الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-الأُفق الأندلسى (عبورُ المسلمين ومصيرُ الفاتحي)7\4


هذه المقالة كتبتها فى شهر يناير الماضى (قبل الثورة) وأرسلتها للجريدة كى تُنشر، فلما جرت الوقائع التى نعرفها فى مصر، وبقية البلاد المحيطة، رأيتُ الأصوب أن أقطع سُباعية «الأفق الأندلسى» استجابةً لمجريات الأمور، وها نحن اليوم نستكمل الكلام السابق.. ولعله من المفيد، أن نذكر قبل هذه المقالة (التى لم أغير فيها حرفاً واحداً) بعض الإشارات لما أوردناه فى المقالات الثلاث السابقات، وهو ما نوجزه فى الآتى:
فى المقالة الأولى التى كان عنوانها (تمهيدات ضرورية) عرضتُ لهذا التشابه بين العرب والإسبان، ومعنى كلمة «الأندلس» وقلت ما نصه: كان الغزو (الفتح) العربى الإسلامى لأفريقيا، امتداداً لفتح (غزو) مصر. فبعدما استقرت الأمور المصرية بيد عمرو بن العاص، خرج من الإسكندرية غرباً، بجيش قليل العدد والعُدَّة، ليفتح المدن الخمس الغربية (ليبيا) فغزاها، لكنه لم يفتحها ويستقر فيها. وبعد خمس سنوات خرج أمير مصر «عبد الله بن أبى سَرْح» إلى إفريقية (تونس) فاتحاً، على رأس جيشٍ قوامه أربعون ألف محارب.. وهنا لا بد لنا من وقفة أمام دلالة هذا العدد، مقارنةً بعدد الجيش الذى خرج مع عمرو بن العاص لفتح مصر، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة (وقيل، بل أربعة آلاف) ويأتى السؤالُ: كيف يدخل المسلمون صحراء أفريقيا الخالية نسبياً، بالمقارنة مع مصر، بهذا الجيش الجرَّار. بينما كان الجيش الإسلامى الذى خرج إلى مصر غازياً لا يزيد عدده على عشرة بالمائة من مجموع الجيش الذاهب لغزو الصحراء الخالية. علماً بأن جند الروم، كانوا يتحصَّنون بقلاع مصر والإسكندرية، وكان عددهم، بحسب التقديرات المختلفة، يتراوح ما بين الأربعين ألفاً والمائة ألف مقاتل !
وفى المقالة الثانية (كان عنوانها: اختلاف التسمية، وتسمية المخالفين) أشرت إلى الارتباك الحادث بسبب التسميات المختلفة للأشخاص والمواضع، وأوضحت الفوارق المؤدية إلى اختلاف التسميات. وقلتُ فى هذا السياق، ما نصه: فى زمن الفتوح، كانت المنطقة المسماة اليوم (ليبيا) تسمى «المدن الخمس الغربية» أى الواقعة غرب الإسكندرية، التابعة لأُسقفها. وكان البلد المضطرب هذه الأيام (تونس) تُسمَّى عند العرب «إفريقية»، وما يقع غربها من الأرض الواسعة التى تُسمَّى اليوم (الجزائر) كان يُشار إليه باسم «المغرب». أما المملكة المغربية التى نعرفها اليوم، فكانت تسمَّى «المغرب الأقصى»، لأنها أقصى ما يقع إلى جهة المغرب، من ناحية (عاصمة) الخلافة الإسلامية آنذاك: دمشق. وقد ساد الاعتقادُ قديماً، بأن المغرب الأقصى، هو «أقصى» ما يمكن أن يصل إليه الناسُ، ولذلك فإن الفاتح المسلم (عُقبة بن نافع الفهرى) بعدما استكمل فتوح المغرب، حتى وصل إلى البحر المحيط دخل بحصانه إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلنطى) حتى بلغ الماء رقبة حصانه، وقال هناك: «اللهم إنى أُشهدك أنه لا مجاز (عبور) ولو وجدتُ مجازاً، لجزتُ».
وكانت شبه جزيرة «أيبيريا» المسماة اليوم (إسبانيا والبرتغال) وما يقع إلى الشمال منهما (فرنسا= بلاد غالة) تُسمَّى جميعاً: بلاد القوط، وبلاد الوندال. وكلتاهما (القوط، والوندال) من الجماعات التى نزحت من شمال أوروبا إلى جنوبها، واستقرت فيه. ويقال إنهما فى الأصل جماعة واحدة. وكان الرومان يسمُّون القوط والوندال (البرابرة)، بينما كان العربُ يسمون قبائل شمال أفريقيا (البربر).
وفى المقالة الثالثة، التى جاء عنوانها (حرب الكاهنة وثورات البربر) أشرت إلى القلاقل والاضطرابات التى جرت بين المسلمين الفاتحين وسكان الشمال الأفريقى، وبداية ظهور (القوط) على مسرح الأحداث، ومن ذلك أن حرب الكاهنة، التى كانت حلقةً من حلقات «ثورات البربر» على الحكم الإسلامى، قد وقعت فى المغرب الأقصى. فهناك اجتمعت قبيلة (جراوة) وقبائل أخرى من البربر، تحت قيادة امرأةٍ قيل إنها كانت تشتغل بالسحر والكهانة، هى: دهيا بنت ماتية بن تيفان. والمصادر البيزنطية (اللاتينية) تسميها «داميا» والمصادر العربية تلقِّبها بالكاهنة.. وبعض المصادر، من هنا ومن هناك، تشير إلى أن هذه المرأة الزعيمة، كانت تدين باليهودية! وهو الأمر الذى أشكُّ فيه كثيراً. لأن الديانة اليهودية، فى أصلها التوراتى وتطورها التلمودى، تنظر إلى المرأة نظرةً لا تسمح لها بالزعامة والقيادة، فضلاً عن «الكهانة» وعن رئاسة الجيوش.
كانت الكاهنة تحكم المنطقة المسماة (جبل أوراس)، فلما جاء حسَّان بن النعمان الغسَّانى بجيشه الجرَّار، خرجتْ إليه بجيشٍ أشدَّ استطاع أن يهزم جيش العرب المسلمين، ويضطره إلى الفرار شرقاً بعد موقعةٍ هائلة انتصرت فيها الكاهنة، وارتدَّ «حسَّان» إلى برقة، فسارت وراءه الكاهنة بجيشها وسيطرت فى طريقها على بلاد كثيرة، حتى صارت معظم نواحى تونس والجزائر تحت حكمها.. وظل الحال على ذلك لخمسة أعوام، حتى دَعَم الخليفة عبد الملك بن مروان جيشَ المسلمين بجماعات كبيرة من الجند، فتقهقرت الكاهنة غرباً وأحرقت فى طريقها المدن والنواحى، ليصعب على جيش المسلمين استكمال الطريق غرباً، فى تلك الصحراوات القاحلة. لكن المسلمين لم يتوقفوا عن ملاحقتها، حتى التقى الجمعان (الجيشان) عند جبل أوراس، فظهر المسلمون على الكاهنة، وقتلوها، وانتصروا على جموعها من قبائل البربر.. والظاهر أن نصر المسلمين لم يكن ساحقاً، لأنهم ارتضوا بأن يبقى ابن الكاهنة حاكماً على منطقة جبل أوراس، على أن يدين للمسلمين بالولاء والطاعة، ويمدَّهم باثنى عشر ألف مقاتل، لدعم جيشهم وتحقيق بقية الفتوحات، تعويضاً عَمَّا فقده المسلمون فى حروبهم الدامية بشمال أفريقيا.
والآن، لنكمل الكلام فى «الأفق الأندلسى» فنقول:
استخفَّ بعضُ البربر فى أقصى الأرض (بلاد المغرب) بالوالى الإسلامى الجديد «موسى بن نصير»، الذى تولَّى الأمر هناك سنة ٨٩ هجرية، فثاروا عليه وتجمَّعوا ضده. لكنهم فوجئوا به يضرب (بيدٍ حديديةٍ) جموعَ الثوار من قبائل هوَّارة وزناتة وكتامة وصنهاجة، ويعود بهم قَسْراً إلى حظيرة الطاعة. وحين اعتصمت فلول الثوار ببلدة «طنجة» المطلة على البحر، عصفتْ بهم قوات المسلمين، التى قادها ضابطٌ من البربر الذين صحَّ إسلامهم، هو اليد اليمنى للأمير موسى بن نصير «طارق بن زياد الليثى» الذى استعان بالبربر الموالين للمسلمين، وفَلَّ بالحديدِ الحديدَ، حتى اقتلع بذور الثورة من حوافِّ المغرب.
كما استخفَّ الرومُ بقدرة المسلمين البحرية، فعاثتْ سفنهم فساداً فى المدن الساحلية بشمال أفريقيا. لكنهم فوجئوا بموسى بن نصير، يبنى أسطولاً بحرياً بالقرب من قرطاجنة (قرطاج) ويبحر به غازياً الجزر القريبة التى ينطلق منها الروم، مثل جزر البليار (الجزائر الشرقية) وصقلية وسردينيا، بالإضافة إلى بعض المدن الساحلية الإسبانية. وبذلك بسط المسلمون سلطانهم فى البر والبحر، وصارت بأيديهم بلاد الشمال الأفريقى، كافة، ما عدا موضع واحد هو بلدة «سبتة» الحصينة، المستعصية على الاقتحام، التى كان يحكمها آنذاك: الكونت يوليان.
وعلى الشاطئ الأندلسى المقابل، كان القوطُ يحكمون البلاد كولاةٍ للروم، أو كامتداد للامبراطورية البيزنطية، التى ورثت دولة (الرومان) الشاسعة، وصارت المسيحية (الملكانية) ديانةً لها. وقبل عبور المسلمين إليها، كان الحال فى إسبانيا شبيهاً بحال مصر قبل وصول الإسلام ودخول البلاد تحت رايته. فمثلما كان «المقوقس» يضطهد المسيحيين اليعاقبة (المونوفيست)، كان الملوك الإسبان يضطهدون اليهود ويسومونهم أسوأ ألوان العذاب. ومثلما كان حكم (الروم) فى مصر متفسِّخاً، لا يدين بالولاء الحقيقى للإمبراطور هرقل، كان أمراء إسبانيا يتنازعون فيما بينهم، ويفشلون وتذهب ريحهم.
كانت النواحى الإسبانية تحت يد الملك «وتيزا»، ابن الملك «إجيكا». وكان الملك إجيكا قد بطش بوالد رودريك (اسمه: الكونت تيودوفرد) وسَمَل عينيه، أى قرَّب منهما قضيباً من الحديد المتَّقد، فجفَّ ماؤهما وأصيب الرجل بالعمى. وهى عقوبةٌ كانت معتادة فى أوروبا، فى ذاك الزمان البعيد. وقد انتقم رودريك بعد حينٍ لأبيه، من ابن إجيكا «وتيزا» وخلعه عن العرش. ويُقال إنه سَمَل عينيه، مثلما سَمَل أبوالملك المخلوع قديماً، عينَ أبى الملك الجديد.. وقد جرى ذلك، على خلاف القاعدة التى سيعرفها الناس هناك من بعد، من الآية القرآنية (ولا تزر وازرةٌ وِزْرَ أخرى).
تولَّى رودريك (الذى سوف يسمِّيه العرب: لزريق) الحكم فى إسبانيا، سنة ٩٢ هجرية (٧١١ ميلادية) ويقال بل تولاَّه من قبل ذلك بسنوات قليلة، لأن هذا التاريخ هو بإجماع المؤرِّخين: تاريخ عبور المسلمين إلى الأندلس.
عبر المسلمون البحر إلى الجهة المقابلة للمغرب (الأندلس) بدعوةٍ من الكونت يوليان الذى كان حانقاً، حسبما قيل، على ملك إسبانيا الجديد لسببين. الأول منهما أن الكونت يوليان أرسل ابنته الجميلة «فلورندا» إلى البلاط الملكى فى طليطلة، كى تتعلم فنون الإتيكيت ومراسم حياة القصور. وهو الأمر الذى كان معتاداً هناك آنذاك. غير أن الملك رودريك افتتن بجمال «فلورندا»، وطاش عقله بسبب سحر أنوثتها الطاغية، فاغتصبها. ولما علم أبوها بالأمر، استدعاها من هناك فجاءت ملفوفةً بأردية العار .. وأقسم أبوها على الانتقام .
والسبب الآخر لخلاف الكونت مع الملك، حسبما يقول المؤرِّخون، يرجع إلى أن الكونت يوليان كان يملك من القوة والمال والسفن الكثيرة، ما يؤهِّله لامتلاك الأراضى الإسبانية كلها.. وعندما انتصر الملك رودريك، فَرَّ من أمامه الأمراء الموالون للملك المخلوع، ولجأوا إلى «يوليان» للاحتماء به، كما لجأت إليه الأسرة الملكية المطرودة من البلاد. فاستقوى «يوليان» وأراد أن يحقِّق أمنيةً فى نفسه، بأن يصير ملكاً للقوط كلهم! غير أن قواه العسكرية لم تكن تكفى لتحقيق هذا الأمر، ومن هنا لجأ إلى موسى بن نصير وقائده العسكرى طارق بن زياد، طلباً لمعونتهم فى الأمر.. بعدما وعد بمكافأة.
إذن، كان عبور المسلمين إلى الشاطئ الأندلسى، فى بداية الأمر، هو مجرد (مغامرة عسكرية) تمت بدعوةٍ من القوط أنفسهم، فى إطار التنازع الواقع بينهم. وهو ما يذكرنا بما وقع بعد قرون، حين تنازع ملوك الطوائف المسلمون فيما بينهم، واستعانوا بأعدائهم، فكانت النتيجة هى خروجهم من الأندلس، مثلما دخلوها أول مرة.. يقول الفيلسوف الألمانى الشهير، هيجل: نتعلَّمُ من التاريخ، أن أحداً لم يتعلَّم من التاريخ .
كان الاتفاق «السِّرِّى» بين الكونت يوليان والأمير موسى بن نصير (وهو ما يذكرنا بالاتفاقية السرية بين المقوقس وأبى بكر الصديق) يقضى بأن يتنازل يوليان للمسلمين عن منطقة «سبتة» وقلعتها الحصينة، فتصير بأيديهم مدن المغرب وقلاعها كلها، فى مقابل أن يدعم المسلمون بجيشهم أطماع الكونت يوليان فى عرش إسبانيا (طليطلة تحديداً) وينالوا بعضاً من الغنائم.. ولم يكن بمستطاع موسى بن نصير، أن يُبرم اتفاقاً كهذا من دون استشارة الخليفة الأموى. فأشار الخليفة عليه (وكان آنذاك: الوليد بن عبدالملك بن مروان) بأن يختبر جدوى المسألة بعددٍ محدود من السَّرايا، ولا يغامر بالجيش كله فى أرض الإسبان التى لم يعرفها العربُ من قبل.. وهكذا ذهب سبعة آلاف جندى مسلم، على رأسهم «طارق بن زياد الليثى» لمعاونة الكونت يوليان فى حربه، وكان إبحارهم من شاطئ المغرب إلى ساحل إسبانيا المقابل، بالسفن التى يملكها الكونت يوليان، الذى كان يملك أسطولاً من السفن يتاجر به فى البحر المتوسط تجارة واسعة.. وتمَّ الأمر فى شهر رجب سنة ٩٢ هجرية (أبريل سنة ٧١١ ميلادية) ونزل المسلمون الأندلس لأول مرة، فى الربيع.. وبالطبع، لم يقم طارق بن زياد بإحراق السفن، حسبما يعتقد معاصرونا؛ لأنها (ببساطة) لم تكن ملكاً له أو للمسلمين.
كان طارق بن زياد جندياً صعب المراس، طويلاً أشقر، فى عينيه حَوَل، وبإحدى يديه شلل. وكان يندفع بجنده فى القتال، فيكون مثل «جلمود صَخْر حطَّه السيلُ من علٍ» وهو الأمر الذى جعل الجيشين (الإسلامى والقوطى) يتقدَّمان فى الجنوب الإسبانى، ويمضيان قُدُماً إلى طليطلة.. وكان الجيش الإسلامى بقيادة «طارق» هو الذى يتقدَّم دوماً.
وجمع رودريك (لزريق) جيشاً قوطياً ضخماً، يقترب عدده من المائة ألف، واتجه إلى الجنوب الإسبانى لقتال الغزاة المسلمين. واستمدَّ «طارق» جنداً إضافياً من «موسى بن نصير» فأمدَّه بخمسة آلاف، فكان مجموع جيش المسلمين اثنى عشر ألفاً، معهم قوات «يوليان» قليلة العدد والعُدَّة.. وفى شهر رمضان التقى الجمعان، قرب نهرٍ كبيرٍ عند وادى لكة (بكة)، وكان التفوق العددى لجيش رودريك، ولكن المسلمين كانوا أكثر تنظيماً وإقداماً وعنفاً فى القتال، خاصةً بعدما خطب فيهم «طارق بن زياد» خطبةً ناريةً تناقلها المؤرِّخون المتأخرون زمناً (ولا بد أنهم زادوها بلاغةً وتحسيناً لفظياً) وهى فيما أرى، سبب انتشار الخرافة الشهيرة القائلة بأن «طارق» أحرق السفن بعد عبوره للأندلس.. ولأن هذه الخطبة من النصوص (الفصوص) فسوف أُوردُ فيما يلى، فقراتٍ كاملةً منها:
«أيها الناسُ، أين المفر؟ البحرُ من خلفكم والعدو أمامكم، وليس لكم واللهِ إلا الصدق والصبرُ. واعلموا أنكم فى هذه الجزيرة (الأندلس) أضيعُ من الأيتام فى مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته، وأقواته موفورة. وأنتم لا وزر (مساعد) لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدى عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تُنجزوا لكم أمراً (تنتصروا) ذهبت ريحكم وتعوَّضت القلوب عن رعبها منكم، الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا الطاغية (لزريق)، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة (خرج من وراء الأسوار) وإن انتهاز الفرصة فيه لممكنٌ، إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإنى لم أحذركم أمراً، أنا عنه بنجوةٍ. ولا حملتكم على خطةٍ، إلا بدأتُ بنفسى. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقِّ، قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذِّ طويلاً.. وقد بلغكم ما بهذه الجزيرة من الحور الحسان، بنات اليونان، الرافلات فى الدرِّ والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات فى قصور الملوك ذوى التيجان.. أيها الناس، ما فعلتُ من شىءٍ فافعلوا مثله، إن حملتُ (تقدَّمتُ للقتال) فاحملوا، وإن وقفتُ فقفوا. ثم كونوا كهيئة رجلٍ واحدٍ فى القتال. وإنى عامدٌ إلى طاغيتهم بحيث لا أُنهيه حتى أخالطه أو أُقتل دونه، فإن قُتِلتُ فلا تهنوا ولا تحزنوا (الآية) ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (الآية) وتولُّوا الدُّبر لعدوكم، فتبدوا بين قتيل وأسير. وإياكم، إياكم أن ترضوا بالدنيَّة.. وها أنا حامل (مندفع) حتى أغشاه (يقصد لزريق) فاحملوا بحملتى».
وانتصر المسلمون، وقتلوا رودريك الملك (لزريق) وهزموا جيشه.
وقد ساد الرعب من جيش المسلمين فى أنحاء أيبيريا (إسبانيا، والبرتغال) واستكمل «طارق» حروبه فى الأنحاء، وعبر «موسى بن نصير» بجيش آخر، فسار إلى مدن أخرى غير تلك التى افتتحها «طارق» حتى إذا التقى الجيشان المسلمان أخيراً، كان معظم أنحاء (الأندلس) قد صارت بين المسلمين.. وتوارى «يوليان» عن الأنظار، رويداً، وصار الأمر كله بيد المسلمين. وفكَّر «موسى بن نصير» فى استكمال الفتوح شمالاً وشرقاً، بغزو فرنسا (بلاد غالة) وإيطاليا. لكن الخليفة رفض هذا المقترح، واستدعى «موسى» إلى دمشق وأمره أن يأتى معه بطارق بن زياد.. وهنا، لا بد لنا أن نتوقف قليلاً لنرى «مصير الفاتحين» ونتبصَّر فى هذا الأمر ونتأمَّله.
نسيتُ أن أقصَّ عليكم، قبل قليل، ما رواه معظم المؤرِّخين القدماء والمحدثين عن لحظة اللقاء الأول بين موسى بن نصير وطارق بن زياد، بعدما تمت الفتوحات الإسلامية الأولى فى أرض الأندلس.. يقول المؤرِّخون: «وقصد موسى طليطلة، فالتقى بطارق على مقربةٍ منها، وكان قد سار إلى استقباله (والترحيب به) فأنَّبه موسى وبالغ فى إهانته (لأنه كان قد تأخر فى فتح بلدة اسمها: ماردة) وزجَّه مصفَّداً إلى ظلام السجن بتهمة الخروج والعصيان، وقيل بل هَمَّ أيضاً بقتله، لكنه ما لبث أن عفا عنه، وردَّه إلى منصبه، وزحَفَا معاً نحو الشمال الشرقى حتى نفذ (موسى) إلى مملكة الفرنج، ووصل إلى مدينة ليون (الفرنسية)».
ويذكرنى ما جرى لطارق بن زياد (الفاتح) بما جرى مع خالد بن الوليد (الفاتح) الذى كوفئ على فتحه العراق والشام، بالعزل من قيادة الجيش.. وعمرو بن العاص الذى فتح مصر والإسكندرية (أول مرة) فكان جزاؤه العزل! وحين عاد الروم للإسكندرية، أعيد عمرو إلى قيادة الجيش وفتحَها مرة أخرى، فكان جزاؤه مرةً أخرى: العزل.. وعبد الله بن أبى سَرْح الذى انتصر على الروم فى «ذات الصوارى» وغزا «تونس» لأول مرة، وغنم منها، كان جزاؤه بعد مقتل الخليفة عثمان: العزل. ومات معزولاً فى قريةٍ بنواحى فلسطين، وبجواره زوجته، الصغيرة سناً، بُسيسة بنت حمزة بن ليشرح (التى قد تكون هى الفتاة التى ذكرتها فى رواية: النبطى، وقد لا تكون) التى ظلت تنتظر موته حتى تعود إلى مصر وتتزوَّج حبيبها الأول، وهو ما تم بالفعل عقب وفاة عبد الله بن أبى سرح.
والقواد الذين افتتحوا إفريقية، من أمثال «عقبة بن نافع» قُتلوا فى الحروب (الفتوح) بعدما قدموا كلَّ ما يمكنهم تقديمه من بطولات، كان خيرها يصبُّ فى بلاط الخليفة الأموى. وكان مقتل الفاتح «عبدالله بن الزبير» على يد الخليفة نفسه!
كان الخليفة الأموى هو الذى رفض اقتراح «موسى بن نصير» باستكمال الفتوح إلى إيطاليا، لإنهاء الإمبراطورية المسيحية البيزنطية إلى الأبد، وهو الأمر الذى كان ممكناً ومضمون النجاح لو كان الخليفة قد سَيَّر جيشاً آخر من الشام لإحكام الحصار على بيزنطة وروما وسائر الأقطار الأوروبية المطلة على البحر المتوسط (ولكن الخليفة كان له رأى آخر، غير نشر الإسلام!).
فماذا كان مصير «موسى» الفاتح المغوار، عند الخليفة؟ يقول المؤرِّخون: «استدعى الخليفةُ (موسى بن نصير) إلى دمشق (مقر الخلافة) فذهب إليه ومعه من الغنائم ثلاثون ألف أسير، بينهم أربعمائة أمير قوطى على رؤوسهم التيجان، وثلاثون ألف عذراء من بنات ملوك القوط وأعيانهم، وعدد غفير من العبيد والغلمان والمجوهرات».. وكان موسى بن نصير قد جعل ولده (عبدالعزيز) حاكماً على الأندلس، حتى يعود إليها. لكنه لم يعد، ولم يظل ابنه حياً! فقد أرسل الخليفة جماعةً إلى (عبدالعزيز بن موسى بن نصير) فقتلوه فى قصره، وحزُّوا رأسه وجاءوا به إلى الخليفة، فدفعه فى المجلس إلى أبيه موسى (الفاتح) وجرَّده من مناصبه وأمواله، وبالغ فى إيذائه وإذلاله.. ومات موسى بن نصير فى قرية نائية بالحجاز، بعدما قضى أواخر حياته شحاذاً، يدور على الخيام ليسأل الناس (يشحت) الطعام.
يا ألله على التاريخ (الحقيقى) وعلى واقعنا المعاصر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق