الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى (تمهيداتٌ ضرورية) 7\1


زرتُ إسبانيا مرتين، الأولى بدعوة من الملكة »صوفيا« لأشارك معها فى افتتاح الجناح الكبير الذى أُقيم فى المكتبة الوطنية الإسبانية بمدريد، احتفالاً بافتتاح مكتبة الإسكندرية وعودتها للحياة بعد قرونٍ طوال من اندثارها وتدميرها على يد المتعصِّبين دينياً، فى بداية القرن الخامس الميلادى، وللعلم، فإن «الملكة صوفيا» من أهمِّ الشخصيات العالمية، التى تحمَّسَتْ لبعث مكتبة الإسكندرية، لأنها من عُشَّاق الإسكندرية الساحرة! وهى من ناحية، ابنةُ آخر ملوك اليونان (وللإسكندرية وجهٌ يونانى) ومن ناحية أخرى، نشأت فى هذه المدينة وتخرَّجتْ فى مدارسها..
وفى هذه الزيارة الأولى، دُعِيتُ إلى زيارة الدَّير الملكى (الإسكوريال) الذى يحتفظ بثلاثة آلاف مخطوطة عربية نادرة، فكنتُ من القلائل، الذين دخلوا دهاليز الدير وخزائن المخطوطات المحفوظة هناك، كما دُعِيتُ فى تلك الزيارة، إلى جولةٍ خاصة فى المكتبة القومية الإسبانية بمدريد، فكنتُ من المحظوظين الذين أخرجَ لهم مديرُ المكتبة من خزانةٍ عتيقة قصةَ «الأَلِف» بخطِّ مؤلِّفها الشهير: خورخى لويس بورخيس، وعرفتُ منه يومها أن النسخة الكاملة من مخطوطات دير الإسكوريال، التى أهدتها الملكة صوفيا لمكتبة الإسكندرية، هى النسخة الوحيدة فى العالم. حتى إن المكتبة القومية الإسبانية، ذاتها، ليس لديها نسخةٌ مما لدينا اليوم بالإسكندرية.
وكانت زيارتى الأخرى لإسبانيا بدعوةٍ من عمدة مقاطعة «أليخانتى» الساحرة، لأشارك فى افتتاح الميدان، الذى أقاموا فيه النصب التذكارى (التمثال الكبير) للعالم العربى والصيدلانى الشهير «ابن البيطار» الذى ترك لتاريخ العلم الإنسانى، مجموعة أعمال فى الطب والصيدلة، أشهرها كتابه: الجامع لمفردات الأغذية والأدوية.
وخلال الزيارتين، بدأتُ أعيد النظر فى (تصوُّرنا) نحن العرب والمسلمين، للمرحلة الأندلسية من تاريخ إسبانيا، ففى المرتين رأيتُ صورةً صادقةً من اعتزاز الإسبان المعاصرين بالزمان العربى الإسلامى فى (الأندلس)، وشاهدتُ كثيراً من العمائر والآثار الباقية إلى اليوم من ذاك الزمان، وعرفتُ أشياءَ كثيرة، خاصةً أن الزيارة الأولى صحبنى فيها الدكتور «محمد أبوالعطا» الذى كان آنذاك مستشاراً ثقافياً لمصر فى إسبانيا، وهو خبير باللغة الإسبانية، ومترجم بارع لنصوصها إلى اللغة العربية.. وفى الزيارة الأخرى، صحبنى الدكتور «محمود على مكى» الذى يعدُّ اليوم، أهمَّ متخصِّص فى التاريخ الأندلسى على مستوى العالم، فكان الصاحبان فى المرَّتين، خيرَ مَنْ ينطبق عليهم قولهم: الرفيق قبل الطريق.
ولاحظتُ فى الزيارتين تشابهاً شديداً بين العرب والإسبان، خاصةً فى الجنوب القريب من المغرب، حتى إنهم يقولون هناك: لو حَكَّ الإسبانىُّ المعاصر جلده، لظهر تحته الجلد العربى! فإذا لم يتكلَّمْ أحدهُما لغتَه الخاصَّة، فإنك لا تستطيع تمييز الشخص العربىِّ من الإسبانى. والتشابُه بينهما لا يقتصر على تلك الملامح الشرقيَّة لكليهما، ولا يتوقَّف عند صيحة (الله/أُلِّله) التى يطلقها كلٌّ منهما إذا اشتدَّ انفعالُه، حيث يتنهَّد العربى المعاصر قائلاً (الله) عند مشاهدة لوحةٍ فنيَّة أو منظر جميل، والإسبانُ المعاصرون يتصايحون (أوليه) عند كلِّ حركة لافتة فى حلبات مصارعة الثيران، بعد تحريف طفيف للكلمة العربية.. لكنَّ الأمرَ لا يقفُ عند هذه التشابهات الظاهريَّة، فالصلة بين العرب والإسبان تتعدَّى ذلك إلى تشابه أعمق، فى: الشخصيَّةِ العامة، الروح الباطنة، التكوين الثقافى، التراث المشترك. وغيرِ ذلك من أوجه الشبه الذى ترسَّخ عبر قرون طوال، فلم تستطع القرونُ الخمسة الأخيرة (قرون العُزْلة) أن تفصل العرب عن الإسبان، وأن تمحو من بنية الإسبانى المعاصر، هذه الجيناتِ الوراثيَّة والثقافيَّة.
ومع أن إسبانيا تقع جغرافيا فى نطاق القارة الأوروبيَّة، إلا أنها مع ذلك، تبدو كما لو كانت امتداداً طبيعياً لبلاد المغرب العربى، التى لا يفصلها عنها إلا (مضيقُ) جبل طارق.. أو بالعكس، تبدو بلاد المغرب كامتدادٍ للأرض الإسبانيَّة التى فصلتها عنها، فى الأزمنة السحيقة، الزلازلُ التى سمحت لمياه المحيط بالدخول إلى المنطقة المسمَّاة اليوم: البحر المتوسط (أى المتوسط بين جماعات وشعوب العالم القديم ).
وقد لعب «التاريخُ» كما لعبت «الجغرافيا» دوراً مهماً فى التقريب بين العرب والإسبان، وهو الأمر الذى نجحت (السياسة) فى القضاء عليه، وهى على كلِّ حال، مسألةٌ كثيرة الوقوع، فلطالما نجحت السياسةُ فى فصم المتَّصل (الجغرافى/التاريخى) بين البلاد والعباد.
وللعرب والإسبان، أو بالأحرى: للعرب الإسبان (الأندلسيين) قصةٌ إنسانيَّةٌ مجيدة، استمرت زمناً طويلاً فى نطاق الثقافة البحر أوسطيَّة، وأثَّرَت فى تاريخ الحضارة الإنسانيَّة أثراً ملموساً.. وهى أيضاً قصةٌ مليئة بالمزعجات والمبهجات! فقد دخل العربُ المسلمون إلى إسبانيا سابحين فى بحار من الدماء، وخرجوا منها يخوضون فى أنهارٍ من الدَّم. وما بين بحار الدم وأنهاره، عاشت إسبانيا زمناً أندلسيّاً بديعاً، لا تزال أطيافُه تلوحُ فى خيال المعاصرين، كما يلوح باقى الوشم فى ظاهر اليد.
وحين فكَّرتُ فى كتابة هذه «السباعية» تماوجتْ فى ذاتى ذكرياتُ الزيارتين السابقتين، وتجلَّت على مرآة باطنى وقائعُ كثيرة (تاريخية) فعاودتُ النظر فى موسوعة الدكتور «محمد عبدالله عنان» ذات الثمانية أجزاء، وعنوانها: دولة الإسلام فى الأندلس.. وحين شرعتُ فى الكتابة، تردَّدَتْ فى نفسى أصداءُ النواح المعتاد فى ثقافتنا المعاصرة، والنبرة المتباكية على ضياع (زمان الوصل بالأندلس) وسخرية محمود درويش من الأمر كله حين قال فى أنشودته البديعة «مديح الظل العالى» ما نصُّه:
وأنا التوازنُ بين ما يجبُ
كُنا هناك ومن هنا،
ستسافر العربُ
لعقيدة أخرى، وتغتربُ
قَصَبٌ هيَاكلنا، وعُروشُنا قَصَبُ
فى كل مئذنةٍ حاوٍ ومغتصبُ
يدعو لأندلس
إن حُوصرت حلبُ.
وحين أُحبك، أحتاجُ تشكيل الخرائط والخطط
أحتاجُ ما يجبُ
يجبُ الذى يجبُ:
أدعو لأندلسٍ إن حُوصرت حلبُ
يرتبط دخول العرب المسلمين إلى شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا، البرتغال) بحكاية خرافية لا تخلو من الطرافة، وإن كانت تفتقر إلى المصداقية، وهى الحكاية المشهورة التى تقول إن «طارق بن زياد» عبر من المغرب إلى إسبانيا بجيشٍ إسلامىٍّ قوامه سبعة آلاف مقاتل، سنة ٩٣ هجرية (= ٧١١ ميلادية) وقد أحرق السفن التى عبر بها المضيق الذى سُمِّى باسمه لاحقاً، ثم قال لجنوده: «أين المفرُّ، العدوُّ من أمامكم والبحر من خلفكم..»، وهى الحكاية الأسطورية اللطيفة التى يهواها معاصرونا، ولا يكفُّون عن ترديدها، مع أننا سنرى فى هذه السُّباعية، أنها محض حكايةٍ خرافيةٍ لا تصلح إلا لتسلية الأطفال.
وقبل الدخول إلى (الأفق الأندلسى) على أجنحة التأريخ الحقيقى للوقائع، والفهم العقلانى العميق لها، دعونا نتوقف قليلاً، أولاً، عند معانى الكلمات المشهورة المرتبطة بهذا الموضوع، مثل: أندلس، إسبانيا، قوط، بربر، غزو، فتح.
أما كلمة «الأندلس» التى أطلقها العربُ على شبة جزيرة أيبيريا، فإن هناك تفسيرات عديدة لها، بعضها خيالىٌّ مضحكٌ، مثل قول بعض المؤرِّخين العرب إنها سميت بذلك، نسبةً إلى رجل يسمى (أندلوش) كان يسكنها فى الزمن القديم، أو نسبةً إلى أحد أحفاد «نوح» هو: الأندلس بن يافث بن نوح، والأرجح، أن الكلمة العربية (أندلس) مأخوذة من اللفظ الدال على البلاد آنذاك، وهو «فاندالوسيا» أى بلاد: الوندال، وهو اسم القبائل التى كانت تعيش هناك، قبل مجىء العرب المسلمين.
وأما كلمة «إسبانيا» فقيل إنها نسبةً إلى ملك اسمه (أشَبان) وقال بعض المؤرخين: بل كان اسمه «أصبهان» فوقع فيه التحريف! وليس عندى قولٌ راجح فى سبب هذه التسمية، ولكن الأقرب مأخذاً هو الأصل الفينيقى للتسمية التى تعنى حرفياً فى اللغة الفينيقية (جزيرة الأرانب)، لأن المكان كان مليئاً بها أيام اتخذها الفينيقيون مستعمرةً.. أما تاريخ وتسمية «القوط» فأمران يعودان إلى زمن مبكر، حيث وقعت حروب بين الرومان وتلك القبائل التى عاشت فى جزيرة أيبيريا، واستطاعت فى بداية القرن الخامس الميلادى أن تقتحم أسوار (روما) المنيعة، لكنها ما لبثت أن عادت إلى موطنها الأصلى، وظلت تحكمها حتى جاء إليها العرب المسلمون، بدعوةٍ من أحد ملوك القوط، حسبما سنرى لاحقاً.. والبربر هو اسم سكان شمال أفريقيا، خاصة المغرب، عند وصول العرب المسلمين إلى هناك، وكانت أهم قبائلهم هى قبيلة: زناتة.. والغزو هو الاقتحام العسكرى.. والفتحُ استقرار الغازى فى البلاد، وسكناه فيها جيلاً بعد جيل.
كان الغزو (الفتح) العربى الإسلامى أفريقيا، امتداداً لفتح (غزو) مصر، فبعدما استقرت الأمور المصرية بيد عمرو بن العاص، خرج من الإسكندرية غرباً، بجيش قليل العدد والعُدَّة، ليفتح المدن الخمس الغربية (ليبيا) فغزاها، لكنه لم يفتحها ويستقر فيها، وبعد خمس سنوات خرج أمير مصر «عبدالله بن أبى سرح» إلى إفريقية (تونس) فاتحاً، على رأس جيش قوامه أربعون ألف محارب.. وهنا لا بد لنا من وقفة أمام دلالة هذا العدد، مقارنةً بعدد الجيش الذى خرج مع عمرو بن العاص لفتح مصر، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة (وقيل، بل أربعة آلاف) ويأتى السؤالُ: كيف يدخل المسلمون صحراء أفريقيا الخالية نسبياً، بالمقارنة مع مصر، بهذا الجيش الجرَّار. بينما كان الجيش الإسلامى الذى خرج إلى مصر غازياً لا يزيد عدده، على عشرة بالمائة من مجموع الجيش الذاهب لغزو الصحراء الخالية. علماً بأن جند الروم، كانوا يتحصَّنون بقلاع مصر والإسكندرية، وكان عددهم بحسب التقديرات المختلفة، يتراوح ما بين الأربعين ألفاً والمائة ألف مقاتل!
إذن، من المنطقىِّ فى زمن الفتوح، أن يخرج المسلمون إلى ساحل أفريقيا بجيش قوامه أربعون ألفاً، ومن المنطقىِّ أن يحاصر المسلمون بلدةَ دمشق بأربعة جيوش كاملة، ومن المنطقىِّ أن يفتح المسلمون العراق بعد حروبٍ طاحنةٍ قُتل فيها من الجانبين الألوف.. ومن غير المنطقىِّ، أن يشرع »عمرو بن العاص« فى فتح مصر، بهذا الجيش (القليل) الذى جاء معه، اللهم إلا إذا نظرنا إلى الأمر من ناحيةٍ أخرى، وفهمناه فى ضوء الرؤى التى طرحناها فى السُّباعية السابقة.. وعلى كل حال، ففى المقالة التالية من هذه السُّباعية، سوف نستكمل (الأربعاء القادم) ما بدأناه اليوم، لنرى: كيف فتح المسلمون ساحل أفريقيا، ووصلوا إلى المغرب، ثم الأندلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق