يعرف الكثيرون اسم «الطبرى» حتى لو كانوا لم يقرأوا له كتاباً من كتبه الكثيرة، التى ذاعت فى زمانها وشاعت فى تراثنا خلال الألف سنة الماضية، واشتهر منها كتاباه الكبيران المعروفان باسمه: تاريخ الطبرى، تفسير الطبرى.. ولا يعرف الكثيرون الويلات التى لقيها هذا العالم الجليل، الذى ثار عليه الثائرون لما احتسب عليه المحتسبون، الظانُّون أنهم وحدهم المختصون بالصواب، وما عداهم على باطل.
■ ■ ■
لنترك المؤرِّخ الشهير، شمس الدين الذهبى، يحدثنا عن الطبرى (محمد بن جرير، المتوفى سنة ٣١٠ هجرية) ثم نروى محنته مع الحنابلة، حسبما رواها ياقوت الحموى فى موسوعته «معجم الأدباء».. ولسوف أنقل فيما يلى بعضاً من كلام الذهبى، المعروف باتزانه فى رواية الأخبار، فى حق ابن جرير الطبرى: هو الإمامُ العَلَمُ المجتهد، صاحب التصانيف (المؤلفات) البديعة، طَلَبَ العلم وأكثر الترحال، ولقى نبلاء الرجال، من أفراد الدهر علماً وذكاء.. استقر فى أواخر أيامه ببغداد، وكان من كبار أئمة الاجتهاد.
يُرجع إلى رأيه، ويُحكم بقوله، لأنه جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً للقرآن، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعانى، فقيهاً فى أحكام المصحف، عالماً بالحديث، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين.. صادقاً، حافظاً، إماماً فى الفقه، علامة فى التاريخ.. لا يقبل هدايا الأمراء والوزراء، ويرد ما يبعثون به إليه من أموال.. مكث أربعين سنة يكتب فى كل يوم أربعين ورقة، وكان ممن لا تأخذه فى الله لومةُ لائم ، مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات، من جاهلٍ أو حاسدٍ أو ملحد.
أراد أن يكون كتابه فى التاريخ ثلاثين ألف ورقة، فقالوا له إن هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فقال: ماتت الهمم، إنا لله! واختصر الكتاب فى ثلاثة آلاف ورقة. وابتدأ بتأليف كتاب «تهذيب الآثار» لكنه مات قبل تمامه، ولو تمَّ الكتابُ لكان يجىء فى مائة مجلد.. قال أبوبكر بن بالويه: ما أعلمُ على أديم الأرض أعلمَ من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة.
■ ■ ■
مَرَّ علينا فى المقالة الثانية من هذه السباعية، محنة الإمام أحمد بن حنبل مع أهل زمانه من المعتـزلة، الذين مارسوا عليه الحسبة، واستعدوا عليه الحكام حتى كان ما كان من حكايته الأليمة. والعجيبُ فى الأمر، أننا حين ننظر فى التأريخ ونتأمل مسيرته، نكتشف أن ميراث الاضطهاد يندفع دوماً باضطهاد مضاد، حسبما قال الراهب هيبا فى رواية «عزازيل» وحسبما نرى فى الوقائع الكبرى المشهورات .. فى علاقة الوثنية بالمسيحية المبكرة ثم كَرَّة المسيحيين على الوثنيين، وفى علاقة اليهود بطاحنيهم من أهل أزمنتهم، وصولاً إلى ما نراه اليوم من طحن يهودىٍّ لشعب فلسطين. ناهيك عما جرى بين المسلمين والصِّرب، والعرب والفرس، وأولئك وهؤلاء من الجماعات التى ظُلمتْ ثم ظَلَمتْ.
توفى الإمام أحمد بن حنبل، بعد معاناته الطويلة من المحنة، وما لبث مذهبه الفقهى أن انتشر وصار له أتباعٌ كثيرون فى بغداد، هم : الحنابلة.. وبالمناسبة، فنحن نقول فى كلامنا العامى (اليومى) للشخص المتشدِّد فى الدين أنه «حنبلى»، مع أن مذهب الإمام ابن حنبل، فى واقع الأمر من أكثر المذاهب الفقهية تسامحاً فى التطبيقات الفقهية المسماة اصطلاحاً (الفروع)، بما فى ذلك اجتهادات فقهاء المذهب الحنبلى المشهورين، من أمثال ابن تيمية.
غير أن صرامة الإمام ابن حنبل فى موقفه العقائدى (أصول الدين) بصدد مشكلة خلْق القرآن، ثم تشدُّد الحنابلة من بعده فى هذه المسائل (الكلامية)، أى المتعلقة بأصول الدين، جعل الفكرة العامة عند (العامة) عن الفقه الحنبلى، الذى هو متساهلٌ متسامح، هى الفكرة المشهورة التى نعبر عنها فى قولنا: فلان حنبلى، أى متصلِّب الرأى ومتشدد.
وقد تشدَّد الحنابلة من بعد إمامهم، أو بالأحرى تشدَّد بعضهم، لأسباب لا تتعلق بالفقه والتطبيقات الشرعية. ومن ذلك ما جرى فى بغداد بين الحنابلة والإمام الجليل محمد بن جرير الطبرى.. ولنترك «ياقوت» يروى:
لما قدم الطبرى من طبرستان إلى بغداد، تعصَّب عليه أبوعبدالله الجصَّاص وجعفر بن عرفة والبياضى، وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل فى الجامع، يوم الجمعة، عن رأيه فى حديث «الجلوس على العرش» ورأيه فى شيخهم ابن حنبل.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الأمرين اللذين سُئل عنهما الطبرى، هما من قبيل الآراء والرؤى التى لا يحق لأحدٍ أن يفرض على غيره رأياً منها أو رؤية، وهما ليسا من قبيل (الأفعال) التى يمكن محاسبة صاحبها عليها، ولكن أهل الحسبة والاحتساب على الأفكار والتفتيش فى الأفئدة، يحاسبون غيرهم على آرائهم، لا أفعالهم.. ويمكن لنا توضيح المسألتين اللتين سأل الحنابلةُ الطبرىَّ عنهما، على النحو التالى:
أما حديث «الجلوس على العرش» فهو مسألةٌ عقائدية/ تاريخية، نشأت من أن بعضهم فسَّر الآية القرآنية (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا) تفسيراً مفاده أن النبى سوف يجلس على العرش يوم القيامة! وهو ما كان الطبرى يرفضه، ويعتبره من قبيل المبالغة، مؤكداً أن المراد من الآية القرآنية هو إثبات شفاعة النبى يوم القيامة فى المسلمين، وليس جلوسه على عرش الله عزَّ وجلَّ! لأن ذلك محال.. وقد أنشد الطبرى حين سأله الحنابلة عن ذلك، شعراً: سبحان من ليس له أنيس، ولا له فى عرشه جليس.
وأما رأى الطبرى فى الإمام ابن حنبل، فكان يتلخَّص فى أن ابن حنبل إمام فى الحديث، لا الفقه. ومع ذلك، فالطبرى لم يقلل من شأن ابن حنبل، بل أعلى من شأنه كثيراً، وتابعه فى موقفه من مشكلة خلق القرآن.. وفى كتابٍ للطبرى، عنوانه (صريح السُّنة) يقول ما نصُّه: وأما القول فى ألفاظ العباد بالقرآن، فلا أثر (حديث) فيه نعلمه من صحابىٍّ ولا تابعىّ، إلا عن الذى فى قوله الغنى وفى اتباعه الرُشد والهُدى، الإمام المرتضى أبى عبدالله أحمد بن حنبل، رضى الله عنه، ولا قول فى ذلك عندنا يجوز أن نقوله، غير قوله؛ إذ لم يكن لنا إمامٌ نأتمُّ به سواه، وهو الإمام المتَّبع رحمة الله عليه.
■ ■ ■
نعود إلى ما رواه ياقوت الحموى فى (معجم الأدباء) حيث يقول إن الحنابلة حين ذهبوا يوم الجمعة إلى المسجد وسألوا الطبرى عن ابن حنبل وحديث الجلوس على العرش، قال: «أما ابن حنبل فلا يعد خلافه (فقهه) ولا رأيتُ له أصحاباً (أتباعاً) يعوَّل عليهم، وأما حديث الجلوس على العرش فمحال .. فلما سمع منه الحنابلة ذلك، وثبوا ورموه بمحابرهم (دواة الحبر) وكانت ألوفاً ، فقام الطبرى بنفسه (هرب) ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، فذهب صاحب الشرطة ومنع عن الطبرى العامة، ووقف على بابه يوماً إلى الليل، وأمر برفع الحجارة..»
ويخبرنا المؤرخون أن مأساة الطبرى مع الحنابلة، لم تقف عند هذا فى حياة الطبرى وعند وفاته.. قال ابن عساكر فى (تاريخ دمشق) والبغدادى فى (تاريخ بغداد) والذهبى فى (سير أعلام النبلاء) إن الطبرى احتجب فى بيته، ولم يكن مسموحاً لأحد أن يزوره! وبحسب العبارة التراثية التى وردت فى المصادر السابق ذكرها: كان الطبرى لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه.
ويروى ابن كثير فى كتابه (البداية والنهاية) أن الطبرى حين مات، دُفن فى بيته؛ لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم، منعوا من دفنه نهاراً .. وهكذا انتصر الإرهاب والتطرف على عالم جليل، عانى فى حياته وعند وفاته .
وإذا تأملنا محنة الطبرى، وتعرَّفنا إلى المزيد من تفاصيلها، سوف تظهر لنا حقائق مهمة، من مثل: كان الخلاف، أصلاً، وخصومة الرأى؛ بين الطبرى و»ابن أبى داود», الذى كان زعيم الحنابلة.. ومن مثل: أن «ابن أبى داود» تصعَّد بالخلاف مع الطبرى، بأن استعدى عليه السلطان وشنَّع عليه بتهمة التشيُّع .. ومن مثل: لم يفعل «ابن أبى داود» فعلاً عنيفاً تجاه الطبرى، وإنما أطلق شرارة أتباعه وشرور العوام، فبقى هو كما لو كان بريئاً مما لحق بالطبرى .
إذن.. هو (أسلوب) واحد، قديم وجديد فى الآن ذاته. فهذا «الشخص» يختلف فى الرأى مع مفكر أو أديب أو مجتهد فى أمور الدين، فيزعق بأنه كافر أو هرطوقى أو شيعى أو شيوعى أو أى شىء مكروه، فيسمع العوام زعيقه وينساقون وراءه فيفتكون بالضحية، بينما «الجانى» الذى يلبس مسوح «البراءة» و«الدفاع عن العقيدة» و «إعلاء كلمة الرب» و «الدفاع عن الإيمان» يظل متوارياً، يهمس ضد مخالفه فى أُذن الأتباع والشعب والحكومة والسلطان والأمن العام، ويبعث برسائله السوداء، حتى تقع المأساة التى سوف يسميها بعد وقوع الويلات: الجزاءَ العادل من السماء .. نُصرةَ الربِّ للمظلومين .. العدالةَ الإلهية.. انتصارَ الحق فى النهاية ! يقول محمود درويش فى رائعته «مديح الظل العالى» هذه الأسطر الشعرية التى سأضيف إليها بين القوسين، عبارات شارحة :
اختلطت شخوص المسرح الدموى،
وأُدخل القتلى إلى ملكوت قاتلهم،
وتمت رشوة القاضى (بالوعود الانتخابية)
فأعطى وجهه للقاتل الباكى
الباكى على شىء يحيرنا (اسمه الاضطهاد)
سرقت دموعنا يا ذئب،
تقتلنى ، وتدخل جثتى، وتبيعها
اُخرجْ قليلاً من دمى
كى يراك الليلُ أكثر حُلكةً
وكى نمشى لمائدة التفاوض واضحينِ
كما الحقيقة: قاتلاً يُدلى بسكين
وقتلى يُدلون بالأسماء.
■ ■ ■
لكِ اللهُ يا مصر..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق