تركيزا على أبي هريرة لأنه أكثر من روي عنه الحديث، ولابد من تقييم عادل له، وفق أقواله نفسه ثم الصحابة،وسيأتي بعد ذلك تقييم الرواة عنه - أو اشهر راويين عنه - وهما أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو صالح، ثم تقييم أشهر الرواة عن الرواة، كالزهري ثم تلامذته،وليس الهدف من هذا التقييم إنكار الحديث ولا تصحيحه، الهدف هو وضع أكثر الحديث في موضوعه الطبيعي (دائرة الشك)، وألا يحكم على القرآن ولا العقل،لأن الحديث أصبح فتنة للمتمذهبين، يردون به القرآن والسنة ألأصح والعقل والتاريخ المتواتر.. الخ، الحديث فتنتهم، فلابد من مناقشة حملته بعلم وإنصاف.
الحديث استخدمته السلطة وعلماؤها، واستحدمه الشيطان نفسه، فلابد من تقليل الغلو فيه ليرجع الاعتبار للقرآن الكريم الذي ضاع وسط هذه ألأحاديث.
شخصياً ليس لي موقف حاد، لا من أبي هريرة ولا غيره من المكثرين، إنما أريد أن نناقش كل طريق من الطرق المكثرة من الحديث، ونقيم المتون والأشخاص،وفي الجزء الثالث من علم الحديث استعرضنا أقوالاً لأبي هريرة وللصحابة أنفسهم في موقفهم من حديث أبي هريرة، ونرى أنه لا يجوز أغفال تلك ألأقوال، وذكرت أنني لست مع رد أحاديث أبي هريرة عنادا، ولا قبولها تعصبا، أنا مع التريث وتقييمها وعرضها على القرآن وقواطع الإسلام والأحاديث الأصح منها.
أبو هريرة والسياسة...
وفي هذه الحلقات نستعرض موقف أبي هريرة من السياسات القائمة، وهل لها أثر عليه أم لا؟ لن أتحدث كما يتحدث غيري..
بمعنى.. لن أتحدث كأبي رية السني الأزهري، ولا كشرف الدين الموسوي الشيعي، اللذين يتهمان أبا هريرة بالوقوف مع معاوية للدنيا، لي كلام آخر أدق..الكلام الأدق إما من قول أبي هريرة أو من أقوال اقرب الناس إليه - في موقفه السياسي - وهل يتأثر بالسياسة أم لا؟
والحديث الأول من صحيح البخاري
أبو هريرة - رحمه الله وسامحه - كان يكتم بعض العلم مخافة معاوية الذي من المحتمل أن يقتله إن حدث ببعض فضائح بني أمية أو ببعض فضائل خصومهم،ففي البخاري [ج 1 / 56] (عن أبي هريرة - مختصراً- قال: حفظت من رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم!) .
فأبو هريرة هنا - وفق صحيح البخاري - يعترف أنه يضطر لكتمان بعض العلم، فلذلك إذا لم نجد في أحاديثه بعض أحاديث المثالب فلا نستغرب، والذي يخشاه أبو هريرة ليس الخلفاء الأربعة، لأنهم لم يكونوا يقتلون على نشر الحديث، وإنما هو معاوية فقط، لأن أبا هريرة مات سنة 57 هـ، فليس بعده.
الذي يخشى أبو هريرة من إقدامه على قطع رأس أبي هريرة هو معاوية فقط! فلذلك كتم ألأحاديث التي في مثالب معاوية وبني أمية.. ونجا من القتل!
بل حتى الأحاديث التي ليست بالضرورة في مثالب معاوية - خاصة كالأحاديث المخففة من طاعة الظالم في المعصية - كانت محاربة من دولة معاوية، وأمثلة ذلك كثيرة، مثل أمره عمرو بن العاص أن يمنع ابنه عبد الله بن عمرو من التحديث بحديث الفئة الباغية بقوله (لا تغني عنا مجنونك يا عمرو)، إذاً فأبو هريرة كان يخشى القتل إذا حدث بمثل هذه الأحاديث التي تضر السلطة (سلطة معاوية فقط)، ولكن هل كان يجد من معاوية ثمناً لهذا السكوت؟
الجواب: للأسف نعم.. فقد روى الإمام أحمد بسنده الصحيح إلى سعيد بن المسيب قوله (كان أبو هريرة إذا أعطاه معاوية، سكت، فإذا أمسك عنه، تكلم)، وسعيد بن المسيب ثقة وهو صهر أبي هريرة (زوج ابنته وهو أعلم بما داخل البيت)، والخبر في سير أعلام النبلاء والبداية والنهاية لابن كثير.
نقل الذهبي - سير أعلام النبلاء [ج 2 / 615] (يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، قال: كان أبو هريرة إذا أعطاه معاوية، سكت، فإذا أمسك عنه، تكلم)!
وهذا نقل ابن كثير في البداية والنهاية – [ج 8 / ص 122] (قال الامام أحمد: حدثنا عبد الاعلى بن عبد الجبار، ثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد (عن) ابن المسيب (كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت، وإذا أمسك عنه تكلم)
والذهبي وابن كثير سلفيان حنبليان في العقيدة شافعيان في الفروع.
فأبو هريرة رحمه وسامحه يمسك عن بعض العلم خوفاً ويمسك عنه طمعاً أيضاً.. إذاً فالرجل يتأثر بالسياسة، وهذا الأثر السياسي موجود على من دونه، وعلى هذا فأهل الحديث عندما يظهرون بأن الصحابة والتابعين وأهل الحديث لا يتأثرون بالسلطة ولا يخافون لومة لائم، هذا كله غير صحيح على إطلاقه، هم مثل علماء ودعاة اليوم... يتأثرون بالسلطة السياسية والمذهبية، خوفاً وطمعاً، رغبة ورهبة .. فيجب مراقبة الأثر السياسي والمذهبي.
ثم سلفية اليوم يزايدون على الإمام أحمد والذهبي وابن كثير! وقد يضطرون لتكذيب أحمد بن حنبل - مع أنه لم ينفرد بالخبر - ففي الثقات للعجلي - [ج 1 / 405] (حدثنا العلاء ثنا حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال كان أبو هريرة إذا أعطاه معاوية سكت وإذا أمسك عنه تكلم )!
فهذا العجلي يتابع الإمام أحمد بالسند نفسه في أن أبا هريرة كان (لأجل المال) يسكت عن بعض العلم، ومعاوية خبير في اشتراء الذمم.
لابد أن تتتبع المكثرين من الحديث وتنظر أحوالهم ومدى تأثرهم بالسلطة وركونهم إلى الظالمين، فلهذا أثر على الرواية بتراً وزيادة وانتقاء.. الخ، كما قال أبو جعفر المنصور : ( نثرت الحب للعلماء فكلهم لقطوا إلا عمرو بن عبيد ومعاذ بن معاذ، ثم إن معاذ بن معاذ ثنى جناحه فلقط ) !
وعلى هذا يمكن أن نفهم الأحاديث التي رواها أبو هريرة في فضل أهل البيت أو ذم بني أمية، فيحتمل أنه تكلم بها في فترة تأخر المال من معاوية.
خلاصة الأمر:
1- الخلاصه في الأجزاء الأربعة التي نشرتها هنا عن علم الحديث أن علم الحديث أضعف مما تتصورون، فلا تهابونه وتردون به القرآن الكريم..
2- لا تتهيبوا علم الحديث وما يسمى الجرح والتعديل - وكأنهم علماء ذرة - كلا كلا.. هم مثل مشايخ اليوم في الأثر والتأثر والإخفاء والنشر .. فلا تهابوهم، وقد ذكرت نماذج يسيرة صحيحة اعترفوا بها أهل الحديث أنفسهم ورووها هم وصححوها هم عن أبي هريرة .. ولم أتوسع فيها لأن القصد هو التنبيه فقط.
3- علم الحديث علم بشري، لا تجعلوه شرعاً، لا تعاندوا به قرآناً ولا عقلاً ولا علماً طبيعياً، هو أقل من هذا كله.. و99% منه ظني لا يفيد العلم.
4- أقبلوا على القرآن والكون والمنطق والفلسفة وسائر العلوم، قللوا من الانتفاخ بعلم الحديث، فمن علمه من الداخل عرف أنه أقل من هذا التعظيم..
5- لا يغركم ثناء أهل الحديث على أنفسهم بأنهم فعلوا وفعلوا ونقلوا لنا السنة وحفظوها من الضياع ولولاهم لضاع الدين كل هذا قيه صدق قليل وكذب كثير!
6- أهل الحديث لهم فضل بلا شك ورحلة في طلب الحديث وتدوين وجهد.. لكنهم أضاعوا من الدين أكثر ما حفظوا هذا القرآن برمته مهجور عندهم لا يعولون عليه، فأهل الحديث الذين ضخموا جهدهم ومنوا بهذا الجهد على الله ورسوله بأنهم لولاهم لضاع الدين وادنرس الإسلام كلام فارغ ممقوت فلا تصدقوهم.
7- أهل الحديث بهم تم هجر القرآن الكريم وبهم كان ذم العقل وبهم اسند علينا التفكر في الكون وبهم تم تدشين هذه الشحناء والبغضاء والتخلف، نعم لهم فضائل .. لكنهم أفسدوها بهذا الهجر للقرآن والتكفير وتشريع التقاتل والكراهية بين المسلمين والتبديع وملء القلوب أحقاداً والعقول بلادة.. ولو ان كل محدث أخرج لنا تدبر آية واحدة من كتاب الله بدلاً من هذه المصنفات الموسوعية - التي ضررها أكثر من نفعها - لكان أفضل. لكن وقع ما وقع.
بقي عليك أنت ! أن تستفيد من تراثهم - وفيه بعض الحق - وتتجنب نفسياتهم وتعصبهم، ولا تجعلهم مشرعين بدلاً من الله ورسوله، ابقهم في حجمهم الطبيعي.
للجاهلون الشاتمون:
هؤلاء الشتامون والحاقدون عند كل معلومة تصدمهم, هم الذين ضعفوا البخاري وحاصروا الطبري وقتلوا النسائي وضربوا الحاكم ... وهم امتداد لبني أمية،لذلك عندما نذم بني أمية فنحن نعرف أنهم مازالوا أحياء بهؤلاء، لم يمت بنو أمية إلا بعد إرث عريض من العقول والقلوب والروايات والعقائد.. هم معنا، لذلك هم يتزاهدون عند ذم بني أمية بحكم، لأنهم قد أفضوا إلى ما قدموا! لكنهم بهذا مخادعون! لأنهم يذمون الجهم والجعد والمعتزلة، وقد أفضوا أيضاً!
بعض ذكاء هؤلاء في التلون عجيب!
وليس من عندهم، إنما من الشيطان نفسه، فتجدهم أزهد الناس عند ذم الظالمين، ومن أجرأ الناس على ذم الصالحين والعباد! يقولون: الله لم يسألنا ماذا عمل فلان وفلان ؟ لكنهم يوجبون عليك ذم الجهم بن صفوان وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وغيلان ..
شياطين متناقضون.
الشيطان حريص على الإبقاء على مدح حَمَلَة منهجه في تحريف الدين، واستخدامه في البغضاء والقتل والفساد، كحرصه على ذم كل من عارض هؤلاء الحَمَلة!
الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها ولو من الصين، ولكن المتمذهبة أصبحوا لا يأخذون حتى من الجيران! بل ولا من داخل البيت، هذا الضيق.. مرض وتخلف وجهل وكبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق