الخميس، 19 فبراير 2015

نادر قريط - متى كانت صقلية عربية !؟



إعداد وتعريب: نادر قريط


يقول صاحب المخطوط القرمزي الإسباني أنطونيو غالا: التاريخ يكتبه المنتصرون، إما لأن المهزومين ماتوا أو لأنهم فقدوا وازع الكتابة.
هذه المقولة تبدو صائبة في كثير من الحقب، لكنها تفقد بعض بريقها في القرون الوسطى المبكرة، خصوصا عندما تغيب الآثار المادية الحسية، والمخطوطات والعمارة والمسكوكات. ففي هذه الحالة يصبح كلا المنتصر والمهزوم جزء من نسيج روائي لأزمنة لاحقة؟ هكذا ببساطة خسرنا شارلمان مؤسس الإمبراطورية الأوروبية المقدسة (توفي عام814م) بعد أن ذهب ضحية لفرضية هربرت إليغ صاحب أطروحة القرون الشبحية في التقويم الميلادي (بين 614م ـ 911م) (1) التي يدافع عنها هاينسون محور إهتمامنا في هذا الموضوع
وكما ذكرت في النص السابق "حول تاريخ اسبانيا (كيف ومتى فتح العرب الأندلس؟) " فإن غونار هاينسونG.Heinsohn هو من أكثر النقاد تحمسا لفرضية إليغ Illig (بالإضافة إلى هانس نيمتس) تلك الفرضية التي تركت جدلا واسعا وعددا كبيرا من الكتب والدراسات. ومازالت التحدي الأهم لمؤرخي مابعد الحداثة.
وتعقيبا على ما سلف نعيد للقارئ الكريم بأن غرض هذه الترجمة ليس الإستسلام وقبول هذه الأفكار، بل فهم المعضلات والشكوك التي تحوم حول تلك الحقبة المهمة، التي تمس تاريخ المتوسط والإسلام المبكر بصورة إستفزازية.
فأمثال هاينسون من النقاد، لايقيمون وزنا للموروث الشفهي، وأليات السرد الأسطوري والطريقة الإخبارية للمدوّنات القروسطية كما شاهدنا في بحثه السابق عن تاريخ إسبانيا. فدأبه إثبات تلك القرون (الشبحية) لعدم توفر أدلة حسية وقرائن حولها (عمارة، مسكوكات إلخ) فالمدوّنات التاريخية ( المسيحية والإسلامية) التي تحدثت عن الإحتلال العربي للأندلس، تعود إلى القرن العاشر وما بعده، وهي برأيه بعيدة ثلاثة قرون عن زمن الأحداث المزعومة؟
أما بصدد صقلية، فإننا نلمس نفس الطريقة والذرائع، رغم تنوع المصادر التي تؤرخ للوجود العربي في هذه الجزيرة ك[ المسالك والممالك لإبن خوردابه، إبن حوقل، إبن جبير، معجم البلدان، تاريخ وفيات الأعيان، ابن الأثير..وغيرها الكثير ، إضافة إلى أعمال أدبية معروفة كرحلة الشاعر الإسكندري ابن قلاقس لصقلية بحدود 562 هجري، ومدحه للملك النورماني ولأعيان صقلية من العرب) فكل تلك الأعمال لا تعني هاينسون كثيرا، لأنها مدونات بعيدة زمنيا عن الأحداث المبكرة لغزو الجزيرة والتي توجب أن يتوّجها أسد بن فرات عام 827م (حسب التاريخ الرسمي) 


في البداية يطرح هاينسون سؤاله المعتاد: أين هي مصادر التاريخ الصقلي بين القرنين السابع والعاشر؟
يجيب قائلا: إن أقدم المصادر الكتابية العربية (والحكايا الأسطورية) التي تتحدث عن صقلية تعود للقرن العاشر، وأغلبها بعد ذلك الزمن، وينقل عن أهم مرجع إعتمده في دراسته B.Rill 2000 (2) بأن قصص الغزوات (اللانهائية) للجزيرة بين القرن7و10 تبدو وكأنها تأليفا لاحقا، وإذا أضاف المرء القصص المسيحية ليوحنا دياكونوس، وبيدا Beda وتاريخ البابوات (الذي لايمكن التثبت من وجوده قبل كتابات باندولفوس 1133م وبوزو 1178م ) فإن كل هذه المراجع تصبح بعيدة عن الزمن الذي نبحث عنه، رغم أن بيدا يُنسب إلى عام (672م ـ735) إلا أن نصوصه تعود إلى القرن 11م. ثم يضيف بأن باحثي الصقليات (من صقلية) متفقون على غياب الوثائق الأصلية بين القرن 7 و بداية القرن 10 كالرسائل الكنسية، والفتاوى والبروتوكولات والعقود والوصايا ووثائق الحكام وشواهد القبور والنقوش والصور، التي لم توجد مطلقا بما فيها آثار الغزوات العربية (المفترض أنها بدات عام 651م) لكن الآثار تصبح ملموسة في القرن10.
وتحت عنوان: إثنتا عشرة حملة عربية مبكرة لغزو صقلية؟ يستغرب الكاتب مسيرة تلك الغزوات التي دامت حوالي ربع ألفية (بين 651م و902م) ( وهي تعادل تقريبا الفترة الشبحية المذكورة) والتي قسمت إلى: غزوات عديدة للنهب، عشر حملات رئيسية، حملات مركزية بين عامي 827م و 902م (للأغالبة) وإحتلال آخر لمدينة باليرمو عام 948م أثناء الحملة الفاطمية النهائية بين عامي 911م و965م. 


وفيما يلي عرض هاينسون للحملات الرئيسية قبل عام 827م
651م غزوة رئيسية بقيادة معاوية بن حجاج
669م غزوة أخرى بقيادة عبداله بن قيس
700م غزوة بقيادة موسى بن نصير أخفقت في بانتيلاريا
703م غزوة بقيادة عطا بن رافع
720م غزوة إنتهت بهدنة في سيراكوس
بين 727م و 739م: إثنتا عشرة غزوة عربية صغيرة
740م غزوة رئيسية بقيادة حبيب ابي عبيدة وصلت لسيراكوس
753م غزوة رئيسية أعقبها خمسون عاما من الهدوء المحيّر
805م غزوة رئيسية بقيادة إبراهيم الأغلب صاحبها وقف للمعارك في سيراكوس
812م غزوة رئيسية بقيادة عبدالله بن ابراهيم انتهت في لامبيدوزا (دفعت شارلمان بإرسال جيشه للدفاع عن الجزيرة)
819م غزوة رئيسية بقيادة عبدالله بن الأغلب أخفقت عام 822م
وهنا يشير الكاتب إلى حيرة مؤرخي القرون الوسطى، الذين لم يفهموا سبب إخفاق جميع هذه الغزوات في إحتلال الجزيرة، ولماذا هذا الإنتظار لغاية 827م حيث بدأت المدن تتساقط الواحدة إثر الأخرى؟


ثم يستمر في عرض جدول لاحق يتلو فيه تاريخ الفتح الأغلبي لصقلية بين 837م و902م


827م في 17 يونيو رست بين 70 و100 سفينة محملة بسعمائة فارس وعشرة آلاف من المشاة عند مازارا دل فالو بقيادة أسد بن فرات
830م الأصبغ يرسل 300 سفينة إضافية وبين عشرين إلى ثلاثين ألفا من الرجال
831م تسقط باليرمو وتصبح للمرة الأولى عاصمة عربية
837م سقوط إينا ، 843م إحتلال ميسينا، 848م سقوط راغوزا ، 878م إستسلام سيراكوس، 902م إحتلال عربي لمدينة تورميناس، وإكتمال السيطرة الأغلبية على صقلية، بعد حرق المدينة وذبح سكانها وهدم أسوارها. لكن الحكايا لم تنتهي، إذ بدأت السلطة عام 911م تنتقل من الأغالبة للفاطميين، الذين حاولو جزافا إحتلال مدينة تورميناس ( المفروض أنها مدينة منكوبة للتو) ويعلق ساخرا (أعادت بناء أسوراها بواسطة معجزة) وهكذا إشتعلت حرب الأخوة (الأغالبة والفاطميين) حول باليمرو حتى سقطت بيد الأخيرين عام 917م؟ 


في جدوله الأخير يقدم الكاتب تطور الفتح الفاطمي للجزيرة بين 911م و948م كما يلي:


911م هجوم فاشل على تاورمينا
916م إستسلام باليرمو (للمرة الثانية)
937م إضرابات تعم الجزيرة حتى عام 941م
948م إعلان باليرمو عاصمة عربية (للمرة الثانية)
961م إحتلال تورميناس (السابقة الذكر)
962م سقوط ربيطا وإبادتها وإستعبادها
965م إكتمال السيطرة الفاطمية على صقلية، وإستمرارها لغاية سقوط الجزيرة بيد النورمان عام 1091م، الذين إستمر حكمهم حتى إستطاع هنري السادس عام 1194م خلعهم.
وهنا يلاحظ هاينسون أن الأغالبة توجب عليهم إحتلال باليرمو عام 831م وهكذا فعل الفاطميون عام 948م ، وكلاهما توجب عليه أن يقضم الجزيرة من المسيحين (أو البيزنطيين) قطعة قطعة وأيضا تم إحتلال مدينة تورمينا الواقعة شرق الجزيرة مرتين (902 الأغالبة) و(962م الفاطميين) وفي الحالتين تم ذبح السكان [ وهذه إشارة ضمنية إلى تكرار الحقب الزمنية حسب نظرية عالم الرياضيات والمؤرخ الروسي فومنكو؟ و يعني ذلك، تكرارا قصصيا للأحداث الحقيقية (الفاطمية في هذه الحالة)]


آثار مفقودة، لم يعثر عليها في صقلية القرن الثامن والتاسع ؟


يبدأ الكاتب في تفحص المصادر واللقى الأثرية للزمن العربي المبكر في صقلية مشيرا إلى تقرير منسوب لتيودوسيوس تم تزمينه في القرن التاسع يتحدث فيه عن باليرمو الإسلامية عام 878م، (نسخة هذا المدوّن تعود للقرن العاشر) ويصف المدينة بأنها مكتظة بالسكان المحليين والأجانب، أما الجغرافي العربي ابن حوقل(972م) فيقول أنه لم يرى في العالم الإسلامي مسجدا يضاهي المسجد الجامع في بالميرو (الذي يتسع لسبعة آلاف مصلي) إضافة إلى وجود ثلاثمائة مسجد آخر. وبهذا يجعل ابن حوقل باليرمو حوالي مائة ألف وتقترب من قرطبة ( التي توجب أن يسكنها بين مائتي وثلاثمائة ألف) وتبزّ معاصراتها من مدن ذلك الزمن (روما 35 ألف، باريس 50ألف، نابولي 25ألف، لندن 12 ألف)
وبغض النظر عن فخر وإعتزاز مؤرخي صقلية بمدينتهم خلال القرن التاسع، فإن آثار تلك الفترة بقيت كحال مثيلها في قرطبة (القرن 8 و 9 م) إذ لم يُعثر على قطعة آجر عربية واحدة ( أو حجر) يمكن نسبها لذلك الزمن، لهذا وجد المرء حلا لأكبر جامع في العالم ( الذي تحدث عنه ابن حوقل) وذلك بزعم أن المسلمين كانوا قد حوّلوا الكنيسة (البازليكا) إلى جامع ثم رده النورمان إلى كنيسة مرة ثانية؟ هذا ما تتذرع به حتى كتيبات السياحة عندما تتحدث عن كاتدرال باليرمو. لكن بيرند ريل B. Rill قام بتفحص هذه الكنيسة (الكاتدرال الحالية) ووجد أن آثارها القديمة تعود إلى عام605م ، ولا وجود لأثر عربي فيها ، وكانت نتائج دراسة مستويات البناء كما يلي:


1 ـ المستوى الأول: وجود أثار لأسس (البازليكا) القديمة تعود لعام 604م
2 ـ المستوى الثاني: مسجد باليرمو المفترض، لا أثر له
3 ـ المستوى الحديث: بناء نورماني للكاتدرائية بدأ في القرن 11م
ويخلص هاينسون إلى نتيجة تدلل على غياب الآثار الحسية لتك الحقبة (فترة الأغالبة)، وتؤكد أن إثباتات الحضارة الإسلامية هي أقل مما وصلنا من الأدب الشعري لإبن حميدس. كما تشير إلى صعوبة البرهنة على الآثار الإسلامية الخالصة، لأن طرز بناء النورمانيين قامت على خصائص عربية وبيزنطية؟ وفي إقتباس آخر نقرأ: المباني الدينية العربية للقرن التاسع م غير موجودة، وكذلك العمارة المدنية فقد إختفت هي الأخرى. وهذا الغياب للآثار العربية بين القرون 7 و 10 رافقه غياب آثار المسيحيين الذين توجب أن يكونوا أغلبية السكان ( تجدر الإشارة إلى مصادر عربية تعتبر العرب أغلبية سكانية حتى في العصر النورماني) أما الغزوات والحملات العربية الغزيرة، وخطوط دفاعات البزينطيين فتبقى من الأحاجي والألغاز.


الآثار الفاطمية بين القرن العاشر والحادي عشر:


إذا كان الماضي الأغلبي لصقلية في القرن 9 وبداية 10م هو إسقاط قصصي من الفترة الفاطمية، فإن إنعدام الأثار لتلك الحقبة (سواء الإسلامية أو المسيحية) لن يصيبنا بالدهشة، أما الآثار الفاطمية فتبدو متواضعة، كبقايا المساجد ( الفاطمية) في أساسات بناء san Giovnni degli القريبة من باليرمو وكذلك في "ميدان البئر" في Favara، وفي كاتدرائية Catania التي تقوم على أسس أحد المساجد الفاطمية، ويشير الكاتب إلى أن دراسة منطقة " خاليشا " (المدينة العربية في باليرمو ) لم يتم تفحصها بصورة جيدة؟ وكذلك الحال، فإن أقدم الوثائق القضائية الأصلية (الفتاوي) تعود إلى العصر الفاطمي، وبشكل مؤكد إلى القرن11م ، كما يكشف إيتمولوجيا (إشتقاق) أسماء المناطق (القرى والقصبات) أن 236 إسما من أسماء 1257 (في شمال وشرق الجزيرة) ترجع لأصول لغوية عربية. هذا يعني أن الفاطميين (الكلبيين) مثلوا طبقة حاكمة، دون إثبات سيطرة ديمغرافية على الجزيرة، ويحاول الكاتب من خلال مثال إبادة الفرنسيين في صقلية (عشرون ألف ضحية) في عيد الفصح عام 1282م على يد الملك كارل أنجو أن يزعم بأن العرب كانوا أقلية صغيرة؟
وهكذا يصل الكاتب إلى أن أجمل المباني الصقلية، المتأثرة بروح العمارة العربية، بُنيت في عهد النورماني وليم الأول والثاني بين 1154م و1189م كقصر النزهة la zisa la cuba ، وقصر وحمامات mardolce، لكن هذه المباني صدمت باحثي القرون الوسطى بأمور مزعجة، إذ لا وجود لأثر أو شظية من العصر الما قبل ـ فاطمي، لذا يقول ريل بدعابة: إن هذه المباني تجعل المرء أقل ألما، فباليرمو لم تترك عمارة من العصر الإسلامي، لكن فناني روجر الثاني (1128 ـ 1154م) تركوا ما يكفي من عمارة المسلمين.
وبإختصار يتعرض الكاتب أيضا لرسومات السفن العربية، أيام غزواتهم الأولى المفترضة عام 651م ويخلص بأنها فاطمية، وكذلك الأمر مع صورة المركب المرسومة على طبق سيراميك (موجود في المتحف القومي di san mattero di pisa) فتعود لنفس الفترة. أما عن علاقة المدن الإيطالية مثل آمالفي التي ربطتها علاقة بحرية مع صقلية فهناك صعوبة في مطابقة آثارها الآركيولوجية، وليس من العجيب أن يكون العصر الفاطمي، زمنا لأول الوثائق التي تثبت إقامة التجار البيزيين (من بيزا) في صقلية.


يهود صقلية في القرون الوسطى المبكرة:


يذهب الكاتب إلى أن الأقلية اليهودية في صقلية نالت نصيبا أوفرا من الدراسات، لأنها أقلية ذات تقاليد كتابية، تم تعزيزها بحوالي ربع مليون وثيقة وكسرة كتابية، كانت محفوطة في القاهرة القديمة، كتبت بين عام 1000م و1250، وعثر عليها عام 1896م، في كنيس ابن عزرا في (الجنيزا) في الفسطاط، والتي ساهمت أيضا في إضاءة العصر الفاطمي، لكن حوالي 15000 من تلك الوثائق التاريخية السابقة للقرن 11م لاتشير إلى هجمات المسلمين المبكرة المزعومة على صقلية، وهذا أمر محيّر، سيما وأن الكنيس يفترض أن بناءه وتدوين وثائقه قد بدأ عام 882م، في مناخ فاطمي صديق. ففي رسالة ليهودي تونسي من الفسطاط، توثق كيف أن الجالية اليهودية هبت لنصرة الفاطمين في الدفاع عن مدينة ميسينا، أثناء الهجوم النورماني عليها عام 1061م، بينما تفضّل قراءة جديدة لمصادر الجنيزا عام 1157م كتاريخ للهجوم النورماني الأول على ميسينا؟ (هكذا وردت مع أن التاريخ الرسمي يعتبر بدء الهجوم حدث عام 1061 وعام 1091م إكتملت السيطرة النورمانية على الجزيرة، وهذا يظهر بعض الشطحات والعشوائية في تأريخ الأحداث سواء ارتكبها السلف الصالح، أو الباحث الأصلح)
ثم يُورد مقاربة في غاية الأهمية عن الوثائق التي تشير إلى وجود يهودي قديم في صقلية، تدلّ عليه رسالة من غريغور الكبير مؤرخة عام 604م وموجهة إلى مطران باليرمو يطالبه فيها بتعويض الطائفة اليهودية لقاء مصادرة كنيسهم لبناء كنيسة مكانه؟؟ ثم تنقطع أخبار الوجود اليهودي، وتستأنف ثانية في القرن11م، هذا الأمر تؤكده أيضا الموسوعة اليهودية، فإعتبارا من عام 1020م يمكن التثبت من وجود وثائق قضائية (يهودية ـ عربية) في صقلية [وفي ذلك إشارة للزمن الشبحي المذكور]
أما وثائق الجنيزا القاهرية، فهي تقدم إضافة نوعية، من حيث أنها كُتبت بلغة منضبطة تختلف عن لغة الرحالة، الذين كانوا يرحلون بين القرون دون إعتماد وثائق أصلية. ففي وثائق الجنيزا هناك مادة أصلية حقيقية تتحدث عن العلاقة التي ربطت العالم الإسلامي بصقلية وجنوب إيطاليا، لكن أقدمها لايتعدى حدود القرن 11م ؟ ثم يطرح هاينسون مدوّن "المسالك والممالك" للرحالة والجغرافي العربي ابن خوردابه، الذي تُسب للقرن التاسع (820م ـ 912م) ويشير إلى أن الرجل يكاد يكون مجهولا، حيث تتضارب الأخبار حول تاريخ مدوّنه. ويقدم نصا يتحدث فيه ابن خوردابه عن السلع والبضائع التي نقلها التجار بين ضفتي المتوسط ( كالخصيان، والعبيد والجواري والغلمان والسيوف والحرير والجلود والفرو) التي كانت تشحن من بلاد الفرنجة وتفرغ حمولتها في مصر أو تستأنف رحلتها بإتجاه جدة ثم إلى الهند والصين، ويخلص هاينسون بناء على وثائق الجنيزة ومشاركة التجار اليهود بأن هذا النوع من التجارة الدولية، حدث في القرن 12م وليس في القرن التاسع لخوردابه. وفي نفس السياق يقتبس الكاتب خلاصة من بربارا كرويتس، الإختصاصية بتاريخ القرون الوسطى لجنوب إيطاليا وصاحبة الدراسة النموذجية والتي تقول:
إن دراسة Goiteinغواتين لوثائق الجنيزا القاهرية، وسّعت معرفتنا بتاريخ القرون الوسطى في حوض المتوسط بما لايقاس، لكنها للأسف لاتحتوي على معلومات تخص تجارة جنوب إيطاليا قبل القرن الحادي عشر


خلاصة وتعقيب:


مما لاشك فيه أن جزيرة صقلية كانت عربية (الثقافة) ولاتزال الشواهد الحسية تملأ العين، إضافة إلى ما تناثر في المتاحف وأشهرها طرا ثوب تتويج مطرز بالكلمات العربية (في متحف فيينا) يعود للإمبرطور فريدريك الثاني (1194م ـ1250م) الذي إنتزع مفاتيح القدس عام 1228م سلميا من الأيوبيين، ومن الأمور الأكيدة أن ملوك صقلية في العصر النورماني وبعده تكلموا اللغة العربية وأظهروا تسامحا وإستقبلوا في بلاطهم الشعراء العرب مثل ابن قلاقس. لكن السؤال كيف تعربت صقلية ومتى؟
إن كاتب السطور الذي تابع بعض هذه الدراسات النقدية (العبثية والمجنونة كما يحلو للبعض) يعرف ويقدر أننا أمام تاريخ رسمي، يجثم بكلكله على عقولنا وتصوراتنا، ويقف سدا منيعا أمام أية أطروحات نقدية، تشكك بالحقب والسلالات الحاكمة ومسار الأحداث، لكن دعونا نستفيد من بعض الإضاءات، لإعادة صياغة بعض الرؤى.. فالفتوحات والحملات الإسلامية الخاطفة التي خرجت من جزيرة العرب، ووصلت أطراف العالم القديم خلال بضعة عقود، تبدو مضطربة، وغير مقنعة (وضحك على الذقون)..لهذا بدأنا نرى ميولا جديدة لفهم التوسع العربي من خلال تسلل وتمدد سلمي بطيئ (بسيوف اللغة والحضارة العربية كوريثة لثقافات المشرق القديم) أكثر من التوسع بسيوف خالد وطارق وابن أبي سرح ..إلخ إضافة إلى تسلل النخب الحاكمة (ذات الشرعية المقدسة) وإعتلائها عروش الأمصار والمدن بواسطة جيوش من العبيد والمرتزقة (هذه الطريقة مثلا إستمرت في حكم مصر منذ نهاية العصر الفرعوني حتى عام1952 م وسقوط أسرة محمد علي)
إن إجتياح الجيوش الأموية أفريقيا عام 688م في نفس الوقت الذي دارت فيه رحى حروب أهلية مثل كريلاء وثورة الزبير والمختار وقبلها صفين وموقعة الحرة ..إلخ وفي وقت لايستطيع فيه مروان ابن الحكم السيطرة على دمشق بسبب نزاعات القبائل القيسية والكلبية (والدولة البيزنطية تتفرج) هذه أمور غير جديرة بالتصديق والثقة..والأغرب من ذلك هو صمت الكتابات المسيحية (النسطورية واليعقوبية والقبطية) واليهودية والبيزنطية وعدم تناولها فتوحات العرب وتمددهم العسكري؟ فهل يعقل أن يندثر التراث الكتابي وتتكسر أقلام كتاب "جند يسابور، وأنطاكية وحران وغيرها " وهم أنفسهم من أدار الترجمة من اليونانية والسريانية والعربية في قصور المأمون؟ إن سؤالا بهذا الحجم يفترض أمرين لاثالث لهما: إما أنهم لم يكونوا موجودين قط!! أو أن فتوحات الإسلام المبكر أبدعها خيال القصصيين في أزمنة لاحقة؟ لذا فإن الإجابة عن متى وكيف وصل العرب إلى صقلية؟ أمر مرهون بترميم النموذج (البراديغم) التاريخي الحالي، وفتح نوافذ العقل لتجديد هواء ثقافتنا الثقيل. 


في الختام أستعيد هذا النص الصقلّي (للمرة الثانية) وهو عبارة عن شاهد قبر كُتب باللغات: العربية والعبرية واللاتينية وأرجو ملاحظة التاريخ المكتوب بالتقويم الهجري، وكيف أن المتوفية دفنت أولا بالجامع الأعظم!!؟ وبعدها تم نقل رفاتها إلى كنيسة:
توفيّت آنــّا أمُ القسيس ِ آكرزانت قسيس ِ الحضرة المالكة الملكية العالية العلية المعظمة السنية القديسية البهية المقتدرة المعتزة بالله المقتدرة بقدرته المنصورة بقوته مالكة انطالية وانكيردة وقلورية وصقلية وافريقية معزّة امام رومية الناصرة للملة النصرانية صمّـد الله مملكتها .. يوم الجمعة العصر العشرين من اوسط سنة ثلاث واربعين وخمسمائة ودفِنت في الجامع الأعظم ثمّ نقلها ولدها بالمستجدِّ الى هذه الكنيسية سانت ميكائيل يوم الجمعة اول ساعة العشاء عشرين مايو سنة اربع ٍ واربعين وخمسمئةٍ وبنا على قبرها هذه الكنيسية وسمّـى الكنيسية سـانت آنــّا عن اسم امّ السيدة مريم والدة المسيح فرحم الله من قرأ أو دعى لها بالرحمة آمين آمين آمين


الهوامش:
المصدر الرئيسي للترجمة:
Sizilien und seine frühmittelalterliche Fundlücke von Gunnar Heinsohn (Zeitensprünge 03/2003
1ـ Illig, H. (1998), Das erfundene Mittelalter, Müchen · Düsseldorf
2ـ أهم المصادر التي إعتمدها هاينسون:
Rill, B. (2000), Sizilien im Mittelalter: Das Reich der Araber, Normannen und Staufer (1995), Stuttgart
Ahmad, A. (1975), A History of Islamic Sicily, Edinburgh




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق