تلك الممارسات التي قام بها عثمان وأقاربه بانتهاك كل الشرائع والسنن، فقد كان فضلاء الصحابة يحاولون نصح الخليفة، ولكن دون جدوى، وكانت تأتيه الوفود من الأقاليم تحمل معها رسائل احتجاج ومطالبات معينة، فكانت ترفض بشدة في كل مرة، ولا يعطي الخليفة لها أية قيمة أو انتباه. فلم يكن مستغرباً بعد كل ذلك أن تثور ثورة الثائرين، والذين تزعم حركتهم أناس من مصر، والكوفة، والبصرة، حيث تبادلوا الاتصالات فيما بينهم سراً، حتى توجهوا بعدد يزيد على الألفين، وحاصروا الخليفة لمدة أربعين يوما، وطالبوا بعزله. إلا أن عثمان رفض التفاوض معهم. وعند اشتداد الحصار عليه، قام باستشارة عبد الله بن عمر بالأمر (وكأن فكرة التنازل قد بدأت تراوح في ذهنه) فأشار عليه ابن عمر بالبقاء في الحكم قائلاً: (لا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام، كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه) (ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 3 ص 66).
وبعد ذلك اقتحم الثوار القصر وقتلوا الخليفة، وبقي جسده مسجى على الأرض لثلاثة أيام دون أن يدفن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق