في الجزء ألأوّل أعطينا قواعد أو سمات عامة لأهل الحديث ومنهجهم، ولابد اليوم من أن نذكر بعض التفصيل، فالكلام العام لا يكفي.
وقلنا أمس أن علم الحديث يحتاج إلى معايير جديدة، أو تفعيل المعايير النظرية على الأقل، بمعنى:
عندما يعرف أهل الحديث الحديث الصحيح بأنه (ما رواه العدل الضابط عن مثله ...الخ) أن تكون هذه العدالة بمعايير علمية وليست مذهبية، وهذا خلل كبير عند أكثر أهل الحديث، بمعنى أنهم قد يوثقون من هو مجروح أو فاسق قرآنياً، ويضعفون من هو عدل وصادق قرآنياً! فمعايير العدالة والسنة والبدعة والإيمان والنفاق عند أهل الحديث فيها خلل كبير.. نتيجة تأثرهم بالرواية والجو السياسي والمذهبي العام.. مثل اليوم تماماً، قد يكذبون الصادق ويصدقون الكاذب، ليس بمعيار صحيح، وإنما بالرضا النفسي والسخط النفسي، فمن أبغضناه فهو كذاب ومن أحببناه فهو ثقة! هذه المعايير ( الذاتية النفسية المذهبية) غير علمية ولا موضوعية.
ومنهج أهل الحديث مؤثر فينا إلى اليوم، فمن أبغضناه كذبناه وأخذنا عليه أصغر الصغائر، ومن أحببناه تكلفنا في الاعتذار عنه وإخفاء مساوئه!
وأمر آخر..
وهو أن منهج أهل الحديث – غالباً - ( وخاصة من أيام المتوكل وأحمد بن حنبل) إما ذم مطلق أو مدح مطلق، حب مطلق أو بغض مطلق، وهذه إلى اليوم،وهذا أيضاً عادة نفسية غير مضبوطة بالقرآن الكريم، فلذلك تجد التيار السلفي (ورثة أهل الحديث الأصليين) يبغضون كل من خالفهم مطلقاً، ويوعدونهم بالنار.. حتى الأشاعرة - وهم أغلبية أهل السنة - أخرجوا فيهم الكتب التي تحشرهم في الثلاث وسبعين فرقة، بناء على حديث ضعيف مخالف للقرآن .
المعيار القرآني - لو عدنا إليه - لا يأمرك ببغض إلا المحارب المعتدي فقط، سواء كان مسلماً باغياً أو كافراً معانداً، أما بقية الخلق فالحب مشروع، وهذا الحب شعور قلبي لا تتحكم فيه، فلو ساعدك طبيب غير مسلم في علاج ابنك فستضطر طبيعيا لحبه، لا لدينه وإنما لنجدته وخدمته لك.. هذا طبيعي.
التيار السلفي - ورثة أهل الحديث - يجبرونك على أن تجبر قلبك على بغض كل من ليس مسلماً، بل كل من ليس سنياً، بل كل من ليس سلفياً، وهذا تكليف، وهو تكليف مذهبي لا شرعي.. فليس المسلم باللئيم حتى يبغض من أحسن إليه، أو حتى يبغض من لم يسيء إليه، هذا اللؤم والكراهية ليست ديناً..
هي مذهب.
وحتى لا نظلم.. فهذا ليس عاماً في السلفيه، لكنه ظاهرة على الأقل، وهذا ما تعلمناه في المدارس والجامعات للأسف، تحت عنوان الولاء والبراء، وهذه نتيجة من نتائج أهل الحديث على السلوك والعقل المسلم، وليست من نتائج القرآن ولا الإسلام، ولا كان هذا من خلق النبي صلوات الله عليه وآله..
إذن فالبغض والبراءة هي من المعتدي المحارب الظالم .. الخ، وليست من المسالم المحسن .. هذا إن أردنا محاكمة السلوك بالشرع، أما المذهب فلا، ولذلك تجد السلفية (ورثة أهل الحديث) يتعبون الآخرين بإيجاب ما لم يجب شرعاً، وإنما أوجبه أحمد بن حنبل أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب، وهؤلاء الأشخاص - أو قولوا الأعلام - مهما بلغوا من الفضل والعلم إلا أنه لا يجوز لنا أن نتخذ سيرتهم شرعاً، ولا سيرة أهل الحديث، ولا حتى الصحابه، إنما الشرع في النص، قرآناً أو سنة. ويمكن الاستئناس فقط بسير الصالحين من صحابة وعلماء وفقهاء..الخ، وهناك فرق بين الاحتجاج والاستئناس.
إذاً فأهل الحديث ومنهجهم أنتج سلوكاً جافاً، يتكلف معاداة من لم يأمر الله بمعاداته، والاعتذار عن من أوجب الله معاداته من المعتدين المحاربين، فتجدهم يعادون مثل الجهم بن صفوان والمعتزلة والأشاعرة لرأي رأوه ويبالغون في مدح دعاة النار وكبار الظالمين والمجرمين!
هذه نتيجة مذهب لا دين.
الدين لا يجعل لأحد من الناس ميزة تبيح له الجرائم والمظالم، ولا يحرم أحداً من التفكير وبذل الوسع في معرفة الحق..
الأول جنائي والثاني معرفي.
الدين لا يعاقب على المعرفة، وإنما يعاقب على الجنائيات، والمذهب عكس القضية، فهو يعاقب أقواماً على المعرفة ويتساهل مع آخرين في الجنائيات. فمتى نستطيع أعادة البوصلة بحيث يكون تسامحنا وعقوباتنا وافقة للدين لا للمذهب؟ لن نستطيع إلا إذا قمنا بتفكيك الحالة المذهبية ونقدها أولاً، ولا يفيد أن تدل الناس على الدين مباشرة أو الحق مباشرة، لأنهم سيأتون ويقلون لك:
ولكن أحمد أو ابن تيمية أبغض فلاناً وكفر المعتزلة وو.. الخ.
إذاً أنت في هذه الحالة محتاج أن تقول له:
أحمد رحمه الله فقيه وعابد، ولكن لا نأخذ الشرع منه، فهو بشر، فلماذا تحتج علي بفعل بشر وتترك النص؟
هنا سيقول لك :
هو أعلم بالشرع منك؟
قل له: هذه حجة عوام الشيعة والمعتزلة وغيرهم في علمائهم، فلابد أن تعذرهم أيضا،ً أو نتفق على كلمة سواء، فكل عامة أهل المذاهب يقولون: علماؤنا أعلم بالشرع منا؟ فماذا نفعل؟ هل نعذرهم أو نقول أن النص أولى بالاتباع؟ النص الواضح لهم وليس المشتبه.
لابد أن يجد طلبة العلم والعامة أيضاً حلاً وسطا،ً كلمة سواء .. ملخصها : التشريع لله ولرسوله.. وليس لأحد من الناس، مهما كان في قلوبنا عظيماً.
أهل الحديث - سامحهم الله - لم يكونوا هكذا، كانوا إذا هجر أحمد بن حنبل رجلاً هجروه، وإذا أبغض الذهلي رجلاً أبغضوه، وإذا أفتى مالك بقتل أحد أفتوا!
هذا لا يجوز.. لا يجوز أن تتبع االفقيه في كل قول وفعل ... إلا رسول الله فقط، أما أحمد ومالك والذهلي وأمثالهم فلست أنا ملزماً أن أتبعهم، نعم أنا ملزم أن أنظر إلى أفعالهم وأدلتهم وأعرضها على الكتاب والسنة، فإن وافقت.. وإلا رددتها...
قد تقولون:
هم لا يخالفون الكتاب والسنة.
أقول: فهل كان هجر الذهلي للبخاري وتبديعه له والأمر بهجر حديثه وترك الرواية عنه.. هل هذا موافق عندكم للكتاب والسنة؟
لن تستيطعوا الإقرار.
إذاً.. فإذا كان الذهلي - شيخ البخاري – (وقلده أبو حاتم وأبو زرعة) إذا كان هؤلاء لم توافقهم على موقفهم من البخاري، فمن حقك ألا توافقهم في غيرهم.
إذاً فليس صحيحاً أنه يجب عليك موافقة العلماء وأهل الحديث، وإنما تنظر إلى أقوالهم ومواقفهم، وتعرضها على الشرع، فتقبل منها وترد.
هذا دين.
ثم أهل الحديث ليسوا متفقين حتى يكون اتباعهم واجباً، بمعنى لو أنك أردت اتباعهم لما استطعت. لأنهم مختلفون في المواقف، والتضعيف والتوثيق.. الخ. ثم لو اتفق أهل الحديث على مسألة فليس بالضرورة أن توافقهم أيضاً، فهناك أهل الرأي والمعتزلة والشيعة والأشاعرة... الخ، وحجة أتباعهم كحجتك..
ولابد أن نذكّر بأنه لا يجب عليك اتباع مذهب ولا تيار ولا حزب.. أنت يجب عليك اتباع الحق الذي تعرف أنه حق. حتى الحق الذي لا تعلمه لايجب عليك.
قد يقول قائل :
كلامك هذا يوحي بأنه لا يجب اتباع المسلمين، وأنه يجوز اتباع اليهود والنصارى، لأن حجة العامة عندهم كحجتنا؟
والجواب:
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، نعم لا أوجب على اليهودي من العامة والنصراني من العامة والمسلم من العامة اتباع أحد، وإنما أوجب عليه اتباع الحق،بمعنى لا يجب على اليهودي اتباع المسلمين، إنما اتباع الحق، وهو الواجب على المسلم أيضاً، يبقى الحوار في هذا الحق.. ما هو؟ وهذا موضوع آخر.
لكن لو وجدت عند النصارى حقاً ليس عليه المسلمون فاتبعه، لأنه من دين الله الجامع، كالأخلاق مثلاً، وحسن المعاملة، وحب المعرفة، وحقوق الإنسان..
وعندما أقول "اتبع" هذه الأمور، ليس لأنها نصرانية، لكن لأنها حق ضيعه المسلمون، وهو من صلب دينهم، فاتّباع الدين إنما هو اتباعه، هو لا اتباع أتباعه،وعلى هذا فلا إشكال في اتباع أي حق، سواء وجدته عند مسلمين أو يهود أو نصارى أو بوذيين.. الخ، وبهذا يكون المسلم مسلماً، مسلّماً للمعرفة والحق.
يجب أهمال التسميات والنظر إلى حقائق الأشياء، وهذا خلاف منهج أهل الحديث الذي ورط المسلمين في الألقاب ( سني/ مبتدع/ ضال) وترك الحقائق.
وأهل الحديث أتاهم هذا الغرور بالألقاب من عدة عيوب - لا مجال للتفصيل فيها - من تزكية النفس وبخس الناس أشياءهم وهجر القرآن والتأثر بالسلطة.. الخ، لذلك فكل مسألة علميه تدخل فيها معهم في حوار تجد أنهم يقفزون للتنابز بالألقاب ( هل أنت سني أم شيعي، هل أنت علماني أم إسلامي ..)..
هذا جهل، لأن الحوار هو في المعلومة ومدى صحتها، وليس في الشخص.. حتى لو يقول لك : أنا شيعي أو علماني فلا يجيز لك رد الحق الذي أتى به، ولو قال "سني" لا يجيز لك اتباع الباطل الذي أتى به، لأن الحق لا يتجسد في الأشخاص، وهو فوق الألقاب، هو معنى لا يسعى لشخص ولا مذهب، إنما الواجب السعي إليه.
هذه الأشياء ربما أنها نظرية، وقد يكابر بعض أهل الحديث ويقول : أنت ظلمتهم، وهم منصفون، وهم كذا وكذا..
نقول : نحن نتحدث عن واقع معروف ولا نعمم.
فالمكابرة أيضاً سمة من سمات أهل الحديث ورثتها السلفية، تجد أحدهم يكابر ويكابر في معلومة واضحة كالشمس وسط السماء. ويظن أن هذا دين!
هذا وهم.
إذاً.. فأهل الحديث ورثوا لنا من تصرفاتهم ومظالمهم وجفافهم الشيء الكثير، واختلط عندنا بالدين نفسه، وأضعف عندنا الثقافة الدينية الأولى، وهي رحمة..
الإسلام الأول رحمة، حتى على غير المسلمين (لو عرفنا الله وعدله) وإسلامات المذاهب عذاب، حتى على المسلمين (لو عرفنا الشيطان ومكره).
البدايات منتجة.
إذا ابتدأت بمعرفة الله أنتجت لك هذه المعرفة كل خير، وإذا لم تبدأ بمعرفة الله معرفة صحيحة سبقك الشيطان بثقافته وتلبيسه، فشرعن لك كل شر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق