الاثنين، 20 مايو 2013

إسلام بحيرى-قصة مقتل النبى «صلى الله عليه وسلم» بالسم على أيدى اليهود باطلة


كان من المفترض ألا تمثل وفاة النبى الكريم أى مبعث لخلاف أو نزاع أو شبهة تحملها كتب التراث بين دفتيها حول الواقعة، فكفى بها مصيبة ورزية حلت على أمة بأكملها فى وفاة إمام المرسلين، ولكن أهل التراث ومخرجى الأحاديث وأصحاب السير أبوا إلا أن يجعلوا هذه الواقعة مادة للطعن على رسول الله.

ولأن العقل الجمعى المسلم لا يمكن بحال أن يتقبل فكرة نقد أحاديث فى كتاب البخارى على أساس أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رغم أن البخارى يبقى مع كل إتقانه بشراً تعتريه الوساوس والأخطاء والأهواء وتظل منتجاته العلمية متاحة أمام النقد العلمى والأكاديمى ولا مطعن ولا مَعيب فى ذلك، فكما يعرف الغالبية من المسلمين أن النبى توفى على أثر وجع شديد وحمى ألمَّت به، إلا أن البخارى وحده فى كتابه دون أى أحد فى العالمين أخرج حديثا أن النبى مات مسموما مقتولا جراء أكله من شاة مسمومة قُدمت له من اليهود فى موقعة خيبر.

ولنعرض الحديث أولا.. أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428 ما يلى:
«وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضى الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم).

وأصل الحكاية أن البخارى ومسلما وكثيرا من أهل السير والتاريخ قد أخرجوا جميعا واقعة تصل إلى حد التواتر عن شاة قُدمت للنبى فى خيبر ولكنه عَلِم كنبى معصوم أنها مسمومة، وهذه الواقعة من المهم استجلاؤها قبل الخوض فى نتيجتها، فماذا عن هذاالاستجلاء؟
أخرج البخارى فى باب «إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم» 343/6-3169، وأخرجه مختصرا فى «باب» الشاة التى سُمَّت للنبى بخيبر»، وأخرج ذات الحديث بطوله فى باب «ما يذكر فى سم النبى صلى الله عليه وسلم» 284/10-5777» وفيه يقول:

حدثنا قتيبة: حدثنا الليث، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة أنه قال: «لما فُتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله (اجمعوا لى من كان ها هنا من اليهود).. ثم قال لهم: (فهل أنتم صادقىَّ عن شىء إن سألتكم عنه)، قالوا: نعم، فقال: (هل جعلتم فى هذه الشاة سماً)، فقالوا: نعم، فقال: (ما حملكم على ذلك). فقالوا: أردنا: إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك».

وأخرج البخارى حديثا شاهدا لذلك الحديث بسند عن أنس بن مالك فى باب «قبول الهدية من المشركين» 272/5-2617، وأخرج «مسلم» 2190، فى كتابه ذات الحديث بسنده إلى أنس بن مالك، ولكن بزيادة هامة عن المرأة اليهودية واضعة السم، فيروى فيها الصحابى أنس بن مالك: فجىء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك، قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» قال: أو قال: «على».

إذن ماذا نستنتج مما سبق:
رواية واقعة تقديم الشاة المسمومة رواية صحيحة متواترة، ولكن يجب التوقف عند بعض نتائجها المتحققة:

الرسول قد أُخبر بالغيب وفى بعض الروايات أُخبر من الشاة نفسها أنها مسمومة، وجاء فى بعض الروايات أنه لم يقربها قط وجاء فى أخرى أنه لاك - مضغ - قطعة منها ثم لفظها، وذلك ما يتفق مع مقام العصمة التى أقرها سبحانه وتعالى فى القرآن.

فى الرواية التى أخرجها البخارى عن أبى هريرة وقع الحوار الطويل بين الرسول واليهود ولكن المهم فيه هو المقطع الأخير، وهو ظن اليهود بما اعتقدوه امتحانا لصدق نبوة محمد صلوات الله عليه، فلما سألهم: «ما حملكم على ذلك»، قالوا: «أردنا إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك»، وهنا نتبين الهدف والغاية من إثبات الرواية الصحيحة، أنهم قالوا ما قالوه، وسكت النبى على قولهم إقراراً لهم أن اختبار النبوة الحقيقى على المحك، فلو كان كذابا أو مدعيا للنبوة لأكل منها وشبع، فاليهود على علم أنه لو كان من أولى العزم، كإبراهيم وموسى لكان محفوظا من إزهاق الروح قتلا، ثم أردفوا ما أقره النبى أيضا أنهم قالوا: «وإن كنت نبياً لم يضرَّك»، وهذه هى النتيجة الأبرز فى الحدث أن ضرر السم لا يمكن أن ينتقل لرسول الله من الأصل فضلا عن أن يميته ذلك السم، وإلا كان على حسب قولهم وعلى حسب إقرار النبى لقولهم ليس نبيا بل كذابا لأن السم قد أضره ولم يُخَبَّر من ربه.

فى الرواية الصحيحة الأخرى من حديث أنس الذى أخرجه البخارى ومسلم، جاءت الزيادة الهامة التى أشرنا إليها عند «مسلم» أن الرسول استدعى من دست السم له فى الشاة وسألها: «فقالت: أردت لأقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» أو قال: «علىَّ»، وهنا نستوضح العصمة بشكل جلى، فلم يكتف النبى بالسكوت عن كلامها إقرارا لها، ولكنه رد عليها ردا لائقا بكمال اليقين فى عصمة ربه له فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، والمعنى لا يحتاج إلى شرح ولا يقبل التأويل، فالرسول قال إن الله لا يسلطك على ذلك أبدا بالسم أو بغيره إذن هذا هو مفهوم الرسول ذاته عن العصمة الربانية له.

ونعود للحديث الأول والذى أخرجه البخارى وابتنى فيه على الروايات السابقة كأصل للقصة أن الرسول مات بعد ثلاث سنوات متأثرا من ذات السم، لنستعرض كم العلل والمعايب التى شابت إخراج البخارى لمثل هذا الحديث سندا ومتنا - نصا، ولنبدأ بذكر ماجاء فى الحديث:
أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428: «وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضى الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت إنقطاع أبهرى من ذلك السم).

ونبدأبنقد سند الحديث:
هذا الحديث معلق، والحديث المعلق ببساطة هو الحديث الذى لا يصرح فيه البخارى بصيغة «حدثنا» لأن هذه الصيغة تعنى ثبوت اللقاء بينه وبين الراوى عنه، ولكن التعليق يعنى أن البخارى أسقط فى أول السند شخصا أو أكثر، لذا فإن فهم هذا المصطلح هام جدا فى نقد هذه الرواية، وهنا ننقل كلاما جامعا لابن حجر فى كتابه «تغليق التعليق» فيقول عن أحاديث البخارى المعلقة وأنواعها: «فقد يكون معبرا بصيغة لا تقتضى التصريح بالسماع مثل قال وروى وزاد.. فإن جزم به فذلك حكم منه بالصحة إلى من علقه عنه، ويكون النظر إذ ذاك فيمن أبرز من رجاله ،فإن كانوا ثقاتا فالسبب فى تعليقه إما لتكراره أو لأنه أسند معناه فى الباب، ولو من طريق أخرى فنبه عليه بالتعليق اختصاراً».

والمعنى أن ابن حجر يقول إن البخارى إذا علق الحديث بصيغة الجزم بمعنى أن يقول فى أول السند: «قال» يكون ذلك بسبب حكمه بالصحة لمن علَّقه عنه ويبقى معرفة رجاله إن كانوا ثقاتا أو مادونهم، أو أنه علقه لأنه مكرر فى مواضع أخرى بتخريجه أو لأنه أسند معناه فى باب آخر فى الكتاب، ولكن بسند متصل فيحمل البخارى السند المعلق على السند المتصل فى الحديث الآخر طالما تشابها فى المعنى وكان السند المعلق رجاله ثقات.

ولكن هل ما قاله ابن حجر من شروط متحققة فى هذا الحديث؟ بالطبع لا.
أولاً: الحديث علقه البخارى عمن لم يره ولم يسمع منه وهو «يونس الأيلى» الذى توفى قبل مولد البخارى بأربعين سنة على الأرجح، وهذا بخلاف معلقات البخارى الأخرى التى يمكن أن تكون عن مشايخه.

ثانياً: معنى هذا أن الحديث به انقطاع ظاهر فى أول السند بين البخارى ويونس، وهو ما دعاه لتعليقه ولكن بشرطه الذى ذكره «ابن حجر».

ثالثاً: وهذا الشرط أنه إذا علَّق البخارى حديثا بصيغة الجزم «قال» كالذى بين أيدينا فيقول «ابن حجر» فإنه ولابد علقه بالجزم لسببين:
1: أنه مكرر فى موضع آخر من الكتاب بذات السند المنقطع هنا فيكون مجرد اختصار للسند فقط لا أكثر، فهل هذا الشرط منطبق على الحديث الذى بين أيدينا؟ بالطبع لا، فالبخارى لم يكرر الحديث فى أى باب من أبواب كتابه مرة أخرى لا بهذا السند موصولا، ولا بسند غيره أبدا، إذن سقط الشرط الأول لقبول معلقات البخارى.

2: يقول «ابن حجر»: إن البخارى قد يعلق الحديث المنقطع سندا لأنه أسند معناه فى الباب، ولو من طريق أخرى للسند، طالما كان رجال السند المعلق ثقاتا، فهل هذا ينطبق على الحديث الذى بين أيدينا؟ أيضا لا، لأن البخارى لم يسند المعنى المقصود من الحديث فى أى حديث آخر فى طول كتابه وعرضه، ولكنه فعل شيئا عجيبا وغريبا، فقد كان يكتب تحت اسم الباب الذى أخرج فيه الأحاديث التى ذكرناها سابقا عن واقعة تقديم الشاة المسمومة للنبى فى خيبر، جملة مقحمة ودخيلة فيقول «رواه عروة عن عائشة»، وكأن البخارى يريد أن يقول إن أحاديث تقديم الشاة المسمومة هى نفس المعنى المراد من الحديث الذى بين أيدينا حول تصريح الرسول بانقطاع أبهره - شريان القلب - من أثر ذلك السم، وما كتبه البخارى يعنى أنه استنتج أن الحديثين بمعنى واحد، أو أن أحدهما نتيجة للآخر، استنتاج لا يمكن قبوله بحال، لأن الأول - الذى ذكرناه عن الشاة- حديث متصل السند والثانى الذى هو لب المشكلة ليس مطابقا لمعنى لأول بأى وسيلة، وبالطبع لا رابط بينهما لكى يصبح الثانى نتيجة للأول، لذا فإن تعليق الحديث الثانى لا ينجبر ولا ينصلح باتصال سند حديث الشاة، وإنى لأعجب من البخارى كيف يتأتَّى له هذا الاصطناع فى أمر جلل كهذا، فالحديث الأول كما بيَّنا سابقا يخص واقعة حدثت وانتهت ساعتها تماما أن النبى قُدمت له فى خيبر شاة، وأُخبر من لدن حكيم عليم أنها مسمومة، وسأل هو اليهود رجالا ونساء لما فعلتم ذلك؟ فردوا بأنه كان اختبارا لنبوته، وأنه إن كان نبيا سيخبر من ربه، أو لن يضره السم، وهذا المعنى لا علاقة له من قريب أو بعيد بحديث السوء الذى يريد البخارى أن يجعله نتيجة للحديث الأول بل إن الحديث الأول والمتصل السند يناقض الثانى كليا، فالحديث الثانى يزعم أن النبى قال إنه يموت من أثر هذا السم، والحديث الأول يخبر فيه الرسول أن موته من السم مستحيل الحدوث، فأى شىء فعله بنا البخارى؟

فسبحان الله، إذا كان الرسول قد قال للمرأة اليهودية صراحة إن قتله بذلك السم لا يتأتى لها أبدا بقوله: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، فكيف يقول البخارى إن الرسول بعد ذلك بسنوات قال عند موته إن أثر السم ذاك هو الذى يميته، كيف استساغ البخارى أن يلصق بالرسول الكريم طعنا كهذا ونقضا لعصمة ربه التى أقرها هو بنفسه فى حديث الشاة، ثم يأتى البخارى بسند منقطع ويعلق الحديث على ادعاء أنه بمعنى الحديث الأول، بل الأمر واضح وجلى أن الحديث الثانى ليس له علاقة بالحديث بالأول.

لذا فإن هذا الاستنتاج يخص البخارى وحده ولا يخص الأمة ولا نبيَّها، ولكن تقديس البخارى هو الذى جعل الشراح والتابعين يقرون هذا الحديث المعلق على أنه الحقيقة ويطعنون فى نبيهم المعصوم ويجعلون اليهود هم الذين قتلوه إلى يوم القيامة، فسبحان الله.

رابعا: ولكن الأهم هنا أن السند المنقطع الذى ذكره البخارى ليس سندا سالما من العلل، فالسند هو: قال يونس عن الزهرى قال عروة، ويونس هو «يونس بن يزيد الأيلى» ورغم أنه يعد الراوى الثانى لحديث الزهرى فإن أهل الجرح والتعديل قد عابوا عليه منكراته عن الزهرى، فيقول ابن حجر فى تهذيب التهذيب ج 11 - 770: «وقال أبو زرعة الدمشقى سمعت أحمد بن حنبل يقول فى حديث يونس عن الزهرى منكرات... وسئل أحمد من أثبت فى الزهرى قال معمر قيل فيونس قال روى أحاديث منكرة»، ثم إن الراوى لم يصرح بالسماع فقال «عن» الزهرى وهذه صيغة دون كلمة «حدثنا» التى تفيد سماعه منه مباشرة.

أما الزهرى فهو ابن شهاب الزهرى، وهو مع جلالته وحفظه وقدره لكن العلماء عدوه من المدلسين، بل إن ابن حجر عده من الطبقة الثالثة من المدلسين المكثرين فى كتابه «طبقات المدلسين»، وكذلك «أبو زرعة»، ولكن يُتَّقى تدليسه يجب أن يصرح بالسماع عمن روى، والغريب أن الزهرى يروى الحديث هذا بصيغة عدم السماع المباشر بقوله: «قال عروة» ما يؤكد أنه لم يسمعه من «عروة» مباشرة وأنه أسقط الواسطة بينهم وهذا هو التدليس، رغم أن «عروة» شيخه.

خامسا: قال ابن حجر فى «تغليق التعليق» عن ذات الحديث ما مضمونه إن الحديث قد وصله - بمعنى وصل السند المنقطع - البزار والإسماعيلى والحاكم ولكن بمراسيل، بانقطاع فى السند.

سادسا: حتى «مسلم» تلميذ البخارى والذى كان شرطه فى إخراج الأحاديث أدنى مرتبة من شرط البخارى، لم يخرج هذا الحديث من أى وجه ولا جاء على ذكر قول كهذا للرسول عند وفاته أبدا.

الاستنتاج:
هذا الحديث آحاد وغريب وشاذ ومنقطع السند ولم يتابع عليه أحد ولم يصل سنده أحد من العلماء إلا بأسنايد مرسلة، لذا فهو حديث ضعيف بكل أوجه الضعف لا يصح الاحتجاج به ولا التعويل عليه.

أما عن نقد متن نص الحديث فنقول: إنه منكر النص ويخالف المعلوم من لب الشرع ومجامع العقل وذلك للآتى:
مخالفته القرآن العظيم فقد قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» المائدة 67 .

ولا أعلم معنى للعصمة من الناس إلا العصمة من الإيذاء ومن القتل وقد أقر أكثر المفسرين أن الرسول لم يتخذ حراسة بعد نزول هذه الآية، وقال ذلك بعض من أهل التراث:
ابن الجوزى زاد المسير - 2 / 397: «فعنه: أنه عصمه من القتل، والأسرِ، وتلفِ الجملة».
الزمخشرى - الكشاف - تفسير آية آل عمران 144: «المراد أنه يعصمه من القتل».
الحافظ ابن حجر - فتح البارى 6 / 82: «وعلى هذا فالمراد: العصمة من الفتن، والإِضلال، أو إزهاق الروح، والله أعلم».

2) قال الله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» الطور 48.
ولا أعلم معنى لعناية الله سبحانه لرسول نبى فضلا عن كونه من أولى العزم إلا أنها عناية يكلؤه بها سبحانه من كل إيذاء يحط من عصمته، وهى عناية مستمرة مستديمة إلى يوم يلقاه.

والمضحك المبكى الذى تقشعر منه الأبدان أن أهل التراث والمعاصرين لم يتلبثوا فى استلهام معانى عصمة النبوة بل ساقوا الحجج المليئة بالسخف والتكلف والتعنت لمحاولة الجمع بين العصمة ورواية البخارى عن الموت بالسم، فمن المعاصرين من يقول مقلدا للتراثيين إن «العصمة» فى الآية هى: العصمة من الفتنة، ومن الضلال، وقد عصمه ربه تعالى من كل ذلك».

وهذا كلام مردود لأن النبى من دون العصمة هو معصوم من الفتنة ومن الضلال وإلا فإن الله اختاره على غير علم - معاذ الله - كما أن سياق الآية لا يحتمل إلا العصمة الحقيقية البدنية - من القتل والتى عصم الله بها كل أولى العزم من الرسل.

ومن المعاصرين أيضا من ذهب أبعد من ذلك كالسلفى حامد العلى الذى قال: «(والله يعصمك من الناس) أى حتى تبلغ رسالتك، أما وإن تم التبيلغ، وأديت الأمانة، فقد يقدر الله على النبى أن يموت بسبب من أعدائه، فليس ثمة تناقض بين الأمرين».
والمعنى الذى يريده أن الله عصمه حتى يبلغ كامل الرسالة ثم بعد ذلك فلا مانع من أن يقتل على يد أعدائه فلا تناقض بين العصمة والقتل.

ووالله لا أجد شيئا أقوله تعليقا على هذا الكلام المتناقض الهابط، وأتركه ليحكم عليه العاقل، فالله يبعث نبيه ولما تنقضى حاجته بتبليغ الرسالة يتركه ليقتل! فسبحان الله العظيم.
3 - وأفتى آخرون بأن الله أبى إلا أن يعطى نبيه الحسنيين النبوة وأن يموت شهيدا، والرد على ذلك بسؤال مواجه لماذا يعطى الله لنبيه ورسوله الشهادة مع أن الشهداء ستكون مكافأتهم الكبرى فى الجنة أن يكونوا فقط مع الأنبياء والدليل قول الله تعالى: «فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا» النساء 69. فأى كرامة بعد النبوة ذاتها.

4 - أخرج البخارى 2753: «أن جابر بن عبد الله أخبر: أنه غزا مع رسول الله قِبَل نجد.. فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابى، فقال: إن هذا اخترط على سيفى وأنا نائم، فاستيقظت وهو فى يده صلتا، فقال: من يمنعك منى؟ فقلت: الله ثلاثا».
فهذا الحديث دليل دامغ وعملى على فهم وتطبيق الرسول بنفسه لعصمته المقررة قرآنا، فقال للأعرابى مجيبا على سؤاله: ما يمنعك منى؟ فقال له النبى «الله» ثلاث مرات فمن الذى عصم الرسول من القتل؟ وما الذى ارتكن إليه الرسول فى رده أنه لن يستطيع قتله؟ إلا أن تكون العصمة.

5 - أخرج عبد الرزاق (9754) وأحمد (27469) وصحح إسناده الحافظ فى الفتح 8/148، من حديث أسماء بنت عميس قالت: «أول ما اشتكى رسول الله.. قالوا: كنا نتهم بك ذات الجنب يا رسول الله، قال: إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفنى به».

وهنا نجد المعنى الذى يقوله الرسول على سرير المرض الأخير، فالرسول واثق متيقن من ربه أنه لا يبتليه بداء «ذات الجنب» أبدا قائلا: «ما كان الله ليقذفنى به»، وهو يجزم بذاك كرامة لرسالته وعصمته، ثم من المفترض أن النبى بعد ذلك بساعات يغير كلامه -معاذ الله- فى عصمة ربه ويقول ويقر بأنه يموت من أثر السم الذى دسوه له بخيبر، أفيحميه الله من الأمراض التى هى من قدَرِه بدون واسطة ولا سبب كرامة لعصمته ثم يتركه -معاذ الله- لليهود تقتله؟ أى قياس باطل منكر هذا؟ بل الرسول أحسن ظنه ويقينه بربه ومات محفوظا مهابا وخُيِّر بين الدنيا والآخرة فاختار الرفيق الأعلى.

6 - كما نود الإشارة إلى نقطة هامة جدا أنه بالرجوع للنصوص المختلفة فى حديث الشاة سنجد أن الروايات فى تلك الواقعة تباينت حول حال المرأة التى وضعت ذلك السم للنبى أَقُتِلت أم عُفِى عنها، وسنجد أن الروايات الأقوى تقول إن الرسول عفى عنها، فإذا ما قلنا إن الرسول وهو الذى لا ينطق عن الهوى أقر أن السم الذى وضعته المرأة هو السبب فى قتله - على زعم البخارى- أفلم يكن هذا يستدعى من الصحابة إقامة القصاص على هذه المرأة اليهودية، ولكن الغريب أن ذلك لم يحدث ولم يكن له ذكر، وذلك لسببين فإما لهوان أمر قتل النبى المصطفى على أصحابه، وهذا من غير المعقول، وإما لأن هذه الرواية الضعيفة المنكرة هى كذب على رسول الله، وهذا هو الحق لأن الرسول لم يقتل بالسم لكى يقتص من قاتله.

7 - ولتأكيد الأوهام فى هذا النص، آن لنا أن نحكم العلم، فقد بحثنا يمينا ويسارا وسألنا الأطباء الحذاق، وتأكدنا من أنه لا وجود لسم فى تاريخ الإنسانية يبدأ عمله فى جسم الإنسان بعد ثلاث سنوات أو حتى يظل أثره المميت لمدة ثلاث سنوات، حيث قدمت الشاة للرسول فى خيبر فى العام السابع الهجرى، فأى سم هذا وأين هو؟ فلن نجد هذا السم إلا فى الأساطير والخرافات، فما قول أهل التراث فى ذلك؟

8 - معارضة هذه الرواية الضعيفة للنصوص الصريحة المتصلة السند التى ذكرناها، فكيف بعد إقرار النبى نفسه بعصمته لنفسه أن السم لا يضره أبدا نأتى برواية ليقول فيها إنه يموت من أثر ذلك السم؟ سبحان الله أى عقل يقبل ذلك؟ فإذا قبلنا الرواية هذه يكون النبى قد أضره السم كما قال له اليهود فيصبح بذاك استنتاجا أنه ليس نبيا البتة، وكذلك يصبح كلامه -معاذ الله- للمرأة اليهودية فى الرواية الثانية باطلا وأن الله سلطها عليه أن تقتله بعد ثلاث سنوات، فإما قبول الروايات الصحيحة ورد الحديث المعلق، وإما رد الروايات الصحيحة بالحديث المعلق الضعيف ولا يمكن الجمع بينهما على الإطلاق.

الاستنتاج:
هذا الحديث المعلق الذى أخرجه البخارى وحده فى أمة الإسلام هو حديث اجتمعت فيه كل المعايب والعلل سندا ومتنا، فهو آحاد غريب وشاذ ومنقطع السند ومنكر المتن ومخالف للقرآن ولعصمة النبوة وللعقل وللعلم، فماذا بقى بعد ذلك لنرد هذا الحديث الضعيف فى «البخارى» انتصارا للحق وللشرع ولعقولنا.

الخلاصة:
ما كان الله ليترك نبيه فريسة لغدر اليهود المتوارث، ولكى نقبل حديث البخارى ولكى يستريح مقدسو التراث يجب أن نزيد - معاذ الله - على آية العصمة لتقول «إن الله يعصمك من الناس» - إلا اليهود -، فكيف نقبل حديثا به كل هذه المعايب لمجرد أن رجلا واحدا مهما علا شأنه قرر أن يخرجه لأنه رآه صحيحا، فهل أصبح عقل البخارى أو تصحيحه وحده بلا متابع هو إجماع الأمة، ويا ليت ذلك فى واقعة عادية بل فى حدث جلل وكبير وقد حذرنا الله فى الكتاب بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» الأحزاب 69، فأى إيذاء للنبى أكبر من أن نطعن فى نبوته بالكلية، والآيات تنضح بعصمته.

إسلام بحيرى-قتل المرتد لمجرد تبديل الدين هو إطلاق خاطئ


قد قُدِّمت عدة قراءات معاصرة لمفهوم الردة تركزت حول اتجاهين، كلاهما صحيح, أولهما تحقيق ضعف سند الحديث الذى أخرجه «البخارى», وثانيهما حول تناقض معنى الحديث مع صريح آيات القرآن الكريم عن حرية العقيدة, إلا أن ثمة قراءة مغايرة نستطيع من خلالها النظر إلى مدلولات أدق لمفهوم الردة فى العهد النبوى من خلال استعمال اللفظ قرآنيا وكذلك من خلال السياقات التاريخية والاجتماعية لذلك المفهوم، لنستوضح ما إذا كان قتل المرتد تشريعاً مطلقاً خارج التاريخ أم حكما مؤطراً بمساقات ملتبسة ومتقاطعة.

الحديث:
أخرج البخارى: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَرَّقَ قَوْمَاً فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لأَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا تُعَذِّبُواْ بِعَذَابِ اللهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
وكما ذكرنا فقد اتجهت أغلب الدراسات المعاصرة لتضعيف الحديث وهم على حق فيما ذهبوا, حيث إن تضعيف السند فى ذلك الحديث لا يتطلب كثير جهد ولا احتمال عناء, فهو حديث آحاد يدور على راو واحد وهو «عكرمة» مولى الصحابى «عبدالله ابن عباس» ويعرف كل باحث ومتخصص أن «عكرمة» راو متهم فى عقيدته أولا ثم فى حفظه وضبطه بالكذب الصراح، وقد نعجز عن نقل الأقوال فى تضعيفه وتوهينه من كثرتها وطولها, حتى إن «على بن عبدالله بن عباس» كان يوثقه فى باب الحش ببيته جزاء له وكان يقول فى ذلك: «إنه يكذب على أبى».

ولكننا رغم ذلك سنتخطى المنطوق اللفظى للحديث حتى نتبين ما تواترت به الأخبار عن النبى إزاء واقعات الردة التى حدثت فى العهد النبوى بمرحلتيه المكية والمدنية, لنستجلى المفهوم التطبيقى للردة ومعناها الحقيقى ليكون ذلك مقيداً لإطلاق النص فى حديث «عكرمة» - على صحة فرضه -.

أولاً:
لم يكن مفهوم الردة فى العهد النبوى يعنى تبديل الدين فحسب, بل كان يعنى بالضرورة التنقل بين معسكرين واضحين لا ثالث لهما ولا لبس فيهما, معسكر الكفر ومعسكر الإيمان, وكانت العداوة والحرب بين المعسكرين بينة سافرة لا تحتاج لدليل, لذا فإن الخطاب القرآنى لم يكن يذكر الاشتقاق اللفظى للردة إلا مع بدايات التنزيل فى المدينة, فقد كان مدلول الردة حينها هو «الرجعة والعودة» المكانية باتجاه مكة والدينية باتجاه الكفر والعسكرية باتجاه الحرب والعداء, ويتبين هذا من خلال استقراء الموضعين اللذين ذكرت فيهما الآيات الحكيمة لفظة الردة بقول الله تعالى: «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ» البقرة 217, وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ» المائدة 54.

ففى آية «البقرة» يحذر القرآن المؤمنين من الردة تبعا لما يريده الكافرون, وفى الآية الثانية «المائدة» يقرر رب العزة حكما معلوما بالضرورة أنه سبحانه فى غنى عن عباده وعبادتهم, ولكن الذى يسترعى الانتباه أن الخطاب القرآنى لم يحدثنا عن عقوبة مفترضة لهؤلاء المرتدين كما فى الآيات, وذلك ما يؤكد بداهة ما بدأنا به أن الخطاب القرآنى لم يؤسس لعقوبة صريحة باعتبارهم ضمنا داخلين فى معسكر الكفر, والمعنى من ذلك يؤكد أن الردة الدينية فى المفهوم القرآنى والعهد النبوى لم تكن ردة محضة تقوم على تفكير عقائدى فقط, بل كانت مصاحبة دوما لظروف تاريخية ودينية تكاد تكون حتمية للمرتد، حيث ينضم لمجتمع الضد الذى يؤوى المرتدين ويعزز قولهم فى رمى القرآن وسب الرسول, لذا فإننا لا نجد ولو حالة واحدة فى عهد النبوة لمرتد عن الإسلام لم يركن لمشركى مكة ولم يهج ُ النبى أو يحاربه, لأن الردة الفكرية المبنية على موقف عقائدى لم تكن لتصلح فى هذه الظروف التاريخية فقد كانت فكرة الضد مسيطرة دينياً وسياسياً وحربياً بما يعنى أن المرتد لو قاربنا المعنى لتكييفه القانونى المعاصر فى دستور الدولة الحديثة لكن جرم الارتداد يماثل جرم الخيانة العظمى للدولة, فقد كانت الردة عسكرية ودينية وحتى جغرافية حيث الاحتماء بمكة من المدينة, لذا فإن إطلاق قتل المرتد بعموم اللفظ لمجرد تبديل الدين هو إطلاق خاطئ, والحق أن الردة عملية ذات توابع سياسية وتاريخية واجتماعية انتهت بشكلها الأول للتطبيق مع فتح النبى منتصراً لمكة فى العام الثامن من الهجرة, ولا شك أن استمرار الإطلاق العام للمعنى فى عصور ما بعد الراشدين الأربعة كان بداية لخدمة السلاطين الأموية التى وجدت فى ذلك مسوغاً ومبرراً لقتل المخالفين والمعارضين قتلا شرعيا, وكان هذا إيذانا ببدء امتطاء النصوص وسيلة للأحكام السلطانية والملك العضوض.

ثانياً:
وقعت حوادث عديدة للردة فى العهد النبوى فى مرحلتيه المكية والمدنية مع اختلاف الأحوال بين العهدين, فقد كانت الردة فى مكة قريبة العهد بالتكذيب والريبة فى الرسالة وعدم تصديق الخوارق كالإسراء والمعراج ولمحبة عدم مفارقة العشيرة والقبيلة, لذا نجد القرآن لم يوجه الخطاب للمؤمنين عن الردة فى مكة بالكلية حيث كان تنقية التوحيد وبناء أصل العقيدة أعم وأهم وأبقى, وكان التأكيد على حرية العقيدة فى المرحلة المكية واضحا فى الخطاب القرآنى: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ, وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ, وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِين», وفى سورة الكهف: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» 29, وذلك الخطاب لم يكن عن ضعف وقلة حيلة كما ذهب أغلب المفسرين القدامى بل كان ذلك تشريعا لأصل من أهم أصول العقيدة, ثم انتقل مجتمع النبوة للعهد المدنى حيث ثبوت قدم الدين والنبوة وشيوع الإيمان وكثرة تعداد المؤمنين, ومع ذلك لم نجد فى التنزيل المدنى إلا زيادة فى التأسيس والتأصيل لمفهوم حرية العقيدة فى قول الله: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ» محمد 25, وقوله:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ« المائدة 54, فلم يغير حال القوة والمنعة لمجتمع النبوة الخطاب القرآنى الهادف لتأصيل الحرية على عكس ما ادعى التراثيون من تغير لغة القرآن فى المدينة عن مكة, وهو ما يؤكد أن القواعد الأساسية فى الدين تؤصل لذلك, ولكن أدعياء التراث المعاصرين تجدهم يقولون بأن الحديث النبوى ينسخ حكم القرآن ورغم أن ذلك القول لا يصح عند عاقل لكن الرد عليه يكون باستجلاء فعل النبى وحكمه فى ردة من ارتدوا حال حياته, وفعل النبى فى ذلك هو المفسر والضابط للمفهوم القرآنى لحرية اختيار العقيدة, وليس النص المنطوق عند البخارى- على فرض صحته -.

ثالثاً:
كان التطبيق النبوى لمفهوم الردة هو التطبيق المبين لدلالة حرية العقيدة فى القرآن, لذا سنحدد النظر فى واقعتين شهيرتين للردة وقعتا فى العهد النبوى وننظر كيف اعتبر النبى المسألة وكيف تعامل معها.

الأول: عبدالله بن أبى السرح:
وكان عبدالله أخا فى الرضاعة لـ«عثمان بن عفان» صاحب رسول الله, وكان قد أسلم بمكة, وهو أحد القلائل من المكيين الذين كانوا يخطون بيمينهم ويعرفون الكتابة فاتخذه النبى كاتبا للوحى, ولكنه بعد فترة أدعى أنه هو الذى كان يلقن النبى الوحى وقال إنه يأتيه مثلما يأتى «محمداً» وعاد أدراجه مرتدا لمعسكر الشرك ولم يكتف بل ظل بعدها طاعنا فى النبوة هازئا بالقرآن.

الثانى: عبدالله بن خطل:
وكان عبدالله له صحبة واستعمله النبى على بعض الصدقة وأصحبه رجلا فى ترحاله يخدمه فلما كان فى أحد أسفاره طلب من خادمه أن يصنع له طعاما ثم استيقظ من نومه ليجد الخادم لم يصنع شيئا, فضربه بالسيف فقتله, وعلم «ابن خطل» أنه لو رجع المدينة سيقتل بالرجل قصاصا فهرب إلى مكة وارتد عن الدين ولم يكتف أيضا, بل أخذ يهجو النبى ويسبه ويعرض به ويسوق لذلك جاريتين عنده لتغنيا هجاء النبى فى طرقات مكة.

إذن نحن أمام حالتين صريحتين ومتماثلتين للردة عن الإسلام المصحوبة بأشد ما يكون من المرتد, ولهذا فإن النبى لما فتح مكة منتصراً كان يعلم بوجودهما فأما الأول «ابن السرح» فقد غيبه أخوه فى الرضاع «عثمان بن عفان» حتى جاء به للنبى ليتوب ويعود للإسلام, وقد سكت النبى عن شفاعة «عثمان» ولم يعقب من شدة جرم «ابن السرح» فى حق النبوة ولو كان النبى قتله لكان حقا لا مراء فيه، لأن ملابسات الارتداد المصاحبة اختلطت كما ذكرنا بسب وطعن فى نزول القرآن, لكن النبى عفا عنه مع تمنيه فى نفسه لو قُتل جزاء بما فعل من قبل شفاعة »عثمان« فيه, أما الثانى »ابن خطل« فقد علم النبى أنه متعلق بأستار الكعبة طالبا الغفران ومبديا الندم إلا أنه أمر بقتله فقتل.

وهنا يتبين الأمر بوضوح، فلو كانت الردة فى ذاتها مصحوبة بعداء أو غير مصحوبة به موجبة للقتل كحد تشريعى لما كان رسول الله سكت عن شفاعة الشافع فى «ابن السرح» لأنه معلوم بالضرورة أنه لا شفاعة فى حد شرعى, ما يؤكد أن الصحابى «عثمان بن عفان» لم يكن ليفعل ذلك إلا بعلمه أنه لا يشفع فى حد من حدود الله, وكانت تلك الواقعة فى فتح مكة فى العام الثامن للهجرة بما يعنى أن فعل النبى كان موافقا للتنزيل القرآنى فى المدينة بلا نسخ ولا تقييد, وقد حاول التراثيون الخروج من هذا المأزق بقولهم إن النبى عفا عن «ابن السرح» فى الحد بالتوبة وفى التعزير بالشفاعة من أخيه, وهو استنتاج مخالف للحقيقة فلو اعتبرنا أن فترة تزيد على التسع سنوات وهى ردة «ابن السرح» تمثل استتابة له فلماذا لم يعف النبى عن «ابن خطل» ويعتبر أن فترة ردته أيضاً - وهى أقل - فترة استتابة, وهذا ما يؤكد أن إمعان النظر فى الحالتين يبين أن العفو عن «ابن السرح» كان لشفاعة من صاحب النبى، وما كانت الشفاعة تقبل فى حد شرعى, وأما الثانى «ابن خطل» فقتله إنما كان قصاصا وليس ردة، بمعنى أن أمر النبى بقتله كان قصاصا منه وجزاء لقتله نفسا مؤمنة بغير حق, وقد كان حينها ما يزال مسلماً, لذا فإن كل الآراء التى أدعت أن قتل «ابن أخطل» كان لردته آراء لم تتمحص الروايات بتؤدة, ما يوضح أن تعامل النبى مع أعتى حالات الردة والطعن فى الدين كان تعاملا عادلا ومباينا ومغايرا للمفهوم المطلق لقتل المرتد لمجرد تبديل الدين.

رابعاً:
ولو نظرنا فى فعل الصحابة لوجدنا فى الحروب التى خاضها الخليفة الأول «أبوبكر الصديق» رضى الله عنه, وعرفت باسم «حروب الردة» لوجدناها حربا قسمت إلى شقين، فالأول هو حرب الخليفة ضد من أنكروا دفع الزكاة الواجبة وهى «حروب مانعى الزكاة», أما الشق الثانى وهم مجموعة مدعى النبوة «مسيلمة الكذاب» و«سجاح التميمية» وهؤلاء لم يكونوا مرتدين فقط بالديانة ولكنهم بدأوا المسلمين بالعداء واستحر قتلهم فى حفاظ القرآن الكريم, ورغم ذلك فإن «سجاح التميمية» قد عادت للإسلام مرة أخرى وظلت كذلك حتى ماتت فى ملك «معاوية» ولم نر من اعتبر أن ردتها وعودتها كانت لفترة استتابة, لذا لم يكن غريبا أن يقرأ الوضع الصحيح من ذلك بعض من أهل التراث.

خامساً:
اختلف الأوائل فى قتل المرأة المرتدة على قولين أحدهما أنها لا تقتل بردتها، وهو قول «ابن عباس» ما يؤكد أنه لو كان قتل المرتد حدا مطلقا لاستحال التمييز فيه بين الرجل والمرأة, لذا فإن بعض الآراء التراثية قد ذهبت باتجاه ما ذهب إليه المعاصرون فى مفهوم الردة فقد قال «ابن القيم»: فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات كالجناية على الأنفس.. وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه وهذه الجناية أولى بالقتل.. فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن فى بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم» إعلام الموقعين (3/339).

وهنا يصرح «ابن القيم» أولاً بفكرة قتل المرتد على خلفية الطعن فى الدين بعد ارتداده ثم بين أن التزام المرتد الصغار بألا يطعن فى الدين، وأن يمتثل لأحكام الدين فإنه لا يرى فى بقائه مرتداً بين أظهر المسلمين أى ضرر, وهو اتجاه يكاد يماثل اتجاه الكثير من المعاصرين الذى أكد على أن الارتداد فى ذاته لا يمثل قضية فى الدين، حيث أسس القرآن لحرية العقيدة ولكن مصاحبات الارتداد من العداء والطعن هى الإشكالية اللاحقة, لذا فإن تشريعات الدولة المصرية على سبيل المثال تنص على عقوبة «ازدراء الأديان» وهى المعادل القانونى لفكرة الطعن فى الدين بوجه عام بحيث لا يصبح امتهان الدين كلأ مباحا, وهذا القانون هو الحاكم فى المسألة تبعا لروح الشرع الإسلامى الذى ينص على حرية اختيار العقيدة دون الحاجة لسن قوانين جديدة حول الردة.

إذن:
نحن أمام تأسيس قرآنى صريح لحرية العقيدة إيماناً وكفراً توضح فيه الآيات القصد والمعنى والدلالة من الردة فى القرآن, والتى لم تقترن بعقاب دنيوى إلا عقاب الآخرة, وأمام تأصيل قرآنى لمعنى الردة المقصود فى العهد النبوى وهى ردة الطاعن المحارب, وأمام أدلة من السنة الفعلية للنبى على تباين الأمر فى التعامل مع المرتد عفوا وقصاصا عادلا تبعا لسياقات حددت الأمر وبينته, وأمام فعل متابع لذلك من الصحابة حتى فى حروب المرتدين ومدعى النبوة حيث أكدت الروايات التى صحت عن السيدة عائشة «ابن أبى شيبة 14/572» أن كثيراً من أحياء العرب إلا مكة والمدينة قد ارتدت بعد وفاة النبى ولكن الحرب لم تكن إلا مع المعادى الذى ابتدر المؤمنين فى ديارهم والحرب ليست قصاصا كما هو معلوم, فلماذا بعد كل هذه الأدلة المتقاطرة والقراءات الواضحة فى القرآن والسنة نأتى اليوم لنطعن فى الشريعة بقول بعضهم إن الإسلام يقبل من الشخص الدخول إليه طائعا وينهاه عن الخروج منه أبداً.

لذا فإن إطلاق اللفظ الذى جاء فى البخارى على فرض صحته - إطلاق يخالف المعلوم القرآنى والمعمول النبوى, كما أننا لو تماشينا مع اللفظ الموجود فى البخارى: «من بدل دينه فاقتلوه», بإطلاقه لكانت الاستتابة التى أقرها الفقهاء القدامى ممتنعة حتى لو لمدة ثلاثة أيام, ولكان القتل- حسب نص الحديث - مترتبا فقط على مجرد تبديل الدين دون النظر لتوبة أو رجعة, وهذا ما يبين أن التراثيين قد قيدوا النص الذى أخرجه البخارى مجبرين، لأن إطلاق القتل جزاء عاما على تبديل الدين يخالف كل ما صح من فعل النبى, لذا فلم يكن أمام التراثيين إلا القول إن الاستتابة لها مدة, وقد كان الأحرى بهم طالما قيدوا النص المنطوق عند البخارى بفعل النبى أن ينظروا أيضاً فى مآلات التطبيق النبوى ودواعيه ودلالته، التى تؤكد أن مفهوم الردة لم يكن فى القرآن ولا السنة الصحيحة يعنى تبديل الدين فحسب, بل هو مفهوم يتخطى ذلك كما بينا, ولكن الأحكام السلطانية فى كثير من عصور تلامذة الفقهاء كانت ضاغطة وحاكمة لاستمرار وتأكيد القول بالفهم المطلق للردة لتكون ذريعة مطاطية لطالما كانت وسيلة نافعة وناجعة لقتل المخالفين, حتى لو كان القتل على المذهب والعمل وليس على الكفر والإيمان.

وأخيرا:
فقد استمعت إلى طرف من المناقشات التى دارت فى الدورة التاسعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامى الدولى الذى اختتم أعماله بالشارقة مؤخراً, وكانت الطروحات المستنيرة المقدمة من وزير الأوقاف المصرى محمود حمدى زقزوق، والدكتور عبدالله النجار تدور حول ضرورة إعادة النظر وفق اجتهادات معاصرة فى وجوب حد الردة بالمفهوم التراثى المطلق, ولكم آسفنى هجوم الوهابيين المعتاد على هذا الطرح فى كلام مبطن واتهامه بالذعر من منظمات حقوق الإنسان, واتهام الشيخ «محمود شلتوت» بالخلط والخطأ لأنه كان يرى أن حديث الردة من أحاديث الآحاد التى لا يقام عليها عقيدة, وقد أحسن الشيخ رحمه الله فى اجتهاده هذا والذى قال به كثير من الأوائل قبل ظهور عصر تقديس كتب البشر وجعلها مصاحف من دون الله فى القرن الرابع الهجرى.

وهكذا كان قدر الإسلام قديما أن تتوارى كثيراً من سماحة شريعته خلف مستنقعات الفهم الفقهى الضيق, وخلف القراءات العاكفة حديثا على النصوص المضافة لنصوص الأصل من فهم التراثيين لتمثل سدا وعائقا على استجلاء روح الشريعة الحقة واستفهام نصوصها من صريح القرآن وصحيح السنة, لذا فإنه لا بديل للإصلاح إلا أن يثابر على تقديم القراءات المعاصرة فى وجه هؤلاء الذين يحبون إثارة الجلبة، طمعا أن يكونوا دوما تحت بقعة الضوء, القراءات التى تنظر للنصوص من خلال السياقات المغايرة والفروق فى توجيه الخطاب بين القرآن والسنة, والنظر من خلال مقاصد الشريعة نحو التجديد الحقيقى لنخطوا ولو خطوة واحدة للأمام أو نصعد ولو قدما واحدة من داخل البئر.

الخميس، 31 يناير 2013

عبد الحكيم الصادق الفيتوري-فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين


هذه من جملة أخبار وقصص أمة التوراة التي حكاها الله سبحانه على أمة القرآن تحذيرا لها من أرتكاب ذات الجرائم،فتصاب بنفس العاهات والعقوبات القدرية والكونية،وإن ذلك سنة ثابتة ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.واللافت للنظر في هذه الآية الكريمة أن أصحاب السبت(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين.فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين)قد إلتزموا ظاهر الأمر الشرعي؛بمعنى أنهم لما نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت لم يصطادوا يوم السبت فعلا،ولكنهم قالوا لو حفرنا لها حياضا وشرعنا إليها جداولا يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها،وهم بذلك ملتزمون ظاهر الأمر الشرعي بعدم الاصطياد يوم السبت،إلا أنهم أهدروا مقاصده ومعانيه.وعلى الرغم من هذا الإلتزم الظاهري للأمر الإلهي إلا أنهم مسخوا قردة(كونوا قردة).جاء في كتب التفسيرأنه يحتمل أن يكون هذا المسخ بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الانساني،وهذا قول الجمهور،ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الانساني،وهذا قول مجاهد. والقول الثاني هو الراجح عندي. 
واللافت للنظر أن القرآن الكريم يصف الذي يتعاطى مع الأمر الإلهي تعاطيا ظاهريا؛ترديدا لحروفه حفظا،أوتلبسا به ممارسة شكلا؛دون فهم لمقاصده ومعانيه ومآلاته،بأنه من قسم البهائم،وليس من أي البهائم بل التي امتازت عن غيرها بامتياز في البلادة والغباوة وعدم القدرة على التفكير والنظر،كالوصف بالحمار(..كمثل الحمار يحمل اسفارا)أو الكلب(فمثله كمثل الكلب)أوالقرد(فقلنا لهم كونوا قردة).ومعلوم أن القرآن الكريم ضرب أمثلة كثيرة بالحشرات والحيوانات؛من بعوضة،وذبابة، وعنكبوتة وغير ذلك من هذه الأجناس، حيث جعلها مثلا في الذلة والضعف والوهن.ومع ذلك لم نره سبحانه وتعالى مسخ أحدا من أعدائه على صورة بعوضة ولا ذبابة ولا عنكبوتة أو على صورة شيء من هذه الأصناف.ولو كان الاستذلال والتحقير والتصغير والتوهين أراد،لكانت البعوضة والذبابة أولى بذلك!! 
لذا نلحظ أن القرآن الكريم وصف الذي يحمله بدون فهم لمراده،أو يلتزم أوامره شكلا ويهدر معانيه ومقاصده بأوصاف الكلب..أو الحمار..أو القرد..ويبدو أن وصفه بهذه الأجناس أراد إدانة عقله وفكره ومن ثم سلوكه غير المتناغم مع قيم النص،ولم يرد إدانة بدنه بالذلة والضعف والوهن.والدليل على ذلك أن الحمار قوي العضلات وله قدرة تحمل فائقة إلا أنه يعتبر في البلادة والغباوة والجهل بمكان،وعلى الرغم من ذلك تراه إذا رفع عليه السوط أسرع.أي أن القياس علّمه أن السوط متى رفع نزل،ومتى نزل اصابه،ومتى أصابه ألم.فهذه المعرفة المكتسبة لديه بالتقليد والتكرار لم تخرجه عن كونه من الأغبياء بامتيار،وقديما قالوا التكرار يعلم الحمار!! 
فإذا كان هذا وصف حال الحمار،فإننا نرى أن القرد يبدو أكثر ذكاء منه،حيث أنه يحاول إلتزام ظاهر النص ويمعن في إهدار باطنه ومقصده،وذلك بتعطيل إدراكه في فهم النص بالتحايل عليه أو إهداره جملة كما فعل أصحاب السبت وأتباعهم.علما بأن العقل هو مناط التكليف،لذا فأن أي محاولة للإعتداء على مدركاته أو تعطيل إمكانية إعمال نظره في النص والواقع فهما وتنزيلا؛فهما باعتبار النص في سياقاته التاريخية والمعرفية والاجتماعية،وتنزيلا بتخريج وتنقيح وتحقيق مناطه في أرض الواقع،تعد إحياء لظاهرة المسخ الجماعي.ولا ريب أن انتشار هذه الظاهرة بين الناس والسكوت عليها يعتبر بمثابة الإعلان الرسمي للإلتزام بالشكل وإهدار المضمون،وتقييد العقل المطلق محل التكليف ومناطه بدلالة الظاهر المقيدة؛أي أن دلالة النص محدودة والوقائع متجددة غير متناهية مما يلزم بالضرورة المنهجية استخدام العقل في فهم الدلالة المتناهية وتعدية مدلولاتها على الوقائع المستجدة غير المتناهية.وأحسب إن هذا الإعلان يؤسس لظاهرة(المسخ الجماعي)الذي يقيم الشكل والمبانى،ويهدر المقاصد والمعاني،ولا يعتبر للنص مقصدا ولا للواقع مكانة في فهم النص إلا قياسا على اقوال الأسلاف،وهذا يطمس إمكانية معرفة أن النص قد يفارقه الواقع،أو الواقع يفارق النص،ناهيك على قدرة ذلك العقل الممسوخ الجمع بين القرائتين في مقاصد النص؛قراءة النص في سياق تاريخه ونسيج اجتماعه وجعله معاصرا لنفسه،ثم قراءة النص ومقاصده في زماننا وجعله معاصرا لنا!!  
الواضح إننا أمام حالة مسخ جماعي لا يعبأ به من قبل السواد الأعظم من الناس،وهذا إيذان بتعطيل قيم القرآن،ومسخ عقل الإنسان،وإحياء عقل الحيوان،يقول ابن عاشور(ومعنى كونهم قردة،أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ،فقد اشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات،فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني،وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه،وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات)!! 
فهل من سبيل للنجاة من سنة مسخ العقول والقلوب،وذلك بفهم مقاصد والوحي والتجادل مع واقعنا بقيمه الكلية،عوضا عن التشبث بالمباني وإهدار المعاني،وأتقان الترديد وإزهاق التقصيد،والعيش في التاريخ والهروب من الحاضر..وإلا فلن نجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا؟!! 

عبد الحكيم الصادق الفيتوري- الكفارة و الفدية في القران


لايمكن تناول المفاهيم الدينية وفهم مستويات دلالاتها إلا من خلال السياق التأسيسي والمساق الاستعمالي، وهذا لا يعني تقديس تلك السياقات والمساقات ومحاكمة الحاضر بالماضي، ولكن الأمر يتعلق في حقيقته بتحرير حاضرنا من سلطة الماضي الذي ما فتيء من تدخله السافر في حاضرنا في كل كبيرة وصغيرة في الشأن الخاص والعام. فمن هذه المفاهيم التي ينبغي تحليل مستويات دلالاتها ومضامينها مفهوم الكفارة ومفهوم الفدية، بغية تقديم إضاءات عن إشكالية الخلط بينهما في قضية إفطار رمضان بالنسبة لغير المسافر والمريض كما جاء في قوله تعالى ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين).
الاستعمال اللغوي لمفهوم الكفارة والفدية وقت التنزيل يشير بما يكفى إلى أن كل المفهومين ينتمي إلى عائلة لغوية تختلف تماما عن الأخرى، فإذا كان مصطلح الفدية بمشتقاته يحمل مضامين ودلالات الحرية، والخلاص، والانقاذ،  والانتقال من وضع عسير إلى آخر يسير،كما جاء في لسان العرب، والمعجم الوسيط في مادة ( فدي). وأكد صاحب القاموس الفقهي على تلك المعاني بقوله: فدى الأسير : فدي، وفدى، وفداء: استنقذه بمال، أو غيره، فخلصه مما كان فيه. فدي المرأة نفسها من زوجها: أعطته مالا حتى تخلصت منه بالطلاق. افتدى فلان: قدم الفدية عن نفسه. الفداء : ما يقدم من مال، ونحوه، لتخليص الأسير.(انظر: القاموس الفقهي لغة واصطلاحا، لسعدي أبو جيب، بتصرف)
بينما مفهوم الكفارة ينتمي إلى عائلة لغوية مغايرة لمفهوم الفدية ومضامينها ودلالتها، فإذا كان مفهوم الفدية يفيد الحرية والخلاص والانتقال، فإن مفهوم الكفارة الذي ينتمي إلى جذر( كفر) يدل على معاني الستر، والإخفاء، والغطاء، كما جاء في معاجم اللغة مادة (كفر)، وقد جمعها صاحب القاموس الفقهي في حرف ( الكاف) حيث ذكر معاني الكفر فقال: كفر بالشيء: غطاه، وستره. وكفر الله عن الذنب: غفره. وكفر عن يمينه: أعطى الكفارة. الكافر، كوافر: الكافر: الليل. الكافر: السحاب المظلم. الكافر: البحر. الكافر: الوادي العظيم. الكافر من الأرض: ما بعد عن الناس، لا يكاد ينزله، أو يمر به أحد. والكافر: المقيم المختبىء بالمكان. الكافر: من لا يؤمن بالله. والكافر: الجاحد. والكفارة: ما يستغفر به الآثم من صدقة ، وصوم، ونحو ذلك. ( المرجع السابق، بتصرف)
يبدو أن هذا الوضوح في انتماء المفهومين( الكفارة، والفدية) إلى حقلين مختلفين من الناحية اللغوية غير ذي بال عند الفقهاء والمفسرين باعتبار محدودية الامتياز بينهما من حيث الدال والمدلول، ولهذا السبب غصت كتب الفقه والتفسير من كل المذاهب الاسلامية بتأويل آيات القرآن الكريم التي وردت فيها الكفارة أو الفدية بذات المعنى، وتأسس على هذا الإلغاء بين الحقلين أحكاما تشريعية تحاصر المكلف وتحرمه التنعم برخص الله التي كان يتمتع بها جيل ما قبل تدوين المدونات، ناهيك عن الاعتداء الصارخ على النص القرآني كما تم ذلك في قوله تعالى: ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين). ومن هنا يجدبر بنا في نطاق البحث عن حقيقة المفهومين الرجوع إلى الاستعمال القرآني لسياقات ذينك المفهومين .
أولا: مفهوم الفدية في القرآن:
في سورة الصافات وهي مكية وردت مفردة الفدية بمعنى الانقاذ والانتقال من وضع ضيق إلى موسع وذلك في فداء اسماعيل عليه السلام بكبش عظيم، وانتقال إبراهيم عليه السلام من طاعة ذبح ابنه إلى طاعة نحر الكبش. فقال تعالى: وفديناه بذبح عظيم. ولم يقل تبارك وتعالى وكفرنا عنه بذبح عظيم ، لأن إبراهيم لم يرتكب ذنبا في الوضع الأول ولا في الثاني. وفي سورة محمد وردت لفظة الفدية بمعنى طلب الحرية والخروج من الاسر مقابل مبلغ مالي محدد، كما في قوله تعالى: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها..
وفي سورة البقرة جاءت مفردة الفدية بمعنى الانتقال من حال سيئ إلى حال أحسن منه مقابل قيمة نقدية أو عينية تدفعها المرأة المتزوجة لزوجها الذي استحال العيش معه في العش الزوجي (= الخلع)، قال تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله.( سورة البقرة) لاحظ الخطاب القرآني حين استعمل مفردة ( الفدية= افتدت) ولم يستعمل مفردة ( الكفارة) لأنه لم يكن ثمة ذنوب بين الزوجين وإنما استحالة العيش الهني سويا.
 أيضا وردت كلمة الفدية في سياق أخر من سورة البقرة،بمعنى الانتقال من نسك إلى نسك أكثر تيسيرا من الأول، باعتبار القصد الكلي القرآني ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، ومن باب المشقة تجلب التيسير،  وذلك حين تحدث القرآن عن شهر الصيام شهر رمضان، فقد ذكر قصدية الصوم وهي التقوى والشعور بالمسكين، ثم حدد وقته، والمكلف بذلك، وميز اصحاب الاعذار من هذا التكليف فذكر المرضى والمسافرين، ثم ذكر صنف ثالث ليس من ذوي الاعذار الأولى، وهو الذي يقدر أن يتلبس بتكليف الصيام ولكنه يسبب له إزعاج ويعكر صفو حياته ويعطل معاشه ويضيع عليه المقاصد التي من أجلها شرع الصوم ( لعلكم تتقون)، فحيئذ شرع له الانتقال من عبادة الامساك عن الطعام إلى عبادة انفاق المال على الفقراء والمساكين، فقال تعالى : أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين.
ويبدو أن استخدام النص القرآني لمفردة ( فدية طعام) وعدم استعماله لكلمة ( كفارة طعام) يعد بمثابة النص في محل النزاع، وهذه اشارة دقيقة للغاية لمن كان له عقل سليم، بمعنى أن المكلف لم يرتكب ذنبا كما هو مقرر في الخطاب الفقهي، ولكنه انتقل من عبادة الامساك والشعور المعنوي بمعانة المسكين إلى شريعة الانفاق على المساكين وهي من خصال أهل التقوى والاحسان. ولو كان مرتكبا ذنبا بتركه للصيام لكان من المنطق حسب العرف القرآني أن يستعمل القرآن مفردة كفارة عوضا عن الفدية، وهكذا يتجلى الخلط بين مفهوم الكفارة ومفهوم الفدية في الفكر الديني وهو بمثابة انحراف ذي مصدر إنساني أو على الاقل كان غريبا عن فلسفة خطاب النص القرآني.
كذلك وردت في سورة البقرة مفردة ( الفدية) بذات المعنى، معنى الانتقال من نسك إلى أخر، وذلك في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى، ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك.. ايضا وردت مفردة ( الفدية ) في حوارات يوم القيامة بمعاني الحرية والخلاص كما في قوله تعالى: ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جمعيا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب... كذلك قوله: إن الذين كفروا وماتوا وهو كفار فلن تقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به ..... كذلك قوله: فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا .....
ثانيا: مفهوم الكفارة في القرآن:
بطريقة الاستقراء نجد أن مفردة الكفارة في القرآن قد وردت في سياقات مختلفة، منها كفارة حنت اليمين، وقتل الصيد بالنسبة للمحرم، والظهار، والقتل الخطأ، ففي سورة المائدة قال تعالى عن كفارة حنت اليمين: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.  ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون. وفي كفارة قتل المحرم للصيد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ، يحكم به ذوا عدل منكم ؛ هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره ، عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ؛ والله عزيز ذو انتقام .
 كذلك وردت مفردة ( الكفارة) في مدونات الأحاديث بهذا النحو حيث بينت تفاصيل كفارة القتل الخطأ، وكفارة الظهار، وزدت كفارة الجماع في نهار رمضان،ويمين الإيلاء، والنذر، ووطء الحائض وغير ذلك. والملاحظ أن جل هذه المفردات حسب سياقها القرآني تأتي بعد إرتكاب المكلف ذنبا معينا فيشرع له إتيان الكفارة المقدرة من أجل التكفير عن ذلك الذنب ومحوه، وبالتالي تأتي مفردة (الكفارة) في السياق القرآن عادة مقرونة بإرتكاب ذنب، عكس مفردة( الفدية) في السياق القرآني حيث أنها غالبا ما تكون عنوان طلب الحرية والانتقال من ضيق حال إلى حال أرحب منه، سواء أكان هذا الحال عسكريا؛ متمثل في الاسير (فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها). أو اجتماعيا؛ متمثل في الحياة الزوجية (فلا جناح عليهما فيما افتدت به). أو طقوسيا؛ متمثل في مناسك الحج أو عبادة الصوم ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين).
وهكذا يكشف المحيط اللغوي والسياق القرآني لمفهومي الكفارة والفدية عن عدم وجود تماثلات أو ترادفات في الشكل والمضمون رغم زعم المؤسسة الدينية الكلاسيكية، وقد يكون لجوء الفقهاء والمفسرين المطرد إلى الجمع والخلط بين المفاهيم ونزع النص القرآني من سياقاته سببه مرحلة مأسسة الاسلام من خلال الحلف المنعقد بين رجال الدين ورجال السلطة عبر التاريخ الاسلامي، حيث تحول الاسلام بعد هذا الحلف إلى مؤسسة قائمة على خيارات فقهية وعقدية تحت شعار سياسديني ( أهل السنة والجماعة) أو ( أهل البيت) وصار نقد هذه المؤسسة (=الحلف بين القلم والسيف) بمثابة نقد ثوابت الوحي والخروج من الاسلام جملة. فهل آن الأوان للتمرد على تلك المؤسسة التي فارقها الزمان والمكان والانسان، وإبداع مفاهيم قانونية جديدة في إطار قصدية القرآن وسهميته يعتبر فيها حال المكلف وتطور زمانه؟!!

عبد الحكيم الصادق الفيتوري-عليكم بسنة الخلفاء الراشدين ... وإشكالية الفهم


قال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب.فقال رجل:إن هذه موعظة مودّعٍ، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال:أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبد حبشي تأمر عليكم،فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور،فإن كل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ.قال أبو عيسى الترمذي:هذا حديث حسن صحيح . 
وأحسب أن إشكالية فهم هذا الحديث تكمن في نقاط عدة ،أبرزها مخالفته الصريحة لمقاصد الكلية السياسية في القرآن الكريم، وعدم توافق سلوك الخلفاء الراشدين لفحوى الحديث ،ومناقضة أعمال جمع غفير من الصحابة لدلالته الإلزامية في الاستدلال ،والممارسة التطبيقية في السياسة !!وإذا ما أردنا تحليل هذا الإشكال وفكه وإعادة تركيبيه وفق كلية القرآن والهدى النبوي ينبغي علينا قراءته من خلال النقاط التالية.
أولا: مقاصد الكلية السياسية في القرآن(*):
لقد تمهد السبيل في كلية القرأن السياسية التأكيد على أن الأمة هي محل التكليف الشرعي وموضع الخطاب الإلهي،فكان خطابه سبحانه لها بصيغة الجمع(يا أيها الذين آمنوا ...)ثم حملها حق ممارسة وتطبيق هذا التكليف بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)،وحقها في اختيار الحاكم المناسب الذي يتحمل المسؤولية الجمعية لإقامة المعروف وإزالة المنكر(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)،وحقها في دفع ظلم الحاكم وجوره إن حاد عن مهامه المنوطة به(وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ..فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم).ثم توجه الخطاب القرآني للحاكم المنتخب من قبل الأمة وأوجب عليه وجوبا عينيا إقامة العدل والقسط بين الناس وأن يسوسهم  بالقانون لا بالهوى(يا دواد إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ،إن الله نعما يعظكم به).
 فكان ذلك كذلك فإن سياسة النبي الكريم وهديه العملي الذي تجلت فيه قيم القرآن العدلية ، بل شدد على الأمة محل التكليف الشرعي أن تمارس حقها الكامل بالكامل فقال فداه أبي وأمي (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) وحرج عليها في ممارسة حقها في الحسبة والأمر بالمعروف فقال:(والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر وليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)!! بل جعل حقها في ممارسة إقامة مفاهيم العدل والمساواة بين الناس ، وعدم السكوت على الظلم والجور والحيف من  أصول الإيمان،فقال( من رأى منكرا فلينكره بيده ، ومن لم يستطع فبلسانه ، ومن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) !!
ويتضح من هذا العرض الموجز لمعاني الكلية السياسية في القرآن والهدي البياني للنبي صلى الله عليه وسلم بأنها تتعارض مع  معاني حديث العرباض والأحاديث المماثلة له ،حيث قلبت القضية وجعلت الحاكم هو الفاعل وصاحب الحق الأصيل ، والأمة مفعولة بها تابعة منقادة له ، فكان أمر السمع والطاعة ملزما لها وإن ضرب ظهرها ،وأخذ مالها ،وهتك عرضها ، واستلب حقها!!...أوصيكم بالسمع والطاعة...فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين،عضوا عليها بالنواجد ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما إنقيد إنقاد ... من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله !! ولا يخفى أن هذا تقنين صريح للظلم يصادر الأمة حقها الشرعي يخالف مقاصد الرسالة جملة وتفصيلا . 
ثانيا: مخالفة الخلفاء لمتن الحديث:
بعيدا عن اختلاف الناس في تأويل لفظة الخلفاء الواردة في الحديث بين مقيد لها بالخلفاء الأربع ،وبين مطلق لها لتشمل سائر خلفاء إسلام التاريخ إلى فترة الملك العاض والجبري !! كذلك بعيدا عن تحديد نسبة حجم وقوع المخالفات والمناكفات وماهيتها بين أولئك الخلفاء على مر التاريخ الطويل حيث لا يهمني الوقوف عند تفاصيل لكونها تخرجنا عن مجال الدراسة ،ولكن الذي يهمني في هذا المقال الوقوف عند دلالة الحديث العرباض ومدى موافقته للكلي القرآني من عدمه ...وقد تأكد لنا فيما سبق بأنه مخالف للكلى القرآني والهدي النبوي .
ولكي تتضح لك صورة مخالفة حديث العرباض ومزاحمته للكلي القرآني والهدي النبوي أزيدك من الشعر بيتا،فأقول:إذا كانت الفتن الرهيبة في تاريخ المسلمين بكل خسائرها المادية ودمائها البشرية المهدورة ظلما وعدوانا ،مردوها إلى التنازع حول السلطة والثروة ،وقد كانت هذه الفتن مكشوفة للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا التفصيل(**)، فهل يتصور بعد ذلك أن يسكت النبي فداه أبي وأمي عن معالجة قضية السلطة الحساسة والتي كانت محور الفتن وموطن الفوضى في تاريخ الأمة ؟!وهل يتصور ألا يتطرق النص في علاجها إلا إلى نداء واحد موجه إلى الطرف الضعيف(الأمة)الذي أقصيى وهميش من لعبة السلطة والثروة جملة وتفصيلا ، بأن يسمع ويطيع ..ويصبر..ولا يحدث بدعا كالخروج عليه..و..و..و، دونما أن يشير النص بنداء مماثل إلى الحاكم المستبد أن يمتنع عن ظلم الأمة صاحبة الحق الأصيل ويكف جوره وحيفه عليها ؟!!  
ثالثا: فهم الحديث في السياق التاريخي :
- لا يخفى أن الحديث رواه راو واحد فلم يروه أحد غير العرباض على الرغم من أن الحديث قيل في المسجد بعد صلاة فرض مما يتحتم أن يرويه جمع من المصلين !!
- اللافت للنظر أن صيغ الحديث وألفاظه مسبوكة سبكة وعظية تحمل بصمة الأيدي والألسن التي عاشت زمن الفتنة وفي كنف السلطة ، فمن ذلك وعظنا موعظة مودع ... بعد صلاة الغداة موعظة بليغة... ذرفت منها العيون ...وجلت منها القلوب ... أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ... وإياكم ومحدثات الأمور ...عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ...عضوا عليها بالنواجد !!
- زد على ذلك فإن التحديث بهذا الحديث كان في سياق الخصومة التاريخية وأجواء الفتنة بين سلطة الشام(معاوية)وخلافة العراق(علي)، علما بأن جل رواته من أهل الشام فهي رواية حمصي عن حمصي ، مما يجعل التنصيص السياسي واضح، والغرض التوظيف بين ،ورائحة الصنعة عالية، وبصمة الفقه ثابتة،  بحيث يعد نص تدجيني ، يؤسس مشروعية تدجين الأمة بقلم أظافرها وطمس مقومات أهليتها وبشريتها،لصالح السلطة والسلطان !!
والغريب في الأمر أن تستميت المنظومة الكلاسيكية في الدفاع عن فكرة التدجين..تدجين الأمة وذلك عن طريق توظيف دلالات هذه الأحاديث من أجل المحافظة على السلطة السياسية الغاشمة المستبدة ،والتلويح الدائم بخطر فتنة الإنكار على هذه السلطة الجبرية العاضة ،وكأن الفتنة لا تأتي إلا بالافتئات على حق الحكام المستبدين،متجاهلين حق الأمة باعتبارها الطرف الرئيسي في عملية الحكم برمتها صاحبة التكليف الشرعي !!  يقول ابن بطال:قد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه،وإن طاعته خير من الخروج عليه ، لما في ذلك من حقن الدماء ،وتسكين الدهماء ..!!
وبعد.. فلعل أهم ما نبه إليه في هذه المقال هو خطورة إغفال عملية فرز (إسلام النص)من(إسلام التاريخ)، وإهمال التفريق بين ما حقه الإطلاق والتقييد،وتحديد دوائر السنة التشريعية والقيادية والجبلية،والتمييز بين النصوص الناقلة للتكاليف،والروايات الناقلة للأخبار ...كذلك فأن عدم قراءة هذه العناوين بتعقل ومحاولة ممارسة عملية الفرز وفك الإشتباك بين تلك العناوين يعني بالضرورة التضحية بقيم ومباديء(إسلام النص)وسمعته من أجل المحافظة على القراءة التمجيدية لتاريخ السلطة وسلطةالتاريخ(إسلام التاريخ)!!

عبد الحكيم الصادق الفيتوري-الاعتداء على الطفولة في الفكر الاسلامي

على أساس روايات المحدثين كالبخاري وغيره التي تنافي الحقيقة التاريخية لعمر زواج رسول الله بعائشة تم بناء سلطة تشرعية ثالثة بعد اعتماد اسانيد الرواية والاعتداء على آية الطلاق، فلم يكن أمام تكميل مصادر التشريع إلا استصدار صك سلطة الإجماع من قبل الفقهاء والأئمة، وبالفعل تم إصدار السلطة الثالث بناء على روايات أصحاب المدونات حيث انعقد اجماع الآئمة على جواز نكاح الصغيرة ولو كانت في المهد. فقد ذكر الحافظ ابن حجر عن الحافظ ابن بطال أبو الحسن علي شارح البخاري والمتوفى 449 قوله: قال ابن بطال: يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعا ولو كانت في المهد، لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء.(فتح الباري بشرح صحيح البخاري) أي يحل له التمتع بهذه الطفلة التي في المهد (= المهد هو وقت الرضاعة وقبل أوان الكلام ) بالتقبيل والضم والتفخيذ ولكن دون الجماع؛ أي الإيلاج، وذلك لعدم تحملها فقط!!

بل الأدهى من ذلك أن ينعقد إجماع الأئمة على إكراه الصغيرة وأغتصابها من قبل الزوج الكفء !! قال ابن المنذر صاحب مراتب الاجماع: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم، أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز، إذا زوجها من كفء، ويجوز له تزويجها مع كراهيتها وامتناعها.(المغني لابن قدامة، كتاب النكاح)

وقد سبق هؤلاء الحفاظ الحافظ أبو جعفر بن أبي شيبة صاحب المصنف المتوفى(297) حين ذكر( ما قالوا في الرجل يزوج الصبية أو يتزوجها) ثم قال أن النبي بنى بعائشة وهي ابنة تسع ومات عنها وهي ابنة ثمان عشرة. وقال حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه أن الزبير زوج ابنة له صغيرة حين نفست يعني حين ولدت.(كتاب النكاح:المصنف في الأحاديث والآثار) وهكذا توالت كتب الأحاديث والآثار على تبويب الأبواب الفقهية تحت عنوان( إنكاح الرجل ولده الصغار) ( باب تزويج الصغار ) وهكذا دواليك !!

والطامة الكبرى أن يفتى بعض الحفاظ بجواز الاستمناء بيد الطفلة الصغيرة كما قال أحمد ابن حنبل وابن القيم، فقد ذكر ابن القيم في معرض حديثه عن الاستمناء في رمضان بالنسبة للصائم:... روي عن أحمد في رجل خاف أن تنشق مثانته من الشبق أو تنشق لحبس الماء في زمن رمضان، يستخرج الماء و لم يذكر بأى شئ يستخرجه، وعندي أنه يستخرجه بما لا يفسد صوم غيره، كاستمنائه بيده، أو ببدن زوجته، أو أمته غير الصائمة، فإن كان له أمة طفلة أو صغيرة استمنى بيدها وكذلك الكافرة،ويجوز وطئها فيما دون الفرج... .(بدائع الفوائد لابن القيم) ما هذا الشذوذ الجنسي ...تستمنى له طفلة وهو صائم في شهر رمضان !!

ويبدو أن الاجماع السني وهذا التوجه الجنسي الشاذ مع الأطفال يتناغم مع المذهب الشيعي من حيث جواز التمتع بالرضيعة ولكن لا يجوز وطئها قبل إكمال تسع سنين، فقد جاء في كتاب تحرير الوسيلة للخميني( مسألة 12 - لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواما كان النكاح أو منقطعا. وأمّا سائر الاستمتاعات - كاللمس بشهوة والضمّ والتفخيذ - فلا بأس بها حتّى في الرضيعة. ولو وطئها قبل التسع ولم يفضها لم يترتّب عليه شي‏ء غير الإثم على الأقوى، وإن أفضاها - بأن جعل مسلكي البول والحيض واحدا أو مسلكي الحيض والغائط واحدا - حرم عليه وطؤها أبدا، لكن على الأحوط في الصورة الثانية. وعلى أيّ حال لم تخرج عن زوجيّته على الأقوى، فيجري عليها أحكامها من التوارث وحرمة الخامسة وحرمة اُختها معها وغيرها، ويجب عليه نفقتها ما دامت حيّةً وإن طلّقها بل وإن تزوّجت بعد الطلاق على الأحوط، بل لا يخلو من قوّة. ويجب عليه دية الإفضاء، وهي دية النفس، فإذا كانت حرّةً فلها نصف دية الرجل مضافا إلى المهر الّذي استحقّته بالعقد والدخول. ولو دخل بزوجته بعد إكمال التسع فأفضاها لم تحرم عليه ولم تثبت الدية، ولكنّ الأحوط الإنفاق عليها ما دامت حيّةً وإن كان الأقوى عدم الوجوب.( تحريرالوسيلة، كتاب النكاح) ويبدو أن المذهب الشيعي يعتمد على حزمة من الروايات والاسانيد منسوبة لآل البيت تجيز التمتع بالصغيرة دون الوطء، كما في رواية الصادق أنه قال: إذا تزوج الرجل الجارية وهي صغيرة فلا يدخل بها حتى يأتي لها تسع سنين.( انظر: وسائل الشيعة)

وهكذا تبدو الطفلة المسلمة في الفكر الديني أسيرت المحددات الثلاثة المأدلجة( الكتاب،والروايات،والإجماع ). فتزويجها والتمتع بها وهي طفلة بالأكراه دون وعي ورضى يعني تدميرا لإرادتها وحريتها بل وإنسانيتها جملة، والله يقول في الاعتقاد( لا إكراه في الدين) ناهيك عن علاقة زوجية الأصل فيها الرضى والقبول بين زوجين. وللأسف أن هذا الإكراه والإجبار ؛ وإن شئت هذا الاغتصاب للطفلة هو المقرر عند أهل الرواية والفقه حيث انعقد إجماعهم على تزويج الصغيرة وإجبار بنت تسع سنن على تحمل الجماع، قال النووي:وأجمع المسلمون على جواز تزويجه-الأب- بنته البكر الصغيرة وإذا بلغت فلا خيار لها في فسخه عند مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز.ثم قال: وأما وقت زفاف الصغيرة المزوجة والدخول بـها، فإن اتفق الزوج والولي على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة عمل به، وإن اختلفا فقال أحمد وأبوعبيد: تجبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: حد ذلك أن تطيق الجماع ، ويختلف ذلك باختلافهن، ولا يضبط بسن، وهذا هو الصحيح، وليس في حديث عائشة تحديد ولا المنع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع ولا الإذن فيه لمن لم تطقه وقد بلغت تسعا .(صحيح مسلم شرح النووي، كتاب النكاح، باب تزويج الآب البكر الصغيرة) وقد سبق ذكر الإجماع الذي ذكره ابن المنذر الإجماع حين قال: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم، أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز...ويجوز له تزويجها مع كراهيتها وامتناعها.(المغني لابن قدامة، كتاب النكاح)
ولا يخفى أن مصطلح الإكراه أي أكراه الطفلة على الزواج وممارسة الجنس معها من قبل رجل تكرهه ودون رضاها يساوي مفهوم الاغتصاب بكل دلالاته ومآلاته. علما بأن مصطلح الاغتصاب في المواثيق الدولية يعد مصطلحا قانونيا وليس وصفا لحالة معينة، فلا يوجد تعريف واضح ودقيق للاغتصاب وإنما يعرف عموما بأنه حالة التحرش والتلاصق باعضاء الجنس سواء اقترن ذلك بإيلاج القضيب في المهبل أم لا، وسواء اقترن باستخدام القوة أو التهديد أم لا، وذلك دون موافقة الأنثى ورضاها، وكذلك إذا كانت الضحية قاصرا تحت سن السادسة عشر.وانطلاقا من هذا المفهوم العام المتعارف عليه عالميا، فإن اتصال الزوج جنسيا بزوجته دون رضاها وموافقتها يعتبر اغتصاب..(انظر تعريف الاغتصاب د. لفتية السبع)
فلك أن تتصور نفسية طفلة صغيرة قد تكون في المهد يمارس معها رجل كبير العادة السرية ( الاستمناء ) حتى يقضي شهوته، كما قال ابن القيم: فإن كان له أمة طفلة صغيرة استمنى بيدها!! ولك أن تتخيل نفسية طفلة رضيعة يمارس معها كل مقدمات الوطء، كما قال الخميني: وأمّا سائر الاستمتاعات - كاللمس بشهوة والضمّ والتفخيذ - فلا بأس بها حتّى في الرضيعة؟!! فبالله عليك ماذا يرجو من طفلة اغتصبت بهذه البشاعة وقد دمرت نفسيتها تماما، ناهيك عن الأضرار الجسمية التي لحقت بها جراء تلك الاغتصابات المتكررة ؟!
يبدو أنه لا سبيل لدينا لمحاكمة الأسلاف أصحاب المدونات محاكمة قانوينة وحقوقية فيما قدموه من روايات وإجماعات ساهمت بصورة فعلية في انتهاكات حقوق الطفل وتدمير حياته عبر الماضي والحاضر،ولكن لدينا فرصة متاحة لمحاكمة تلك المدونات والإجماعات محاكمة معرفية وقانوينة، فالمحاكمة المعرفية؛ مراجعة ونقد وفرز وتصفية هذه المدونات والمصنفات. والمحاكمة القانونية؛ تكمن في إصدار قوانين تمنع من إعادة طباعتها وتداولها خاصة في المواقع المؤثرة كالجامعات والمعاهد والإذاعة والتلفزيون، كذلك ينبغي منع الإفتاء ونقل هذه الروايات والاجماعات الباطلة للجمهور المدلج، وأيضا منع رجل الدين من عقد عقود النكاح على القاصرات لآن الطفلة القاصرة لا خيار لها أمام سلطة الأباء والعرف إلا الرضوخ والإذعان، ومعلوم أن فساد الأختيار يعني الأكراه بكل دلالاته، وهذا يعني أن عقد عقود النكاح على القاصرات يساوي اكراههن على الزواج مما لا يرغبن فيه أي بفساد مناطي عقد النكاح وهما الرضى والقبول. ولا يخفى أن هذا الاكراه يعد من جنس الاغتصاب بل هو ضرب من ضروب وأد البنات ولكنه بطريقة إسلامية.
وأحسب أننا بهذا الإجراءات القانونية نستطع أن نحمي أطفالنا من هكذا انتهاكات، ويتاح للعقلاء قراءة قيم الوحي وقصديته عبر قراءة سهمية تسهم بصورة ما في تسجيل حضور فاعل بقيم الوحي من خلال الاتفاق مع ما قدمته الحضارة الانسانية القائمة، حيث اتفقت المؤسسات الدولية الانسانية على ضرورة حماية الطفل فقد تم توقيع ميثاق حقوق الطفل العالمي والتي تتمحور حول حقوقه واحتياجاته منذ الولادة حتى السن الثامن عشر، من حيث حقه في البقاء،والتطور والنمو إلى أقصى حد، والحماية من التأثيرات المضرة، وسوء المعاملة والاستغلال والأغتصاب، والمشاركة الكاملة في الأسرة، وفي الحياة الثقافية والاجتماعية، كذلك حقوقه الصحية والتعليمية والخدمية والمدنية والقانونية المتعلقة بالطفل وحمايته.

عبد الحكيم الصادق الفيتوري-عرض الحديث على القرآن


منهج عرض الرواية على القرآن يبدو أنه منهج معتمد عند فقهاء الصحابة قبل زمن التدوين، فقد كان فريق منهم ينهى عن الأكثار من الرواية عن رسول الله ويحث الناس على الإقلال من الرواية جملة،وهذه القلة من الرواية كانت تعرض على أصول القرآن وقصديته، فما كان منها موافقا للقرآن وقصديته قبلت وإلا رفضت ولم يكن لديهم  حرج في ذلك البتة.ويبدو أن الدافع وراء اعتماد هذا المنهج هو عدم مزاحمة الأصول القرآنية بأي مصدر آخر ولو كان هذا المصدر مما صدر عن رسول الله من قول وفعل في إطار المستوى الجبلي والقيادي، كذلك فهمهم لواقع الناس في زمانهم حيث إختلط فيها الحابل بالنابل،والصدق بالكذب، وتأثرت الرواية بالأوضاع السياسية المتدافعة. ولعل منهم من كان يعتمد على بعض نصوص صدرت من رسول الله تنهى عن كتابة الرواية، وتأمر بعرضها على القرآن الكريم،كما جاء في رواية مسلم:لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه. وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم على الصحابة وهم يكتبون الأحاديث، فقال لهم: ما هذا الذي تكتبون ؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك؟ قال: كتاب غير كتاب الله؟ أتدرون ما ضل الأمم قبلكم إلا بما أكتتبوا من الكتب مع كتاب الله.(انظر:محقق المحصول في علم الأصول، طه العلواني). أما أشارته صلى الله عليه وسلم لهم بعرض ما يصدر عنه على القرآن، فقد جاءت الرواية بذلك حيث قال الرواي عن رسول الله أنه فقال: إذا حدثتم بحديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه، وإلا فردوه. لذا كان أبوبكر الصديق يقول: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيني وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه .(تذكرة الحفاظ)
وكان عمر يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله. بل ذكر أبو زرعة أن  عمر بن الخطاب كان يخطب في الناس ويقول: إن حديثكم شر الحديث، إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدثتم الناس، حتى قيل: قال فلان، وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائماً، فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس، إن كلامكم شر الكلام، وإن حديثكم شر الحديث. كذلك كان أبوأمامة يقول مخاطبا الناس: اعقلوا، ولا أخال العقل إلا قد رفع، لنحن للحديث الذي كنا نسمعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أعقل عليه منا على حديثكم اليوم.(تاريخ أبي زرعة).وكان عمران بن حصين يقول:إني سمعت كما سمعوا، وشاهدت كما شاهدوا،ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم.
ولم يجد هؤلاء الأخيار من حرج في رد الرواية إن كانت تخالف القرآن الكريم وقصديته، فهذا أبو وائل يقول أن رجلا جاء إلى عبدالله ابن مسعود، فسأله عمن لقي، فأخبره أنه لقي كعبا، وأنه حدثه أن السموات تدور حول منكب ملك، وأنه ما صدقه ولا كذبه، فقال له ابن مسعود: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها، كذب كعب، إن الله يقول: إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده. وفي رواية زاد: كفى بها زوالا أن تدور.(تفسير ابن مسعود )
وهذه السيدة عائشة لما بلغها أن أبا هريرة يقول:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأن أقنع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزنى. وأن رسول الله قال: ولد الزنى شر الثلاثة،وإن الميت يعذب ببكاء الحي. فقالت عائشة:رحم الله ابا هريرة أساء سمعا فأساء إجابة.. والله يقول:(ولا تزر وأزرة وزر أخرى) و(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).(الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للبدر الدين الزركشي)
إذن. منهج عرض الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم على النظم القرآني الكريم منهج معتمد عند كوكبة من الأخيار وليس بدعا من المناهج كما يظن الظان.كذلك قبول متن الحديث أو رده من خلال النظم القرآني لا يعني بالضرورة رد كلام رسول الله –حاشا وكلا- وإنما هو رد لكلام الرجال، كما قال ابن عبدالبر:إن أهل الحديث جرحوا بأبي حنيفة لأنه كان يرد كثيرا من أخبار العدول. فكان يذهب إلى عرضها على ما اجتمع لديه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذ عن ذلك رده وسماه شاذا.وكان أبوحنيفة يقول:ردي على رجل يحدث عن رسول الله بخلاف القرآن ليس ردا على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تكذيبا له، ولكنه رد على من يحدث عن رسول الله بالباطل، والتهمة دخلت عليه وليس على نبي الله. ويبدو أن ميزان نقد متن الأحاديث والأخبار وعرضها إلى الأصول القرآنية ومنطق العقل كان يعد من أهم معالم منهج نقد الحديث قبل فترة تدوين المصنفات والمصادر، كما كان يفعل أبو حنيفة وكما جاء في أولى مصنفات فن الحديث الكلاسيكية؛ كالكفاية للخطيب البغدادي الذي صرح بذلك اثناءعرضه لطرق معرفة فساد الخبر،إذ قال:أن يكون مما تدفع العقول صحته بموضوعها والأدلة المنصوصة فيها.ومما يدفعه نص القرآن أو السنة المتواترة.أو أجمعت الأمة على ردها.(الكفاية للبغدادي).ولا غرو فقد جاءت الرواية بتأيد عملية رفض الروايات التي تخالف القرآن ومنطق العقل، إذ قال الراوي عن رسول الله: ما حدثتم عني ما تنكرونه فلا تأخذوا به فإني لا أقول المنكر ولست من أهله.(تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبارالشنيعة الموضوعة، لأبي الحسن علي بن محمد الكناني،انظر مسند أحمد من حديث أبي أسيد الساعدي)
أيضا ذكر أبو زرعة في تاريخه أنه قال: حدثني أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن يحيى بن ميمون حدثه: أن وداعة الحمدي حدثه: أنه كان يحدث مالك بن عبادة، وأبا موسى الغافقي، وعقبة بن عامر يقص: قال النبي صلى الله عليه وسلم،فقال مالك: إن صاحبكم هذا عاقل، أو هالك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا في حجة الوداع فقال: عليكم بالقرآن، وإنكم سترجعون إلى ناس يشتهون الحديث عني، فمن عقل شيئاً، فليحدث به ومن افترى علي فليتبوأ بيتاً، أو مقعداً من جهنم. لا يدري أيتهما قال.
ويبدو أن منهج نقد الرواية سندا ومتنا استمر حتى بعد التدوين وإن كان بصورة ضئيلة جدا،فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة،قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي،فقال:خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يوم الإثنين،وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيه الدواب يوم الخميس،وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة).(مسلم، ومسند أحمد)، فقال ابن تيمية: إن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحي بن معين ومثل البخاري وغيرهما.وذكر البخاري:أن هذا من كلام كعب الأحبار. ثم قال:هذا هو الصواب، لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة. فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد. وهكذا هو عند أهل الكتاب. وعلى ذلك تدل اسماء الأيام، وهذا هو المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر. ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة، لكان قد خلق في الأيام السبعة.هو خلاف ما أخبر به القرآن).(مجموع الفتاوى لابن تيمة) كذلك ذهب ابن القيم في كتابه(المنار المنيف) حيث جعل أهم قواعد رد الحديث مخالفته لصريح القرآن، إذ قال:مخالفة الحديث لصريح القرآن مثل حديث مقدار الدنيا،وأنها سبعة آلاف سنة،ونحن في الألف السابعة.قال:وهذا من أبين الكذب،لأنه لو كان صحيحا لكان كل أحد عالما أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وواحد وخمسون سنة والله تعالى يقول:يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو.وقال:إن الله عنده علم الساعة.(المنار المنيف)
وأحسب أن نقد ابن تيمية هذا يصدق تماما على سند ومتن حديث أبي هريرة القائل بنزول عيسى ابن مريم أخر الزمان،من حيث مخالفته لمحدد من أهم محددات الإيمان الواردة في القرآن الكريم،وأنه يوافق لما عند أهل الكتاب، ومما يرجح أنه من كلام كعب الأحبار وليس من رسول الله وإن جاء به الثقات كما قال الأوزاعي لمنيب، فقد ذكر أبو زرعة في تاريخه قال: حدثني هشام قال: حدثنا الهيثم بن عمران قال: سمعت الأوزاعي، وسأله منيب فقال: أكل ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقبله ؟ فقال: نقبل منه ما صدق كتاب الله عز وجل، فهو منه، وما خالفه فليس منه.قال له منيب: إن الثقات جاؤوا به. قال: فإن كان الثقات حملوه عن غير الثقات ؟!
ويبدو أن بعض الثقات في زمن التدوين إذا استحسن حكمة أو قصة أو ما شاكل ذلك صنع لها إسنادا يتعبد الناس به،كما قال أبو زرعة: وحدثت أحمد بن حنبل ما أخبرني به عبد الرحمن بن إبراهيم عن أبي محمود بن خالد أنه سمع محمد بن سعيد يقول: إني لأسمع الكلمة الحسنة، فلا أرى بأساً أن أنشىء لها إسناداً - فعجب لذلك.وأحسب أن كثرة إمتهان صناعة انتاج الروايات والأحاديث وصلت ذروتها في عهد معاوية مما حمله ذلك إلى التحذير من هذه الظاهرة المتفشية فقال عبد الله بن عامر أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر بدمشق يقول: أيها الناس إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا حديثاً كان يذكر على عهد عمر، فإنه كان يخيف الناس في الله.(تاريخ أبي زرعة)
وهكذا اتضحت معالم المنهج النقدي المعتمد عند الأخيار في قبول رواية الثقات ناهيك عن غير الثقات، وبذلك يمكننا اجمال معالم هذا المنهج النقدي المعتمد عند الأخيار وعندي كذلك من خلال القاعدة التالية(=الإقلال من الرواية،وعدم قبولها إذا كانت مخالفة للقرآن الكريم،ومنطق العقل).فإذا ما أردنا اضطراد هذه القاعدة وتطبيقها على حديث أبي هريرة وغيره مما نسب إلى رسول الله من القول بنزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، فسنجد لا محال بإن متن الحديث يخالف القرآن وقصديته، ويخالف العقل جملة، ناهيك عن اضطراب متنه بصورة غير معقولة. فمثلا مخالفته للقرآن الكريم، فالله سبحانه يقول على لسان عيسى ابن مريم(مبشرا برسول يأتي بعدي اسمه أحمد)والرواية تقول أن عيسى يأتي بعد أحمد عليهما السلام.
كذلك فالقرآن يقول(لا إكراه في الدين)والرواية تقول(...ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ..).قال النووي في شرحه لهذه الرواية:والصواب أن عيسى لا يقبل إلا الإسلام ،ويؤيده من جاء عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة:..وتكون الدعوة واحدة.(شرح مسلم للنووي)،والرواية عند أحمد تقول:... وأنه يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، ويضع الجزية،وإن الله يهلك فى زمانه الملك كلهغير الإسلام.قال ابن كثير:...فلا يقبل إلا الإسلام.(تفسير ابن كثير) علما بأن الله يقول لرسوله الكريم في كتابه المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين)،ويقول في الابقاء على معالم الديانات(...ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع، وبيع،وصلوات،ومساجد، يذكر فيها اسم الله كثيرا..) ويقول في الإيمان(ما كان لنفس إن تؤمن إلا بإذن الله)،ويقول(إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)ويقول (فإن أعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظا)،ويقول(لست عليهم بمسيطر)ويقول(فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين)،ولكن الرواية تقول بالإكراه،والقتل،وإلغاء من لا يؤمن من الوجود، وتهديم معالم الديانات كلها(...ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير،ويضع الجزية،ويقتل القرد..!! وجاءت زيادة في رواية البخاري ومسلم بأنه(...فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه).
واللافت للنظر في متن الرواية رغم مخالفتها لصريح القرآن وقصديته،وللعقل ومنطقيته، فإن متونها مضطربة بصورة مخلة،فمثلا جاء في رواية الصحيحين أن رسول الله قال رأيت عيسى عند الكعبة يطوف(أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم...فسألت من هذا فقيل المسيح ابن مريم..).وفي رواية المعراج قال:(..ثم مررت بعيسى فقال:مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت:من هذا، قال: هذا عيسى..). وفي رواية تصف لون عيسى بأنه آدم،وفي رواية أخر بأنه أبيض، وفي رواية آخر بأنه أحمر!!
وفي روايات أخر بأن الدجال لا يدخل مكة والمدينة بيد أن رواية الصحيحين تقرر دخول الدجال إلى مكة بل طوافه حول الكعبة فقال البخاري ومسلم:(أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم أحسن ما أنت راء من أدم الرجال له لمة أحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها فهي تقطر ماء، متكئا على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت فسألت من هذا فقيل المسيح ابن مريم، وإذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فسألت من هذا؟ فقيل المسيح الدجال، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه)!!وهكذا يبدو الاضطراب بين وواضح في متون روايات نزول عيسى عليه السلام أخر الزمان مما يؤكد أنها لم تصدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من كلام كعب الأحبار لمخالفته لصريح القرآن وقصدته، والعقل ومنطقيته.