الخميس، 19 فبراير 2015

نادر قريط - لغز بداية الاسلام !

ناقل الكفر ليس بكافر

لا أريد بهذه المقولة الدفاعية تبرير الهجوم على المقدس، إنما الإشارة إلى حالة التمويه والمداهنة ، التي تكرهنا عليها اللغة أحيانا. فالإيمان والكفر، مقولات قديمة فقدت حضورها في عصر الحداثة العقلية، التي استطاعت نزع سحرية المقدس، والحد من هيمنة ( الإله ونوّابه )، لصالح ( الإنسان ) بإعتباره أداة التاريخ، وغايته، ومركز الثقل فيما نسميه الدراسات الإنسانية...لذا فلن أنتظر من باحث ومؤرخ معاصر يعيش، في كولونيا أو امستردام أن يؤمن بمطلقات قديمة، ولا أن يدوخ بقصة يوسف التوراتية، ولا بقميصيه التاريخيين (الأول لوث بالدماء، لتبرير قصة الذئب الذي التهمه، والثاني مزّق من دبر بفعل شبقية زوجة فوطيفار مصر، التي حاولت الإعتداء عليه جنسيا) فالباحث في عصرنا، يفهم القصة بضوء علم النفس، وكظاهرة عادية ( يعاني منها حاليا مشاهير النجوم، مع أن قمصانهم من ماركات غالية )

أجل. إن عالم الإنسانيات المعاصر لم يعد يعنيه الدين، إلا كظاهرة تاريخية، تخضع للدراسة والتعقل، رغم اهتمامه بأسئلة الوجود ( الميتافيزيقية) والبحث عن طرق الخلاص والشفاء، لكنه بنفس الوقت، بات يدرك الكيفية التي تحرك بها الإنسان في العصور القديمة، لرسم فضائه الأسطوري، وتلوين متخيّله، من هذه الزاوية، أرجو أن يفهم كلامي في السياق الإسلامي، بأنه يشمل أيضا منظومة الإبراهيميات، التي بدأت تترنح، في أعقاب كشف اللغة المسمارية، في بلاد النهرين، وما صاحبها من ثورة حقيقية في دراسات الميثولوجيا..بعد هذه التوطئة، أدخل في عين العاصفة، التي نوّهت عنها سابقا، لاستعرض أهم الآراء المعاصرة، وكيف تبدو صورة الإسلام المبكر، بمنظور بعض الدراسات المهمة، آملا أن تتسع مقالتي لأهم أفكارهم.



فالمؤشرات التي قدمها المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس، حول نشوء الإسلام، تدعو للإصغاء، برغم أن هذا القس، إختار لغة حذرة، كي لاتناله لعنة الكنيسة، فقد سمّى ثلاثة منابع أساسية، أدت إلى التشكل الفكري للإسلام ( بين فارس ومصر ) 

أولها الأفلاطونية الجديدة في الإسكندرية، والتي لم تؤثر كفلسفة وحسب، إنما كحكمة لاهوتية، خصوصا في صيغها المتأخرة عبر بروكولوس وجانبيخوس..تلك الصيغ التي لم تؤسس لجماعة دينية، بقدر ما أثّرت وأثرت الأفكار الغنوصية في العالم القديم 


التنسك ( الزهد ) المسيحي ، والذي لم يكن بدوره دينا، إنما صيغة حياتية عاشها الرهبان الأوائل، أما في الحواف البعيدة، فقد تمكنت البوذية من ترك آثارها وبصماتها. تلك هي العناصر الرئيسية ( حكمة لاهوتية ، غنوصية ، دروشة ) التي أثّرت في الإسلام المبكر، 

أما اليهودية والمسيحية البيزنطية، فكانتا جماعات دينية منافسة، ولم يكن تأثيرها، إلا في عملية إخصاب وتحجيم متبادل، حيث أن الديانات الثلاث مجتمعة، كانت لاتزال آنذاك في مرحلة التشكّل والتأسيس العقائدي( مثال على ذلك تأثير الإسلام الأندلسي فيما بعد، على دلالة الحائرين لإبن ميمون، وهو أحد أهم الأدبيات اللاهوتية والفلسفية اليهودية، وكذلك تأثير الغزالي على توما الإكويني 

لكن باحثا آخرا مثل غونتر لولينغ، له رأي آخر، إذ يعتقد أن صيرورة الإسلام، وتشكله لزمها حوالي 150سنة، مع إعتقاده بأنه خرج من عباءة مسيحية آريانية، إذ لايمكن تصوره بدونها، وهنا يفجر هذا الكاتب قنبلة من عيار ثقيل، هزّت المسلمات في الأوساط الأكاديمية ( كتابه: اكتشاف النبي محمد ثانية 1978) حين اعتبر الكعبة المكيّة، كنيسة مريمية صغيرة!!

وقد بنى تحليله على ما ورد في الموروث الإسلامي( خصوصا تاريخ مكة لإبن الأزرقي، والإشارة إلى صور مريم والمسيح داخل الكعبة) ثم من خلال تتبعه لمراحل البناء المختلفة( مرحلة إعادة البناء في عصر الزبير ، ثم عبدالملك بن مروان ،....وأخيرا في العصر العثماني) واهم ما أثار شكوكه في البناء، وجود الحُجر (حيّز أمام الركن الشامي للكعبة ، وهو عبارة عن نصف قوس بارتفاع متر ونصف، حيث قبر اسماعيل وأمه هاجر) فقد تصّور الكاتب أن الحُجر كان مرتفعا بمستوى البناء، ليقوم بوظيفة المذبح في الكنيسة؟ ولا شك أن المدوّنات العربية، قد ساعدته في بناء تصوراته، لاسيما تلك التي ذكرت الأعمدة الستة ( داخل الكعبة ) والمصفوفة بطريقة تتيح للمصلي أن يتجه للقدس(أو الحُجر أو المذبح المفترض) !! والتي استبدلت فيما بعد بثلاثة أعمدة، أضف إلى إشارته عن اللات والعزة ومناة، باعتبارهن مريمات عربيات، وكذلك هبل ( أو هابيل شقيق قابيل)، إله الرعي، الذي قدسته القبائل العربية، وبهذا خلص إلى أن قريش، كانت قبيلة أقرب إلى مسيحية بيزنطية من الوثنية؟


أما كتابه الآخر ( إعادة بناء النص القرآني ) فقد لاحظ لولينغ في بعض السور القصيرة، المقفاة والموزونة شعريا، أثرا لتراتيل سورية وأثيوبية أنشدها المسيحيون القدماء؟ وكذلك الأمر فقد عكس النص القرآني، ونفيه لفكرة الموت على الصليب، وكذلك تجاهله للأقانيم الثلاثة، معرفته بمسيحية مبكرة، مختلفة عن التي نعرفها في أيامنا.. لكن من المنصف القول أن لولينغ قد حمل بشدة على الكنيسة الرومانية المقدسة وطقوسها السحرية، وأكد بأن محمد مثّل ثورة تجديد وعودة إلى الجذر الأبراهيمي النقي، لكن الكاتب عاد وألقى باللائمة على خلفائه، الذين ضربوا حول أنفسم أسوار العزلة، من خلال تمسكهم بمكاسب حربية، ثم تطويرهم لعلوم كلام تبريرية (ربما تجنبا للجدل والصدام مع فلسفة رواقية مسيحية ، وتراث كتابي متفوّق ) وبذلك أساءوا إلى مقاصد النبي( الإبراهيمية )..وبهذا الصدد فإن العين البصيرة، تلاحظ الآن، الفرق النوعي بين الخطاب القرآني الشعري الرفيع المستوى، وبين ما أنتجه الموروث الإسلامي فيما بعد، من خطاب وضيع، وروايات بائسة وسير، اقتحمت حياة محمد وأطنبت في ذكر، علاقاته الحميمية، وفراشه، وقصص صقيعة عن التبرك ببصاقه وماء وضوئه ثم بتابعيه مهما دنى شأنهم ..إلخ من أمور رقيعة لاتحصى، جعلت الإسلام يبدو في نظر الحداثة، دينا طقوسيا استفزازيا. وعليه فإن لولينغ يسجل ملاحظة فريدة، حين يجد أن التراث المسيحي الروماني، حافظ على ( إبراهيم ) من خلال محافظته على وثيقة العهد القديم، بينما ضاع قصد محمد هباء، فابراهيم الإسلام تحوّل إلى مقولة هوائية، منزوعة من قيمتها ( التاريخية والجغرافية ).

أما (اولاك) تلميذ فيلسوف التاريخ شبنغلر، فقد درس الوجود العربي في الأندلس، وتتمثل رؤيته، في كون الإحتلال العربي للأندلس عام 711م احتلالا مزعوما( فيلم هندي) أخرجه في البداية، مؤرخون مسيحيون، بعد أن بنوا على أساطير عربية ضبابية، صُوّرت على أنها حقيقة، وبهذا مهدوا الأرضية، لفكرة إعادة احتلال الأندلس ( ريكونكويستا )، ويقول: لقد اخترعت قصص مشينة من الخيانة والإنتقام والمكائد لتكون السبب، الذي كلّف نزع التاج عن رذريق( رودريك) آخر الملوك القوطيين، وكذلك كان حال المؤرخين العرب، الذين استندوا في حديثهم عن فتح الأندلس، على أساطير صرفة وأقاويل، تشبه ألف ليلة وليلة، فالخلفاء يعرضون من خلال اسمائهم وسنوات حكمهم ( دائما سنوات كاملة 25 أو 40 أو 50سنة ) وعند ذكر التفاصيل، فلا يسمع المرء إلا قصصا تقشعر لها الأبدان. ثم يقول: إننا نعرف بعض المسيحيين الذين انجزوا نصوصا عربية مزوّرة، مثل خيمينيز رادا 1180م، فكل مصادر وتواريخ الإحتلال العربي غير موجودة، ماعدا الأقاويل والقصص القروسطية، وكذلك هو شأن الوثائق المسيحية، فجميعها تعود إلى ايزيدور، وقد ثبت أن أعماله جميعا منحولة ومختلقة، كما هي أعمال سان إيلفونسو التي كتبت بعد وفاته بثلاثة قرون؟؟

التزوير والأخبار اللامعقولة هي سمة تلك الكتابات، فتخيلوا مثلا الأخبار عن مقتل 124000مسلم في معركة بواتييه( بلاط الشهداء)؟؟ وعن ستين ألف فرّوا عبر الجبال.
ويحضرني أيضا أن أشير إلى أفكار انطونيو غالا، وهو أحد أدباء أسبانيا الكبار، فقد رسم صورة أدبية قيّمة في مخطوطه القرمزي، إذ ينكر تماما ( أسطورة ) الإحتلال العربي للأندلس ، ويعتقد جازما، أن شبه الجزيرة الإيبرية أبدعت ثقافتها الأندلسية الرائعة، عندما تبنت ثقافة وفد بها مسلمون يحملون خلاصة إبداع الشرق القديم( من الهند حتى مصر ) والظريف أن غالا، تركنا نفكر مليا بطارق بن زياد، عندما نفى أن يكون بربريا أو عربيا، سيما وأن اسمه ليس ضمن قائمة الأسماء العربية، لذا يظن أنه أمير قوطي اسمه تاريك (مثل رودريك )، استنجد بالعرب، لحسم خلاف، كان قد استفحل داخل الإسرة القوطية الحاكمة؟ والآن أعود إلى اوفه تووبر، الذي يعتقد أن بداية الإسلام تقع في ضبابية كاملة، فهو ينكر أيضا الفتوحات السريعة والتمدد العسكري الخاطف، ويذكر أن أوروبا لم تسمع بالإسلام، قبل نهاية القرن التاسع، حينها فقط بدأ اللاهوتيون يذكرونه في نصوصهم،
وخير شاهد على ذلك أغنية رونالد التي ألفها الشاعر تورولد، إبان الدعوة للحروب الصليبية 1096م، والتي تقدم لنا إسلاماَ غير الذي نعرفه اليوم، فالأغنية تشير إلى ثلاثة آلهة للإسلام ( محمد ، آبولين، ترفاجنت ) آبولين نعرفه كرمز لآلهة شيطانية، وردت في رؤيا يوحنا. وحتى لو أن الشاعر أراد نعت الإسلام بالوثنية، فهل كان بمستطاعه استخدام أسماء مجهولة، وغير مألوفة على سامعيه؟؟.

.أما أسلمة إيران فقد أصبحت نافذة بجدارة عام 1003م، وهو العام الذي نودي بمحمود الغزنوي، سلطانا على المؤمنين، فحتى ذلك الحين كان السلطان يحتضن الشاعر الوثني الفيروزي في قصره، الذي عرف بالشاهنامة ( كتاب الملوك )، وهي أغنية البطولة العظيمة للوثنية الإيرانية. وجدير بالذكر أن أقدم أثر كتابي عربي في إيران، بالخط الكوفي ، يرجع إلى عام 955م، وقد انتصب بجانب كتابة وثنية فارسية بالحروف الوسطى الساسانية، وكذلك الأمر فإن أولى وأقدم الشواهد الأركيولوجية والمخطوطات المقنعة، في الأندلس تؤشر عصر عبدالرحمن الثالث الذي اعتلى عرش الخلافة القرطبية عام 911م، أما في مركز السيادة العربية، فهنالك دلائل غزيرة على نشوء متأخر للإسلام، وبهذا المقام نذكر القصور الأموية المبنية على طراز الأنتيكا المتأخرة، مع تزيينات ساسانية تقليدية، ولوحات لايمكن أن توصم بالإسلامية..فكل من يزور تلك القصور الأموية في الأردن والعراق والبقايا العملاقة لقصر الماشطا، سيرى نقوشا لنساء عاريات ومصارعين، وآلهة أسطورية وخلفاء يطوق رؤوسهم، ضوء الإله أهورا أمازدا، وفي قصور سامراء توجد حتى صلبان وأغصان كرمة ورموز مسيحية ..

الخلاصة:


حتى عام 930م لم يُعثر بعد على أثر يؤكد وجود منظومة إسلامية دوغمائية، كالتي تصفها لنا كتب التاريخ ومدوّناته.بعد هذه الباقة من الآراء المعاصرة، أرجو أن لا أسأل عن رأيي!! فحسبي في هذا ماذهب إليه الطبيب والفيلسوف العربي أبو بكر الرازي، فمن السذاجة أن نتصور هذه الذات الكليّة ( الله ) منشغلة على الدوام بإثني عشر سبطا بدويا (مُقمِلا ) وتائها في البرية. ومن العبث أن تترك هذه الذات المطلقة(الله) عرشها في الأبدية، وتسلم نفسها للمخابرات ( في سوريا القديمة ) لتُسمّر على الصليب، من أجل إثم جدنا، الذي أغوته زوجته (بعضّة تفاحة)، ومن البلاهة أن تضيّع وقتها بحفر اسم السيد أبي لهب، وقرينته السيدة حمالة الحطب، في اللوح المحفوظ، حفظكم الله من مكروه


*********

في كتابهما ( لا أبواق أمام أريحا: الحقيقة الآركيولوجية للكتاب المقدس )* قدّم إسرائيل فنكلشتاين، من المعهد الآركيولوجي في جامعة تل أبيب، ونايل سيلبرمان، رؤية جديدة لأرض التوراة، فالمسح الآثاري لفلسطين أثبت بشكل قاطع، أن منطقة يهوذا التوراتية، كانت قبل 2600عام من زمننا، أرضا جرداء يجوبها الرعاة ويسكنها بعض الفلاحين (الطفرانين)، وبالتالي فإن قصة الخروج من مصر بقيادة موسى، والإستيلاء على كنعان، ونشوء المملكة الموحدة والعصر الذهبي لدولة (يهوذا وإسرائيل) تحت داوود وسليمان ماهي إلا أسطورة خلقتها الأجيال اللاحقة بقوة المخيّلة، وكما أثبتت الحفريات فإن أورشليم القدس، تحت حكم سليمان، (931، 970 ق.م) لم تكن أكثر من قرية( ستون هكتارا) بدون هيكل أو معبد وبدون قصر أو بطيخ!!فهيكل سليمان الذي وصفته التوراة بشكل دقيق، لم يُبن إلا في إذهان الكهنة، ويخلص الكاتبان إلى أن عقيدة التوحيد، نشأت بعد ذلك الوقت، بزمن طويل !! وقد سبب هذا الكتاب صدّمة، لمن تشبث بتاريخية الكتاب المقدس، ولطمة للأورثودوكسية اليهودية.؟


فما معنى أن تكون قصة الآباء من ابراهيم( بحدود 1800ق.م) حتى سليمان ( 930ق.م ) قصة أسطورية أنتجتها المخيّلة القصصية؟ أظن أن المسيحية سوف تبتلع القصة، وتضحي بهؤلاء الأنبياء، فهم بكل الأحوال عبئا عليها! حتى وإن نُسب المسيح إلى سلالتهم( داوود) !! فهي أساسا ديانة تمحورت حول عقيدة العماد بالروح القدس، والتجسد المسيحي( القربان المقدس ) واعتبار صليب الجلجلة طريقا للخلاص والأبدية. أما مقولة: أنا ما جئت لأنقض الهيكل، بل لأتمم الناموس، فهي مقولة تهافتت، منذ استطاعت الكنيسة الهيلينية أوالعوّلمة البولوسية ( بولس) من إقتلاع المسيحية من جذورها اليهودية( إلغاء الختان، علامة الميثاق بين ابراهيم والله ) ..والأهم برأيي أن المسيحية، تعرضت لزلزال الحداثة، التي أثمرت أخيرا عن قيام لاهوت تنويري، فرضته قطيعة أبستمولوجية نأت به بعيدا على لاهوت توماس الإكويني والتراث اللاتيني القروسطي، وبالتالي، أصبحت تنظر إلى القصة الدينية ( من ولادة آدم وحواء إلى المسيح) كونها قصة دلالية رمزية، تحمل بعدا خلاصيا وقيميا ليس إلا


لكن كيف سيتحمل الإسلام فاجعة فقدان كل هؤلاء الأنبياء، سيما وأن النص القرآني حافل بقصصهم؟؟ قد تكون الإجابة على هذا التساؤل بسيطة فالإسلام هو الآخر أنشأ مقدسه، وراكم رأسماله الرمزي(قرآن، نبّوة، صحابة، آل بيت، كعبة، كربلاء، لغة) فالدين في نهاية المطاف ليس مجرد تساؤلات وجودية ميتافيزيقية، إنما كيان تاريخي، يدور حول رموزه، وطقوسه الخاصة. ويزداد الأمر يسرا إذا عرفنا أن صورة هؤلاء الأنبياء في النص القرآني، تختلف عن مثيلها في الكتاب المقدس، فهم أشبه بقبيلة ميتاتاريخية مقدسة تكاد تقترب من بيئة وزمن محمد؟ والأصح فإن المرء لايعرف أين ومتى عاشوا. وباستثناء رفع ابراهيم لقواعد البيت ( تحديد مكاني ) وأمور قليلة أخرى، فإننا نعجز عن فهم المساحة الزمكانية التي تحركت بها تلك القبيلة المقدسة. 



أما الملاحظة الجديرة بالإنتباه فهي إعلان القرآن المباشر عن أسلمة هؤلاء الأنبياء إسلاما حنيفا قسريّا، وبالتالي فإن المعضلة المكانية ( المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله) أو هيكل سليمان، تصبح مفهومة في سياقها القرآني، فإذا كان سليمان مسلما، فلابد أن يصبح هيكله ( الإفتراضي)، قبلة ومحط أنظار المسلمين. هنا برأيي نعثر على أحد المفاتيح المفهومية والتقاطعات في منظومة ديانات التوحيد، فلو ألقينا نظرة على المدوّنات التاريخية الإسلامية، فإننا نجد فيها خطابا مضطربا!! رغم انخراط هذه المدوّنات في التفصيلات، والإطناب، وإضفاء التقديس على أنبياء الكتاب المقدس فإننا نحس بمحاولات للتقليل من شأنهم، وذلك من خلال رصفهم كطابور مصلّين بإمامة محمد ( قصة الإسراء والمعراج) أو من خلال الشكوى القرآنية المستمرة ولوم وتقريع بني إسرائيل وأهل الكتاب، وهذا يعكس بداية الصدام الدوغمائي والإنشقاق، أو التمرد على الإحتكار اليهودي، وحصر النبوة في الفرع الاسحاقي، لذا فإن القرآن الذي خطب ودّ الأنبياء وأتباعهم، كان يمهد عملياً لخلق مشروعية تاريخية تكسر إحتكار النبوّة، وتهيئ المناخ لقيامة إسماعيلية. هذا ما يمكن استخلاصه للوهلة الأولى. لكن بعيدا عن تشتيت الموضوع، سأقف عند محطتين مهمتين، قد تساعدانا في فهم المركب التاريخي، لنشوء الإسلام المبكر: بيت المقدس( القبلة الأولى ) ومدينة دمشق، فهما برأيي من المفاتيح السحرية ( لكونهما مركز النشوء الدوغمائي لمايسمى بالديانات الإبراهيمية، وظهور الأسينيين ( أتباع ألواح قمران ) وبولس الرسول، والأمويين ثم الإنشقاقات الكبرى، والحروب الصليبية ونشوء حركة فرسان الهيكل..إلخ) 


فالتوقف طويلا عند النص القرآني وتأوليه، ودراسة فضائه اللغوي، يشكل حلقة هيرمينوطيقية( تأولية ) مفرغة لا جدوى منها، لأن التساؤلات الحقيقية عن النص القرآني، تشترط دراسة أركيولوجية وإكتشاف الصيرورة التاريخية للغة العربية وطبقاتها القديمة، وهذا لم يتحقق لحد الأن بصورة مقنعة، بسبب النقص الفادح في الوثائق الكتابية العربية، ولكون العربية استمرت لغةً شفهية لحين ظهور القرآن،وما أعقب ذلك من تلاعب دوغمائي تعرض له النص، وحّوله إلى كتاب تتلاطم به أمواج التفاسير والتاويل. وإشارتي إلى هاتين المحطتين، لقناعة راسخة بأن لغة القرآن، وصورها العقلية التجريدية، ونسقها الشعري، لايمكن أن تكون وليدة لبيئة قاحلة ونائية( بلا زرع ولا ضرع)، بل تكثيف مدهش لحضارات غنيّة، ومن السذاجة أن نظل أسرى أسطورتي الشعر الجاهلي ولسان قريش المتناقضتين. لو نظرنا إلى المدوّنات التاريخية العربية فإننا نحس بايقاعات متناغمة مع الآثار الكتابية اليهودية والمسيحية، وتداخلا وتأثيرا أرجوحيا ( بمعنى المشاركة والتحجيم)، فمن يلقي نظرة على تلك المدوّنات، وكيفية تسجيلها للأحداث والروايات، سيكتشف أنه أمام تاريخ ( لايحتوي تاريخا) بقدر ما هو مشحون بانطباعات وذكريات ضبابية غائبة، هاكم مايقوله رجل بقامة ابن خلدون، عن بيت المقدس:يُورد في البداية أن الصخرة (حيث قبة الصخرة الأن) كانت أيام الصابئة موضع الزهرة، ثم يحكي لنا قصة موسى وتابوت العهد ( حيث حُفظت ألواح الوصايا)، والمذبح وما حمله الإسرائيليون أثناء رحلة التيه..ولما ملكوا الشام ، وضعوا قضّهم وقضيضهم على الصخرة ..وبعد خمسمائة سنة من وفاة موسى، قام سليمان ببناء الهيكل ( ثم يصف الأبواب المذهبة والمنارات والأوعية والمذبح...إلخ) ويستمر ابن خلدون:


ثم خربه بخت نصربعد ثمانمائة سنة من بنائه (أي أن المسافة الزمنية بين سليمان ونبوخذ نصر أصبحت 800سنة )، ثم بناه هيرودوس على بناء سليمان، ثم جاء طيطش( تيتوس ) ملك الروم فخرّب بيت المقدس ومسجدها، وأمر أن تحرث أرضه ويُزرع مكانه ( هذا كلام مخيّب لآمال شارون وأولمت)، ثم يصف قدوم هيلانة أم الإمبراطور المسيحي قسطنطين، للقدس باحثة عن خشبة الصليب، فقيل لها إنها موجودة بمكان تكوّمت فيه القمامة والنفايات، وبعد أن وجدت خشبة الصليب، بنت كنيسة (القمامة)*، فوق قبر المسيح!! بعد أن جمعت الأنقاض والنفايات ورمتها فوق الصخرة ( مكان الهيكل ) عقابا لمن تسبب في صلب المسيح؟ والغريب أن ان خلدون يذكر أن هيلانة بِنت بالقرب من القمامة أو إزائها: بيت لحم، وهو مكان ولادة المسيح؟؟ تصوّرا بيت لحم، مجرد بيت بنته هيلانة في القدس!! 


ثم جاء عمر بن الخطاب وسأل عن مكان الصخرة، فكشف عنها الأزبال والتراب، وبنى مسجدا..ثم ملك الفرنجة بيت المقدس فبنوا كنيسة فوق الصخرة يعظمونها، إلى أن ملك صلاح الدين الكردي نحو 580 هجري ، فهدم الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد الذي هو عليه اليوم؟؟

أما المحطة الثانية التي لعبت دورًا حاسما في نشأة الإسلام فهي دمشق، فقد برهنت لفائف قمران على مركزيتها في حياة الجماعة الأسينية، فالإسم الآرامي المنطوق لهذه المدينة D-messig يعني مكان الرابطة ووحدة المؤمنين، وكان الإعتقاد سائدا آنذاك، بأن قاضي الدينونة سيدخل منها ( يوم قيام الساعة ) عليه لعبت دمشق دورا مهما للجماعات المسيحية والعيسوية ، وتم ذكرها في سياق العهد القديم ( سفر أشعيا ) ثم في العهد الجديد، ومع إزدهار أفكار قرب نهاية العالم ( التي أججتها المسيحية ) يمكننا تفسير ذهاب بولس وإنتظاره في دمشق، تلبية لدعوة المسيح بإنتظار ملكوت السماوات!! وعلى هذا المنول يمكننا فهم الدور (المريب والغامض) الذي مارسته دمشق على (قريش والإنتفاضة الإسماعيلية )، وبنفس المستوى نستطيع تفهّم قدوم الأمويين الملفت إليها، وتحويلها إلى عاصمتهم!!

ختاماً وبعد درس إبن خلدون الذي يلزمه حبة أسبرين، وبعد لكمة إسرائيل فنكلشتاين الآركيولوجية، التي كسرت أنف الدوغما. أرجو أن تتمعّنوا بهذا النص الصقلّي( من جزيرة صقلية )، فقد نقش على ضريح السيدة آنّا باللغات العربية والعبرية واللاتينية :

توفيّت آنــّا أمُ القسيس ِ آكرزانت قسيس ِ الحضرة المالكة الملكية العالية العلية المعظمة السنية القديسية البهية المقتدرة المعتزة بالله المقتدرة بقدرته المنصورة بقوته مالكة انطالية وانكيردة وقلورية وصقلية وافريقية معزّة امام رومية الناصرة للملة النصرانية صمّـد الله مملكتها .. يوم الجمعة العصر العشرين من اوسط سنة ثلاث واربعين وخمسمائة ودفِنت في الجامع الأعظم ثمّ نقلها ولدها بالمستجدِّ الى هذه الكنيسية سانت ميكائيل يوم الجمعة اول ساعة العشاء عشرين مايو سنة اربع ٍ واربعين وخمسمئةٍ وبنا على قبرها هذه الكنيسية وسمّـى الكنيسية سـانت آنــّا عن اسم امّ السيدة مريم والدة المسيح فرحم الله من قرأ أو دعى لها بالرحمة آمين آمين آمين
. للموضوع صلة*

عنوان الكتاب، مأخوذ عن الترجمة الألمانية للأصل الإنكليزيThe Bibel Unerthed*
كنيسة القمامة هو لفظ استخدمه ابن خلدون في مقدمته


انتهى

كتب الاستاذ نادر قريط المقال بجزئين وقد قمت بالفصل بينهما كي يمكننا التمييز, علما أن النص واضح لجهة وجود خاتمة للقسم الأول. من جديد أرغب عبر نقل مواضيع كتلك تشجيع كل قاريء على البحث وفهم أصول النقد الموضوعي لا الشخصاني .. الإرتقاء بالنقد مسألة حيوية لن تحصل دون الاعتماد على مراجع كثيرة متوفرة وإلا سيغدو نقيق ذو أثر عكسيّ بكل أسف!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق