الجمعة، 11 أكتوبر 2013

مهدي النجار - قصة صالح بن عبد القدوس


قال احمد بن عبد الرحمن بن مغير: رايت ابن عبد القدوس في النوم ضاحكاً فقلتُ له : ما فعل الله بك، وكيف نجوّت مما كنت تُرمى به،فقال :اني وردتُ على ربٍّ ليس تخفي عليه خافية، و انه استقبلني برحمته وقال: قد علمتُ براءتك مما تقذفُ به (الذهبي/الميزان). حين نستذكر محنة صالح ومحنة كل الناشطين في مجال الحياة الفكرية والثقافية (اي المثقفبن بلغة عصرنا) ابان تلك العصور الغابرة، ينبغي اخضاع تلك العصور لاطرها الاجتماعية والسياسية، هذه الاطر التي بات من الصعب ان يفكر المرء داخلها في اي شئ حيث أُجبرت المجتمعات المغلقة والخائفة من نفسها على ان تنسى عادة التفكير منذ زمن طويل واصبح كل شئ محظوراً ومحرماً، ولكن رغم ذلك فان اطراف الامبراطورية (خاصة البصرة) وبسبب بُعدها عن مركز السلطة في بغداد واحتكاكها المباشر بقوافل التجارة والنزوح البشري اليها من مختلف اصقاع الارض تولدت فيها مساحة من الحرية الفكرية والاخذ والعطاء الثقافي والفلسفي مع التيارات الاجنبية مثل الفارسية والهندية والصينية وساعد على ذلك تصاعد نشاط الترجمة والنقل وفي هذه الاطر انبثقت ونشطت افكار العقلانية والتنوير والنزوع الجامح الى الحرية وبالمقابل انتشر في الوقت نفسه ما سمي على يد الاسلام التقليدي/ الرسمي بالزندقة والكفر، فالسلطة السياسية (الخليفة المهدي 744 -786 ) في عهد ابن عبد القدوس شنت اوسع حملان التطهير الثقافي وانشأت مؤسسة ارهابية دموية منحتها صلاحيات عرفية تجيز قتل واعدام كل العناصر والاشخاص الذين يحالون اليها بتهمة الزندقة حقاً او باطلاً، يقول ابن الاثير في تاريخه: "كانت تلك التهمة في زمنه (اي زمن المهدي) وسيلة

للايقاع والانتقام" ويُشبه باقر ياسين في كتابه " تاريخ العنف الدموي في العراق" تلك المؤسسة بمحاكم التفتيش الدموية وكان رئيسها يسمى " صاحب الزندقة" وقد اعدم المئات من البشر على يد تلك المؤسسة وفروعها المنتشرة في البلاد، وبين اولئك الضحايا كثير من الشعراء والفقهاء والمثقفون ( بشار بن برد714 – 784 / الجاحظ 767 -868 /.... ) وقد اعدم اكثرهم بتهم ظنية تقوم على الوشايات والبلاغات التنكيلية، كذلك من بينهم صالح بن عبد القدوس حكيم اهل البصرة وواعظ مسجدها الكبير والذي يعتبر من الرواد الذين ادخلوا الموعظة والحكمة في اشعارهم:

المرء يجمع والزمان يفرق ويظل يرقع والخطوب تمزق
***
ولان يعادي عاقلا خير له من ان يكون له صديق احمق
***
فارغب بنفسك ان تصادق احمق ان الصديق على الصديق مصدق
***
وان امرء لسعته افعى مرة تركته – حين يجر حبل – يفرق
***
والشيخ لا يترك عاداته حتى يُوارى في ثَرى رمسه
***
واحذر مؤاخاة الدني لانه يعدي كما يعدي الصحيح الاجرب
***
لا خير في ود امرء متملق حلو اللسان وقلبه يتلهبُ
***
ذهب الشباب فما له من عودة واتى المشيب فاين منه المهربُ

عُميَّ هذا الشيخ الورع في اخر حياته وله في ذلك شعرٌ رائع يقول فيه :

يمنيني الطبيب شفاء عيني وما غير الاله لها طبيبُ
اذا مات بعضك فابكِ بعضاً فان البعض من بعضٍ قريبُ
عَزاؤكِ ايها العين السكوبُ ودمعك انها نوبٌ تنوبُ
وكنت كريمتي وسراج وجهي وكانتْ لي بكِ الدُنيا تطيبُ
على الدُنيا السلام فما لشيخ ضرير العين في الدنيا نصيبُ

وفوق محنة العمى التي اصيب بها الشاعر/الحكيم في خريف عمره فقد لاحقته محاكم التفتيش سيئة الصيت، فكما يروي ابن القارح في رسالته الى ابي العلاء المعري: "أحَضرَ - اي المهدي- صالح بن عبد القدوس واحضرَ النطْعَ (شبيه بكرسي الاعدام) والسيافَ، فقال صالح: عَلامَ تقتلني ؟!
فاخذ غفلته السيافُ فاذا راسه يتدَهدأُ على النطعِ ". وفي هامش "رسالة الغفران" التي حققتها د. عائشة عبد الرحمن يذكر ان "المهدي" نفسه ضربه بالسيف فشطره شطرين، وُصلب بضعة ايام ثم دفن عام 778 . يظل سؤال بن عبد القدوس: علامَ تقتلني ؟! عالقاً في الاذهان وشاخصاً في صفحات التاريخ المشوهة والمخفية ليومنا هذا ليشكل ادانة قوية وفاضحة لكل عصور الاستبداد التي نهشت العقل والقلب والجسد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق