أهل الحديث لهم فضائل، ونحن ندعو لهم ونستغفر لهم ونقر بفضائلهم، إلا أنه من واجبنا التخفيف من الغلو فيهم.
الغلو في أهل الحديث سببه أهل الحديث أنفسهم، فقد سيطر منهج أهل الحديث في المدح والذم، وهم الذين كتبوا العقائد المسندة، ثم طبعت وانتشرت وسيطرت..حتى الذين كانوا يقاومونهم - كأهل الرأي والمعتزلة - ضعفوا أمامهم، ليس لقوة أهل الحديث، وإنما لأسباب سياسية - بالدرجة الأولى - ثم اجتماعية.
أهل الحديث كان متقدموهم أفضل من متأخريهم من حيث الجملة، وأعني بالمتقدمين إلى نهاية القرن الثاني، وأما المتأخرون فمن وسط القرن الثالث تقريبا،وفترة البرزخ من عام 200 إلى عام 240 هـ كانت مرحلة برزخ بين الفترتين.. وهذه الفترات - كما قلنا - من حيث الجملة فقط، فلكل قاعدة استثنائات.
والأثر السياسي مؤثر في أهل الحديث حتى من زمن الصحابة، وهذه يجب فهمهما، وسأفهِّمها لتفهموا سبب الإكثار من الراوية عن صحابي دون غيره.. ثم التابعي.
ولو نأخذ أصحاب الألوف من الصحابة (أعني الذين أحاديثهم بالآلاف) ثم تلاميذهم ثم تلاميذ تلاميذهم لرأينا أشياء غريبة يجب التساؤل عنها. فأصحاب الألوف من الصحابة خمسة - وفق روايتهم في الكتب الستة - أبو هريرة ( 3343) عائشة ( 2081) ابن عمر (1979) أنس (1584) ابن عباس ( 1243).. سنعتبر هؤلاء كلهم ثقات عدول...
أبو هريره
مع أن هناك خلافا -ً في أبي هريرة خاصة - لكن تعالوا نتعلم ونسأل: فأبو هريرة مثلاً أسلم عام 7 هـ ومات عام 57هـ، وسعد بن أبي وقاص من أوائل من أسلم بمكة، وشهد المشاهد كلها، ومات في السنة نفسها تقريباً ( 57هـ) ومكانهما واحد، فلماذا أحاديث سعد (121) فقط؟!
هذا سؤال مشروع!
رجل صحب النبي سنتين أو ثلاثاً يروي أكثر من ثلاثة ألاف ورجل صحب النبي 23 سنة يروي فوق المئة فقط! والطلاب هم الطلاب!
بمعنى أن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة كلاهما مدنيان، والطلاب هم الطلاب، وسنة الوفاة واحدة، وسعد من أول من اسلموا، وأبو هيرة من آخر من أسلموا!.. وليس معروفاً عن سعد أنه يمتنع عن الحديث، فلماذا انهال رواة التابعين على أبي هريرة وتركوا سعد بن أبي وقاص البدري؟
إنه الرضا السياسي!
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يعاند سياسة معاوية وينكر عليه ويذكره بفضائل علي ويمتنع من سبه، فموقفه السياسي قلل رواته وأحاديثه. بعكس أبي هريرة الذي - وإن كان يمانع أحياناً - إلا أن ابناءه كانوا من قواد معاوية يوم صفين، ودخل هو مع معاوية الكوفة، وولي له على المدينة.. فالرضا السياسي عن أبي هريرة أدى لتكالب الناس عليه، كما أن السخط السياسي على سعد بن أبي وقاص أضاع كثيراً من أحاديثه.
طبعاً أنا اقول هذه ألأمور باختصار شديد، ولا أريد أن أذكر المواقف، ولا أن سعد بن أبي وقاص مات مسموماً على الأرجح من معاوية، ولا أن معاوية كان يشكك في نسب سعد بن أبي وقاص وقال له ( يأبى عليك الخلافة بنو عذرة) فهو يتهمه في نسبه، وأنه من بني عذرة، وهم ليسوا من قريش.
كل هذه المواقف وألأحداث والخصومات بين سعد بن أبي وقاص ومعاوية لن أستعرضها، لأنها تخرجنا عن أصل الموضوع، وهو: لماذا تم هجران أحاديث سعد؟؟
بل هناك بدريون - كأبي حميد الساعدي ( مات بعد عام 60 هـ) - ولو مدني كأبي هريرة ولم يرووا عنه سوى ثلاثة أحاديث!
لماذا؟
إنه السخط السياسي.
بل بعض البدريين - كصالح شقران - مولى النبي، توفي بعد أبي هريرة بمدة ( عام 70 هـ) أي بعد موت أبي هريرة بثلاثة عشر عاماً، لم يرووا عنه سوى حديث!.. حديث واحد فقط، رواه التابعون عن صالح شقران، رغم أنه بدري ومولى للنبي (والمولى قريب ويحفظ السنن أكثر)، ومع ذلك حديث واحد فقط رووه عنه.. لماذا؟
لأن صالح شقران كان له موقف سياسي ضد معاوية، وقاتل مع الإمام علي بصفين، وهو مولى للنبي نفسه، إذن فللسخط السياسي دوره في إماتة حديثه وسيرته، كل تلامذة أبي هريرة بقوا بعد أبي هريرة في المدينة ثلاثة عشر عاماً (وقد انقطع حديث أبي هريرة بموته)، فلماذا لم يبحثوا عن صحابة كشقران؟
لا نطيل في أبي هريرة..
أم المؤمنين عائشه
تعالوا لأم المؤمنين عائشة أيضا،ً روت ألفي حديث، وأم المؤمنين الأخرى أم سلمة ماتت بعدها بأربع سنوات وروت (158) فقط!.. أليس من حق الباحث أن يقول عائشة كانت كأم سلمة، كلاهما دخل عليهما النبي في وقت متقارب، عائشة بعد بدر عام 2 هـ وأم سلمة بعد أحد عام 3هـ، وكلاهما لها يوم واحد من تسعة أيام (بحسب عدد أمهات المؤمنين) وإن كانت عائشة قد سبقت بسنة فأم سلمة قد تأخرت بأربع سنوات، فأين هم الرواة؟!
لأن أم سلمة كان لها موقف سياسي قوي ضد معاوية، وتراه بأنه سن لعن رسول الله على المنابر، ورثت الحسين وروت فضائل أهل البيت..
فهو السخط السياسي.
أم سلمة أسلمت قبل عائشة، وهاجرت للحبشة ثم عادت مع زوجها أبي سلمة، وتحاصرا في الشعب مع بني هاشم (ولم يشترك أحد غيرهما مع بني هاشم)، نعم عائشة أيضاً لها معارضات لمعاوية في قتل حجر بن عدي وتشببه بفرعون (كما روى التابعي العابد الثقة لأسود بن يزيد)، إلا أنها في جانب آخر قد خرجت على الإمام علي وقاتلته، وهذا يعطي نوعاً من الرضا السياسي، فلولا خروج أهل الجمل لما تقوى معاوية واحتج بهم، لأن لهم سابقة.. وهو طليق.
ثم تذكروا تلامذة أبي هريرة لماذا لم يقبلوا على أم سلمة بعد موت أبي هريرة وعائشة وسعد في العام نفسه تقريبا، أليس أم سلمة أم المؤمنين أيضاً؟!
هنا الباحث لا يتهم عائشة بالزيادة، ولا أبا هريرة، ولا يتهم سعد وأم سلمة بالكتمان، السؤال هو:
لماذا أقبل الرواة على هؤلاء وتركوا أولئك؟
ربما هناك أسباب ثانوية، لكن السبب الرئيس هو الرضا السياسي هنا والسخط السياسي هناك. وهذا ما يغفل عنه أهل الحديث - للأسف - لضعف تحليلهم العقلي.
تصوروا اليوم - في أي بلد - فالرضا السياسي يجلب الرضا الجماهيري على شخصية من الشخصيات العلمية بينما يبقى المسخوط عليه سياسياً شبه منبوذ.
ثم لو أخذنا المكثرين عن أبي هريرة وعائشة.. فالمكثر عن أبي هريرة هو أبو سلمة بن عبد الرحمن، وكان شرطياً وقاضياً لمعاوية ومروان، بينما سعيد بن المسيب الذي هو أوثق وأجل وهو صهر أبي هريرة وزوج ابنته لم يرووا عن أبي هريرة كروايتهم عن صاحب معاوية ومروان عن أبي هريرة، مع أن سعيد بن المسيب أقدم من ابي سلمة بن عبد الرحمن، وماتا في سنة واحدة 94هـ، لأن السخط ألأموي على سعيد بن المسيب كان كبيراً، لأنه كان يدعو على بني مروان في سجوده، ويتهم معاوية بأنه (أول من رد قضاء رسول الله، ويصرح بذمه، كل هذا بأسانيد صحيحة ليس هنا مجال استعراضها)،ثم الرواة عن تلاميذ أبي هريرة هو الزهري، فلماذا اشتهر دون بقية تلامذة سعيد وأبي سلمة وأبي صالح ( تلامذة أبي هريرة).. لأنه كان صاحب بني أمية.. فقد عمل الزهري في بلاط عبد الملك ثم الوليد ثم سليمان ثم يزيد بن عبد الملك ثم هشام، وكتب حديثه في بلاط هشام بن عبد الملك، ورواته موالي هشام.
نصف الحديث في الكتب الستة يكاد يكون عن الزهري وتلامذته [كشعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد الأيلي وعقيل بن خالد ( كلهم موالي لبني أمية)]. وقد عاصر الزهري علماء أجل منه مدنيون (بينما هو شامي وشيوخه مدينون)، فمن أهل المدينة من طبقة الزهري محمد الباقر وزيد بن علي وربيعة الرأي!
السبب هو الرضا السياسي هنا والسخط السياسي هنا، فمن تقرب للسلطة أو رضيت عنه كثر طلابه، ومن سخطت عليه السلطة تم هجره، هذا مهم جداً.
حتى المكثر الأكبر عن عائشة هو عروة بن الزبير (من صنائع معاوية وأصحابه)، وقد مدحه أهل الحديث، وهو عند التحقيق متهم بكثير من أحاديث عائشة،ومعظم ألأحاديث التي يحتج بها الشيعة في تكذيب عائشة أو يحتج بها المستشرقون في ذم النبي هي من طريق عروة عن عائشة، أنا اتهم عروة.
فأحاديثه عن عائشة فيها الكثير من الإساءة لرسول الله ولعائشة نفسها. كما أن المكثر عنه ابنه هشام (صديق المنصور)، وهو يروي عن أبيه عن عائشة، هذا الطريق (هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) مادته المسيئة خرجت في كثير من الكتب والأفلام التي تسيء للنبي صلوات الله عليه وسلامه وعلى آله، ولو أننا امتلكنا الشجاعة لفعّلنا ألأثر السياسي في محاسبة الذين ركنوا إلى السلطات الظالمة، ولم نقبل منهم إلا ما حفت به القرائن والشواهد. ولو كانت هناك مناظرات في علم الحديث لعرضنا على أهل الحديث المقلدين بعض أحاديث عروة مثلاً، لرأيتم كيف سينحرجون في الدفاع عنها، ولن يستطيعوا.
ابن عمر
نذهب مباشرة للمكثر الثالث، وهو ابن عمر، وكان موقفه السياسي محل رضا من بني أمية، فقد بالغ في بيعة يزيد والتأكيد عليها، ورفض البيعة لعلي من قبل.
هنا لا أتهمه في الحديث، وإنما أقول أن موقفه السياسي أدى إلى الرضا السياسي ثم إلى كثرة الرواية عنه والتقليل عن بدريين عاصرهم، وهو ليس بدريا، ثم الراوي عنه مولاه نافع، وكان ناصبياً لا يربع بالإمام علي في الخلافة ولا يرى شرعية خلافته، ويرى أن معاوية هو الرابع! فما النتيجة؟
النتيجة أن نصب نافع وحبه لبني أمية قد جعله يتقدم في الرواية عن أبناء ابن عمر نفسه، كسالم ابن عبد الله بن عمر، وهو وأخوته من الرواة عن أبيه.
ثم المكثر عن نافع هو مالك وكان مع أبي جعفر المنصور، وألف له الموطأ، وصار (مالك عن نافع عن ابن عمر) سلسلتهم الذهبية! كلهم محل رضا سياسي.بينما المعاصر للإمام مالك - كالإمام أبي حنيفة بل هو قبله ( مات سنة 150، ومالك سنة 179هـ ) - فقد ضعفوا أبا حنيفة لأنه كان محل سخط السياسة. بل غلاة السلفية وصل بهم الأمر أن قالوا هو يكذب في الحديث، وأنه مبتدع ضال كافر جهمي خارجي ..الخ لأنه كان معارضاً لبني أمية وبني العباس معاً، وأقصد هنا بغلاة السلفية في عصره، وقد توسع الخطيب البغدادي في تاريخه وعبد الله بن أحمد في السنة في استعراض أقوال هؤلاء الذامين لأبي حنيفة.
عندما تجد أشهر أسانيد أهل الحديث من الصحابي إلى المؤلف لهم مكانة كبيرة عند السلطة، أليس هذا غريباً؟ لا سيما وفي معاصريهم من هو أوثق وأجل؟!
الباحثون الغربيون يراقبون هذا الشيء، ويراقبه المعتزلة قديماً، ولكن لا يراه أهل الحديث، لأنهم داخل هذا الرضا السياسي، ومن كان داخل شيء لم يره!
أنس بن مالك
لو ذهبنا للمكثر الرابع وهو أنس بن مالك فهو كان مقرباً من الحجاج ومن الحكم بن أيوب الثقفي نائب الحجاج على البصرة، وعمل لزياد بن أبيه.. صحيح أنه في آخر عمره تاب من بعض هذا وشهد عليهم -كما في صحيح البخاري - بأنه لا يعهد شيئاً كان على عهد رسول الله إلا (لا إله إلا الله) فقط!.. لكنه لم يقم بهذه الشهادة يوم سأله يزيد بن نعام الضبي - وهو صحابي - عن مواقيت الصلاة، فلم يستطيع أن يجيبه، لأن بني أمية كانوا يعبثون بالأوقات.
ثم راوية أنس هو قتادة بن دعامة السدوسي جليس وصاحب بلال بن أبي بردة والي البصرة الفاسد الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز (كان خبثاً كله)!
ابن عباس
وأما المكثر الخامس فهو ابن عباس، وسبب شهرته هي الدولة العباسية، ولا نتهمه - كما لا نتهم غيره - وإنما كان صغيراً يوم مات النبي. ثم المكثر عنه عكرمة مولاه، وكان متهماً، وكان ناصبياً أيضاً، وكان على رأي الصفرية من الخوارج، والعباسيون لا يعادون الخوارج لأنهم انتهوا.
ورواية عكرمة هو أيوب السختياني. رجل سلطة ، كان رابع أربعة في عصره مع ( يونس بن عبيد وابن عون ويزيد بن زريع)، كانوا يهددون شعبة بالسلطة.
الخلاصة :
أن الطرق لأصحاب الألوف من الصحابة كانت محل رضا سياسي، إما للدولة ألأموية أو العباسية، وقد كان من أقرانهم من هو أجل وأعلم.
طبعاً نكرر ونقول: هذا في الجملة.. وإلا فقد اشتهر نسبياً بعض المعارضين لتوفر ظروف اجتماعية، فلم تستطع السلطة تقزيم كل مسخوط عليه.
وخلاصة أخرى أن أهل الحديث لم يكونوا في مستوى كبير من الأمانة - كما يقال - وأنهم نقلوا كل السنة .. هذا غير صحيح، هم نتيجة سياسية في الجملة. ولو استعرضنا منهج مالك في الموطأ (في القرن الثاني) أو أحمد في المسند (في القرن الثالث)، وهما قبل الكتب الستة، لوجدنا خللاً كبيراً.
والمؤثرات السياسية لم نستعرضها بالنفصيل، وإنما أشرنا إشارات عامة، لأن الموضوع كبير جداً ويحتاج إلى إقناع مكثف، ولو فصلنا في كل مسألة لمللتم.
المشكلة في أهل الحديث قديمأً وحديثاً أنهم يرون أنهم قد نقلوا كل السنة وبأمانة! وأنهم حماة السنة ورعاتها ونقلتها، وهذا ثناء مبالغ فيه جداً، فهم تركوا أحاديث كثير من الثقات لموقف مذهبي أو خصومي، كما رووا عن كثير ممن يعرفون أنهم ضعفاء، بل عن من يعترف بأنه يكذب لنفس الموقف.
وهذا - كما قلت - من حيث الجملة، قد يروون عن المخالف مذهبياً أو سياسيا،ً لكنه قليل، وقد يردون حديث الموافق مذهبياً أو سياسياً، لكنه قليل، وقد ذكرنا لكم سابقا كيف ترك بعض كبار أهل الحديث حديث أبي حنيفة وتلامذته وكل أهل الرأي، وترك بعض كبارهم حديث البخاري نفسه!.. وبعضهم ترك حديث الشيعة والمعتزلة وتشدد في تضعيفهم، وبعضهم – كالذهلي - ترك حديث الثقة لأنه لم يقم له عند دخوله المجلس.. وهكذا..
ولذلك سنتوقف هنا لعلنا مستقبلاً نقيس شيئاً من هذا التضخيم لأهل الحديث وأمانتهم، وقد تتفاجؤون جداً..
والله يستر!
(حدثوا الناس بما يعرفون)!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق