كان من المفترض ألا تمثل وفاة النبى الكريم أى مبعث لخلاف أو نزاع أو شبهة تحملها كتب التراث بين دفتيها حول الواقعة، فكفى بها مصيبة ورزية حلت على أمة بأكملها فى وفاة إمام المرسلين، ولكن أهل التراث ومخرجى الأحاديث وأصحاب السير أبوا إلا أن يجعلوا هذه الواقعة مادة للطعن على رسول الله.
ولأن العقل الجمعى المسلم لا يمكن بحال أن يتقبل فكرة نقد أحاديث فى كتاب البخارى على أساس أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رغم أن البخارى يبقى مع كل إتقانه بشراً تعتريه الوساوس والأخطاء والأهواء وتظل منتجاته العلمية متاحة أمام النقد العلمى والأكاديمى ولا مطعن ولا مَعيب فى ذلك، فكما يعرف الغالبية من المسلمين أن النبى توفى على أثر وجع شديد وحمى ألمَّت به، إلا أن البخارى وحده فى كتابه دون أى أحد فى العالمين أخرج حديثا أن النبى مات مسموما مقتولا جراء أكله من شاة مسمومة قُدمت له من اليهود فى موقعة خيبر.
ولنعرض الحديث أولا.. أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428 ما يلى:
«وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضى الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم).
وأصل الحكاية أن البخارى ومسلما وكثيرا من أهل السير والتاريخ قد أخرجوا جميعا واقعة تصل إلى حد التواتر عن شاة قُدمت للنبى فى خيبر ولكنه عَلِم كنبى معصوم أنها مسمومة، وهذه الواقعة من المهم استجلاؤها قبل الخوض فى نتيجتها، فماذا عن هذاالاستجلاء؟
أخرج البخارى فى باب «إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم» 343/6-3169، وأخرجه مختصرا فى «باب» الشاة التى سُمَّت للنبى بخيبر»، وأخرج ذات الحديث بطوله فى باب «ما يذكر فى سم النبى صلى الله عليه وسلم» 284/10-5777» وفيه يقول:
حدثنا قتيبة: حدثنا الليث، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة أنه قال: «لما فُتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله (اجمعوا لى من كان ها هنا من اليهود).. ثم قال لهم: (فهل أنتم صادقىَّ عن شىء إن سألتكم عنه)، قالوا: نعم، فقال: (هل جعلتم فى هذه الشاة سماً)، فقالوا: نعم، فقال: (ما حملكم على ذلك). فقالوا: أردنا: إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك».
وأخرج البخارى حديثا شاهدا لذلك الحديث بسند عن أنس بن مالك فى باب «قبول الهدية من المشركين» 272/5-2617، وأخرج «مسلم» 2190، فى كتابه ذات الحديث بسنده إلى أنس بن مالك، ولكن بزيادة هامة عن المرأة اليهودية واضعة السم، فيروى فيها الصحابى أنس بن مالك: فجىء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك، قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» قال: أو قال: «على».
إذن ماذا نستنتج مما سبق:
رواية واقعة تقديم الشاة المسمومة رواية صحيحة متواترة، ولكن يجب التوقف عند بعض نتائجها المتحققة:
الرسول قد أُخبر بالغيب وفى بعض الروايات أُخبر من الشاة نفسها أنها مسمومة، وجاء فى بعض الروايات أنه لم يقربها قط وجاء فى أخرى أنه لاك - مضغ - قطعة منها ثم لفظها، وذلك ما يتفق مع مقام العصمة التى أقرها سبحانه وتعالى فى القرآن.
فى الرواية التى أخرجها البخارى عن أبى هريرة وقع الحوار الطويل بين الرسول واليهود ولكن المهم فيه هو المقطع الأخير، وهو ظن اليهود بما اعتقدوه امتحانا لصدق نبوة محمد صلوات الله عليه، فلما سألهم: «ما حملكم على ذلك»، قالوا: «أردنا إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك»، وهنا نتبين الهدف والغاية من إثبات الرواية الصحيحة، أنهم قالوا ما قالوه، وسكت النبى على قولهم إقراراً لهم أن اختبار النبوة الحقيقى على المحك، فلو كان كذابا أو مدعيا للنبوة لأكل منها وشبع، فاليهود على علم أنه لو كان من أولى العزم، كإبراهيم وموسى لكان محفوظا من إزهاق الروح قتلا، ثم أردفوا ما أقره النبى أيضا أنهم قالوا: «وإن كنت نبياً لم يضرَّك»، وهذه هى النتيجة الأبرز فى الحدث أن ضرر السم لا يمكن أن ينتقل لرسول الله من الأصل فضلا عن أن يميته ذلك السم، وإلا كان على حسب قولهم وعلى حسب إقرار النبى لقولهم ليس نبيا بل كذابا لأن السم قد أضره ولم يُخَبَّر من ربه.
فى الرواية الصحيحة الأخرى من حديث أنس الذى أخرجه البخارى ومسلم، جاءت الزيادة الهامة التى أشرنا إليها عند «مسلم» أن الرسول استدعى من دست السم له فى الشاة وسألها: «فقالت: أردت لأقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» أو قال: «علىَّ»، وهنا نستوضح العصمة بشكل جلى، فلم يكتف النبى بالسكوت عن كلامها إقرارا لها، ولكنه رد عليها ردا لائقا بكمال اليقين فى عصمة ربه له فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، والمعنى لا يحتاج إلى شرح ولا يقبل التأويل، فالرسول قال إن الله لا يسلطك على ذلك أبدا بالسم أو بغيره إذن هذا هو مفهوم الرسول ذاته عن العصمة الربانية له.
ونعود للحديث الأول والذى أخرجه البخارى وابتنى فيه على الروايات السابقة كأصل للقصة أن الرسول مات بعد ثلاث سنوات متأثرا من ذات السم، لنستعرض كم العلل والمعايب التى شابت إخراج البخارى لمثل هذا الحديث سندا ومتنا - نصا، ولنبدأ بذكر ماجاء فى الحديث:
أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428: «وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضى الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت إنقطاع أبهرى من ذلك السم).
ونبدأبنقد سند الحديث:
هذا الحديث معلق، والحديث المعلق ببساطة هو الحديث الذى لا يصرح فيه البخارى بصيغة «حدثنا» لأن هذه الصيغة تعنى ثبوت اللقاء بينه وبين الراوى عنه، ولكن التعليق يعنى أن البخارى أسقط فى أول السند شخصا أو أكثر، لذا فإن فهم هذا المصطلح هام جدا فى نقد هذه الرواية، وهنا ننقل كلاما جامعا لابن حجر فى كتابه «تغليق التعليق» فيقول عن أحاديث البخارى المعلقة وأنواعها: «فقد يكون معبرا بصيغة لا تقتضى التصريح بالسماع مثل قال وروى وزاد.. فإن جزم به فذلك حكم منه بالصحة إلى من علقه عنه، ويكون النظر إذ ذاك فيمن أبرز من رجاله ،فإن كانوا ثقاتا فالسبب فى تعليقه إما لتكراره أو لأنه أسند معناه فى الباب، ولو من طريق أخرى فنبه عليه بالتعليق اختصاراً».
والمعنى أن ابن حجر يقول إن البخارى إذا علق الحديث بصيغة الجزم بمعنى أن يقول فى أول السند: «قال» يكون ذلك بسبب حكمه بالصحة لمن علَّقه عنه ويبقى معرفة رجاله إن كانوا ثقاتا أو مادونهم، أو أنه علقه لأنه مكرر فى مواضع أخرى بتخريجه أو لأنه أسند معناه فى باب آخر فى الكتاب، ولكن بسند متصل فيحمل البخارى السند المعلق على السند المتصل فى الحديث الآخر طالما تشابها فى المعنى وكان السند المعلق رجاله ثقات.
ولكن هل ما قاله ابن حجر من شروط متحققة فى هذا الحديث؟ بالطبع لا.
أولاً: الحديث علقه البخارى عمن لم يره ولم يسمع منه وهو «يونس الأيلى» الذى توفى قبل مولد البخارى بأربعين سنة على الأرجح، وهذا بخلاف معلقات البخارى الأخرى التى يمكن أن تكون عن مشايخه.
ثانياً: معنى هذا أن الحديث به انقطاع ظاهر فى أول السند بين البخارى ويونس، وهو ما دعاه لتعليقه ولكن بشرطه الذى ذكره «ابن حجر».
ثالثاً: وهذا الشرط أنه إذا علَّق البخارى حديثا بصيغة الجزم «قال» كالذى بين أيدينا فيقول «ابن حجر» فإنه ولابد علقه بالجزم لسببين:
1: أنه مكرر فى موضع آخر من الكتاب بذات السند المنقطع هنا فيكون مجرد اختصار للسند فقط لا أكثر، فهل هذا الشرط منطبق على الحديث الذى بين أيدينا؟ بالطبع لا، فالبخارى لم يكرر الحديث فى أى باب من أبواب كتابه مرة أخرى لا بهذا السند موصولا، ولا بسند غيره أبدا، إذن سقط الشرط الأول لقبول معلقات البخارى.
2: يقول «ابن حجر»: إن البخارى قد يعلق الحديث المنقطع سندا لأنه أسند معناه فى الباب، ولو من طريق أخرى للسند، طالما كان رجال السند المعلق ثقاتا، فهل هذا ينطبق على الحديث الذى بين أيدينا؟ أيضا لا، لأن البخارى لم يسند المعنى المقصود من الحديث فى أى حديث آخر فى طول كتابه وعرضه، ولكنه فعل شيئا عجيبا وغريبا، فقد كان يكتب تحت اسم الباب الذى أخرج فيه الأحاديث التى ذكرناها سابقا عن واقعة تقديم الشاة المسمومة للنبى فى خيبر، جملة مقحمة ودخيلة فيقول «رواه عروة عن عائشة»، وكأن البخارى يريد أن يقول إن أحاديث تقديم الشاة المسمومة هى نفس المعنى المراد من الحديث الذى بين أيدينا حول تصريح الرسول بانقطاع أبهره - شريان القلب - من أثر ذلك السم، وما كتبه البخارى يعنى أنه استنتج أن الحديثين بمعنى واحد، أو أن أحدهما نتيجة للآخر، استنتاج لا يمكن قبوله بحال، لأن الأول - الذى ذكرناه عن الشاة- حديث متصل السند والثانى الذى هو لب المشكلة ليس مطابقا لمعنى لأول بأى وسيلة، وبالطبع لا رابط بينهما لكى يصبح الثانى نتيجة للأول، لذا فإن تعليق الحديث الثانى لا ينجبر ولا ينصلح باتصال سند حديث الشاة، وإنى لأعجب من البخارى كيف يتأتَّى له هذا الاصطناع فى أمر جلل كهذا، فالحديث الأول كما بيَّنا سابقا يخص واقعة حدثت وانتهت ساعتها تماما أن النبى قُدمت له فى خيبر شاة، وأُخبر من لدن حكيم عليم أنها مسمومة، وسأل هو اليهود رجالا ونساء لما فعلتم ذلك؟ فردوا بأنه كان اختبارا لنبوته، وأنه إن كان نبيا سيخبر من ربه، أو لن يضره السم، وهذا المعنى لا علاقة له من قريب أو بعيد بحديث السوء الذى يريد البخارى أن يجعله نتيجة للحديث الأول بل إن الحديث الأول والمتصل السند يناقض الثانى كليا، فالحديث الثانى يزعم أن النبى قال إنه يموت من أثر هذا السم، والحديث الأول يخبر فيه الرسول أن موته من السم مستحيل الحدوث، فأى شىء فعله بنا البخارى؟
فسبحان الله، إذا كان الرسول قد قال للمرأة اليهودية صراحة إن قتله بذلك السم لا يتأتى لها أبدا بقوله: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، فكيف يقول البخارى إن الرسول بعد ذلك بسنوات قال عند موته إن أثر السم ذاك هو الذى يميته، كيف استساغ البخارى أن يلصق بالرسول الكريم طعنا كهذا ونقضا لعصمة ربه التى أقرها هو بنفسه فى حديث الشاة، ثم يأتى البخارى بسند منقطع ويعلق الحديث على ادعاء أنه بمعنى الحديث الأول، بل الأمر واضح وجلى أن الحديث الثانى ليس له علاقة بالحديث بالأول.
لذا فإن هذا الاستنتاج يخص البخارى وحده ولا يخص الأمة ولا نبيَّها، ولكن تقديس البخارى هو الذى جعل الشراح والتابعين يقرون هذا الحديث المعلق على أنه الحقيقة ويطعنون فى نبيهم المعصوم ويجعلون اليهود هم الذين قتلوه إلى يوم القيامة، فسبحان الله.
رابعا: ولكن الأهم هنا أن السند المنقطع الذى ذكره البخارى ليس سندا سالما من العلل، فالسند هو: قال يونس عن الزهرى قال عروة، ويونس هو «يونس بن يزيد الأيلى» ورغم أنه يعد الراوى الثانى لحديث الزهرى فإن أهل الجرح والتعديل قد عابوا عليه منكراته عن الزهرى، فيقول ابن حجر فى تهذيب التهذيب ج 11 - 770: «وقال أبو زرعة الدمشقى سمعت أحمد بن حنبل يقول فى حديث يونس عن الزهرى منكرات... وسئل أحمد من أثبت فى الزهرى قال معمر قيل فيونس قال روى أحاديث منكرة»، ثم إن الراوى لم يصرح بالسماع فقال «عن» الزهرى وهذه صيغة دون كلمة «حدثنا» التى تفيد سماعه منه مباشرة.
أما الزهرى فهو ابن شهاب الزهرى، وهو مع جلالته وحفظه وقدره لكن العلماء عدوه من المدلسين، بل إن ابن حجر عده من الطبقة الثالثة من المدلسين المكثرين فى كتابه «طبقات المدلسين»، وكذلك «أبو زرعة»، ولكن يُتَّقى تدليسه يجب أن يصرح بالسماع عمن روى، والغريب أن الزهرى يروى الحديث هذا بصيغة عدم السماع المباشر بقوله: «قال عروة» ما يؤكد أنه لم يسمعه من «عروة» مباشرة وأنه أسقط الواسطة بينهم وهذا هو التدليس، رغم أن «عروة» شيخه.
خامسا: قال ابن حجر فى «تغليق التعليق» عن ذات الحديث ما مضمونه إن الحديث قد وصله - بمعنى وصل السند المنقطع - البزار والإسماعيلى والحاكم ولكن بمراسيل، بانقطاع فى السند.
سادسا: حتى «مسلم» تلميذ البخارى والذى كان شرطه فى إخراج الأحاديث أدنى مرتبة من شرط البخارى، لم يخرج هذا الحديث من أى وجه ولا جاء على ذكر قول كهذا للرسول عند وفاته أبدا.
الاستنتاج:
هذا الحديث آحاد وغريب وشاذ ومنقطع السند ولم يتابع عليه أحد ولم يصل سنده أحد من العلماء إلا بأسنايد مرسلة، لذا فهو حديث ضعيف بكل أوجه الضعف لا يصح الاحتجاج به ولا التعويل عليه.
أما عن نقد متن نص الحديث فنقول: إنه منكر النص ويخالف المعلوم من لب الشرع ومجامع العقل وذلك للآتى:
مخالفته القرآن العظيم فقد قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» المائدة 67 .
ولا أعلم معنى للعصمة من الناس إلا العصمة من الإيذاء ومن القتل وقد أقر أكثر المفسرين أن الرسول لم يتخذ حراسة بعد نزول هذه الآية، وقال ذلك بعض من أهل التراث:
ابن الجوزى زاد المسير - 2 / 397: «فعنه: أنه عصمه من القتل، والأسرِ، وتلفِ الجملة».
الزمخشرى - الكشاف - تفسير آية آل عمران 144: «المراد أنه يعصمه من القتل».
الحافظ ابن حجر - فتح البارى 6 / 82: «وعلى هذا فالمراد: العصمة من الفتن، والإِضلال، أو إزهاق الروح، والله أعلم».
2) قال الله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» الطور 48.
ولا أعلم معنى لعناية الله سبحانه لرسول نبى فضلا عن كونه من أولى العزم إلا أنها عناية يكلؤه بها سبحانه من كل إيذاء يحط من عصمته، وهى عناية مستمرة مستديمة إلى يوم يلقاه.
والمضحك المبكى الذى تقشعر منه الأبدان أن أهل التراث والمعاصرين لم يتلبثوا فى استلهام معانى عصمة النبوة بل ساقوا الحجج المليئة بالسخف والتكلف والتعنت لمحاولة الجمع بين العصمة ورواية البخارى عن الموت بالسم، فمن المعاصرين من يقول مقلدا للتراثيين إن «العصمة» فى الآية هى: العصمة من الفتنة، ومن الضلال، وقد عصمه ربه تعالى من كل ذلك».
وهذا كلام مردود لأن النبى من دون العصمة هو معصوم من الفتنة ومن الضلال وإلا فإن الله اختاره على غير علم - معاذ الله - كما أن سياق الآية لا يحتمل إلا العصمة الحقيقية البدنية - من القتل والتى عصم الله بها كل أولى العزم من الرسل.
ومن المعاصرين أيضا من ذهب أبعد من ذلك كالسلفى حامد العلى الذى قال: «(والله يعصمك من الناس) أى حتى تبلغ رسالتك، أما وإن تم التبيلغ، وأديت الأمانة، فقد يقدر الله على النبى أن يموت بسبب من أعدائه، فليس ثمة تناقض بين الأمرين».
والمعنى الذى يريده أن الله عصمه حتى يبلغ كامل الرسالة ثم بعد ذلك فلا مانع من أن يقتل على يد أعدائه فلا تناقض بين العصمة والقتل.
ووالله لا أجد شيئا أقوله تعليقا على هذا الكلام المتناقض الهابط، وأتركه ليحكم عليه العاقل، فالله يبعث نبيه ولما تنقضى حاجته بتبليغ الرسالة يتركه ليقتل! فسبحان الله العظيم.
3 - وأفتى آخرون بأن الله أبى إلا أن يعطى نبيه الحسنيين النبوة وأن يموت شهيدا، والرد على ذلك بسؤال مواجه لماذا يعطى الله لنبيه ورسوله الشهادة مع أن الشهداء ستكون مكافأتهم الكبرى فى الجنة أن يكونوا فقط مع الأنبياء والدليل قول الله تعالى: «فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا» النساء 69. فأى كرامة بعد النبوة ذاتها.
4 - أخرج البخارى 2753: «أن جابر بن عبد الله أخبر: أنه غزا مع رسول الله قِبَل نجد.. فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابى، فقال: إن هذا اخترط على سيفى وأنا نائم، فاستيقظت وهو فى يده صلتا، فقال: من يمنعك منى؟ فقلت: الله ثلاثا».
فهذا الحديث دليل دامغ وعملى على فهم وتطبيق الرسول بنفسه لعصمته المقررة قرآنا، فقال للأعرابى مجيبا على سؤاله: ما يمنعك منى؟ فقال له النبى «الله» ثلاث مرات فمن الذى عصم الرسول من القتل؟ وما الذى ارتكن إليه الرسول فى رده أنه لن يستطيع قتله؟ إلا أن تكون العصمة.
5 - أخرج عبد الرزاق (9754) وأحمد (27469) وصحح إسناده الحافظ فى الفتح 8/148، من حديث أسماء بنت عميس قالت: «أول ما اشتكى رسول الله.. قالوا: كنا نتهم بك ذات الجنب يا رسول الله، قال: إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفنى به».
وهنا نجد المعنى الذى يقوله الرسول على سرير المرض الأخير، فالرسول واثق متيقن من ربه أنه لا يبتليه بداء «ذات الجنب» أبدا قائلا: «ما كان الله ليقذفنى به»، وهو يجزم بذاك كرامة لرسالته وعصمته، ثم من المفترض أن النبى بعد ذلك بساعات يغير كلامه -معاذ الله- فى عصمة ربه ويقول ويقر بأنه يموت من أثر السم الذى دسوه له بخيبر، أفيحميه الله من الأمراض التى هى من قدَرِه بدون واسطة ولا سبب كرامة لعصمته ثم يتركه -معاذ الله- لليهود تقتله؟ أى قياس باطل منكر هذا؟ بل الرسول أحسن ظنه ويقينه بربه ومات محفوظا مهابا وخُيِّر بين الدنيا والآخرة فاختار الرفيق الأعلى.
6 - كما نود الإشارة إلى نقطة هامة جدا أنه بالرجوع للنصوص المختلفة فى حديث الشاة سنجد أن الروايات فى تلك الواقعة تباينت حول حال المرأة التى وضعت ذلك السم للنبى أَقُتِلت أم عُفِى عنها، وسنجد أن الروايات الأقوى تقول إن الرسول عفى عنها، فإذا ما قلنا إن الرسول وهو الذى لا ينطق عن الهوى أقر أن السم الذى وضعته المرأة هو السبب فى قتله - على زعم البخارى- أفلم يكن هذا يستدعى من الصحابة إقامة القصاص على هذه المرأة اليهودية، ولكن الغريب أن ذلك لم يحدث ولم يكن له ذكر، وذلك لسببين فإما لهوان أمر قتل النبى المصطفى على أصحابه، وهذا من غير المعقول، وإما لأن هذه الرواية الضعيفة المنكرة هى كذب على رسول الله، وهذا هو الحق لأن الرسول لم يقتل بالسم لكى يقتص من قاتله.
7 - ولتأكيد الأوهام فى هذا النص، آن لنا أن نحكم العلم، فقد بحثنا يمينا ويسارا وسألنا الأطباء الحذاق، وتأكدنا من أنه لا وجود لسم فى تاريخ الإنسانية يبدأ عمله فى جسم الإنسان بعد ثلاث سنوات أو حتى يظل أثره المميت لمدة ثلاث سنوات، حيث قدمت الشاة للرسول فى خيبر فى العام السابع الهجرى، فأى سم هذا وأين هو؟ فلن نجد هذا السم إلا فى الأساطير والخرافات، فما قول أهل التراث فى ذلك؟
8 - معارضة هذه الرواية الضعيفة للنصوص الصريحة المتصلة السند التى ذكرناها، فكيف بعد إقرار النبى نفسه بعصمته لنفسه أن السم لا يضره أبدا نأتى برواية ليقول فيها إنه يموت من أثر ذلك السم؟ سبحان الله أى عقل يقبل ذلك؟ فإذا قبلنا الرواية هذه يكون النبى قد أضره السم كما قال له اليهود فيصبح بذاك استنتاجا أنه ليس نبيا البتة، وكذلك يصبح كلامه -معاذ الله- للمرأة اليهودية فى الرواية الثانية باطلا وأن الله سلطها عليه أن تقتله بعد ثلاث سنوات، فإما قبول الروايات الصحيحة ورد الحديث المعلق، وإما رد الروايات الصحيحة بالحديث المعلق الضعيف ولا يمكن الجمع بينهما على الإطلاق.
الاستنتاج:
هذا الحديث المعلق الذى أخرجه البخارى وحده فى أمة الإسلام هو حديث اجتمعت فيه كل المعايب والعلل سندا ومتنا، فهو آحاد غريب وشاذ ومنقطع السند ومنكر المتن ومخالف للقرآن ولعصمة النبوة وللعقل وللعلم، فماذا بقى بعد ذلك لنرد هذا الحديث الضعيف فى «البخارى» انتصارا للحق وللشرع ولعقولنا.
الخلاصة:
ما كان الله ليترك نبيه فريسة لغدر اليهود المتوارث، ولكى نقبل حديث البخارى ولكى يستريح مقدسو التراث يجب أن نزيد - معاذ الله - على آية العصمة لتقول «إن الله يعصمك من الناس» - إلا اليهود -، فكيف نقبل حديثا به كل هذه المعايب لمجرد أن رجلا واحدا مهما علا شأنه قرر أن يخرجه لأنه رآه صحيحا، فهل أصبح عقل البخارى أو تصحيحه وحده بلا متابع هو إجماع الأمة، ويا ليت ذلك فى واقعة عادية بل فى حدث جلل وكبير وقد حذرنا الله فى الكتاب بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» الأحزاب 69، فأى إيذاء للنبى أكبر من أن نطعن فى نبوته بالكلية، والآيات تنضح بعصمته.