الأحد، 26 مايو 2013

د. يوسف زيدان-الحسبة على الأفكار والأفئدة (اختبارُ البُخارىِّ وإيلامُ مُسلم)7\3


ذات يوم اشتكى لى واحد من الباحثين الأوزبك الذين يدرسون فى الأزهر، أننا فى مصر لا نعرف شيئاً عن بلاده (أوزبكستان) مع أن الأوزبك يعرفون بلادنا جيداً، بل وينظرون إلى الذى درس بالأزهر ويتحدَّث بالعربية، كأنه كائن مقدس! أضاف أنه أراد أن يعرِّف أحد زملائه بأوزبكستان، فقال له إنها البلاد الإسلامية الشاسعة التى فيها المدن التليدة ذات التراث العريق، مثل سمرقند وطشقند وخيوة، وبلدة بخارى (بُخارا) التى منها الإمام البخارى، قدَّس الله سرَّه. رَدَّ عليه زميله الأزهرى، مستنكراً، بقوله: يا سلام، الإمام البخارى أصله من بوخارست!
■ ■ ■
ومع أن معظم المصريين لا يعرفون بلدة بخارى (الواقعة فى قلب آسيا) إلا أنهم مثل معظم المسلمين (السُّنة) يقدِّرون الإمام البخارى ويرفعون كتابه فى الحديث النبوى «الجامع الصحيح» إلى مرتبة عُليا من التبجيل والقداسة، حتى إننى رأيتُ الناس فى صعيد مصر إذا أراد الواحد منهم أن يدلِّل على صدقه، أقسم بالبخارى. وقد سألتُ أحدهم يوماً عن السر فى أنهم يقسمون (يحلفون) بكتاب البخارى، من دون المصحف الشريف؟ فقال بجهلٍ مريع: البخارى أجمد!
وعوام المصريين، وأهل السنة بعامة، يقدِّسون كتاب البخارى (الجامع) لسببين، الأول هو المكانة المميزة لهذا الكتاب الذى قال بعض العلماء فى حقِّه إنه «أصحُّ كتاب بعد القرآن» بالإضافة إلى المكانة الخاصة لصاحبه، حسبما سنذكر بعد قليل، والسببُ الآخر، أن (الجامع) جامعٌ للصِّحاح من (الحديث النبوى) الذى هو الأصل الثانى من أصول التشريع الإسلامى: القرآن، الحديث، اجتهادات الفقهاء.. وهو الأصلُ الأكثر تفصيلاً وتطبيقاً فى (المعاملات) و(العبادات) و(الاقتداء) وهى الأمور التى يهتم بها عامةُ المسلمين، السُّنة منهم والشيعة.
على أن الشيعة لا يقدِّرون الإمام البخارى، مثلما يفعل أهل السنُّة. وقد التقيتُ قبل أعوام، فى مؤتمر انعقد بمدينة (كامبردج) الجامعية، بواحدٍ من كبار علماء الشيعة، فسألته عن السر فى عدم تقديرهم للإمام البخارى، فقال لأنه روى كثيراً من الأحاديث النبوية، عن السيدة عائشة، اصطنعتُ الجهل بالأمر، وسألته: وماذا عن السيدة عائشة، وهى أم المؤمنين؟ فقال متحرِّجاً: فى قلوبنا شىءٌ تجاهها.
آه، شىءٌ فى قلوب المعاصرين من السيدة عائشة التى عاشت قبل أربعة عشر قرناً من الزمان! وعلى كل حال، فهذا ليس موضوعنا اليوم، وإنما مقصودنا الكلام عن مأساة الإمام البخارى الذى امتُحن وأُوذى حين اختبره فى زمانه أناسٌ أقاموا من أنفسهم حماةً للدين، فآذوا واحداً من أهم علماء الدين فى تاريخنا، ودفعوه إلى التضرُّع لربه طالباً الموت.
■ ■ ■
اللهم إنى قد ضاقت علىَّ الأرضُ بما رحبت، فاقبضنى إليك .. هكذا ابتهل الإمام البخارى لربه، قبل موته بأيام، بعدما كانت السُّبل قد تقطعت به، فلم يجد مكاناً ليعيش فيه. وهو الإمام الذى أفنى عمره فى جمع الأحاديث النبوية، وبلغ من علمه بالحديث الشريف أنه كان فى صباه يحفظ السبعين ألفاً من الأحاديث التى رواها إسحاق بن راهويه، بأسانيدها.. فلما التقى البخارى بابن راهويه، وتدارسا الحديث فى المجلس، قال له إسحاقُ بن راهويه: كأنى أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابى! فردَّ عليه البخارى: أَوَ تعجب من هذا؟ لعل فى هذا الزمان (يقصد نفسه) مَنْ ينظر إلى مائتى ألف حديث من كتابه.
كان مولد الإمام البخارى (أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) سنة ١٩٤ هجرية. وفى سن العاشرة كان يدرس علم الحديث النبوى، وفى الحادية عشرة من عمره، صحَّح لأستاذه «الداخلي» بعض الروايات، مما دَلَّ على قوة حفظه للأسانيد.
وفى السادسة عشرة من عمره، خرج البخارى إلى مكة للحج، ثم ساح فى الأرض على طريقة علماء زمانه، ليجمع الأحاديث من مشايخ عصره، فزار النواحى المتباعدة، والتقى بمن لا حصر لهم من رواة الأحاديث، فسمع ما يقرب من ستمائة ألف حديث نبوى، ثم دقَّق الصحيح منها وجمعه فى كتابه (الجامع الصحيح) الذى بدأه بباب «بدء الوحى» الذى بدأه بالحديث الشهير: إنما الأعمال بالنِّـيَّات..
وقد التقى البخارى بالإمام أحمد بن حنبل، صاحب مأساة الحسبة التى ذكرناها الأسبوع الماضى؛ فكان الإمام ابن حنبل يقول عنه: لم يأتِنا من بخارى وإقليم خراسان كله، مثل محمد بن إسماعيل البخارى .. وقال أبو حاتم الرازى: البخارى أَعْلم من دخل العراق.. وقال إسحاق بن خزيمة: ما رأيتُ تحت أديم السماء، أعلم بحديث رسول الله، من محمد بن إسماعيل البخارى.. وحين زاره ببخارى قال له الإمام مسلم، بعدما قبَّل رأسه: دعنى أقبِّل قدميك يا أستاذ الأساتذة، وسيد أهل الحديث!.. والمقام هنا يضيق عن ذكر شهادات علماء العصر، والعصور اللاحقة، فى حقِّ الإمام البخارى وفضله وسيرته النقية، وما لكتابه (الجامع) فى مجاله من الأهمية.
■ ■ ■
اللهم إنى قد ضاقت علىَّ الأرضُ بما رحبت، فاقبضنى إليك.. لماذا ابتهل الإمام البخارى إلى ربه بهذه العبارة؟
تطورت «الحسبة» التى مورست على الإمام أحمد بن حنبل، بحجة اعتقاده بخلق القرآن، فنال بسببها ما حكيته فى مقالة الأسبوع الماضى من ويلات.. تطورت إلى «حسبة» أخرى مورست ضد الإمام البخارى، بحجةٍ أسخف! هى اعتقاده بأن اللفظ بالقرآن مخلوق.
ولبيان هذا (الاتهام) نقول للتوضيح: ساد اعتقاد مبكر بأن القرآن الكريم قديم (غير مخلوق) لأنه كلام الله القديم، ولكن التلفظ بالقرآن فعلٌ إنسانى، والإنسان مخلوق (حادث) وبالتالى فإن «اللفظ بالقرآن مخلوق» .. ومن الجهة المضادة، ساد اعتقاد بأن القرآن ما دام قديماً، فكل ما بين دفتىْ المصحف قديم، وحتى التلفظ بالآيات قديم!
ولما زار الإمام البخارى نيسابور، استقبله معظم أهلها مرحِّبين به، واجتمع حوله الناس كى يسمعوا منه الأحاديث النبوية الصحيحة. فاغتاظ منه بعض الفقهاء أشباه فقهاء زماننا الذين يتعقَّبون الناس، وشغبوا عليه مثلما يشغب أمثالهم على المعاصرين، وكأنهم هم الحماة للدين القويم والإيمان المستقيم.
دَسَّ هؤلاء الفقهاء رجلاً على مجلس الإمام، وبينما هو يحدِّث الناس زعق فيه الرجل المدسوس: يا أبا عبد الله، ما تقول (ما هو رأيك) فى اللفظ بالقرآن، مخلوقٌ هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخارى ولم يجبه. فأعاد الرجل السؤال مرات، حتى التفت إليه الإمام البخارى وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، وهذا الامتحان (الاختبار) بدعة.. «فشغب الرجل، وشغب الناس وتفرَّقوا عن البخارى، فقعد فى منـزله» هذه هى عبارة المؤرخ شمس الدين الذهبى، فى كتابه: سير أعلام النبلاء، نقلتُها هنا بنصِّها.
ثم هاج أهل الاهتياج من قدامى المحتسبين على الأفكار والأفئدة، المختبرين لغيرهم كأنهم نواب الله، الممتحنين الناس؛ فصارت حياة البخارى فى نيسابور كالجحيم، وتزعَّم المحتسبين :الشيخ ابن حريث والإمام الذُّهلى، وندَّدا بالبخارى لأنه (خَالَفَ السُّنَّة !!) وهدَّد بعضهم بأنه لن يبقى فى بلدته، نيسابور، إذا ظل البخارى مقيماً بها، مما يعنى وجوب طرده.
وضيَّق هؤلاء الفقهاء على البخارى، حتى دفعوه للخروج إلى بلدته الأصلية (بخارى) من دون أن يودِّعه إلا شخص واحد من أهل نيسابور. وقد ظل البخارى ثلاثة أيام خارج أسوار نيسابور، يرتِّب أغراضه التى خرج بها على عجل، استعداداً للرجوع إلى موطنه الأول، بعدما كانوا قد ألصقوا به التهمة الجاهزة دوماً للانطلاق: الكُفر.. إىْ والله، الكُفر!
ولم يهدأ المحتسبون بعد خروج الإمام البخارى من نيسابور، بل تعقَّبوا المعجبين به، وعلى رأسهم الإمام مسلم (صاحب: الصحيح) الذى أجمع العلماء على فضله وسعة علمه، وصار مع الإمام البخارى أهم اسمين فى تاريخ علم الحديث، حتى إن العلماء إذا وجدوا حديثاً رواه كلاهما، وصفوه بأنه: متفق عليه (أى اتفق على روايته البخارى ومسلم، وبالتالى فهو فى أعلى درجات الصحة).
وكان الفقيه «الذُّهلى» يتزعم حركة الحسبة المقيتة ضد البخارى ومسلم، وقد وصل به الإمعان فى إيلام الإمام مسلم، أن وجَّه إليه فى المجلس، أمام جمهور الناس، كلاماً نصه: الذى يعتقد بأن اللفظ بالقرآن مخلوق، لا يحق له أن يحضر مجلسنا! فقام الإمام مسلم، يجرُّ ثوبه، وخرج من المجلس والناس ينظرون.. وظل زمناً بعدها مذموماً عند الجهال من أهل بلدته.
أما الإمام البخارى، المطرود، فقد خرج إلى بلدته (بخارى) ولما اقترب منها خرج الناس كلهم يستقبلونه، ونثروا عليه السكر والدراهم والدنانير ترحيباً به، وتبجيلاً لمكانته.. ولكن لا مفر من الحسبة! فبعد استقراره هناك بأيامٍ، أرسل «الذهلى» إلى أمير بخارى، بريداً أسود، مدعياً فيه أن الإمام البخارى خالف السنة! فأمر الأمير بطرد البخارى من بخارى، وإخراجه منها.
■ ■ ■
اللهم إنى قد ضاقت علىَّ الأرض بما رحبت، فاقبضنى إليك.. قال الإمام البخارى هذه العبارة على مقربة من (سمرقند) التى قصدها بعد طرده من نيسابور وبخارى. وقبل وصوله إلى سمرقند، وعند موضعٍ يبعُد عن سمرقند ثلاثة أميال، كان ولا يزال اسمه: خَرْتَنْك؛ استوقف الإمام جماعة من الناس، وأخبروه بأن أهل سمرقند مختلفون فى أمره، فالبعض يرحِّب بقدومه والبعض يستنكره، وقد هاج بعضهم على بعض فلم يعد المكان مأموناً.
كان ذلك سنة ٢٥٦هـ، وقد بلغ الإمام البخارى من العمر اثنين وستين عاماً، قضى أكثرها فى مشقة الرحلة لطلب العلم، وطلب المأوى.. ولم يجد الإمام البخارى سبيلاً متاحاً، ولا موضعاً يتجه إليه؛ فقال بأسى عبارته المذكورة، وبقى بعدها أياماً محظوراً محصوراً خارج حدود سمرقند، حتى توفى ودفن هناك.. فى الموضع ذاته الذى زرته، فوجدتهم قد أقاموا قبل سنوات قليلة مشهداً بديعاً فوق قبره، ومسجداً كبيراً؛ فعُمِّر الموضع النائى الذى تمنى فيه البخارى الموت، وصار مزاراً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق