لا يمكن الكلام عن دخول المسلمين إلى الأندلس، بمعزلٍ عن «السياق التاريخى» والأحداث الكبرى التى جرت على «الساحة الدولية» فى ذاك الزمان.. وقد أشرنا فى المقالتين السابقتين إلى أن فتوح الشمال الأفريقى، والأندلس من بعد، بدأت بغزوتين للأراضى الليبية والتونسية، قام بهما تباعاً عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى سرح. وفى الغزوتين، كان القتال يدور بين العرب والروم، العرب المسلمين والروم المسيحيين (الملكانيين) ولم تكن «القبائل» المنتشرة فى شمال أفريقيا، قد دخلت بعدُ فى المواجهات العسكرية النظامية.
وكان من المفترض أن تنشط حركة (الفتوح) بعد سنة ٣٤ هجرية، لأنها السنة التى انتصر فيها المسلمون على الروم فى الموقعة البحرية، المسماة من كثرة صوارى السفن المشاركة فى القتال: ذات الصَّوارى. غير أن اندلاع الخلاف على خلافة المسلمين بين الإمام علىِّ بن أبى طالب (رجل الدين) ومعاوية بن أبى سفيان (رجل الدولة) سنة ٣٥ هجرية، أدى إلى توقفٍ تام لحركة الفتوح شرقاً وغرباً، بل أدى إلى ضياع بعض البلاد من يد المسلمين، ومنها (تونس) التى كانوا يسمونها: إفريقية.
■ ■ ■
وبعد خمس سنوات من مقتل الإمام علىٍّ (سنة ٤٠ هجرية) غدراً على يد «الخوارج» وفشلهم فى اغتيال معاوية بن أبى سفيان الذى صار آنذاك (خليفة) للمسلمين، أو بالأحرى (ملكاً) يتوارث بنوه الحكم من بعده.. عادت مع سنة ٤٥ هجرية حركةُ الفتوح إلى سابق عهدها، فقام «معاوية بن خديج» بغزو ليبيا وتونس، واستطاع أن يهزم جيش الروم هناك. وقام «عبدالله بن الزبير بن العوام» بفتح (سوسة) وما حولها، وصار على المسلمين فتح بقية الشمال الأفريقى، بحرب الروم والبربر معاً.. وبالمناسبة، فإن اسم (البربر) لا يرتبط من قريب أو بعيد، بوصف (البرابرة)، الذى أطلقه الرومان ومن بعدهم الروم (البيزنطيون) على القبائل العنيفة التى كانت تسكن شمال وغرب أوروبا. فالبربر اسم لقبائل سكنت الشمال الأفريقى الممتد من ليبيا إلى المغرب، من قبل مجىء الإسلام بقرون.. وبعض المؤرخين يذهب إلى أنهم فى الأصل، قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية، أو هجرتها بسبب الكلأ الشحيح، وحطت بها يد الترحال فى تلك النواحى النائية. ولكن هذا الرأى، فيما أرى، يفتقر إلى الدلائل المؤكدة.
المهم، أن المسلمين استكملوا فتوحاتهم غرباً، وهو الأمر الذى قام به «عقبة بن نافع» الذى وصل إلى أقصى المغرب الأقصى (المملكة المغربية حالياً) وأوقفه المحيط الأطلنطى عن التقدم غرباً.
وكان البربر قد بدأوا الدخول فى دين الله أفواجاً، غير أن زعيماً منهم اسمه «كُسَيْلَة بن لمزم» ارتدَّ عن الدين الجديد، وجمع جيشاً حارب به المسلمين، وانتصر عليهم سنة ٦٢ هجرية، وانتزع من أيديهم (القيروان) وقتل عقبة بن نافع. غير أن الجيش الإسلامى بقيادة «زهير بن قيس» عاد للكرِّ على البربر، وهزمهم سنة ٦٩ هجرية، واستردَّ القيروان وقتل كُسَيْلَة بن لمزم.. ولكن حروباً أخرى كانت تنتظر المسلمين، أهمها حربُ قرطاجنة وحربُ الكاهنة.
■ ■ ■
استغل الإمبراطور البيزنطى توغُّل المسلمين غرباً، ودَعَمَ عاملَه الرومىّ (حاكم قرطاجنة) بأسطولٍ كبيرٍ من جزيرة صقلية، فاجتاح الجيشُ الرومى منطقة «برقة» وقطع الطريق بين عاصمة الخلافة الإسلامية (دمشق) وجيش المسلمين الذى كان قد توغَّل غرباً.. واضطر القائد المسلم «زهير» للعودة شرقاً للدفاع عن «برقة»، لكنه انهزم على يد الروم، وقُتِل (استشهد!) ومعه معظم القوَّاد والجند. وبذلك، فقد المسلمون الشمال الأفريقى، والجيش الذى كان قبل سنوات يمضى قُدُماً إلى جهة المغرب.. وعن هذه الهزيمة (النكسة) يقول د. عبدالله عنان فى موسوعته (دولة الإسلام فى الأندلس) ما معناه:
«كان وقع هذا الخطب شديداً فى حكومة دمشق (الخلافة الأموية) وكانت مشغولة آنذاك بمحاربة ابن الزبير وصَحْبه الخوارج عليها (الثائرين)، فمضت أعوامٌ أخرى قبل أن تتمكَّن من العناية بشؤون إفريقية (تونس)، فلمَّا انتهت الثورة وقُتِل ابن الزبير، وجَّه عبدالملك بن مروان عنايته إلى استعادة إفريقية، فولَّى عليها حسَّان بن النعمان الغسانى سنة ٧٣ هجرية (٦٩٢ميلادية) وسيَّره إليها بجيشٍ ضخمٍ كان أعظم قوة (عسكرية) سيَّرتها الخلافة الأموية إلى إفريقية، فاخترق حَسَّان «برقة» وقصد قرطاجنَّة عاصمة إفريقية الرومانية، التى كانت لا تزال فى يد الروم، ولم يغزُها المسلمون لحصانتها واتصالها بالبحر وقُربها من صقلية، حيث كانت تُرسل إليها الإمدادات البيزنطية، بسرعة.
وحاصر «حَسَّان» قرطاجنة (قرطاج) حصاراً محكماً، ثم اقتحمها واستولى عليها، ولكن إمبراطور الروم (البيزنطيين) سيَّر إليها جيشاً بقيادة حاكمها «يوحنا» يعاونه أسطول من صقلية، وقوة من القوط أرسلها ملك إسبانيا القوطىُّ الذى أزعجه اقتراب العرب من بلاده. فانسحب العربُ وارتدوا إلى القيروان، حتى إذا جاءتهم الإمدادات أعادوا الكرَّة على قرطاجنة، وهزموا الروم والقوط هزيمةً شديدة ففرَّوا إلى سفنهم، وخُرِّبت قرطاجنة وهُدِّمت حصونها القوية، ثم سار «حَسَّان» غرباً وهزم الروم والبربر فى عدة مواضع، واستعاد الإسلام سلطانه بين برقة والمحيط (= ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب)».
وقد نقلتُ الفقرة السابقة، على طولها، من هذا المصدر المعتمد، لأنها تشير بوضوح إلى ثلاث نقاطٍ مهمة تتعلق بالفتوح الإسلامية، وفَهْمنا لها نحنُ المعاصرين.. النقطة الأولى، أن فتح المسلمين لقرطاجنة (قرطاج) احتاج «أضخم جيش إسلامى دخل أفريقيا» ومعروف أن مدينة الإسكندرية (عاصمة مصر، مدينة الله العظمى) كانت أهم وأكبر وأمنع من قرطاجنة، فكيف استطاع عمرو بن العاص فتحها قبل ذلك بعقودٍ قليلة من الزمان، إذا كان جيشه قليلاً فى العدد والعُدة؟ إذن، فإن صورة فتح الإسكندرية (مرتين) فى أذهاننا، غير كاملة وغير سليمة. فالجيش الذى «حاصرها» به عمرو بن العاص، لم يكن بهذا العدد القليل الذى نظنه، لأنه ضمَّ معه عشرات الآلاف من العرب الذين كانوا يسكنون مصر من قبل الإسلام. وعمليةُ الفتح ذاتها (فى المرتين) تشوبها ظلالٌ قوية نتجت عن العلاقة «الخفية» بين المقوقس والمسلمين، حسبما عرضنا فى السباعية الماضية، وهو ما يفسِّر وَصْفى لفتح مصر بأنه كان، بحسب التعبير المعاصر: «تسليم مفتاح». ويفسِّر فى الوقت ذاته، العدد الضئيل جداً الذى خسره المسلمون فى حرب الإسكندرية (اثنان وعشرون رجلاً) قد يكون بعضهم قد مات أثناء «الحصار» بسبب البرد ونزلات الأنفلونزا! فى زمنٍ لم تكن فيه المضادات الحيوية التى نستعملها اليوم، قد اكتُشفت بعد.
والنقطة الثانية، هى ظهور «القوط» لأول مرة فى حرب المسلمين والروم، وقد ظهروا كحلفاء للروم ومعاونين لهم، لاعتقادهم بأنهم ما عادوا بمنأى عن الأخطار (الإسلامية) التى تجتاح الأقطار الأفريقية الشمالية، ولا بد لها فى نهاية الأمر من تهديد سلطانهم بإسبانيا.. وهو الأمر الذى وقع بالفعل بعد سنوات قليلة، كما سنرى بعد قليل.
والنقطة الثالثة الأخيرة، هى أن المسلمين خَرَّبوا أسوار قرطاجنة. ونحن نعرف أن عمرو بن العاص، كان من قبلها بعقود قد خرَّب أسوار الإسكندرية.. ومن المفترض (نظرياً) أن هذه الحصون تحمى الجيوش، والغالبُ المنتصرُ إذا كان هدفه عسكرياً مجرداً، فمن مصلحته أن يحتفظ بهذه الأسوار ليتحصَّن فيها.. لكن المسلمين كانوا يأتون إلى البلاد، ليمكثوا! لا ليجنوا خيراتها باعتبارها «مغانم» تحرسها الجيوش التى تحرسها الحصون والقلاع.. فتأمل.
■ ■ ■
أما حرب «الكاهنة» التى كانت حلقةً من حلقات «ثورات البربر» على الحكم الإسلامى، فقد وقعت فى المغرب الأقصى. فهناك اجتمعت قبيلة (جراوة) وقبائل أخرى من البربر، تحت قيادة امرأةٍ قيل إنها كانت تشتغل بالسحر والكهانة، هى: دهيا بنت ماتية بن تيفان. والمصادر البيزنطية (اللاتينية) تسميها «داميا» والمصادر العربية تلقِّبها بالكاهنة.. وبعض المصادر، من هنا ومن هناك، تشير إلى أن هذه المرأة الزعيمة، كانت تدين باليهودية! وهو الأمر الذى أشكُّ فيه كثيراً، لأن الديانة اليهودية، فى أصلها التوراتى وتطورها التلمودى؛ تنظر إلى المرأة نظرةً لا تسمح لها بالزعامة والقيادة، فضلاً عن «الكهانة» وعن رئاسة الجيوش.
كانت الكاهنة تحكم المنطقة المسماة (جبل أوراس) فلما جاء حسَّان بن النعمان الغسَّانى بجيشه الجرَّار، خرجت إليه بجيش أشدَّ استطاع أن يهزم جيش العرب المسلمين، ويضطره إلى الفرار شرقاً بعد موقعةٍ هائلة انتصرت فيها الكاهنة وارتد «حسَّان» إلى برقة، فسارت وراءه الكاهنة بجيشها وسيطرت فى طريقها على بلاد كثيرة، حتى صارت معظم نواحى تونس والجزائر تحت حكمها.. وظل الحال على ذلك لخمسة أعوام، حتى دَعَم الخليفة عبدالملك بن مروان جيشَ المسلمين بجماعات كبيرة من الجند، فتقهقرت الكاهنة غرباً وأحرقت فى طريقها المدن والنواحى، ليصعب على جيش المسلمين استكمال الطريق غرباً، فى تلك الصحراوات القاحلة.
لكن المسلمين لم يتوقفوا عن ملاحقتها، حتى التقى الجمعان (الجيشان) عند جبل أوراس، فظهر المسلمون على الكاهنة، وقتلوها، وانتصروا على جموعها من قبائل البربر.. والظاهر أن نصر المسلمين لم يكن ساحقاً، لأنهم ارتضوا بأن يبقى ابن الكاهنة حاكماً على منطقة جبل أوراس، على أن يدين للمسلمين بالولاء والطاعة، ويمدَّهم باثنى عشر ألف مقاتل، لدعم جيشهم وتحقيق بقية الفتوحات، تعويضاً عَمَّا فقده المسلمون فى حروبهم الدامية بشمال أفريقيا.. أتذكَّر الآن محمود درويش، حين يقول:
ألوفٌ من الجند ماتت هناك
دفاعاً عن القائدين اللذين يقولانِ:
هيَّا
وينتظرانِ الغنائم فى خيمتين حريريتين
من الجانبين
.. يموت الجنودُ مراراً،
ولا يعلمون إلى الآن
مَنْ كان منتصراً.
■ ■ ■
وراحت النواحى المغاربية تدلف تباعاً فى دائرة الدولة الإسلامية، ويصير البربر رويداً من المسلمين. وإن كانوا قد ظلوا يرون فى أنفسهم شرفاً ومكانةً، ليست للعرب! وبالمناسبة، فهم لايزالون إلى اليوم فى دول الشمال الأفريقى، يستعلون بأصولهم على العرب (الحاكمين)، باعتبار أن قبائل «البربر» فى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، هم أصحاب البلاد الأصليون.. وهم لا يقبلون فكرة أن البلاد لمن يسكنها ويتوالد فيها جيلاً من بعد جيل، وأن «النقاء العِرْقى» محض خرافة اجتماعية يكذِّبها التاريخُ الطويل، وتدحضها ملامحُ الناس المتشابهة فى كل قُطر.
■ ■ ■
وفى الوقت الذى كانت فيه البلاد المغاربية (الشمال الأفريقى) تدخل فى نطاق دولة العرب المسلمين، كانت البلاد المشرقية (فارس وأواسط آسيا) تدخل فى النطاق ذاته.. وفى قلب دولة الإسلام، كانت هناك مشكلات كثيرة، وقلاقل، وحكايات. وكان هناك رجلٌ من التابعين (الجيل الثانى بعد الصحابة) اسمه «موسى بن نصير» يقال إن مولده كان سنة ١٩ هجرية، وإن أصله من قبيلة «بكر بن وائل» الذين غلبهم خالد بن الوليد وأخذ منهم أسرى، كان منهم والده «نصير» الذى صار من موالى قبيلة «لخم»، وصار لاحقاً واحداً من حرس معاوية بن أبى سفيان. وقد نشأ ابنه «موسى» فى بلاط الأمويين، وخدمهم فى عدة وظائف عسكرية ومدنية حتى لاحقته فى الشام اتهاماتٌ باختلاس أموال، فكاد «الحجَّاج بن يوسف الثقفى» يفتك به، لولا تدخُّل «عبدالعزيز بن مروان» أمير مصر الأُموىّ، الذى أنقذه من بطش الحجَّاج وجعله حاكماً على المغرب، فثار عليه البربر من جديد، لكنه غلبهم بعدما اتخذ منهم هناك معاوناً عسكرياً هو طارق بن زياد الليثى.. الذى عبر بالجيش الإسلامى إلى الأندلس، حسبما سنذكر فى مقالتنا القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق