عندما علَّم اللهُ آدم (الأسماءَ كلَّها)، حسبما جاء فى القرآن الكريم، من دون توضيح طبيعة «اللغة» التى جاء منها هذه الأسماء. فقد كان ذلك (حسبما أعتقدُ) نوعاً من الانتقال بالأشياء «المعلومة» من حالة الوجود العام، أو انعدام الوعى بها، إلى حالة الإدراك الإنسانى للشىء المسمَّى، وحضوره فى الوعى الإنسانى. فالاسم فى واقع الأمر، هو شهادة وجود الشىء فى وعينا وإدراكنا الإنسانى، وغير المسمَّى هو حالة وسطى بين العدم الكلى للشىء والإدراك الأول له.. لعل هذا الكلام فلسفىٌّ، لا يناسب (حسبما يعتقد البعض) المقالات المنشورة فى الصحف! فلنقدم أمثلةً عليه، كى نقترب به إلى الأفهام:
نعرف جميعاً، أن فى السماء أجساماً سابحةً فى الكون اللانهائى، منها ما ندركه ونعطيه اسماً «القمر ، الشمس، عطارد.. إلخ» فيصير (موجوداً) فى أذهاننا، ومنها ما لا ندركه فلا نعطيه اسماً محدَّداً، فيصير كأنه غير موجود، أو هو فى مرتبةٍ وسطى بين الوجود والعدم. ولذلك، فإن فى سيناء (مثلاً) جبالاً كثيرة، لكننا خصَّصنا جبلاً منها باسم (جبل موسى) وجبلاً آخر باسم (جبل الربَّة) وهكذا، وما لم نعطه اسماً فهو مجرد جبل، ليس له «مستند وجود» فى وعينا، حتى نعرفه ونميِّزه باسمٍ من الأسماء، فنخرجه بذلك من التأرجح بين حالتىْ الوجود والعدم الذهنى .
واختلافُ أسماء وصفات المواضع عينها، والجماعات ذاتها، من المشكلات «المشوِّشات» للإدراك، وهى مشكلاتٌ من شأنها أن تُحدث ارتباكاً فى الوعى، سواءٌ بالنسبة للناظر فى التاريخ أو للمتأمل فى الواقع، فالكثير منا على سبيل المثال، لا يعرفون أن «بيزنطة» التى تُنسب إليها مرحلة مهمة من التاريخ (العصر البيزنطى) هى ذاتها مدينة «إستانبول» الحالية، وهى أيضاً «الآستانة» و«القسطنطينية وإسلام بول» و«إسطنبول».. والبلدة المصرية التى وقعت عندها أولى المواجهات العسكرية بين جيش عمرو بن العاص القادم لفتح مصر، والجيش البيزنطى (جيش الروم) لها ثلاثة أسماء! فالروم يسمُّونها باسمها اليونانى «بيلوز»، والعرب الفاتحون يسمُّونها «الفرما» بينما سكان مصر يعرفونها باسم: البَرَمون، ونهرنا المسمَّى فى التوراة «نهر مصر الكبير» اسمه عند العرب «النيل» وهى تسميةٌ مشتقةٌ من اسمه اليونانى «نيلوس»، بينما كان سكان مصر القدماء لا يعرفون له إلا اسم: يارو.
وفى الحالات السابقة، ومثيلاتها، يأتى اختلافُ التسميات بسبب اختلاف اللغات المتجاورة والمتفاعلة، وبسبب اشتقاق الأسماء عبر اللغات. وهو الأمر الذى تحدث معه أسماءٌ مخايلة، غير دقيقة، مثلما هو الحال حين نسمِّى المنطقة الأثرية الواقعة جنوب الأردن (البتراء) وهى كلمة عربية تبدو فصيحة، لكنها فى واقع الأمر تعريبٌ للكلمة اليونانية (بترا)، التى تعنى «الصخر» وهو أنسب الأسماء لهذه المنطقة الصخرية التى حفر فيها الأنباط بطون الجبال، وجعلوها عاصمةً لهم منذ القرن الأول الميلادى، أما اسمها العربى الفصيح، فهو «سَلْع» وهى تسميةٌ أصيلة لكنها غير مشهورة، والبعض من العرب يسمِّيها «الحجَر» ويُقال إنها الموضع المشار إليه فى القرآن الكريم باسم: الكهف والرَّقيم.
ومن أسباب اختلاف التسميات، الأسماء الواصفة التى يُطلقها المخالفون على بعضهم البعض. كأن يُسمِّى المسلمون ما سبقهم زمناً «الجاهلية» ويسمُّون أهل قريش «الكُفَّار»، بينما كانت قريش تطلق على النبى صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه، تسميات ليس من اللائق أن نذكرها هنا.. وبالمثل، كان المسيحيون الذين يرون أنهم أصحاب (الإيمان القويم) يسمون مخالفيهم «هراطقة»، وكان اليهود يسمون غيرهم «الأمم» بينما يجعلون لأنفسهم أسماء وصفات من نوع «أبناء الله»، وهو الاسم الواصف الذى أطلقه المسيحيون، أيضاً، على أنفسهم «أبناء الربّ» ورَدَّ القرآن الكريم على كليهما بقوله تعالى (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُلْ فلِمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خَلَق).
وفى حالات كثيرة، يتشارك اسمان أو أكثر للشىء الواحد. مثلما هو الحال، مثلاً، فى قولنا «المغول» و«التتار» على الجماعة نفسها، أو نقول «الفاطميون» و«العبيديون» على الدولة ذاتها، أو نسمِّى الموضع المشهور الآن بالقاهرة «حصن بابليون» وهو الموضع الذى كان المصريون قبل الفتح يسمونه «القصر»، وكان العرب الفاتحون يسمونه: باب إليون.
وتظهر هذه المشكلة «المشوِّشة» بوضوح، فيما يتعلق بفتوح شمال أفريقيا، والأندلس من بعد.. حسبما سيظهر لنا فى بقية هذه المقالة.
فى زمن الفتوح، كانت المنطقة المسماة اليوم (ليبيا) تسمى «المدن الخمس الغربية» أى الواقعة غرب الإسكندرية، التابعة لأُسقفها. وكانت البلد المضطربة هذه الأيام (تونس) تُسمَّى عند العرب «أفريقية»، وما يقع غربها من الأرض الواسعة التى تُسمَّى اليوم (الجزائر) كان يُشار إليه باسم «المغرب». أما المملكة المغربية، التى نعرفها اليوم، فكانت تسمَّى «المغرب الأقصى» لأنها أقصى ما يقع إلى جهة المغرب، من ناحية (عاصمة) الخلافة الإسلامية آنذاك: دمشق، وقد ساد الاعتقادُ قديماً، بأن المغرب الأقصى، هو «أقصى» ما يمكن أن يصل إليه الناسُ، ولذلك فإن الفاتح المسلم (عُقبة بن نافع الفهرى) بعدما استكمل فتوح المغرب، حتى وصل إلى البحر المحيط دخل بحصانه إلى بحر الظلمات (= المحيط الأطلنطى) حتى بلغ الماء رقبة حصانه، وقال هناك: «اللهم إنى أُشهدك أنه لا مجاز (عبور) ولو وجدتُ مجازاً، لجزتُ».
وكانت النواحى المغاربية الشاسعة، الممتدة من ليبيا إلى تونس إلى الجزائر إلى المغرب، مسكناً لمجموعة من القبائل الكبرى التى من أشهرها: زَنَاتة، هَوَّارة، كُتَامة، غمارة، جَرَاوة، صِنْهاجة.. وهى القبائل التى سيدخل أفرادها الإسلام، بعد حين، ويكون لهم دورٌ كبيرٌ فى تاريخ الإسلام بأفريقيا، وتاريخ الفاطميين بمصر.
وكانت شبه جزيرة «أيبيريا» المسماة اليوم (إسبانيا، البرتغال) وما يقع إلى الشمال منهما (فرنسا= بلاد غالة) تُسمَّى جميعاً: بلاد القوط، وبلاد الوندال. وكلتاهما (القوط، الوندال) من الجماعات التى نزحت من شمال أوروبا إلى جنوبها، واستقرت فيه، ويقال إنهما فى الأصل جماعة واحدة، وكان الرومان يسمُّون القوط والوندال (البرابرة) بينما كان العربُ يسمون قبائل شمال أفريقيا (البربر).
وقد استقرَّ «البرابرةُ» فى القرون الميلادية الأولى بإسبانيا، واستطاعوا بمعاونة «البربر» أن يدكُّوا حصون المدينة العظمى (روما) فى بداية القرن الخامس الميلادى، واقتحموها، ثم عادوا إلى بلادهم أعزاء، مرهوبى الجانب، مسيحيى الديانة على المذهب الآريوسى (كان آريوس قد نُفى إلى إسبانيا، وطاب له المقام هناك بأحد أديرتها) وهو الأمر الذى سيقرِّب لاحقاً بينهم وبين المسلمين، لأن العقائد الآريوسية قريبة «لاهوتياً» من المعتقدات الإسلامية.
ولما ورثت بيزنظة (القسطنطينية، إستانبول) الحكم من «روما» وصار الرومان يُسَمَّوْنَ الروم (كان الرومان وثنيين، وصار الروم مسيحيين) فرضتْ بيزنطة سلطانها على بلاد غالة (فرنسا) وعلى بلاد الوندال (إسبانيا) وعلى شمال أفريقيا (بلاد المغرب) وبقى الحالُ هناك مستقراً، إلى حين، حتى ضعف سلطان بيزنطة وتراخت قبضتها على الأطراف البعيدة، فصارت النواحى الإسبانية والبرتغالية بيدِ أمراء وملوك الوندال، الذين سيطروا أيضاً على نواحى الجزائر والمغرب، وعاشوا فيها (حسبما يقول المؤرِّخون) فساداً وظلماً وقهراً لسكانها.
والمتأمل فى وقائع التاريخ، فى ذاك الزمان، يلاحظ أن انتشار المسيحية واستقرارها، كان نكبة على اليهود. فالمسيحيون ينظرون إلى اليهودية باعتبارها مقدمةً لديانتهم أو (عهد قديم) لم يعد لها بعد ظهور بشارة المسيح (العهد الجديد) مبرر للوجود. فضلاً عن الاعتقاد المسيحى الجازم، بأن اليهود هم الذين سلَّموا السيد المسيح للرومان، ليصلبوه، وبالتالى فهم أسوأ الخلق أجمعين
ومن الناحية الأخرى، يرى اليهود أن المسيحيين ليسوا على شىء، ويعيشون على الخرافات! لأن المسيح (الماشيح) المنتظر لايزال منتظراً، ولم يأتِ بعدُ إلى هذا العالم ليجعل اليهود ملوكاً على الناس (من ألقاب المسيح: ملك اليهود).. وبالتالى، توترت العلاقة دوماً بين أولئك وهؤلاء، وكان الحالُ يجرى دوماً على المنوال ذاته: إذا قويتْ الدولة المسيحية، عانى اليهود من الاضطهاد، وهو الأمر الذى بلغ غايته قبيل انتشار الإسلام، إذ أصدر الإمبراطور البيزنطى «هرقل» فى حدود سنة ٦٣٠ ميلادية، مرسوماً إمبراطورياً يقضى بإجبار اليهود على اعتناق المسيحية، وإلا صارت دماؤهم مباحة لمن يريد قتلهم.. وقد قُتل من اليهود آنذاك عشرات الآلاف، وفرَّ الباقون من عاصمة الديانة اليهودية (أورشليم)، التى صار اسمها فى القرون الستة الأولى للميلاد (إيليا) وأصبحت عاصمةً روحية للمسيحيين، قبل أن يصير اسمها (القدس، بيت المقدس) وتصبح عند المسلمين مدينة مقدسة: أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين. وهو الأمر الذى يذكِّرنى، ثانيةً، بالشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش، حين قال فى قصيدة أخيرة له:
ومصادفةً ، صارتِ الأرضُ
أرضاً مقدسةً
ليس لأنها نسخةٌ من فراديسَ عُلوية
بل، لأن نبياً تمشَّى هناك
وصلَّى على صخرةٍ
فهَوَى التلُّ من خشية الله
مغمىً عليه.
وكان كثيرٌ من اليهود قد فرُّوا من العذاب والقتل والقهر الدينى، إلى أبعد المواضع من قلب الدولة المسيحية (قبل انتشار الإسلام) فسكنوا من جهة «أواسط آسيا»، ومن الجهة المقابلة «أقاصى المغرب» والأندلس.. لكنهم لم يسلموا مع ذلك من الاكتواء بالويلات التى يثيرها التعصب الدينى، ففى عصر الملك الإسبانى «سيزبوت» جرى ما يقصُّه علينا العلامة د. محمد عبدالله عنان، بعبارة مؤثرة، حين يقول فى الفصل الثانى من الجزء الأول من موسوعته (دولة الإسلام فى الأندلس) ما نصُّه:
«كان يهود الجزيرة (إسبانيا) كتلة كبيرة، لكنهم كانوا موضع البغض والتعصُّب والتحامل، يعانون أشنع ألوان الجور والاضطهاد، وكانت الكنيسة منذ اشتدَّ ساعدها، تحاول تنصير اليهود وتتوسَّل إلى تحقيق غايتها بالعنف والمطاردة، وفى عصر الملك سيزبوت فُرِض التنصير على اليهود أو النفى والمصادرة، فاعتنق النصرانيةَ كثيرٌ منهم كَرْهاً ورياءً سنة ٦١٦ ميلادية، ثم توالت عليهم مع ذلك صنوف الاضطهاد والمحن، فركنوا إلى التآمر وتدبير الثورة، وتفاهموا مع إخوانهم يهود المغرب على المؤازرة والتعاون.
ولكن المؤامرة اكتشفت قبل نضجها فى عهد الملك إجيكا (سنة ٦٩٤ ميلادية)، فقرر معاقبة اليهود باعتبارهم خوارج على الدولة، ومرتدين عن النصرانية. فنـزع أملاكهم فى سائر الولايات الإسبانية، وضمَّها إلى ممتلكاته، وشرَّدهم وجعلهم عبيداً للنصارى إلى الأبد، لا يسمح لهم باسترداد حريتهم، وأَمَرَ بتحرير عبيدهم من النصارى، ونَزَعَ أبناءهم منذ السابعة لتربيتهم على دين النصرانية، وقَرَّرَ ألا يتزوَّج عبدٌ يهودىٌّ إلا بجاريةٍ نصرانية، ولا تتزوَّج يهوديةٌ إلا بنصرانى، وهكذا عصفت يدُ البطش والمطاردة باليهود أيمَّا عَصْفٍ، فكانوا قُبيل الفتح الإسلامى ضحية ظلمٍ لا يُطاق، وكانوا كباقى طوائف الشعب المهيضة (البربر، الآريوسيين) يتوقون إلى الخلاص.
وقد بدأت الغزواتُ الإسلامية للشمال الأفريقى، كما ذكرنا فى المقالة السابقة، عقب فتح المسلمين لمصر. فقد غزا عمرو بن العاص الصحراء الليبية، ثم غزا عبدالله بن أبى سرح تونس، وقتل حاكمها الأسقف العسكرى جريجورى (جُرجير) وغنم من هناك غنائم كثيرة.. وقد انشغل المسلمون حيناً من الدهر، فيما بينهم، بسبب النـزاع بين الإمام علىّ بن أبى طالب والأمير معاوية بن أبى سفيان. ودارت بين المسلمين حروب، آل السلطان بعدها لمعاوية بن أبى سفيان الذى حرص على (توريث الحكم) لأول مرة فى تاريخ الإسلام، فأورث العرش لابنه «يزيد» الملقَّب عند بعض المؤرخين: الفاجر.. وقد ورد فى الحديث الشريف، «إن الله قد ينصر هذا الدين (الإسلام) بالرجل الفاجر!».
وإلى مقالة الأربعاء القادم، حيث سنرى معاً حروب المسلمين فى شمال أفريقيا (ومن أهمها: حرب الكاهنة) وعبورهم إلى الشاطئ الأوروبى ، فى مغامرةٍ لم يكن أحد يتوقع لها أن تسفر عن استقرار الإسلام فى (الأندلس) لقرون طوال من الزمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق