الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى (عبورُ المسلمين ومصيرُ الفاتحي)7\4


هذه المقالة كتبتها فى شهر يناير الماضى (قبل الثورة) وأرسلتها للجريدة كى تُنشر، فلما جرت الوقائع التى نعرفها فى مصر، وبقية البلاد المحيطة، رأيتُ الأصوب أن أقطع سُباعية «الأفق الأندلسى» استجابةً لمجريات الأمور، وها نحن اليوم نستكمل الكلام السابق.. ولعله من المفيد، أن نذكر قبل هذه المقالة (التى لم أغير فيها حرفاً واحداً) بعض الإشارات لما أوردناه فى المقالات الثلاث السابقات، وهو ما نوجزه فى الآتى:
فى المقالة الأولى التى كان عنوانها (تمهيدات ضرورية) عرضتُ لهذا التشابه بين العرب والإسبان، ومعنى كلمة «الأندلس» وقلت ما نصه: كان الغزو (الفتح) العربى الإسلامى لأفريقيا، امتداداً لفتح (غزو) مصر. فبعدما استقرت الأمور المصرية بيد عمرو بن العاص، خرج من الإسكندرية غرباً، بجيش قليل العدد والعُدَّة، ليفتح المدن الخمس الغربية (ليبيا) فغزاها، لكنه لم يفتحها ويستقر فيها. وبعد خمس سنوات خرج أمير مصر «عبد الله بن أبى سَرْح» إلى إفريقية (تونس) فاتحاً، على رأس جيشٍ قوامه أربعون ألف محارب.. وهنا لا بد لنا من وقفة أمام دلالة هذا العدد، مقارنةً بعدد الجيش الذى خرج مع عمرو بن العاص لفتح مصر، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة (وقيل، بل أربعة آلاف) ويأتى السؤالُ: كيف يدخل المسلمون صحراء أفريقيا الخالية نسبياً، بالمقارنة مع مصر، بهذا الجيش الجرَّار. بينما كان الجيش الإسلامى الذى خرج إلى مصر غازياً لا يزيد عدده على عشرة بالمائة من مجموع الجيش الذاهب لغزو الصحراء الخالية. علماً بأن جند الروم، كانوا يتحصَّنون بقلاع مصر والإسكندرية، وكان عددهم، بحسب التقديرات المختلفة، يتراوح ما بين الأربعين ألفاً والمائة ألف مقاتل !
وفى المقالة الثانية (كان عنوانها: اختلاف التسمية، وتسمية المخالفين) أشرت إلى الارتباك الحادث بسبب التسميات المختلفة للأشخاص والمواضع، وأوضحت الفوارق المؤدية إلى اختلاف التسميات. وقلتُ فى هذا السياق، ما نصه: فى زمن الفتوح، كانت المنطقة المسماة اليوم (ليبيا) تسمى «المدن الخمس الغربية» أى الواقعة غرب الإسكندرية، التابعة لأُسقفها. وكان البلد المضطرب هذه الأيام (تونس) تُسمَّى عند العرب «إفريقية»، وما يقع غربها من الأرض الواسعة التى تُسمَّى اليوم (الجزائر) كان يُشار إليه باسم «المغرب». أما المملكة المغربية التى نعرفها اليوم، فكانت تسمَّى «المغرب الأقصى»، لأنها أقصى ما يقع إلى جهة المغرب، من ناحية (عاصمة) الخلافة الإسلامية آنذاك: دمشق. وقد ساد الاعتقادُ قديماً، بأن المغرب الأقصى، هو «أقصى» ما يمكن أن يصل إليه الناسُ، ولذلك فإن الفاتح المسلم (عُقبة بن نافع الفهرى) بعدما استكمل فتوح المغرب، حتى وصل إلى البحر المحيط دخل بحصانه إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلنطى) حتى بلغ الماء رقبة حصانه، وقال هناك: «اللهم إنى أُشهدك أنه لا مجاز (عبور) ولو وجدتُ مجازاً، لجزتُ».
وكانت شبه جزيرة «أيبيريا» المسماة اليوم (إسبانيا والبرتغال) وما يقع إلى الشمال منهما (فرنسا= بلاد غالة) تُسمَّى جميعاً: بلاد القوط، وبلاد الوندال. وكلتاهما (القوط، والوندال) من الجماعات التى نزحت من شمال أوروبا إلى جنوبها، واستقرت فيه. ويقال إنهما فى الأصل جماعة واحدة. وكان الرومان يسمُّون القوط والوندال (البرابرة)، بينما كان العربُ يسمون قبائل شمال أفريقيا (البربر).
وفى المقالة الثالثة، التى جاء عنوانها (حرب الكاهنة وثورات البربر) أشرت إلى القلاقل والاضطرابات التى جرت بين المسلمين الفاتحين وسكان الشمال الأفريقى، وبداية ظهور (القوط) على مسرح الأحداث، ومن ذلك أن حرب الكاهنة، التى كانت حلقةً من حلقات «ثورات البربر» على الحكم الإسلامى، قد وقعت فى المغرب الأقصى. فهناك اجتمعت قبيلة (جراوة) وقبائل أخرى من البربر، تحت قيادة امرأةٍ قيل إنها كانت تشتغل بالسحر والكهانة، هى: دهيا بنت ماتية بن تيفان. والمصادر البيزنطية (اللاتينية) تسميها «داميا» والمصادر العربية تلقِّبها بالكاهنة.. وبعض المصادر، من هنا ومن هناك، تشير إلى أن هذه المرأة الزعيمة، كانت تدين باليهودية! وهو الأمر الذى أشكُّ فيه كثيراً. لأن الديانة اليهودية، فى أصلها التوراتى وتطورها التلمودى، تنظر إلى المرأة نظرةً لا تسمح لها بالزعامة والقيادة، فضلاً عن «الكهانة» وعن رئاسة الجيوش.
كانت الكاهنة تحكم المنطقة المسماة (جبل أوراس)، فلما جاء حسَّان بن النعمان الغسَّانى بجيشه الجرَّار، خرجتْ إليه بجيشٍ أشدَّ استطاع أن يهزم جيش العرب المسلمين، ويضطره إلى الفرار شرقاً بعد موقعةٍ هائلة انتصرت فيها الكاهنة، وارتدَّ «حسَّان» إلى برقة، فسارت وراءه الكاهنة بجيشها وسيطرت فى طريقها على بلاد كثيرة، حتى صارت معظم نواحى تونس والجزائر تحت حكمها.. وظل الحال على ذلك لخمسة أعوام، حتى دَعَم الخليفة عبد الملك بن مروان جيشَ المسلمين بجماعات كبيرة من الجند، فتقهقرت الكاهنة غرباً وأحرقت فى طريقها المدن والنواحى، ليصعب على جيش المسلمين استكمال الطريق غرباً، فى تلك الصحراوات القاحلة. لكن المسلمين لم يتوقفوا عن ملاحقتها، حتى التقى الجمعان (الجيشان) عند جبل أوراس، فظهر المسلمون على الكاهنة، وقتلوها، وانتصروا على جموعها من قبائل البربر.. والظاهر أن نصر المسلمين لم يكن ساحقاً، لأنهم ارتضوا بأن يبقى ابن الكاهنة حاكماً على منطقة جبل أوراس، على أن يدين للمسلمين بالولاء والطاعة، ويمدَّهم باثنى عشر ألف مقاتل، لدعم جيشهم وتحقيق بقية الفتوحات، تعويضاً عَمَّا فقده المسلمون فى حروبهم الدامية بشمال أفريقيا.
والآن، لنكمل الكلام فى «الأفق الأندلسى» فنقول:
استخفَّ بعضُ البربر فى أقصى الأرض (بلاد المغرب) بالوالى الإسلامى الجديد «موسى بن نصير»، الذى تولَّى الأمر هناك سنة ٨٩ هجرية، فثاروا عليه وتجمَّعوا ضده. لكنهم فوجئوا به يضرب (بيدٍ حديديةٍ) جموعَ الثوار من قبائل هوَّارة وزناتة وكتامة وصنهاجة، ويعود بهم قَسْراً إلى حظيرة الطاعة. وحين اعتصمت فلول الثوار ببلدة «طنجة» المطلة على البحر، عصفتْ بهم قوات المسلمين، التى قادها ضابطٌ من البربر الذين صحَّ إسلامهم، هو اليد اليمنى للأمير موسى بن نصير «طارق بن زياد الليثى» الذى استعان بالبربر الموالين للمسلمين، وفَلَّ بالحديدِ الحديدَ، حتى اقتلع بذور الثورة من حوافِّ المغرب.
كما استخفَّ الرومُ بقدرة المسلمين البحرية، فعاثتْ سفنهم فساداً فى المدن الساحلية بشمال أفريقيا. لكنهم فوجئوا بموسى بن نصير، يبنى أسطولاً بحرياً بالقرب من قرطاجنة (قرطاج) ويبحر به غازياً الجزر القريبة التى ينطلق منها الروم، مثل جزر البليار (الجزائر الشرقية) وصقلية وسردينيا، بالإضافة إلى بعض المدن الساحلية الإسبانية. وبذلك بسط المسلمون سلطانهم فى البر والبحر، وصارت بأيديهم بلاد الشمال الأفريقى، كافة، ما عدا موضع واحد هو بلدة «سبتة» الحصينة، المستعصية على الاقتحام، التى كان يحكمها آنذاك: الكونت يوليان.
وعلى الشاطئ الأندلسى المقابل، كان القوطُ يحكمون البلاد كولاةٍ للروم، أو كامتداد للامبراطورية البيزنطية، التى ورثت دولة (الرومان) الشاسعة، وصارت المسيحية (الملكانية) ديانةً لها. وقبل عبور المسلمين إليها، كان الحال فى إسبانيا شبيهاً بحال مصر قبل وصول الإسلام ودخول البلاد تحت رايته. فمثلما كان «المقوقس» يضطهد المسيحيين اليعاقبة (المونوفيست)، كان الملوك الإسبان يضطهدون اليهود ويسومونهم أسوأ ألوان العذاب. ومثلما كان حكم (الروم) فى مصر متفسِّخاً، لا يدين بالولاء الحقيقى للإمبراطور هرقل، كان أمراء إسبانيا يتنازعون فيما بينهم، ويفشلون وتذهب ريحهم.
كانت النواحى الإسبانية تحت يد الملك «وتيزا»، ابن الملك «إجيكا». وكان الملك إجيكا قد بطش بوالد رودريك (اسمه: الكونت تيودوفرد) وسَمَل عينيه، أى قرَّب منهما قضيباً من الحديد المتَّقد، فجفَّ ماؤهما وأصيب الرجل بالعمى. وهى عقوبةٌ كانت معتادة فى أوروبا، فى ذاك الزمان البعيد. وقد انتقم رودريك بعد حينٍ لأبيه، من ابن إجيكا «وتيزا» وخلعه عن العرش. ويُقال إنه سَمَل عينيه، مثلما سَمَل أبوالملك المخلوع قديماً، عينَ أبى الملك الجديد.. وقد جرى ذلك، على خلاف القاعدة التى سيعرفها الناس هناك من بعد، من الآية القرآنية (ولا تزر وازرةٌ وِزْرَ أخرى).
تولَّى رودريك (الذى سوف يسمِّيه العرب: لزريق) الحكم فى إسبانيا، سنة ٩٢ هجرية (٧١١ ميلادية) ويقال بل تولاَّه من قبل ذلك بسنوات قليلة، لأن هذا التاريخ هو بإجماع المؤرِّخين: تاريخ عبور المسلمين إلى الأندلس.
عبر المسلمون البحر إلى الجهة المقابلة للمغرب (الأندلس) بدعوةٍ من الكونت يوليان الذى كان حانقاً، حسبما قيل، على ملك إسبانيا الجديد لسببين. الأول منهما أن الكونت يوليان أرسل ابنته الجميلة «فلورندا» إلى البلاط الملكى فى طليطلة، كى تتعلم فنون الإتيكيت ومراسم حياة القصور. وهو الأمر الذى كان معتاداً هناك آنذاك. غير أن الملك رودريك افتتن بجمال «فلورندا»، وطاش عقله بسبب سحر أنوثتها الطاغية، فاغتصبها. ولما علم أبوها بالأمر، استدعاها من هناك فجاءت ملفوفةً بأردية العار .. وأقسم أبوها على الانتقام .
والسبب الآخر لخلاف الكونت مع الملك، حسبما يقول المؤرِّخون، يرجع إلى أن الكونت يوليان كان يملك من القوة والمال والسفن الكثيرة، ما يؤهِّله لامتلاك الأراضى الإسبانية كلها.. وعندما انتصر الملك رودريك، فَرَّ من أمامه الأمراء الموالون للملك المخلوع، ولجأوا إلى «يوليان» للاحتماء به، كما لجأت إليه الأسرة الملكية المطرودة من البلاد. فاستقوى «يوليان» وأراد أن يحقِّق أمنيةً فى نفسه، بأن يصير ملكاً للقوط كلهم! غير أن قواه العسكرية لم تكن تكفى لتحقيق هذا الأمر، ومن هنا لجأ إلى موسى بن نصير وقائده العسكرى طارق بن زياد، طلباً لمعونتهم فى الأمر.. بعدما وعد بمكافأة.
إذن، كان عبور المسلمين إلى الشاطئ الأندلسى، فى بداية الأمر، هو مجرد (مغامرة عسكرية) تمت بدعوةٍ من القوط أنفسهم، فى إطار التنازع الواقع بينهم. وهو ما يذكرنا بما وقع بعد قرون، حين تنازع ملوك الطوائف المسلمون فيما بينهم، واستعانوا بأعدائهم، فكانت النتيجة هى خروجهم من الأندلس، مثلما دخلوها أول مرة.. يقول الفيلسوف الألمانى الشهير، هيجل: نتعلَّمُ من التاريخ، أن أحداً لم يتعلَّم من التاريخ .
كان الاتفاق «السِّرِّى» بين الكونت يوليان والأمير موسى بن نصير (وهو ما يذكرنا بالاتفاقية السرية بين المقوقس وأبى بكر الصديق) يقضى بأن يتنازل يوليان للمسلمين عن منطقة «سبتة» وقلعتها الحصينة، فتصير بأيديهم مدن المغرب وقلاعها كلها، فى مقابل أن يدعم المسلمون بجيشهم أطماع الكونت يوليان فى عرش إسبانيا (طليطلة تحديداً) وينالوا بعضاً من الغنائم.. ولم يكن بمستطاع موسى بن نصير، أن يُبرم اتفاقاً كهذا من دون استشارة الخليفة الأموى. فأشار الخليفة عليه (وكان آنذاك: الوليد بن عبدالملك بن مروان) بأن يختبر جدوى المسألة بعددٍ محدود من السَّرايا، ولا يغامر بالجيش كله فى أرض الإسبان التى لم يعرفها العربُ من قبل.. وهكذا ذهب سبعة آلاف جندى مسلم، على رأسهم «طارق بن زياد الليثى» لمعاونة الكونت يوليان فى حربه، وكان إبحارهم من شاطئ المغرب إلى ساحل إسبانيا المقابل، بالسفن التى يملكها الكونت يوليان، الذى كان يملك أسطولاً من السفن يتاجر به فى البحر المتوسط تجارة واسعة.. وتمَّ الأمر فى شهر رجب سنة ٩٢ هجرية (أبريل سنة ٧١١ ميلادية) ونزل المسلمون الأندلس لأول مرة، فى الربيع.. وبالطبع، لم يقم طارق بن زياد بإحراق السفن، حسبما يعتقد معاصرونا؛ لأنها (ببساطة) لم تكن ملكاً له أو للمسلمين.
كان طارق بن زياد جندياً صعب المراس، طويلاً أشقر، فى عينيه حَوَل، وبإحدى يديه شلل. وكان يندفع بجنده فى القتال، فيكون مثل «جلمود صَخْر حطَّه السيلُ من علٍ» وهو الأمر الذى جعل الجيشين (الإسلامى والقوطى) يتقدَّمان فى الجنوب الإسبانى، ويمضيان قُدُماً إلى طليطلة.. وكان الجيش الإسلامى بقيادة «طارق» هو الذى يتقدَّم دوماً.
وجمع رودريك (لزريق) جيشاً قوطياً ضخماً، يقترب عدده من المائة ألف، واتجه إلى الجنوب الإسبانى لقتال الغزاة المسلمين. واستمدَّ «طارق» جنداً إضافياً من «موسى بن نصير» فأمدَّه بخمسة آلاف، فكان مجموع جيش المسلمين اثنى عشر ألفاً، معهم قوات «يوليان» قليلة العدد والعُدَّة.. وفى شهر رمضان التقى الجمعان، قرب نهرٍ كبيرٍ عند وادى لكة (بكة)، وكان التفوق العددى لجيش رودريك، ولكن المسلمين كانوا أكثر تنظيماً وإقداماً وعنفاً فى القتال، خاصةً بعدما خطب فيهم «طارق بن زياد» خطبةً ناريةً تناقلها المؤرِّخون المتأخرون زمناً (ولا بد أنهم زادوها بلاغةً وتحسيناً لفظياً) وهى فيما أرى، سبب انتشار الخرافة الشهيرة القائلة بأن «طارق» أحرق السفن بعد عبوره للأندلس.. ولأن هذه الخطبة من النصوص (الفصوص) فسوف أُوردُ فيما يلى، فقراتٍ كاملةً منها:
«أيها الناسُ، أين المفر؟ البحرُ من خلفكم والعدو أمامكم، وليس لكم واللهِ إلا الصدق والصبرُ. واعلموا أنكم فى هذه الجزيرة (الأندلس) أضيعُ من الأيتام فى مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته، وأقواته موفورة. وأنتم لا وزر (مساعد) لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدى عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تُنجزوا لكم أمراً (تنتصروا) ذهبت ريحكم وتعوَّضت القلوب عن رعبها منكم، الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا الطاغية (لزريق)، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة (خرج من وراء الأسوار) وإن انتهاز الفرصة فيه لممكنٌ، إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإنى لم أحذركم أمراً، أنا عنه بنجوةٍ. ولا حملتكم على خطةٍ، إلا بدأتُ بنفسى. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقِّ، قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذِّ طويلاً.. وقد بلغكم ما بهذه الجزيرة من الحور الحسان، بنات اليونان، الرافلات فى الدرِّ والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات فى قصور الملوك ذوى التيجان.. أيها الناس، ما فعلتُ من شىءٍ فافعلوا مثله، إن حملتُ (تقدَّمتُ للقتال) فاحملوا، وإن وقفتُ فقفوا. ثم كونوا كهيئة رجلٍ واحدٍ فى القتال. وإنى عامدٌ إلى طاغيتهم بحيث لا أُنهيه حتى أخالطه أو أُقتل دونه، فإن قُتِلتُ فلا تهنوا ولا تحزنوا (الآية) ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (الآية) وتولُّوا الدُّبر لعدوكم، فتبدوا بين قتيل وأسير. وإياكم، إياكم أن ترضوا بالدنيَّة.. وها أنا حامل (مندفع) حتى أغشاه (يقصد لزريق) فاحملوا بحملتى».
وانتصر المسلمون، وقتلوا رودريك الملك (لزريق) وهزموا جيشه.
وقد ساد الرعب من جيش المسلمين فى أنحاء أيبيريا (إسبانيا، والبرتغال) واستكمل «طارق» حروبه فى الأنحاء، وعبر «موسى بن نصير» بجيش آخر، فسار إلى مدن أخرى غير تلك التى افتتحها «طارق» حتى إذا التقى الجيشان المسلمان أخيراً، كان معظم أنحاء (الأندلس) قد صارت بين المسلمين.. وتوارى «يوليان» عن الأنظار، رويداً، وصار الأمر كله بيد المسلمين. وفكَّر «موسى بن نصير» فى استكمال الفتوح شمالاً وشرقاً، بغزو فرنسا (بلاد غالة) وإيطاليا. لكن الخليفة رفض هذا المقترح، واستدعى «موسى» إلى دمشق وأمره أن يأتى معه بطارق بن زياد.. وهنا، لا بد لنا أن نتوقف قليلاً لنرى «مصير الفاتحين» ونتبصَّر فى هذا الأمر ونتأمَّله.
نسيتُ أن أقصَّ عليكم، قبل قليل، ما رواه معظم المؤرِّخين القدماء والمحدثين عن لحظة اللقاء الأول بين موسى بن نصير وطارق بن زياد، بعدما تمت الفتوحات الإسلامية الأولى فى أرض الأندلس.. يقول المؤرِّخون: «وقصد موسى طليطلة، فالتقى بطارق على مقربةٍ منها، وكان قد سار إلى استقباله (والترحيب به) فأنَّبه موسى وبالغ فى إهانته (لأنه كان قد تأخر فى فتح بلدة اسمها: ماردة) وزجَّه مصفَّداً إلى ظلام السجن بتهمة الخروج والعصيان، وقيل بل هَمَّ أيضاً بقتله، لكنه ما لبث أن عفا عنه، وردَّه إلى منصبه، وزحَفَا معاً نحو الشمال الشرقى حتى نفذ (موسى) إلى مملكة الفرنج، ووصل إلى مدينة ليون (الفرنسية)».
ويذكرنى ما جرى لطارق بن زياد (الفاتح) بما جرى مع خالد بن الوليد (الفاتح) الذى كوفئ على فتحه العراق والشام، بالعزل من قيادة الجيش.. وعمرو بن العاص الذى فتح مصر والإسكندرية (أول مرة) فكان جزاؤه العزل! وحين عاد الروم للإسكندرية، أعيد عمرو إلى قيادة الجيش وفتحَها مرة أخرى، فكان جزاؤه مرةً أخرى: العزل.. وعبد الله بن أبى سَرْح الذى انتصر على الروم فى «ذات الصوارى» وغزا «تونس» لأول مرة، وغنم منها، كان جزاؤه بعد مقتل الخليفة عثمان: العزل. ومات معزولاً فى قريةٍ بنواحى فلسطين، وبجواره زوجته، الصغيرة سناً، بُسيسة بنت حمزة بن ليشرح (التى قد تكون هى الفتاة التى ذكرتها فى رواية: النبطى، وقد لا تكون) التى ظلت تنتظر موته حتى تعود إلى مصر وتتزوَّج حبيبها الأول، وهو ما تم بالفعل عقب وفاة عبد الله بن أبى سرح.
والقواد الذين افتتحوا إفريقية، من أمثال «عقبة بن نافع» قُتلوا فى الحروب (الفتوح) بعدما قدموا كلَّ ما يمكنهم تقديمه من بطولات، كان خيرها يصبُّ فى بلاط الخليفة الأموى. وكان مقتل الفاتح «عبدالله بن الزبير» على يد الخليفة نفسه!
كان الخليفة الأموى هو الذى رفض اقتراح «موسى بن نصير» باستكمال الفتوح إلى إيطاليا، لإنهاء الإمبراطورية المسيحية البيزنطية إلى الأبد، وهو الأمر الذى كان ممكناً ومضمون النجاح لو كان الخليفة قد سَيَّر جيشاً آخر من الشام لإحكام الحصار على بيزنطة وروما وسائر الأقطار الأوروبية المطلة على البحر المتوسط (ولكن الخليفة كان له رأى آخر، غير نشر الإسلام!).
فماذا كان مصير «موسى» الفاتح المغوار، عند الخليفة؟ يقول المؤرِّخون: «استدعى الخليفةُ (موسى بن نصير) إلى دمشق (مقر الخلافة) فذهب إليه ومعه من الغنائم ثلاثون ألف أسير، بينهم أربعمائة أمير قوطى على رؤوسهم التيجان، وثلاثون ألف عذراء من بنات ملوك القوط وأعيانهم، وعدد غفير من العبيد والغلمان والمجوهرات».. وكان موسى بن نصير قد جعل ولده (عبدالعزيز) حاكماً على الأندلس، حتى يعود إليها. لكنه لم يعد، ولم يظل ابنه حياً! فقد أرسل الخليفة جماعةً إلى (عبدالعزيز بن موسى بن نصير) فقتلوه فى قصره، وحزُّوا رأسه وجاءوا به إلى الخليفة، فدفعه فى المجلس إلى أبيه موسى (الفاتح) وجرَّده من مناصبه وأمواله، وبالغ فى إيذائه وإذلاله.. ومات موسى بن نصير فى قرية نائية بالحجاز، بعدما قضى أواخر حياته شحاذاً، يدور على الخيام ليسأل الناس (يشحت) الطعام.
يا ألله على التاريخ (الحقيقى) وعلى واقعنا المعاصر .

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى (حربُ الكاهنة وثورات البربر) 7\3


لا يمكن الكلام عن دخول المسلمين إلى الأندلس، بمعزلٍ عن «السياق التاريخى» والأحداث الكبرى التى جرت على «الساحة الدولية» فى ذاك الزمان.. وقد أشرنا فى المقالتين السابقتين إلى أن فتوح الشمال الأفريقى، والأندلس من بعد، بدأت بغزوتين للأراضى الليبية والتونسية، قام بهما تباعاً عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى سرح. وفى الغزوتين، كان القتال يدور بين العرب والروم، العرب المسلمين والروم المسيحيين (الملكانيين) ولم تكن «القبائل» المنتشرة فى شمال أفريقيا، قد دخلت بعدُ فى المواجهات العسكرية النظامية.
وكان من المفترض أن تنشط حركة (الفتوح) بعد سنة ٣٤ هجرية، لأنها السنة التى انتصر فيها المسلمون على الروم فى الموقعة البحرية، المسماة من كثرة صوارى السفن المشاركة فى القتال: ذات الصَّوارى. غير أن اندلاع الخلاف على خلافة المسلمين بين الإمام علىِّ بن أبى طالب (رجل الدين) ومعاوية بن أبى سفيان (رجل الدولة) سنة ٣٥ هجرية، أدى إلى توقفٍ تام لحركة الفتوح شرقاً وغرباً، بل أدى إلى ضياع بعض البلاد من يد المسلمين، ومنها (تونس) التى كانوا يسمونها: إفريقية.
                                      ■ ■ ■
وبعد خمس سنوات من مقتل الإمام علىٍّ (سنة ٤٠ هجرية) غدراً على يد «الخوارج» وفشلهم فى اغتيال معاوية بن أبى سفيان الذى صار آنذاك (خليفة) للمسلمين، أو بالأحرى (ملكاً) يتوارث بنوه الحكم من بعده.. عادت مع سنة ٤٥ هجرية حركةُ الفتوح إلى سابق عهدها، فقام «معاوية بن خديج» بغزو ليبيا وتونس، واستطاع أن يهزم جيش الروم هناك. وقام «عبدالله بن الزبير بن العوام» بفتح (سوسة) وما حولها، وصار على المسلمين فتح بقية الشمال الأفريقى، بحرب الروم والبربر معاً.. وبالمناسبة، فإن اسم (البربر) لا يرتبط من قريب أو بعيد، بوصف (البرابرة)، الذى أطلقه الرومان ومن بعدهم الروم (البيزنطيون) على القبائل العنيفة التى كانت تسكن شمال وغرب أوروبا. فالبربر اسم لقبائل سكنت الشمال الأفريقى الممتد من ليبيا إلى المغرب، من قبل مجىء الإسلام بقرون.. وبعض المؤرخين يذهب إلى أنهم فى الأصل، قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية، أو هجرتها بسبب الكلأ الشحيح، وحطت بها يد الترحال فى تلك النواحى النائية. ولكن هذا الرأى، فيما أرى، يفتقر إلى الدلائل المؤكدة.
المهم، أن المسلمين استكملوا فتوحاتهم غرباً، وهو الأمر الذى قام به «عقبة بن نافع» الذى وصل إلى أقصى المغرب الأقصى (المملكة المغربية حالياً) وأوقفه المحيط الأطلنطى عن التقدم غرباً.
وكان البربر قد بدأوا الدخول فى دين الله أفواجاً، غير أن زعيماً منهم اسمه «كُسَيْلَة بن لمزم» ارتدَّ عن الدين الجديد، وجمع جيشاً حارب به المسلمين، وانتصر عليهم سنة ٦٢ هجرية، وانتزع من أيديهم (القيروان) وقتل عقبة بن نافع. غير أن الجيش الإسلامى بقيادة «زهير بن قيس» عاد للكرِّ على البربر، وهزمهم سنة ٦٩ هجرية، واستردَّ القيروان وقتل كُسَيْلَة بن لمزم.. ولكن حروباً أخرى كانت تنتظر المسلمين، أهمها حربُ قرطاجنة وحربُ الكاهنة.
                                      ■ ■ ■
استغل الإمبراطور البيزنطى توغُّل المسلمين غرباً، ودَعَمَ عاملَه الرومىّ (حاكم قرطاجنة) بأسطولٍ كبيرٍ من جزيرة صقلية، فاجتاح الجيشُ الرومى منطقة «برقة» وقطع الطريق بين عاصمة الخلافة الإسلامية (دمشق) وجيش المسلمين الذى كان قد توغَّل غرباً.. واضطر القائد المسلم «زهير» للعودة شرقاً للدفاع عن «برقة»، لكنه انهزم على يد الروم، وقُتِل (استشهد!) ومعه معظم القوَّاد والجند. وبذلك، فقد المسلمون الشمال الأفريقى، والجيش الذى كان قبل سنوات يمضى قُدُماً إلى جهة المغرب.. وعن هذه الهزيمة (النكسة) يقول د. عبدالله عنان فى موسوعته (دولة الإسلام فى الأندلس) ما معناه:
«كان وقع هذا الخطب شديداً فى حكومة دمشق (الخلافة الأموية) وكانت مشغولة آنذاك بمحاربة ابن الزبير وصَحْبه الخوارج عليها (الثائرين)، فمضت أعوامٌ أخرى قبل أن تتمكَّن من العناية بشؤون إفريقية (تونس)، فلمَّا انتهت الثورة وقُتِل ابن الزبير، وجَّه عبدالملك بن مروان عنايته إلى استعادة إفريقية، فولَّى عليها حسَّان بن النعمان الغسانى سنة ٧٣ هجرية (٦٩٢ميلادية) وسيَّره إليها بجيشٍ ضخمٍ كان أعظم قوة (عسكرية) سيَّرتها الخلافة الأموية إلى إفريقية، فاخترق حَسَّان «برقة» وقصد قرطاجنَّة عاصمة إفريقية الرومانية، التى كانت لا تزال فى يد الروم، ولم يغزُها المسلمون لحصانتها واتصالها بالبحر وقُربها من صقلية، حيث كانت تُرسل إليها الإمدادات البيزنطية، بسرعة.
وحاصر «حَسَّان» قرطاجنة (قرطاج) حصاراً محكماً، ثم اقتحمها واستولى عليها، ولكن إمبراطور الروم (البيزنطيين) سيَّر إليها جيشاً بقيادة حاكمها «يوحنا» يعاونه أسطول من صقلية، وقوة من القوط أرسلها ملك إسبانيا القوطىُّ الذى أزعجه اقتراب العرب من بلاده. فانسحب العربُ وارتدوا إلى القيروان، حتى إذا جاءتهم الإمدادات أعادوا الكرَّة على قرطاجنة، وهزموا الروم والقوط هزيمةً شديدة ففرَّوا إلى سفنهم، وخُرِّبت قرطاجنة وهُدِّمت حصونها القوية، ثم سار «حَسَّان» غرباً وهزم الروم والبربر فى عدة مواضع، واستعاد الإسلام سلطانه بين برقة والمحيط (= ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب)».
وقد نقلتُ الفقرة السابقة، على طولها، من هذا المصدر المعتمد، لأنها تشير بوضوح إلى ثلاث نقاطٍ مهمة تتعلق بالفتوح الإسلامية، وفَهْمنا لها نحنُ المعاصرين.. النقطة الأولى، أن فتح المسلمين لقرطاجنة (قرطاج) احتاج «أضخم جيش إسلامى دخل أفريقيا» ومعروف أن مدينة الإسكندرية (عاصمة مصر، مدينة الله العظمى) كانت أهم وأكبر وأمنع من قرطاجنة، فكيف استطاع عمرو بن العاص فتحها قبل ذلك بعقودٍ قليلة من الزمان، إذا كان جيشه قليلاً فى العدد والعُدة؟ إذن، فإن صورة فتح الإسكندرية (مرتين) فى أذهاننا، غير كاملة وغير سليمة. فالجيش الذى «حاصرها» به عمرو بن العاص، لم يكن بهذا العدد القليل الذى نظنه، لأنه ضمَّ معه عشرات الآلاف من العرب الذين كانوا يسكنون مصر من قبل الإسلام. وعمليةُ الفتح ذاتها (فى المرتين) تشوبها ظلالٌ قوية نتجت عن العلاقة «الخفية» بين المقوقس والمسلمين، حسبما عرضنا فى السباعية الماضية، وهو ما يفسِّر وَصْفى لفتح مصر بأنه كان، بحسب التعبير المعاصر: «تسليم مفتاح». ويفسِّر فى الوقت ذاته، العدد الضئيل جداً الذى خسره المسلمون فى حرب الإسكندرية (اثنان وعشرون رجلاً) قد يكون بعضهم قد مات أثناء «الحصار» بسبب البرد ونزلات الأنفلونزا! فى زمنٍ لم تكن فيه المضادات الحيوية التى نستعملها اليوم، قد اكتُشفت بعد.
والنقطة الثانية، هى ظهور «القوط» لأول مرة فى حرب المسلمين والروم، وقد ظهروا كحلفاء للروم ومعاونين لهم، لاعتقادهم بأنهم ما عادوا بمنأى عن الأخطار (الإسلامية) التى تجتاح الأقطار الأفريقية الشمالية، ولا بد لها فى نهاية الأمر من تهديد سلطانهم بإسبانيا.. وهو الأمر الذى وقع بالفعل بعد سنوات قليلة، كما سنرى بعد قليل.
والنقطة الثالثة الأخيرة، هى أن المسلمين خَرَّبوا أسوار قرطاجنة. ونحن نعرف أن عمرو بن العاص، كان من قبلها بعقود قد خرَّب أسوار الإسكندرية.. ومن المفترض (نظرياً) أن هذه الحصون تحمى الجيوش، والغالبُ المنتصرُ إذا كان هدفه عسكرياً مجرداً، فمن مصلحته أن يحتفظ بهذه الأسوار ليتحصَّن فيها.. لكن المسلمين كانوا يأتون إلى البلاد، ليمكثوا! لا ليجنوا خيراتها باعتبارها «مغانم» تحرسها الجيوش التى تحرسها الحصون والقلاع.. فتأمل.
                                      ■ ■ ■
أما حرب «الكاهنة» التى كانت حلقةً من حلقات «ثورات البربر» على الحكم الإسلامى، فقد وقعت فى المغرب الأقصى. فهناك اجتمعت قبيلة (جراوة) وقبائل أخرى من البربر، تحت قيادة امرأةٍ قيل إنها كانت تشتغل بالسحر والكهانة، هى: دهيا بنت ماتية بن تيفان. والمصادر البيزنطية (اللاتينية) تسميها «داميا» والمصادر العربية تلقِّبها بالكاهنة.. وبعض المصادر، من هنا ومن هناك، تشير إلى أن هذه المرأة الزعيمة، كانت تدين باليهودية! وهو الأمر الذى أشكُّ فيه كثيراً، لأن الديانة اليهودية، فى أصلها التوراتى وتطورها التلمودى؛ تنظر إلى المرأة نظرةً لا تسمح لها بالزعامة والقيادة، فضلاً عن «الكهانة» وعن رئاسة الجيوش.
كانت الكاهنة تحكم المنطقة المسماة (جبل أوراس) فلما جاء حسَّان بن النعمان الغسَّانى بجيشه الجرَّار، خرجت إليه بجيش أشدَّ استطاع أن يهزم جيش العرب المسلمين، ويضطره إلى الفرار شرقاً بعد موقعةٍ هائلة انتصرت فيها الكاهنة وارتد «حسَّان» إلى برقة، فسارت وراءه الكاهنة بجيشها وسيطرت فى طريقها على بلاد كثيرة، حتى صارت معظم نواحى تونس والجزائر تحت حكمها.. وظل الحال على ذلك لخمسة أعوام، حتى دَعَم الخليفة عبدالملك بن مروان جيشَ المسلمين بجماعات كبيرة من الجند، فتقهقرت الكاهنة غرباً وأحرقت فى طريقها المدن والنواحى، ليصعب على جيش المسلمين استكمال الطريق غرباً، فى تلك الصحراوات القاحلة.
لكن المسلمين لم يتوقفوا عن ملاحقتها، حتى التقى الجمعان (الجيشان) عند جبل أوراس، فظهر المسلمون على الكاهنة، وقتلوها، وانتصروا على جموعها من قبائل البربر.. والظاهر أن نصر المسلمين لم يكن ساحقاً، لأنهم ارتضوا بأن يبقى ابن الكاهنة حاكماً على منطقة جبل أوراس، على أن يدين للمسلمين بالولاء والطاعة، ويمدَّهم باثنى عشر ألف مقاتل، لدعم جيشهم وتحقيق بقية الفتوحات، تعويضاً عَمَّا فقده المسلمون فى حروبهم الدامية بشمال أفريقيا.. أتذكَّر الآن محمود درويش، حين يقول:
ألوفٌ من الجند ماتت هناك
دفاعاً عن القائدين اللذين يقولانِ:
هيَّا
وينتظرانِ الغنائم فى خيمتين حريريتين
من الجانبين
.. يموت الجنودُ مراراً،
ولا يعلمون إلى الآن
مَنْ كان منتصراً.
                                      ■ ■ ■
وراحت النواحى المغاربية تدلف تباعاً فى دائرة الدولة الإسلامية، ويصير البربر رويداً من المسلمين. وإن كانوا قد ظلوا يرون فى أنفسهم شرفاً ومكانةً، ليست للعرب! وبالمناسبة، فهم لايزالون إلى اليوم فى دول الشمال الأفريقى، يستعلون بأصولهم على العرب (الحاكمين)، باعتبار أن قبائل «البربر» فى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، هم أصحاب البلاد الأصليون.. وهم لا يقبلون فكرة أن البلاد لمن يسكنها ويتوالد فيها جيلاً من بعد جيل، وأن «النقاء العِرْقى» محض خرافة اجتماعية يكذِّبها التاريخُ الطويل، وتدحضها ملامحُ الناس المتشابهة فى كل قُطر.
                                      ■ ■ ■
وفى الوقت الذى كانت فيه البلاد المغاربية (الشمال الأفريقى) تدخل فى نطاق دولة العرب المسلمين، كانت البلاد المشرقية (فارس وأواسط آسيا) تدخل فى النطاق ذاته.. وفى قلب دولة الإسلام، كانت هناك مشكلات كثيرة، وقلاقل، وحكايات. وكان هناك رجلٌ من التابعين (الجيل الثانى بعد الصحابة) اسمه «موسى بن نصير» يقال إن مولده كان سنة ١٩ هجرية، وإن أصله من قبيلة «بكر بن وائل» الذين غلبهم خالد بن الوليد وأخذ منهم أسرى، كان منهم والده «نصير» الذى صار من موالى قبيلة «لخم»، وصار لاحقاً واحداً من حرس معاوية بن أبى سفيان. وقد نشأ ابنه «موسى» فى بلاط الأمويين، وخدمهم فى عدة وظائف عسكرية ومدنية حتى لاحقته فى الشام اتهاماتٌ باختلاس أموال، فكاد «الحجَّاج بن يوسف الثقفى» يفتك به، لولا تدخُّل «عبدالعزيز بن مروان» أمير مصر الأُموىّ، الذى أنقذه من بطش الحجَّاج وجعله حاكماً على المغرب، فثار عليه البربر من جديد، لكنه غلبهم بعدما اتخذ منهم هناك معاوناً عسكرياً هو طارق بن زياد الليثى.. الذى عبر بالجيش الإسلامى إلى الأندلس، حسبما سنذكر فى مقالتنا القادمة.

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى (اختلافُ التسمية وتسمية المخالفين) 7\2


عندما علَّم اللهُ آدم (الأسماءَ كلَّها)، حسبما جاء فى القرآن الكريم، من دون توضيح طبيعة «اللغة» التى جاء منها هذه الأسماء. فقد كان ذلك (حسبما أعتقدُ) نوعاً من الانتقال بالأشياء «المعلومة» من حالة الوجود العام، أو انعدام الوعى بها، إلى حالة الإدراك الإنسانى للشىء المسمَّى، وحضوره فى الوعى الإنسانى. فالاسم فى واقع الأمر، هو شهادة وجود الشىء فى وعينا وإدراكنا الإنسانى، وغير المسمَّى هو حالة وسطى بين العدم الكلى للشىء والإدراك الأول له.. لعل هذا الكلام فلسفىٌّ، لا يناسب (حسبما يعتقد البعض) المقالات المنشورة فى الصحف! فلنقدم أمثلةً عليه، كى نقترب به إلى الأفهام:
نعرف جميعاً، أن فى السماء أجساماً سابحةً فى الكون اللانهائى، منها ما ندركه ونعطيه اسماً «القمر ، الشمس، عطارد.. إلخ» فيصير (موجوداً) فى أذهاننا، ومنها ما لا ندركه فلا نعطيه اسماً محدَّداً، فيصير كأنه غير موجود، أو هو فى مرتبةٍ وسطى بين الوجود والعدم. ولذلك، فإن فى سيناء (مثلاً) جبالاً كثيرة، لكننا خصَّصنا جبلاً منها باسم (جبل موسى) وجبلاً آخر باسم (جبل الربَّة) وهكذا، وما لم نعطه اسماً فهو مجرد جبل، ليس له «مستند وجود» فى وعينا، حتى نعرفه ونميِّزه باسمٍ من الأسماء، فنخرجه بذلك من التأرجح بين حالتىْ الوجود والعدم الذهنى .
واختلافُ أسماء وصفات المواضع عينها، والجماعات ذاتها، من المشكلات «المشوِّشات» للإدراك، وهى مشكلاتٌ من شأنها أن تُحدث ارتباكاً فى الوعى، سواءٌ بالنسبة للناظر فى التاريخ أو للمتأمل فى الواقع، فالكثير منا على سبيل المثال، لا يعرفون أن «بيزنطة» التى تُنسب إليها مرحلة مهمة من التاريخ (العصر البيزنطى) هى ذاتها مدينة «إستانبول» الحالية، وهى أيضاً «الآستانة» و«القسطنطينية وإسلام بول» و«إسطنبول».. والبلدة المصرية التى وقعت عندها أولى المواجهات العسكرية بين جيش عمرو بن العاص القادم لفتح مصر، والجيش البيزنطى (جيش الروم) لها ثلاثة أسماء! فالروم يسمُّونها باسمها اليونانى «بيلوز»، والعرب الفاتحون يسمُّونها «الفرما» بينما سكان مصر يعرفونها باسم: البَرَمون، ونهرنا المسمَّى فى التوراة «نهر مصر الكبير» اسمه عند العرب «النيل» وهى تسميةٌ مشتقةٌ من اسمه اليونانى «نيلوس»، بينما كان سكان مصر القدماء لا يعرفون له إلا اسم: يارو.
وفى الحالات السابقة، ومثيلاتها، يأتى اختلافُ التسميات بسبب اختلاف اللغات المتجاورة والمتفاعلة، وبسبب اشتقاق الأسماء عبر اللغات. وهو الأمر الذى تحدث معه أسماءٌ مخايلة، غير دقيقة، مثلما هو الحال حين نسمِّى المنطقة الأثرية الواقعة جنوب الأردن (البتراء) وهى كلمة عربية تبدو فصيحة، لكنها فى واقع الأمر تعريبٌ للكلمة اليونانية (بترا)، التى تعنى «الصخر» وهو أنسب الأسماء لهذه المنطقة الصخرية التى حفر فيها الأنباط بطون الجبال، وجعلوها عاصمةً لهم منذ القرن الأول الميلادى، أما اسمها العربى الفصيح، فهو «سَلْع» وهى تسميةٌ أصيلة لكنها غير مشهورة، والبعض من العرب يسمِّيها «الحجَر» ويُقال إنها الموضع المشار إليه فى القرآن الكريم باسم: الكهف والرَّقيم.
ومن أسباب اختلاف التسميات، الأسماء الواصفة التى يُطلقها المخالفون على بعضهم البعض. كأن يُسمِّى المسلمون ما سبقهم زمناً «الجاهلية» ويسمُّون أهل قريش «الكُفَّار»، بينما كانت قريش تطلق على النبى صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه، تسميات ليس من اللائق أن نذكرها هنا.. وبالمثل، كان المسيحيون الذين يرون أنهم أصحاب (الإيمان القويم) يسمون مخالفيهم «هراطقة»، وكان اليهود يسمون غيرهم «الأمم» بينما يجعلون لأنفسهم أسماء وصفات من نوع «أبناء الله»، وهو الاسم الواصف الذى أطلقه المسيحيون، أيضاً، على أنفسهم «أبناء الربّ» ورَدَّ القرآن الكريم على كليهما بقوله تعالى (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُلْ فلِمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خَلَق).
وفى حالات كثيرة، يتشارك اسمان أو أكثر للشىء الواحد. مثلما هو الحال، مثلاً، فى قولنا «المغول» و«التتار» على الجماعة نفسها، أو نقول «الفاطميون» و«العبيديون» على الدولة ذاتها، أو نسمِّى الموضع المشهور الآن بالقاهرة «حصن بابليون» وهو الموضع الذى كان المصريون قبل الفتح يسمونه «القصر»، وكان العرب الفاتحون يسمونه: باب إليون.
وتظهر هذه المشكلة «المشوِّشة» بوضوح، فيما يتعلق بفتوح شمال أفريقيا، والأندلس من بعد.. حسبما سيظهر لنا فى بقية هذه المقالة.
فى زمن الفتوح، كانت المنطقة المسماة اليوم (ليبيا) تسمى «المدن الخمس الغربية» أى الواقعة غرب الإسكندرية، التابعة لأُسقفها. وكانت البلد المضطربة هذه الأيام (تونس) تُسمَّى عند العرب «أفريقية»، وما يقع غربها من الأرض الواسعة التى تُسمَّى اليوم (الجزائر) كان يُشار إليه باسم «المغرب». أما المملكة المغربية، التى نعرفها اليوم، فكانت تسمَّى «المغرب الأقصى» لأنها أقصى ما يقع إلى جهة المغرب، من ناحية (عاصمة) الخلافة الإسلامية آنذاك: دمشق، وقد ساد الاعتقادُ قديماً، بأن المغرب الأقصى، هو «أقصى» ما يمكن أن يصل إليه الناسُ، ولذلك فإن الفاتح المسلم (عُقبة بن نافع الفهرى) بعدما استكمل فتوح المغرب، حتى وصل إلى البحر المحيط دخل بحصانه إلى بحر الظلمات (= المحيط الأطلنطى) حتى بلغ الماء رقبة حصانه، وقال هناك: «اللهم إنى أُشهدك أنه لا مجاز (عبور) ولو وجدتُ مجازاً، لجزتُ».
وكانت النواحى المغاربية الشاسعة، الممتدة من ليبيا إلى تونس إلى الجزائر إلى المغرب، مسكناً لمجموعة من القبائل الكبرى التى من أشهرها: زَنَاتة، هَوَّارة، كُتَامة، غمارة، جَرَاوة، صِنْهاجة.. وهى القبائل التى سيدخل أفرادها الإسلام، بعد حين، ويكون لهم دورٌ كبيرٌ فى تاريخ الإسلام بأفريقيا، وتاريخ الفاطميين بمصر.
وكانت شبه جزيرة «أيبيريا» المسماة اليوم (إسبانيا، البرتغال) وما يقع إلى الشمال منهما (فرنسا= بلاد غالة) تُسمَّى جميعاً: بلاد القوط، وبلاد الوندال. وكلتاهما (القوط، الوندال) من الجماعات التى نزحت من شمال أوروبا إلى جنوبها، واستقرت فيه، ويقال إنهما فى الأصل جماعة واحدة، وكان الرومان يسمُّون القوط والوندال (البرابرة) بينما كان العربُ يسمون قبائل شمال أفريقيا (البربر).
وقد استقرَّ «البرابرةُ» فى القرون الميلادية الأولى بإسبانيا، واستطاعوا بمعاونة «البربر» أن يدكُّوا حصون المدينة العظمى (روما) فى بداية القرن الخامس الميلادى، واقتحموها، ثم عادوا إلى بلادهم أعزاء، مرهوبى الجانب، مسيحيى الديانة على المذهب الآريوسى (كان آريوس قد نُفى إلى إسبانيا، وطاب له المقام هناك بأحد أديرتها) وهو الأمر الذى سيقرِّب لاحقاً بينهم وبين المسلمين، لأن العقائد الآريوسية قريبة «لاهوتياً» من المعتقدات الإسلامية.
ولما ورثت بيزنظة (القسطنطينية، إستانبول) الحكم من «روما» وصار الرومان يُسَمَّوْنَ الروم (كان الرومان وثنيين، وصار الروم مسيحيين) فرضتْ بيزنطة سلطانها على بلاد غالة (فرنسا) وعلى بلاد الوندال (إسبانيا) وعلى شمال أفريقيا (بلاد المغرب) وبقى الحالُ هناك مستقراً، إلى حين، حتى ضعف سلطان بيزنطة وتراخت قبضتها على الأطراف البعيدة، فصارت النواحى الإسبانية والبرتغالية بيدِ أمراء وملوك الوندال، الذين سيطروا أيضاً على نواحى الجزائر والمغرب، وعاشوا فيها (حسبما يقول المؤرِّخون) فساداً وظلماً وقهراً لسكانها.
والمتأمل فى وقائع التاريخ، فى ذاك الزمان، يلاحظ أن انتشار المسيحية واستقرارها، كان نكبة على اليهود. فالمسيحيون ينظرون إلى اليهودية باعتبارها مقدمةً لديانتهم أو (عهد قديم) لم يعد لها بعد ظهور بشارة المسيح (العهد الجديد) مبرر للوجود. فضلاً عن الاعتقاد المسيحى الجازم، بأن اليهود هم الذين سلَّموا السيد المسيح للرومان، ليصلبوه، وبالتالى فهم أسوأ الخلق أجمعين
ومن الناحية الأخرى، يرى اليهود أن المسيحيين ليسوا على شىء، ويعيشون على الخرافات! لأن المسيح (الماشيح) المنتظر لايزال منتظراً، ولم يأتِ بعدُ إلى هذا العالم ليجعل اليهود ملوكاً على الناس (من ألقاب المسيح: ملك اليهود).. وبالتالى، توترت العلاقة دوماً بين أولئك وهؤلاء، وكان الحالُ يجرى دوماً على المنوال ذاته: إذا قويتْ الدولة المسيحية، عانى اليهود من الاضطهاد، وهو الأمر الذى بلغ غايته قبيل انتشار الإسلام، إذ أصدر الإمبراطور البيزنطى «هرقل» فى حدود سنة ٦٣٠ ميلادية، مرسوماً إمبراطورياً يقضى بإجبار اليهود على اعتناق المسيحية، وإلا صارت دماؤهم مباحة لمن يريد قتلهم.. وقد قُتل من اليهود آنذاك عشرات الآلاف، وفرَّ الباقون من عاصمة الديانة اليهودية (أورشليم)، التى صار اسمها فى القرون الستة الأولى للميلاد (إيليا) وأصبحت عاصمةً روحية للمسيحيين، قبل أن يصير اسمها (القدس، بيت المقدس) وتصبح عند المسلمين مدينة مقدسة: أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين. وهو الأمر الذى يذكِّرنى، ثانيةً، بالشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش، حين قال فى قصيدة أخيرة له:
ومصادفةً ، صارتِ الأرضُ
أرضاً مقدسةً
ليس لأنها نسخةٌ من فراديسَ عُلوية
بل، لأن نبياً تمشَّى هناك
وصلَّى على صخرةٍ
فهَوَى التلُّ من خشية الله
مغمىً عليه.
وكان كثيرٌ من اليهود قد فرُّوا من العذاب والقتل والقهر الدينى، إلى أبعد المواضع من قلب الدولة المسيحية (قبل انتشار الإسلام) فسكنوا من جهة «أواسط آسيا»، ومن الجهة المقابلة «أقاصى المغرب» والأندلس.. لكنهم لم يسلموا مع ذلك من الاكتواء بالويلات التى يثيرها التعصب الدينى، ففى عصر الملك الإسبانى «سيزبوت» جرى ما يقصُّه علينا العلامة د. محمد عبدالله عنان، بعبارة مؤثرة، حين يقول فى الفصل الثانى من الجزء الأول من موسوعته (دولة الإسلام فى الأندلس) ما نصُّه:
«كان يهود الجزيرة (إسبانيا) كتلة كبيرة، لكنهم كانوا موضع البغض والتعصُّب والتحامل، يعانون أشنع ألوان الجور والاضطهاد، وكانت الكنيسة منذ اشتدَّ ساعدها، تحاول تنصير اليهود وتتوسَّل إلى تحقيق غايتها بالعنف والمطاردة، وفى عصر الملك سيزبوت فُرِض التنصير على اليهود أو النفى والمصادرة، فاعتنق النصرانيةَ كثيرٌ منهم كَرْهاً ورياءً سنة ٦١٦ ميلادية، ثم توالت عليهم مع ذلك صنوف الاضطهاد والمحن، فركنوا إلى التآمر وتدبير الثورة، وتفاهموا مع إخوانهم يهود المغرب على المؤازرة والتعاون.
ولكن المؤامرة اكتشفت قبل نضجها فى عهد الملك إجيكا (سنة ٦٩٤ ميلادية)، فقرر معاقبة اليهود باعتبارهم خوارج على الدولة، ومرتدين عن النصرانية. فنـزع أملاكهم فى سائر الولايات الإسبانية، وضمَّها إلى ممتلكاته، وشرَّدهم وجعلهم عبيداً للنصارى إلى الأبد، لا يسمح لهم باسترداد حريتهم، وأَمَرَ بتحرير عبيدهم من النصارى، ونَزَعَ أبناءهم منذ السابعة لتربيتهم على دين النصرانية، وقَرَّرَ ألا يتزوَّج عبدٌ يهودىٌّ إلا بجاريةٍ نصرانية، ولا تتزوَّج يهوديةٌ إلا بنصرانى، وهكذا عصفت يدُ البطش والمطاردة باليهود أيمَّا عَصْفٍ، فكانوا قُبيل الفتح الإسلامى ضحية ظلمٍ لا يُطاق، وكانوا كباقى طوائف الشعب المهيضة (البربر، الآريوسيين) يتوقون إلى الخلاص.
وقد بدأت الغزواتُ الإسلامية للشمال الأفريقى، كما ذكرنا فى المقالة السابقة، عقب فتح المسلمين لمصر. فقد غزا عمرو بن العاص الصحراء الليبية، ثم غزا عبدالله بن أبى سرح تونس، وقتل حاكمها الأسقف العسكرى جريجورى (جُرجير) وغنم من هناك غنائم كثيرة.. وقد انشغل المسلمون حيناً من الدهر، فيما بينهم، بسبب النـزاع بين الإمام علىّ بن أبى طالب والأمير معاوية بن أبى سفيان. ودارت بين المسلمين حروب، آل السلطان بعدها لمعاوية بن أبى سفيان الذى حرص على (توريث الحكم) لأول مرة فى تاريخ الإسلام، فأورث العرش لابنه «يزيد» الملقَّب عند بعض المؤرخين: الفاجر.. وقد ورد فى الحديث الشريف، «إن الله قد ينصر هذا الدين (الإسلام) بالرجل الفاجر!».
وإلى مقالة الأربعاء القادم، حيث سنرى معاً حروب المسلمين فى شمال أفريقيا (ومن أهمها: حرب الكاهنة) وعبورهم إلى الشاطئ الأوروبى ، فى مغامرةٍ لم يكن أحد يتوقع لها أن تسفر عن استقرار الإسلام فى (الأندلس) لقرون طوال من الزمان.

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى (تمهيداتٌ ضرورية) 7\1


زرتُ إسبانيا مرتين، الأولى بدعوة من الملكة »صوفيا« لأشارك معها فى افتتاح الجناح الكبير الذى أُقيم فى المكتبة الوطنية الإسبانية بمدريد، احتفالاً بافتتاح مكتبة الإسكندرية وعودتها للحياة بعد قرونٍ طوال من اندثارها وتدميرها على يد المتعصِّبين دينياً، فى بداية القرن الخامس الميلادى، وللعلم، فإن «الملكة صوفيا» من أهمِّ الشخصيات العالمية، التى تحمَّسَتْ لبعث مكتبة الإسكندرية، لأنها من عُشَّاق الإسكندرية الساحرة! وهى من ناحية، ابنةُ آخر ملوك اليونان (وللإسكندرية وجهٌ يونانى) ومن ناحية أخرى، نشأت فى هذه المدينة وتخرَّجتْ فى مدارسها..
وفى هذه الزيارة الأولى، دُعِيتُ إلى زيارة الدَّير الملكى (الإسكوريال) الذى يحتفظ بثلاثة آلاف مخطوطة عربية نادرة، فكنتُ من القلائل، الذين دخلوا دهاليز الدير وخزائن المخطوطات المحفوظة هناك، كما دُعِيتُ فى تلك الزيارة، إلى جولةٍ خاصة فى المكتبة القومية الإسبانية بمدريد، فكنتُ من المحظوظين الذين أخرجَ لهم مديرُ المكتبة من خزانةٍ عتيقة قصةَ «الأَلِف» بخطِّ مؤلِّفها الشهير: خورخى لويس بورخيس، وعرفتُ منه يومها أن النسخة الكاملة من مخطوطات دير الإسكوريال، التى أهدتها الملكة صوفيا لمكتبة الإسكندرية، هى النسخة الوحيدة فى العالم. حتى إن المكتبة القومية الإسبانية، ذاتها، ليس لديها نسخةٌ مما لدينا اليوم بالإسكندرية.
وكانت زيارتى الأخرى لإسبانيا بدعوةٍ من عمدة مقاطعة «أليخانتى» الساحرة، لأشارك فى افتتاح الميدان، الذى أقاموا فيه النصب التذكارى (التمثال الكبير) للعالم العربى والصيدلانى الشهير «ابن البيطار» الذى ترك لتاريخ العلم الإنسانى، مجموعة أعمال فى الطب والصيدلة، أشهرها كتابه: الجامع لمفردات الأغذية والأدوية.
وخلال الزيارتين، بدأتُ أعيد النظر فى (تصوُّرنا) نحن العرب والمسلمين، للمرحلة الأندلسية من تاريخ إسبانيا، ففى المرتين رأيتُ صورةً صادقةً من اعتزاز الإسبان المعاصرين بالزمان العربى الإسلامى فى (الأندلس)، وشاهدتُ كثيراً من العمائر والآثار الباقية إلى اليوم من ذاك الزمان، وعرفتُ أشياءَ كثيرة، خاصةً أن الزيارة الأولى صحبنى فيها الدكتور «محمد أبوالعطا» الذى كان آنذاك مستشاراً ثقافياً لمصر فى إسبانيا، وهو خبير باللغة الإسبانية، ومترجم بارع لنصوصها إلى اللغة العربية.. وفى الزيارة الأخرى، صحبنى الدكتور «محمود على مكى» الذى يعدُّ اليوم، أهمَّ متخصِّص فى التاريخ الأندلسى على مستوى العالم، فكان الصاحبان فى المرَّتين، خيرَ مَنْ ينطبق عليهم قولهم: الرفيق قبل الطريق.
ولاحظتُ فى الزيارتين تشابهاً شديداً بين العرب والإسبان، خاصةً فى الجنوب القريب من المغرب، حتى إنهم يقولون هناك: لو حَكَّ الإسبانىُّ المعاصر جلده، لظهر تحته الجلد العربى! فإذا لم يتكلَّمْ أحدهُما لغتَه الخاصَّة، فإنك لا تستطيع تمييز الشخص العربىِّ من الإسبانى. والتشابُه بينهما لا يقتصر على تلك الملامح الشرقيَّة لكليهما، ولا يتوقَّف عند صيحة (الله/أُلِّله) التى يطلقها كلٌّ منهما إذا اشتدَّ انفعالُه، حيث يتنهَّد العربى المعاصر قائلاً (الله) عند مشاهدة لوحةٍ فنيَّة أو منظر جميل، والإسبانُ المعاصرون يتصايحون (أوليه) عند كلِّ حركة لافتة فى حلبات مصارعة الثيران، بعد تحريف طفيف للكلمة العربية.. لكنَّ الأمرَ لا يقفُ عند هذه التشابهات الظاهريَّة، فالصلة بين العرب والإسبان تتعدَّى ذلك إلى تشابه أعمق، فى: الشخصيَّةِ العامة، الروح الباطنة، التكوين الثقافى، التراث المشترك. وغيرِ ذلك من أوجه الشبه الذى ترسَّخ عبر قرون طوال، فلم تستطع القرونُ الخمسة الأخيرة (قرون العُزْلة) أن تفصل العرب عن الإسبان، وأن تمحو من بنية الإسبانى المعاصر، هذه الجيناتِ الوراثيَّة والثقافيَّة.
ومع أن إسبانيا تقع جغرافيا فى نطاق القارة الأوروبيَّة، إلا أنها مع ذلك، تبدو كما لو كانت امتداداً طبيعياً لبلاد المغرب العربى، التى لا يفصلها عنها إلا (مضيقُ) جبل طارق.. أو بالعكس، تبدو بلاد المغرب كامتدادٍ للأرض الإسبانيَّة التى فصلتها عنها، فى الأزمنة السحيقة، الزلازلُ التى سمحت لمياه المحيط بالدخول إلى المنطقة المسمَّاة اليوم: البحر المتوسط (أى المتوسط بين جماعات وشعوب العالم القديم ).
وقد لعب «التاريخُ» كما لعبت «الجغرافيا» دوراً مهماً فى التقريب بين العرب والإسبان، وهو الأمر الذى نجحت (السياسة) فى القضاء عليه، وهى على كلِّ حال، مسألةٌ كثيرة الوقوع، فلطالما نجحت السياسةُ فى فصم المتَّصل (الجغرافى/التاريخى) بين البلاد والعباد.
وللعرب والإسبان، أو بالأحرى: للعرب الإسبان (الأندلسيين) قصةٌ إنسانيَّةٌ مجيدة، استمرت زمناً طويلاً فى نطاق الثقافة البحر أوسطيَّة، وأثَّرَت فى تاريخ الحضارة الإنسانيَّة أثراً ملموساً.. وهى أيضاً قصةٌ مليئة بالمزعجات والمبهجات! فقد دخل العربُ المسلمون إلى إسبانيا سابحين فى بحار من الدماء، وخرجوا منها يخوضون فى أنهارٍ من الدَّم. وما بين بحار الدم وأنهاره، عاشت إسبانيا زمناً أندلسيّاً بديعاً، لا تزال أطيافُه تلوحُ فى خيال المعاصرين، كما يلوح باقى الوشم فى ظاهر اليد.
وحين فكَّرتُ فى كتابة هذه «السباعية» تماوجتْ فى ذاتى ذكرياتُ الزيارتين السابقتين، وتجلَّت على مرآة باطنى وقائعُ كثيرة (تاريخية) فعاودتُ النظر فى موسوعة الدكتور «محمد عبدالله عنان» ذات الثمانية أجزاء، وعنوانها: دولة الإسلام فى الأندلس.. وحين شرعتُ فى الكتابة، تردَّدَتْ فى نفسى أصداءُ النواح المعتاد فى ثقافتنا المعاصرة، والنبرة المتباكية على ضياع (زمان الوصل بالأندلس) وسخرية محمود درويش من الأمر كله حين قال فى أنشودته البديعة «مديح الظل العالى» ما نصُّه:
وأنا التوازنُ بين ما يجبُ
كُنا هناك ومن هنا،
ستسافر العربُ
لعقيدة أخرى، وتغتربُ
قَصَبٌ هيَاكلنا، وعُروشُنا قَصَبُ
فى كل مئذنةٍ حاوٍ ومغتصبُ
يدعو لأندلس
إن حُوصرت حلبُ.
وحين أُحبك، أحتاجُ تشكيل الخرائط والخطط
أحتاجُ ما يجبُ
يجبُ الذى يجبُ:
أدعو لأندلسٍ إن حُوصرت حلبُ
يرتبط دخول العرب المسلمين إلى شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا، البرتغال) بحكاية خرافية لا تخلو من الطرافة، وإن كانت تفتقر إلى المصداقية، وهى الحكاية المشهورة التى تقول إن «طارق بن زياد» عبر من المغرب إلى إسبانيا بجيشٍ إسلامىٍّ قوامه سبعة آلاف مقاتل، سنة ٩٣ هجرية (= ٧١١ ميلادية) وقد أحرق السفن التى عبر بها المضيق الذى سُمِّى باسمه لاحقاً، ثم قال لجنوده: «أين المفرُّ، العدوُّ من أمامكم والبحر من خلفكم..»، وهى الحكاية الأسطورية اللطيفة التى يهواها معاصرونا، ولا يكفُّون عن ترديدها، مع أننا سنرى فى هذه السُّباعية، أنها محض حكايةٍ خرافيةٍ لا تصلح إلا لتسلية الأطفال.
وقبل الدخول إلى (الأفق الأندلسى) على أجنحة التأريخ الحقيقى للوقائع، والفهم العقلانى العميق لها، دعونا نتوقف قليلاً، أولاً، عند معانى الكلمات المشهورة المرتبطة بهذا الموضوع، مثل: أندلس، إسبانيا، قوط، بربر، غزو، فتح.
أما كلمة «الأندلس» التى أطلقها العربُ على شبة جزيرة أيبيريا، فإن هناك تفسيرات عديدة لها، بعضها خيالىٌّ مضحكٌ، مثل قول بعض المؤرِّخين العرب إنها سميت بذلك، نسبةً إلى رجل يسمى (أندلوش) كان يسكنها فى الزمن القديم، أو نسبةً إلى أحد أحفاد «نوح» هو: الأندلس بن يافث بن نوح، والأرجح، أن الكلمة العربية (أندلس) مأخوذة من اللفظ الدال على البلاد آنذاك، وهو «فاندالوسيا» أى بلاد: الوندال، وهو اسم القبائل التى كانت تعيش هناك، قبل مجىء العرب المسلمين.
وأما كلمة «إسبانيا» فقيل إنها نسبةً إلى ملك اسمه (أشَبان) وقال بعض المؤرخين: بل كان اسمه «أصبهان» فوقع فيه التحريف! وليس عندى قولٌ راجح فى سبب هذه التسمية، ولكن الأقرب مأخذاً هو الأصل الفينيقى للتسمية التى تعنى حرفياً فى اللغة الفينيقية (جزيرة الأرانب)، لأن المكان كان مليئاً بها أيام اتخذها الفينيقيون مستعمرةً.. أما تاريخ وتسمية «القوط» فأمران يعودان إلى زمن مبكر، حيث وقعت حروب بين الرومان وتلك القبائل التى عاشت فى جزيرة أيبيريا، واستطاعت فى بداية القرن الخامس الميلادى أن تقتحم أسوار (روما) المنيعة، لكنها ما لبثت أن عادت إلى موطنها الأصلى، وظلت تحكمها حتى جاء إليها العرب المسلمون، بدعوةٍ من أحد ملوك القوط، حسبما سنرى لاحقاً.. والبربر هو اسم سكان شمال أفريقيا، خاصة المغرب، عند وصول العرب المسلمين إلى هناك، وكانت أهم قبائلهم هى قبيلة: زناتة.. والغزو هو الاقتحام العسكرى.. والفتحُ استقرار الغازى فى البلاد، وسكناه فيها جيلاً بعد جيل.
كان الغزو (الفتح) العربى الإسلامى أفريقيا، امتداداً لفتح (غزو) مصر، فبعدما استقرت الأمور المصرية بيد عمرو بن العاص، خرج من الإسكندرية غرباً، بجيش قليل العدد والعُدَّة، ليفتح المدن الخمس الغربية (ليبيا) فغزاها، لكنه لم يفتحها ويستقر فيها، وبعد خمس سنوات خرج أمير مصر «عبدالله بن أبى سرح» إلى إفريقية (تونس) فاتحاً، على رأس جيش قوامه أربعون ألف محارب.. وهنا لا بد لنا من وقفة أمام دلالة هذا العدد، مقارنةً بعدد الجيش الذى خرج مع عمرو بن العاص لفتح مصر، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة (وقيل، بل أربعة آلاف) ويأتى السؤالُ: كيف يدخل المسلمون صحراء أفريقيا الخالية نسبياً، بالمقارنة مع مصر، بهذا الجيش الجرَّار. بينما كان الجيش الإسلامى الذى خرج إلى مصر غازياً لا يزيد عدده، على عشرة بالمائة من مجموع الجيش الذاهب لغزو الصحراء الخالية. علماً بأن جند الروم، كانوا يتحصَّنون بقلاع مصر والإسكندرية، وكان عددهم بحسب التقديرات المختلفة، يتراوح ما بين الأربعين ألفاً والمائة ألف مقاتل!
إذن، من المنطقىِّ فى زمن الفتوح، أن يخرج المسلمون إلى ساحل أفريقيا بجيش قوامه أربعون ألفاً، ومن المنطقىِّ أن يحاصر المسلمون بلدةَ دمشق بأربعة جيوش كاملة، ومن المنطقىِّ أن يفتح المسلمون العراق بعد حروبٍ طاحنةٍ قُتل فيها من الجانبين الألوف.. ومن غير المنطقىِّ، أن يشرع »عمرو بن العاص« فى فتح مصر، بهذا الجيش (القليل) الذى جاء معه، اللهم إلا إذا نظرنا إلى الأمر من ناحيةٍ أخرى، وفهمناه فى ضوء الرؤى التى طرحناها فى السُّباعية السابقة.. وعلى كل حال، ففى المقالة التالية من هذه السُّباعية، سوف نستكمل (الأربعاء القادم) ما بدأناه اليوم، لنرى: كيف فتح المسلمون ساحل أفريقيا، ووصلوا إلى المغرب، ثم الأندلس.

د. يوسف زيدان- فتح مصر (ما بعد عمرو: عبدالله بنُ أبى سَرْح )7\7


يعرف كثيرٌ من الناس أن «أبا سفيان بن حرب بن أمية» أجاب يومَ فتح مكة عن سؤال النبى للمشركين: ماذا تظنون أنى فاعلٌ بكم؟ بقوله: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم.. فتسامح النبىُّ مع مُشركى قريش يومَها، وقال الحديث المشهور: مَنْ دخل البيت (الكعبة) فهو آمنٌ، ومَنْ دخل بيته (أى التزم بحظر التجوُّل) فهو آمنٌ، ومَنْ دخل دار أبى سفيان فهو آمنٌ.
وقد لا ينتبه كثيرٌ من الناس، إلى أن أبا سفيان (آنذاك) كان لايزال مشركاً، وكانت زوجته (آنذاك) هى السيدة «هند بنت عُتبة» التى فتكت بالحمزة، عمِّ النبى، وأكلت من كبده ثأراً وانتقاماً، ولكنَّ أبا سفيان، أيضاً، هو حمو النبى (أبوزوجته) وهو أبو «معاوية» الذى يُقال إنه كتب فى صغره شيئاً من الوحى القرآنى، والذى سيصير (بعد ذاك) أول ملوك الإسلام، ومؤسس الدولة الأُموية، التى حكمت المسلمين قرابة قرنٍ من الزمان، حتى أزاحها من الحكم العباسيون.
وقليلٌ من الناس يعرفون أن النبى، على الرغم من تسامحه مع أهل قريش وغفرانه لهم يومَ فتح مكة، دعا فى ذلك اليوم إلى قتل أربعة رجال وامرأتين (حتى وإن تعلَّقوا بأستار الكعبة) فكانت إحدى المرأتين هى «أمُّ سارة»، التى تجسَّست على المسلمين قبيل الفتح، وكادت تنقل إلى أهل مكة تحذير «حاطب بن أبى بلتعة» للمشركين بأن النبىَّ قادمٌ إليهم على رأس جيش، حسبما ذكرنا فى المقالة الثانية من هذه السباعية.. وكان أحد الأربعة المطلوب قتلهم (لأسبابٍ مختلفة) هو الرجل الذى سيرتبط اسمه بعد حينٍ بفتح مصر: عبد الله بن سعد بن أبى سَرْح.. فلماذا توعَّده النبىُّ ودعا إلى قتله يوم الفتح، وما الذى صار معه من بعد الوعيد؟
كان (عبدالله) هذا من فقراء قريش، وقد أسلم فى وقتٍ مبكر وهاجر مع النبى من مكة إلى المدينة،. ولأنه كان يجيد الكتابة والقراءة، فقد اختاره النبىُّ ضمن الذين كانوا يكتبون عنه الوحىَ القرآنى، وهم جماعة من الكتاب القُرشيين..ألا يدعونا ذلك إلى إعادة النظر فى فهمنا للآية القرآنية (هو الذى بعث فى الأميين رسولاً منهم...) من زاويةٍ أخرى، غير فكرة الجهل بالقراءة والكتابة (كأن يكون الأمىُّ، هو غير اليهودى) المهم، أن «ابن أبى سرح» ظل يكتب الوحى عن النبىِّ زمناً، حتى فوجئ الجميع يوماً بهروبه من يثرب (المدينة المنورة) إلى مكة (أمِّ القرى)، وهناك قال للمشركين إنه كان يكتب «غير» ما يمليه عليه النبىّ! فإذا أملى عليه مثلاً «سميعٌ عليم» كتبها «عليمٌ حكيم» ثم يعرض المكتوب على النبىِّ فيُقرُّه، فافتتن الرجل وقال: «ما يدرى محمدٌ ما يقول، وإنى لأكتبُ له ما شئت، والذى كتبته يُوحى إلىَّ مثلما يُوحى إلى محمد».. وهكذا ارتدَّ الرجل عن الإسلام، وهرب من المدينة إلى مكة.
وقد روت المصادر التاريخية الإسلامية المبكرة والمتأخرة، الواقعةَ السابقة، مسبوقةً بسلسلة الرواة الثقات الذين تناقلوها، وزادت بعضُ هذه المصادر، أن النبىَّ كان يُملِى على «ابن أبى سَرْح» قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سُلالةٍ من طين.. ثم أنشأناه خَلْقاً آخر) فقال ابن أبى سَرْح وقد بهرته الآيات: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال له النبىُّ صلى الله عليه وسلَّم: اُكتبْها فإنها نزلت هكذا.
وعلى هذا النحو، كاد الرجل يُحدث فتنةً عظيمةً بين الناس، مما دعا النبىَّ إلى إهدار دمه يومَ فتح مكة.. لكنَّ ابنَ أبى سَرْح لم يُقتل، فقد اختبأ فى بيت الصحابى الجليل (والخليفة من بعدُ) عثمان بن عفان، الذى كان أخاه فى الرضاعة، وتوسَّط عثمان (ذو النورين) وأخذ «المرتدَّ» إلى مجلس النبى، وألحَّ عليه فى قبول توبة عبدالله بن أبى سَرْح، حتى وافق النبى على مضضٍ، ثم قال بعدما بايعه: أما كان لهذا الكلب مَنْ يقتله؟ فقال رجلٌ من الأنصار ما معناه: يا رسول الله كنتُ أنظر إليك وعثمان يحاورك، عساك تومئ لى (تغمز) فأقوم وأقتله.. فقال النبى: ما كان لنبىٍّ أن يومئ، وليس فى الإسلام إيماءٌ ولا فتك.
وقد تناقل المؤرِّخون أن «ابن أبى سَرْح» كان يفرُّ من النبى كلما رآه، حتى توسَّط عثمان ثانيةً وتحدَّث إلى النبى قائلاً: يا رسول الله بأبى أنت وأمِّى، هذا ابن أمِّ عبد الله يفرُّ منك كلَّما رآك. فتبسَّم رسول الله وقال: أو لم أُبايعْه وأُؤمنه؟ فقال عثمان: بلى، ولكنه يتذكَّر عظيم جُرْمه.. فقال النبى: الإسلام يجُبُّ ما كان قبله (وهى العبارة التى كان النبى قد قالها من قبل، لعمرو بن العاص، يوم جاء ليعلن إسلامه ويبايع النبى).
وصار ابن أبى سَرْح من بعد ذلك، يجالس النبىَّ ويسلِّم عليه، مع بقية المسلمين، وبعد وفاة النبى اشترك الرجل فى الفتوحات وأبلى بلاءً حسناً، وكان فى صُحبة عمرو بن العاص حين دخل مصر بجيشه غازياً، بل كان قائد الميمنة (الجناح الأيمن من الجيش) حتى إذا تمَّ الفتحُ واستقر الأمرُ بيد المسلمين، جعله الخليفة عمر بن الخطاب أميراً على الصعيد، وترك لابن العاص إمارة بقية البلاد.
وسار ابن أبى سَرْح فى فترة إمارته على مصر، على غير ما كان عمرو بن العاص يريده. فقد كان عمرو يترفَّق بالمصريين فى جمع الجزية (ضريبة الدفاع عن البلاد) ولم يفرض على الناس قدراً معلوماً من المال، وإنما يقول ردّاً على ذلك القسِّ الذى سأله عن مقدار المال الواجب سداده سنوياً: «لو جئت لى بملء هذه الكنيسة ذهباً ما أخذته منك، فإنما أنتم خزانةٌ لنا، إن وسَّع اللهُ علينا وسَّعنا عليكم، وإن ضيَّق ضيَّقنا»، (أى بعبارةٍ معاصرة: نحن فى خندق واحد!).. وكان الخليفة عمر بن الخطاب، يشتد فى الخطاب مع عمرو بن العاص، ليحصِّل من جزية مصر ما كان يحصِّله الروم، وقد كتب إليه ذات مرة رسالة فيها: «من عمر بن الخطاب، إلى العاص بن العاص! أراك تحصِّل من مصر أقلَّ مما كان يحصِّله الروم، ومن قبلهم الفراعين على كفرهم وعُـتُوِّهم.. إلخ» فردَّ عليه برسالة فيها: من عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، لولا مكانتك فى المسلمين لرددت عليك بما يناسب كلامك، وهؤلاء الفراعين كانوا على كُفرهم وعُتُوِّهم يُصلحون الأرض ويعتنون بالبلاد، فيكثر خراجها.. إلخ»، وكان عمرو يريد أن يسكن مدينة الإسكندرية، لكن الخليفة عمر رفض ذلك، ورفض أن يقتسم الفاتحون بلاد مصر ويجعلونها غنيمةً لهم. لأن لأهلها عهداً وذمة من قبل الفتح، ومعروف أن الخليفة »عُمر بن الخطاب« هو الذى عنَّف »عمرو بن العاص« حين اشتكى منه واحدٌ من المصريين، قائلاً: متى استعبدتم الناس وقد خلقتهم أمهاتهم أحراراً.
وتوفى الخليفة »عمر« بعدما اغتاله أحد المجوس (اسمه أبو لؤلؤة) فتولَّى من بعده عثمان بن عفان، وعزل عمرو بن العاص عن إمارة مصر، وجعل مكانه أخاه فى الرضاعة «عبدالله بن أبى سَرْح» فانصاع عمرو بن العاص ونفَّذ أوامر الخليفة بالعزل، من دون أن يفكر فى الثورة عليه أو الاستقلال بحكم البلاد، مثلما كانت عادة قوَّاد الروم (البيزنطيين) لمئات السنين.. وعاد عمرو إلى المدينة، وظل ساكناً هناك.
ومع أن الخليفة عثمان كان قد أوصى «ابن أبى سَرْح» بالترفُّق فى جباية الضرائب، وألا يظلم مسلماً أو معاهداً (بحسب نصِّ الرسالة التى حفظها لنا المؤرِّخون القدماء) إلا أن الوالى الجديد، فيما يبدو، أراد أن يثبت أنه أفضل من «عمرو» فى حكم البلاد، فأرهق الناس بضرائب كثيرة (ليس من بينها ضريبة المبيعات أو ١٢% خدمة) فثارت الإسكندريةُ على الحكم الإسلامى، خاصةً بعدما جاءها القائدُ البيزنطى الذى يسمِّيه العربُ منويل »إيمانويل« بأسطولٍ كبير، استطاع به انتزاع عاصمة البلاد (الإسكندرية) من يد المسلمين، وقام بنهب القرى المصرية.. وهكذا احتاج الخليفة »عثمان« إلى عمرو بن العاص، ثانيةً، فقام إلى مصر على رأس جيشٍ استطاع أن يطرد عنها الروم. وأعاد الفاتح البديع عمرو بن العاص الديارَ المصرية إلى حكمها الإسلامى.
وبينما كان »عمرو« يحتفل بانتصاره، جاء إليه أهل القرى المنهوبة على يد البيزنطيين، واشتكوا ما حلَّ بهم عندما عجز المسلمون عن الدفاع عن البلاد حين عاد الروم، فتفهَّم عمرو بن العاص شكواهم، وعوَّضهم عن خسائرهم.. يقول القسُّ الإنجليزى د. ألفريد بتلر فى كتابه (فتح العرب لمصر) ما ترجمته: «قالوا لعمرو بن العاص إنهم كانوا موالين للعرب، وكان لا بُدَّ له أن يقاتل عنهم، وقد أصابهم ما أصابهم حين قصَّر المسلمون فى حمايتهم. وكانوا على حق فى شكواهم هذه، ولكن قلَّما ترى بين القوَّاد المظفَّرين، مَنْ يعبأ بمثل تلك الشكوى، لكن عمرو أمر بتعويض القبط لما فقدوه ، فكان هذا إقراراً صريحاً من عمرو، بما عليه من فرضٍ واجب، فألزم نفسه فى صراحةٍ بأن يعوِّضهم عما لحق بهم، وهو الأمر الذى يدل على ما كان عليه عمرو من حُسن الرأى فى الحكم، وما كان متصفاً به من نبيل الصفات (انتهى كلام القسّ د. ألفريد بتلر).
ويبدو أن طريقة عمرو بن العاص فى حكم البلاد، لم تعجب الخليفة. ولهذا السبب (أو لأسبابٍ أخرى، غير معلنة) وصل إلى مصر قرار الخليفة عثمان بأن يتولَّى «ابن أبى سَرْح» إمارة الخراج وجباية الأموال، ويتولَّى «ابن العاص» إمارة الحرب والقتال.. وهو الأمر الذى رفضه عمرو بن العاص، وقال: «إذن، فأنا كماسك قرنىْ البقرة، وآخرُ يحلبها» فعزله الخليفة مرةً ثانية، واستدعاه إلى المدينة (يثرب) فظل هناك لعدة سنوات، ساكناً، خاملاً ، مكتئباً.
وعاد «ابن أبى سَرْح» إلى الاشتداد فى جمع الضرائب، وأرسل إلى المدينة مالاً أكثر بكثير مما كان يرسله عمرو بن العاص. فلما وصل المال إلى الخليفة «عثمان» استدعى عمرو بن العاص وقال له، ليغيظه: «لقد درَّت اللقاح (أى زاد الحليب) من بعدِك يا عمرو» فردَّ ابنُ العاص عليه من فوره قائلاً: لأنكم أعجفتم أولادها، فهزلت (حين سلبتم منها لبن الرضاعة).
والمؤرِّخون مختلفون فى شخصية عبدالله بن أبى سَرْح، فبعضهم يصفه بأنه «من أعقل القرشيين وأشرفهم» وبعضهم الآخر، ومنهم الطبرى، يقول عنه: «لم يكن فى وكلاء عثمان، أسوأ من عبدالله بن أبى سَرْح، والى مصر».. ومعروف تاريخياً، أن هذا (السوء) المشار إليه، كان هو السبب المباشر لمقتل الخليفة عثمان بن عفان، على أيدى »المصريين« أى العرب المسلمين، الذين كانوا يعيشون بمصر.
ظل عبدالله بن أبى سَرْح حاكماً لمصر، حتى قُتل الخليفة عثمان سنة ٣٥ هجرية، وكانت ولايته على البلاد سنة ٢٧ هجرية، فكانت هذه السنوات حافلة بالوقائع الدالة على صعوبة رسم صورة محدَّدة لابن أبى سَرْح، فهو من جهةٍ: الفاتح الذى أدخل الإسلام إلى أفريقية (كلمة أفريقية تعنى فى المصادر العربية المبكرة: تونس) وهزم أسقفها العسكرى «جورجيوس» ويقال: بل قَتَله، وغَنِم من هناك غنائم كثير، وصل معها نصيب (الفارس) ثلاثة آلاف دينار، ونصيب (الراجل) ألف دينار.. و ابنُ أبى سَرْح هو الذى هادن أهل النوبة وصالحهم على العهد الذى سُمِّى لاحقاً (اتفاقية البقط).. و ابنُ أبى سَرْح هو الذى هزم فى موقعة «ذات الصوارى» سنة ٣٤ هجرية الأسطولَ البيزنطى الذى ظل لمئات السنين مسيطراً على مياه البحر المتوسط، وكان تعداده فى الموقعة يبلغ ألف سفينة حربية (وقد كان العرب المسلمون قبل سنوات قليلة، يخشون ركوب البحر، وهو إنجازٌ كبير لابن أبى سَرْح، وإن كان أمير الشام آنذاك »معاوية بن أبى سفيان« قد أعانه بسفنٍ حربية أرسلها إلى موقعة ذات الصوارى من الشام).
ومن الجهة المقابلة، كان «ابن أبى سَرْح» يجهد البلاد فى جمع الضرائب، ويغدق على نفسه! حتى إنه بنى داراً فخمة فى مصر، فقال له المقداد بن الأسود: إن كانت هذه الدار من مالك فقد أسرفت، والله لا يحب المسرفين، وإن كانت من مال الله (الخراج) فقد خُنت، والله لا يحب الخائنين.. وكانت بمصر فتاة جميلة اسمها «بسيسة بنت حمزة بن ليشرح»، وكانت مخطوبة لشاب من المسلمين، وبين المخطوبَيْن حبٌّ عميق. فلما رأى ابن أبى سَرْح الفتاة أعجبته، وطلب من خطيبها أن يتركها له (مع أن الحديث الشريف يقول للمسلمين: لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه) فتركها حبيبُها مضطراً.. فلما كان قتال المسلمين والروم فى «ذات الصوارى» وقع الأمير عبدالله بن أبى سَرْح بين سفينتين، والتفَّت حوله الحبال والسلاسل، فكاد يهلك، لولا أن الفتى المحروم من حبيبته «بسيسة» اقتحم الموضع الذى عَلِق فيه ابن أبى سَرْح، وراح بسيفه يذود عنه ويقطع الحبال والسلاسل، حتى أنقذه من الموت .. وقد بقيت »بسيسة« فى بيت الأمير »ابن أبى سَرْح« حتى عُزل واعتزل بأرض فلسطين، ومات هناك .. فعادت إلى خاطبها الأول، وتزوَّج الحبيبان القديمان، بعدما ضيَّع الزمان منهما سنوات الشباب والروعة.
وحسبما ذكرنا فى المقالة السابقة، فقد أعان عمرو بن العاص «معاوية بن أبى سفيان» فى صراعه على الخلافة مع الإمام «علىّ بن أبى طالب» حتى استقام الأمر لمعاوية واستقر على العرش، وصار مشغولاً بمسألة (التوريث) وأخذ البيعة لابنه يزيد، وهو الأمر الذى لم يعترض عليه عمرو بن العاص! فكانت مكافأته، أنه عاد ليحكم مصر ويظل أميراً لها حتى وفاته ودفنه بجبل المقطم.
أما أهل مصر، فصاروا يدخلون فى الإسلام رويداً، مثلما دخلوا فى المسيحية من قبلُ رويداً.. فمثلما تخلَّى المصريون (على اختلاف أطيافهم) عن الديانات القديمة التى اعتنقوها قروناً من الزمان، لصالح الديانة المسيحية التى وفدت إليهم من شمال الجزيرة العربية (فلسطين) وهو الأمر الذى استغرق ما يقرب من ثلاثمائة عام، تخلَّى معظم المصريين عن المسيحية لصالح الديانة الإسلامية، التى وفدت إليهم من قلب الجزيرة (مكة) وهو الأمر الذى استغرق أيضاً، قرابة الثلاثمائة عام.. فمع القرن الرابع الميلادى كان معظم أهل مصر مسيحيين، وصارت اليونانية هى لغة الدين والدنيا.. ومع القرن الرابع الهجرى كان معظم أهل مصر مسلمين، وصارت العربية هى لغة الدين والدنيا.

د. يوسف زيدان-فتح مصر ( ابنُ العاص: أرطيون العرب)7\6


لا يمكن الكلام عن فتح مصر، من دون الوقوف طويلاً أمام شخصية عمرو بن العاص الذى تحيَّر فى وصفه القدماء والمحدثون، وأورد عنه المؤرِّخون ما لا حصر له من أخبار، وأفرد له المؤلفون عدداً من الكتب التى لم تستطع -فيما أرى– أن تحيط بشخصيته الفريدة، المحيِّرة.. ولعل العبارة التى قالها ابنُ العاص فى مرض موته، تُلقى بعضاً من الضوء على تناقضات (الحيوات)، التى عاشها هذا الفاتح البديع، فقد أشار بعباراته إلى أنه مرَّ بمرحلة كان يكره فيها الإسلام ويحقد على النبىِّ، حتى يتمنى قتله لو يستطيع إلى ذلك سبيلاً، وفى مرحلةٍ تالية أسلم فصار فى قلبه حبٌّ عظيم للدين والنبىّ، لا يعدله حبٌّ مماثل.. وفى مرحلةٍ ثالثة دخل فى أمورٍ مدخولة الحق والباطل (حرب علىِّ بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان) فلم يعد يعرف خيرها من شرِّها، لكنه فى المجمل نادمٌ عليها.
لكن هناك مرحلة فى حياة عمرو بن العاص، أسبق من (الحيوات) الثلاث المذكورة، أعنى مرحلة الطفولة والشباب المبكر، وهى الفترة التى تشكلت فيها الملامحُ لشخصية عمرو بن العاص، الذى وصفه معاصروه واللاحقون به بأنه: داهية قريش، أمير الحرب، رجل العالم، أرطيون العرب.. وسوف نتوقف بعد حين، عند هذا الوصف الأخير.
بدأت حياة «عمرو» فى مكة، حيث كانت أمه تعيش فى كنف قريش بين الفقراء، كامرأةٍ من السبايا أو من المعدمين. وكانت تفتح بابها فيغشاها الرجال، ولما ولدته نسبته إلى «العاص بن وائل السهمى» فنشأ فى حضنه وتزوَّج فور بلوغه بابنة عمه «رائطة بنت الحجَّاج بن منبه السهمية» فقضت معه حياتها كلها، وأنجبت له ولده، الذى سماه «عمرو» باسم أبيه «العاص» غير أن النبىَّ غيَّره لاحقاً، وأعطاه الاسم الذى اشتُهر به: عبدالله بن عمرو بن العاص.. وكان الفارق فى السن بين «عمرو» وابنه «عبدالله» فى حدود الاثنتى عشرة سنة فقط!
وكان نبوغ «عمرو» فى مكة، مبكراً، فقد روت المصادر أنه كان صبياً يافعاً حين واجه بكلماته البليغة، رجالَ قريش الذين انتقدوا أباه «العاص بن وائل»، لاعتدائه على الحقوق المالية لواحدٍ من تجار اليمن، وهى الواقعة التى انتهت بتأسيس (حزب الفضول) الذى كان يقوم، من قبل الإسلام، بنُصرة المظلومين.
والغمَّازون اللمَّازون الكارهون لعمرو بن العاص، كثيراً ما يشيرون إلى أمه ظناً منهم أن ذلك يحطُّ من شأنه، لكنه فى واقع الأمر كان قد تجاوز هذه المسألة، منذ فترة مبكرة من حياته. بل كان لا يجد غضاضة فى الإشارة إليها، وهو ما يدل على ثقته الوفيرة بذاته، فعندما مات أخوه «هشام» بكاه بحرقة، وهو آنذاك أميرٌ على جيش المسلمين، فلامه على ذلك كبار قُوَّاده، فقال لهم ما معناه: كيف لا أبكى عليه، وقد كان أفضل منى، وأمه أفضل من أمى.. وفى واقعةٍ تالية، أيامَ كان أميراً لمصر، تراهن بعض الخبثاء مع رجلٍ على مبلغٍ من المال، إذا استطاع أن يسأل «عمرو» يوم الجمعة وهو على المنبر، عن أمِّه! فسأله الرجل، فقال له عمرو بن العاص ببساطةٍ وثقة ما فحواه: كانت امرأةً من فقراء قريش، اسمها كذا.. فاذهبْ وخُذْ من أصحابك المال الذى جعلوه لك.
ويتصل بما سبق، روايات أخرى لا تتعلق بقدرة «عمرو بن العاص» على تجاوز الوقائع القديمة التى لم يكن له يد فيها، فحسب، وإنما تدل أيضاً على قدرته الفائقة على ضبط النفس والثقة المفرطة بذاته. فقد كان أمير الجيش يوم نهر بعض جنوده ليقوموا إلى أعمالهم ويتركوا الطعام، فردَّ عليه أحدهم بقوله «مهلاً» فإنما نحن لحم وعظم، فقال له عمرو بن العاص «بل أنت كلب» فقال الجندى: فأنت أمير الكلاب.. فضحك ومضى عنهم! وكان قد انفعل يوماً حين سبَّه المغيرةُ بن شعبة، فشتم قبيلته قائلاً: «يا آل هصيص، أَيَسُبُّنى ابن شعبة» فقال له ابنه عبدالله: «إنا لله، دعوتَ بدعوى القبائل، وقد نهى النبىُّ عن ذلك».. فاعتذر عمرو، وكفَّر عن ذنبه بأن أعتق ثلاثين عبداً.
ومعروفٌ عن عمرو بن العاص، أنه ساعد معاوية بن أبى سفيان فى نزاعه مع الإمام علىّ بن أبى طالب، وحارب فى صفِّه وجعل له الأمر بالخدعة الشهيرة (التحكيم)، لكنه حين دخل على «معاوية» المجلس، فوجده يحكى من الوقائع ما يُعلى به من شأنه، ويحط من شأن الإمام علىِّ.. صاح فيه عمرو بن العاص: «يا معاوية أحرقت قلبى بقصصك، أترانا خالفنا عليّاً لفضلٍ منَّا عليه، لا والله، إنما هى الدنيا نتكالب عليها، فإما أن تقطع لى من دنياك، أو أنابذنَّك».. فأعطاه مصر!
ومع أن «عمرو» هو القائل، حين انتقدوه لأنه يركب بغلةً كبيرة السن وبائسة، وهو الأمير: لا أملُّ دابتى ما حملتنى، ولا أملُّ زوجتى ما أحسنتْ عشرتى، ولا أملُّ ثوبى ما وسعنى، فإن الملل من سيئ الأخلاق.. فإن «عمرو» ذاته هو القائل حين اجتمع بنو أمية عند كبيرهم «معاوية» ليعاقبوه على تفضيل عمرو بن العاص، فصاح فيهم: أما والله، ما أنا بالوانى ولا الفانى، وإنما أنا الحية الصماء التى لا يسلم سليمها ولا ينام كليمها، وأنا الذى إذا همزتُ كسرتُ، وإذا كويت أنضجت، فمن شاء فليشاور ومَنْ شاء فليؤامر.. وقد علمتم أننى أحسن بلاءً، وأعظم غناءً.
                                   ■ ■ ■
إذن، نحن بإزاء شخصية متعدِّدة الأنحاء، ومحيِّرة، لكن فضلها ثابتٌ بوقائع التاريخ وبصحيح الشهادات النبوية فى حق عمرو بن العاص.. فمن الوقائع الثابتة أنه قاد جيش المسلمين فى حياة النبى، عقب إسلامه، وكان تحت إمرته كبار الصحابة والشيخان أبوبكر وعمر، وقاد الجيوش التى فتحت بلاد الشام وشمال الجزيرة وفلسطين، فأظهر من الشجاعة والحكمة والمهارة ما يثير الإعجاب. وحين صال القائد العسكرى البيزنطى (الرومى) المسمَّى أرطيون، وتكتبه بعض المصادر العربية: أرطبون، وأعجز جيش المسلمين، شكا الناسُ أمرَه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، فقال: نضرب أرطيون الروم بأرطيون العرب.. واستدعى له «عمرو بن العاص» فذهب إليه على رأس جيش، وهزمه، واضطره للفرار بحفنة من جنوده إلى مصر.. ومن الشهادات النبوية فى حق عمرو بن العاص، الحديث: ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام (رواه الإمام أحمد والحاكم وابن سعد وابن عساكر) والحديث: أبوعبد الله عمرو بن العاص من صالحى قريش، نِعْمَ أهل البيت أبو عبدالله وأم عبدالله وعبدالله (أخرجه أحمد والترمذى) والحديث: أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص (قال الذهبى: حديثٌ حَسَنُ الإسناد).
                                   ■ ■ ■
وفيما يتعلق بفتح مصر، هناك حكاية ذات طابع (مسرحى) ترويها المصادر التاريخية الإسلامية، مفادها أن «عمرو بن العاص» ألح على الخليفة «عمر بن الخطاب» فى فتح مصر، فوافقه الخليفة متردداً، وقال له إنه سيرسل له برسالة يحسم فيها أمر الموافقة، فإن وصلته قبل دخول مصر فليرجع عنها، وإن وصلته بعد دخوله فلا يرجع! فلما جاء المرسال، تأخر «عمرو» عن مقابلته واستلام رسالة الخليفة، حتى وصل إلى العريش. فلما وجد الرسالة تقول له لا تدخل مصر، سأل من حوله هل نحن الآن فى مصر؟ فقالوا نعم، فقال: إذن نمضى على بركة الله..وما كانت الأمور تسير على هذا النحو المسرحى، وما كان للخليفة أن يأذن لعمرو بن العاص فى الخروج بالجيش فى الليلة ذاتها، على أساس (بيننا تليفونات)، وما كان المسلمون بغافلين عن خطورة فتح الشام والعراق مع بقاء مصر بيد هرقل، وما كان من الممكن للمسلمين التغافل عن لجوء «أرطيون» وفلول جيشه إلى مصر، واستعدادهم للكرِّ ثانيةً لو سنحت لهم الفرصة لجمع الشتات.. وما كان قواد المسلمين بغافلين عن الوضع المزرى لهرقل وجيوشه، وعن اضطراب الأحوال فى مصر بسبب صراع الكنائس هناك، وعن القوة العربية الهائلة الساكنة فى مصر! ولذلك كله، كان خروج عمرو بن العاص بالجيش إلى مصر، ضرورةً حتمية تعلو فوق هذه الروايات ذات الطابع المسرحىِّ، الهزلىّ.
وهناك رواية شهيرة، أكثر مسرحيةً وهزلية، تقول إن عمرو بن العاص فى شبابه، كان قد أنقذ بفلسطين راهباً كاد يهلك جوعاً، فأعطاه طعاماً وشراباً، وكاد يهلك من لدغة ثعبان، فقتله عمرو بن العاص بسهم! فأخذه الراهب إلى الإسكندرية، ليعطيه جائزة مالية مكافأةً على إنقاذ حياته مرتين.. وفى الإسكندرية، حضر «عمرو» احتفالاً فى (الاستاد) يرمون فيه بكُرةٍ على الناس، فمن وقعت فى حجره يكون بعد حينٍ ملكاً لمصر! فوقعت فى حِجر «عمرو بن العاص» فاستهان الناس بالأمر، لكنهم بعد سنوات وجدوا النبوءة قد تحققت وصار «عمرو» حاكماً لمصر.
وبالطبع، فهذه الرواية الهزلية تصل من السذاجة إلى الحدِّ الذى لا يجوز معه مناقشتها. لا سيما أنه لم يكن من المعروف أن مثل هذه (اللعبة) موجودة آنذاك، وليس معروفاً عن الرهبان ارتياد الملاعب، ولم يكن للعرب من أمثال «عمرو» هذه السذاجة، التى تدعوه للسفر شهوراً كى يأخذ جائزةً مالية من راهب (ومتى كان الرهبان يملكون أموالاً؟!).. فلنترك مثل هذه القصص البلهاء جانباً، وننظر بشىءٍ من الجدية إلى دخول عمرو بن العاص إلى مصر، على رأس جيشٍ خرج من الشام وعدده ثلاثة آلاف وخمسائة، وقيل بل أربعة آلاف ، كلُّهم من قبيلة «عك» اليمنية. ولنجعل الأمر ملخَّصاً فى النقاط التالية:
أولاً: كان المسلمون قد عقدوا اتفاقاً قبل سنوات مع المقوقس، أبرمه «حاطب بن أبى بلتعة» فى خلافة أبى بكر الصديق. فلما لجأ «أرطيون» إلى مصر، وفيها من جند الروم عشرات الآلاف، صار (العهد) السابق قد انتُقض من جهة المقوقس باستقباله أرطيون، أو بعدم قدرته على طرده من البلاد.. ومادام الأمر كذلك، كان لا بد للعرب المسلمين من تعقُّب أرطيون، خشية أن يرتدَّ عليهم وقد ازداد قوةً، خاصة أن الأسطول البيزنطى كان يرابض بشواطئ الإسكندرية، وكان من الممكن أن يعود فيضرب سواحل الشام التى لم تكن آنذاك قد استقرت تماماً بأيدى المسلمين.
ثانياً: نقل لنا المقريزى، وهو من المؤرِّخين الكبار المتأخرين (تُوفى سنة ٨٤٥ هجرية) أن الخليفة «عمر» كتب إلى «عمرو» رسالةً بعد فتح الشام، يقول فيها لعمرو بن العاص: «اندبْ الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خفَّ معك، فِسرْ به»، وبعث الخليفة بالرسالة مع (شريك بن عبدة) فندبهم عمرو، فأسرعوا إلى الخروج معه.
إذن كان العربُ الساكنون قبل عقودٍ بمصر ينضمون لجيش «عمرو» تباعاً، خاصةً قبائل لخم وراشدة والأنباط وسكان سيناء من البدو، فيتزايد مع سير الجيش عدده، بحيث يمكن أن ينتصر العرب المسلمون على الروم فى أول موقعة عسكرية (الفرما = بيلوز= البرمون) ويأسرون منهم ثلاثة آلاف جندى، يرسلهم عمرو بن العاص كأسرى للمدينة (يثرب) فيردُّهم الخليفة «لعهدٍ كان قد سبق لهم»، هو العهد المبرم بين حاطب بن أبى بلتعة والمقوقس، ولم يكن لجند الروم المتحصِّنين فى الفرما (بلدة قريبة من بورسعيد الحالية) ذنب فى انتقاض هذا العهد.. ومن جهةٍ أخرى، يمكن أن نفهم فى ضوء ما سبق، قول المؤرخ المبكر «ابن عبدالحكم» أن عمرو بن العاص خرج بالجيش إلى مصر: فنقض الصلح وفتحها.
ثالثاً: لا يجب أن يغيب عن أذهاننا، خيانة المقوقس لهرقل بعد (العهد)، الذى أبرمه سراً مع المسلمين، ولم تُشِرْ إليه أى وثائق أو مدوَّنات تاريخية بيزنطية. وهو ما يفسر أشياء كثيرة جرت فى ابتداء الأمر، منها أن جيش «عمرو» وجد حدود مصر (العريش) خاليةً من جند الروم، وهو ما لا يستقيم مع حالة الاستنفار المفترضة فى بلدٍ يخضع للإمبراطورية البيزنطية، التى تحارب المسلمين فى الشام.. ومنها المفاوضات الهزلية التى قام بها المقوقس مع المسلمين أثناء حصار القصر (حصن بابليون)، الذى يسمِّيه بعض مؤرِّخينا القدامى: باب إليون. والمفاوضات التالية التى قام بها المقوقس مع عمرو، أيام فتح الإسكندرية، بعد وفاة هرقل حسيراً آسفاً على تداعِى أركان إمبراطوريته. فكان من مطالب المقوقس التى وافق عليها (عمرو) أن يبقى المقوقس فى الإسكندرية، وأن يُدفن بعد وفاته فى كنيسة يوحنا، التى تسمِّيها المصادر العربية المبكرة: كنيسة أبى يُحنَّس.. فقد كان المقوقس قبل سنوات يسعى إلى امتلاك الحكم الدنيوى، فصار بعد حينٍ يفكر فى ختام حياته، وفى القبر الذى يستر جسده ومخازيه.
رابعاً: كان عمرو بن العاص يسير بجيشه فى حواف الدلتا، وفى الجانب الشرقى من مصر، على هدى الأدلاء من العرب العارفين بتلك النواحى. فلما عبر النيل فى موسم التحاريق، حيث ينكشف قاع النهر، سار بجيشه على غير هدى حتى وصل الفيوم فى رحلةٍ ليس تحتها طائل، فوجد هناك قتالاً يدور بين الروم أنفسهم، فعاد وحاصر القصر بعد حين.. فلما اجتمع حوله أشتات العرب (المصريون) وجاءه مددٌ قوامه أربعة آلاف جندى مسلم من خيرة المقاتلين (فيهم: الزبير بن العوام، المقداد بن الأسود، عبادة بن الصامت، مسلمة بن مخلد) استطاع الاستيلاء على الحصن، واتجه إلى الإسكندرية عاصمة البلاد التى لا يستقيم (الفتح) إلا بدخولها، فوقف عند أسوارها الشرقية، حتى تداعى قلب المدينة واضطربت أحوال الناس فيها، فدخلها، ثم ثارت على المسلمين بعد حين، حين أتاها المددُ من بيزنطة.. فعاد إليها «عمرو» بن العاص وفتحها ثانيةً، وهرب الرومُ من أمامه بسفنهم.
خامساً: كان مجىء «عمرو» بن العاص بجيشه إلى مصر، إنما هو فى واقع الأمر لتسلم حكم البلاد، وليس للفتح أو الغزو أو الحرب التى من غير المعقول أن ينهزم فيها عشرات الآلاف من جند الروم المتحصِّنين فى القلاع (عددهم ما بين أربعين ألفاً ومائة ألف) أمام جيش المسلمين، الذى كانت خسائره اثنين وعشرين رجلاً..
وإلى مقالة الأسبوع القادم، حيث نختتم هذه السباعية.